الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الثانية والخمسون إذا قويت القرائن قُدّمت على الأصل
بحثُ القرائن بحثٌ طويلٌ عند أهل العلم، وذكروا فيه مسائل كثيرة، وجاء ما يدل أن القرائن معتبرة، وقد تكون القرائن قوية، وقد تكون متوسطة، وقد تكون ضعيفة، فتارة يُعمل بها وتارة لا يُلتفت إليها، وتارة تتأيد ببعض القواعد فتقوى فيعمل بها، لأن الأقوال تختلف دلالاتها لأجل الحال، فالقرائن يعمل بها في مسائل كثيرة في أبواب الفقه.
منه أيضاً في مسألة إقرار المكرَه أو المحبوس إذا أقر ثم بعد ذلك أنكر عند القاضى أو الحاكم، فإذا قيل له: أنت أقررت قبل ذلك، فقال: نعم أقررت، ولكنى أقررت مكرهاً، وفيه قرائن تدل على إكراهه من السجن أو آثار الضرب، فهذا إقرار باطل ولا يلتفت إليه، لأن الأحوال لها دلالاتها، فلهذا نبطل هذا الإقرار الذي هو أعظم أبواب الإثبات، لأن الإقرار هو الذي يثبت به الحق وهو أعظم من البينة من جهة ثبوت الحق، لأن البينة قد تكون شهادة زور، وقد يكونون شهدوا بأمر توهّموه وفي باطن الأمر ليس بصحيح، ويحكم بها لكن الإقرار لا يحتمل شيئاً من هذا.
كذلك في مسألة الهدية، أهل العلم ذكروا الهدية التي تراد للثواب والأصل أن الغالب في الهدية أن يقصد بها التودّد والمحبة، ويؤجر الإنسان عليها بحسب نوع
الهدية، وبحسب القصد من الهدية، وبحسب المهدى إليه، فقد تكون الهدية من باب التقرب لإنسان لأجل أمر يتعلق بأمور الشرع، وقد تكون من أجل التحبب ولأجل صلة الرحم ولأجل القرابة، وقد تكون لأجل الأنس والصداقة، وقد يشوبها نوع من البر إذا كانت هدية لإنسان محتاج إليها فتقرب من باب الصدقة، ويكون القصد هو الإحسان إلى المهدى إليه، فقد تكون إحساناً، وقد تكون تودّداً، ثم بحسب ما يصحب الهدية من حسن البشر وطلاقة الوجه وتصغيرها وأنها لا شيء، فالهدية تعتريها أشياء كثيرة، فبحسب القرائن التي تصحبها تختلف أحكامها، فالغالب فيها أنه يقصد فيها الثواب، وأن صاحبها يريد الإحسان وقد يريد مع ذلك الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى.
وقد يراد بالهدية الثواب، مثل إنسان فقير يهدي إلى إنسان غنى، وليس من عادته أن يهدي إلى عامة الناس، ولكن يهدي إلى خصوص أناس أغنياء عرف منهم البذل فهذا في الغالب يريد بهديته أكثر منها، فإذا علم ذلك فإنه لا يجوز أخذها إلا بنية الإثابة، فالمقصود في هذا معتبرة، ولأجل هذا ذهب كثير من أهل العلم إلى أن حكم مثل هذه الهدية حكم البيع، فتأخذ شروط البيع، لكن عند آخرين أنها هدية لابد أن يرد مثلها، ولهذا ثبت في سنن أبي داود والترمذي والنسائى بإسناد صحيح عن أبى هريرة - رضى الله عنه - أن رجلاً أهدى النبى عليه الصلاة والسلام هدية، فرد عليه النبى عليه الصلاة والسلام شيئاً من الإبل، فكأن الرجل غضب ويريد أكثر، فخطب الناس عليه الصلاة والسلام -
أو حدثهم فقال: "لقد هممت أن لا أقبل إلا هدية قرشي أو أنصاري"(1) فذكر أربعة أصناف؛ لأنهم هم الذين يقنعون ولا يغضبون، وهذا يبيّن أن الهدية للثواب لا بأس بها، ولهذا كان من سنته عليه الصلاة والسلام أنه يقبل الهدية ويثيب عليها.
وكذلك في مسألة القرائن التي ذهب بعض أهل العلم إليها، مثاله: إذا اختلف اثنان في متاع أو شيء من الأملاك فإذا اختلف خياط ونجار وهم في محل واحد أو بيت واحد ففي الغالب أن الإبرة والمقص وما أشبه ذلك تكون للخياط، وآلات الضرب والمطرقة والمسامير والمنشار وما أشبه ذلك تكون للنجار، هذا هو الأقرب.
(1) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب البيوع (3070)، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/ 295)، والترمذي في سننه في المناقب برقم (3881) من طريق محمد بن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أهدى رجل من بنى فزارة إلى النبى صلى الله عليه وسلم ناقةً من إبله التي كانوا أصابوا بالغابة، فعوَّضه منها بعض العِوَض فتسخطه، فسمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المنبر يقول:"إن رجالًا من العرب يُهدي أحدهم الهدية فأعوِّضه منها بقدر ما عندي ثمَّ يتسخطه فيظل يسخط عليَّ، وأيم الله لا أقبل بعد مقامي هذا من رجل من العرب هدية إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي".
فالحديث إسناده صحيح إلا أنَّ فيه محمد بن إسحاق وقد عنعن، لكن له متابع عند البيهقي في السنن الكبرى (6/ 180) وسنده جيد، وله شاهد أيضاً عند الإمام أحمد في مسنده (1/ 295)، وابن حبان في صحيحه (1146) كلاهما من طريق يونس بن محمد قال: حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضى الله عنهما: "أن أعرابياً وهب للنبي صلى الله عليه وسلم هبة فأثابه عليها. قال: رضيت؟. قال: لا. قال: قزاده. قال: رضيت؟. قال: لا. قال: رضيت؟. قال: نعم. ثم قال عليه السلام: "لقد هممت إلَاّ أتهب هبة إلا من قرشى أو أنصارى أو ثقفى". وهذا إسناد صحيح.
وكذلك إذا اختلف الرجل وزوجته في متاع البيت فإننا نعطي المرأة ما يناسبها ويختص بها، ونعطي الرجل ما يناسبه من الأمور التى تكون له، فهذه قرائن يعمل بها.
وقال بعض أهل العلم: إن هذه القرائن لا يُعمل بها ولا يُلتفت إليها، بل لا بد من شيء يبين ما يملك كل منهم، وأنه لا يحكم بطرق الحكم الأخرى من القرعة أو القسمة أو ما أشبه ذلك، لكن العمل بالقرائن أقرب وأقوى لأنها نوع من الأدلة، فيعمل بها، وهذا كله إذا لم يكن هنالك بيّنة، أما إذا كانت هناك بينة فإنه يؤخذ بها، والحمد لله.