الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة السادسة الأصل في العبادات الحظر، فلا يُشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والأصل في العادات الإباحة، فلا يحرّم إلا ما حرَمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
-
هذه قاعدة عظيمة وواضحة - والحمد لله - وهو أن الأصل في العبادات الحظر والمنع، وفيها شيء من القاعدة التي قبلها من جهة أن من تعبّد عبادة على غير ما جاء به الشرع فهي مردودة على صاحبها "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ"(1) فهذا الأصل العظيم في العبادات محل إجماع أهل العلم، وأنه لا يجوز أن يشرع عبادة فيقال هذا واجب، أو هذا مستحب، والعبادات هي ما يكون محل وجوب، أو محل استحباب هذه هي العبادات كل ما أمر به وجوبًا أو استحبابًا فهو عبادة، وما لا فلا.
المباحات في أصلها ليست عبادة، لكن تكون عبادة بالنية، فتنقلب المباحات إلى عبادات بالنية، فمن قصد وجه الله سبحانه وتعالى بهذه العبادات فإنه يكون متعبدًا له سبحانه وتعالى، ومأجورًا بنيته هذه، وهو واضح في عمل الإنسان في أمور كثيرة يمكن أن تنقلب فيها المباحات إلى عبادات، الإنسان قد يصل رحمه مثلًا على جهة العادة، خشية أن يقولوا ما زارنا فلان فيكون أمرًا مباحًا لا له ولا عليه لم يقصد وجه الله سبحانه وتعالى، لكن إذا كان قد يقطع رحمه لو لم يخشَ
(1) سبق تخريجه ص: 61.
ذلك قد يكون بهذه النية ارتكب أمرًا ممنوعًا، فالإنسان إذا وصل رحمه بمجرد هذه النية في أصلها لا له ولا عليه، فيقلبها إلى عبادة بأن ينوي وجه الله سبحانه وتعالى ببره لأقاربه وصلة الأرحام، ينوي بذلك تحصيل الأجر الذي جاء في بر الأقارب وصلة الأرحام، وكذلك زيارة صديقه وزميله إذا نوى بها مجرد المؤانسة والمداعبة معه مثلًا، وقد يخشى أن يجد عليه في نفسه، هذا يكون مباحًا إذا وصله؛ وإن زاره معتقدًا مشروعية زيارة إخوانه، وأنه يحتسب الأجر في ذلك كان مأجورًا بذلك، كذلك أمور كثيرة في مسألة تربية الإنسان لأولاده وأبنائه إذا نوى وجه الله سبحانه وتعالى وقصد أن يصلحهم، وأن يكونوا على طريقة مستقيمة كان مأجورًا في ذلك، والإنسان ينفق النفقة ويخرجها على أهله وهي واجبة عليه يؤجر على هذه النية، ويكون واجبًا عليه، ويؤجر أجر الواجب، لكن إذا نوى مع ذلك ما جاء من الأدلة في فضل النفقة على الأهل يُؤجر أجرين: أصل الوجوب من جهة الموجب، وزيادة عليه من جهة نيته التي نوى بها وجه الله سبحان وتعالى، بأن يحتسبها، كما جاء في الحديث عن أبي مسعود رضي الله عنه في الرجل ينفق على أهله يحتسبها له بها صدقة (1) إلى غير ذلك، فالمباحات ننقلب عبادات بالنية، الإنسان ينام وينوي بنومه التَقَوِّي على عبادة الله، فإذا نوى بهذه النية إجمام النفس على هذا الأمور المشروعة انقلبت المباحات إلى عبادات، فالوسائل لها أحكام المقاصد؛
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب النفقات (7/ 82)، ومسلم في صحيحه في كتاب النفقات (3/ 81) كلاهما من حديث أبى مسعود البدرى الأنصارى رضي الله عنه.
لأنه نوى نية صالحة "إنما الأعمال بالنيات"(1).
فالأصل في العبادات الحظر بمعنى المنع، فجميع العبادات المتعلقة بالأقوال والأفعال لا يجوز أن يشرع شيء منها إلا بدليل، فلا يجوز أن يقول هذا واجب إلا بدليل، فإذا قال هذا واجب، هذا مستحب، نقول: ما الدليل عليه؟، ولو قال إنسان: يشرع صيام الاثنين، نقول: ما الدليل عليه؟، ولو قال: يشرع صلاة أربع ركعات قبل الظهر وبعدها، نقول: ما الدليل عليه؟، وهكذا.
هذا هو الأصل في العبادات، ولهذا كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يقتدي بالنّبى عليه الصلاة والسلام في كل أعماله ويقول إنه يقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام وأن هذا من باب التعبد لله سبحانه وتعالى، وكان ابن عمر رضي الله عنه يصلي في الموضع الذي كان يصلي فيه النبي عليه الصلاة والسلام، وكان إذا سافر إلى مكة لحج أو لعمرة، أو إلى غير ذلك كان يبول تحت شجرة ويقول: كان النبي عليه الصلاة والسلام يبول تحتها، فهل هذا من الأمور التعبدية التي يشرع فعلها أم لا؟.
هذا موضع خلاف، ذهب ابن عمر رضي الله عنه إلى هذا، وجمهور الصحابة إلى أن هذا ليس موضع عبادة، وأنه ليس محل اقتداء في مثل هذه الأمور، وليس المراد في مسألة الاقتداء؛ الاقتداء في أفعاله من حيث الجملة، هذه
(1) سبق تخريجه ص: 62.
مسألة أخرى ذكرها العلماء في الأصول في باب السنة في باب الاقتداء بأفعاله، فموضوع الاقتداء بأفعاله عليه الصلاة والسلام طويل، وإن كان الأظهر عند كثير من أهل العلم أن الفعل إذا ظهر فيه وجه القربة كان محلًا للاقتداء، وإن لم يظهر فيه وجه القربة فلا بأس بالتأسى به عليه الصلاة والسلام من حيث الجملة، لكن الكلام في أنه يتبعه في أفعاله التي هي محض جبلة، والتي لا يظهر فيها وجه القربة، فهذه جمهور الصحابة رضي الله عنهم كما قلنا يقولون إنه لا يُشرع الاقتداء به في هذه الحال، وقد خالف ابنَ عمرَ رضي الله عنهما أبوه وقد ثبت عنه رضي الله عنه أنه كان في سفره فالتفت يومًا فرأى أناسًا يصلون تحت شجرة، فقال: ما هذا؟ قالوا: أناس يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى تحتها، فقال: أتريدون أن تتخذوا أثر نبيكم مسجدًا؟، أو كما قال رضي الله عنه، فأمر بقطعها سندًا للباب، وسدًا للذريعة التي قد تفضي إلى الغلو، ثم تفضي إلى الابتداع والشرك، فلهذا يكون الصواب مع من خالف ابن عمر رضي الله عنه.
فالسنة أن تفعل كما فعل على الوجه الذي فعل، هذا هو محل الاقتداء، معنى هذا حينما تصلى في هذا المكان لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلى فيه، ننظر هل صلى عليه الصلاة والسلام في هذا المكان قصدًا أم اتفاقًا؟ نقول: إنما صلى اتفاقًا، أي أنه جلس في هذا المكان وصلى فيه، وهكذا فأنت عندما تذهب إلى هذه الشجرة تصلى تحتها صليت قصدًا، والنبى - عليه الصلاة
والسلام - لم يصل تحتها قصدًا، فأنت في الحقيقة فعلت الفعل. على غير الوجه الذي فعل، فلا تكون متّبعًا إذا صليت عندها، بل قد يكون وسيلة إلى شيء من الغلو يؤدي إلى الابتداع، ولهذا كان الصواب كما قلنا ما كان عليه جمهور الصحابة رضي الله عنهم، واتفق عليه العلماء بعد ذلك وأنه ليس محلًا للإتّساء في مثل هذه الأشياء.
فالأمور التعبدية لا يعقل معناها على التفصيل، وإن عُقلت على الإجمال، ولأجل هذا سُمى ما أمر به على جهة الوجوب أو الاستحباب عبادة لأجل هذا المعنى، فصلاة الظهر مثلًا نفعلها من جهة الإجمال، لكن لماذا أربعًا؟ لماذا إذا زالت الشمس؟. . الله أعلم، ولماذا تكون الظهر سرية، والمغرب جهرية؟، لا نعقلها، وهناك أنواع من العبادات لا تُعقل إجمالًا ولا تفصيلًا، كتقبيل الحجر الأسود، ولذلك قال عمر رضي الله عنه كما في الصحيحين عندما قبَّل الحجر: والله إني أعلم أنك حجرٌ لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله يقبِّلك ما قبّلتك (1).
وكذلك الطواف والسعى لماذا على هذه الصفة؟. . الله أعلم، وإن كان في الجملة يُعقل من جهة أن هذه الأمور لإقامة ذكر الله كما في سنن أبى داود بإسناد صحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إنما جعل الطواف بالبيت
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الحج، باب: ما ذكر في الحجر الأسود (1/ 46)، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الحج (64/ 4) كلاهما من حديث عمر رضي الله عنه به. . . ".
والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله" (1). والغالب في الحج أن باب التعبد فيها أظهر.
وما معنى: الأمور التعبدية: أي إذا قيل هذا أمر تعبدّي؟
معناه: أننا لا نعقل حكمته، ليس المعنى أنه ليس في نفس الأمر حكمة، الله سبحانه وتعالى حكيم في أفعاله، فما يأمر به لحكمة، وما ينهى عنه لحكمة، لكن المراد أنه ليس هناك حكمة تُعقل، أما في نفس الأمر هناك حكم عظيمة قد تظهر بعد ذلك لأهل الإيمان.
يقول المصنف رحمه الله: "والأصل في العادات الإباحة، فلا يُحرّم منها إلا ما حرّمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ".
هذا هو الأصل في العادات، فالأصل في المآكل والمشارب وأفعال الإنسان العادية كتنقله وما أشبه ذلك الأصل فيها الإباحة، فلا يقال هذا حرام إلا بدليل، عكس الأمور التعبدية، فما سوى الأمر التعبدية الأصل فيها الإباحة والحِلّ، ولا نقول لأي شيء أقدم عليه ما الدليل؟ لأن الأصل الإباحة، وألحَقَ كثير من أهل العلم في هذه مسألة الشروط والعقود في البيع والشراء، وقالوا: إن الأصل فيها
(1) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب المناسك، باب: في الرمل (447/ 2)، وأحمد في مسنده (6/ 64) ضمن مسند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، والترمذي في سننه في كتاب المناسك، باب: كيف ترمى الجمار (2/ 193) كُلُّهم من طريق عبيد الله بن أبي زياد عن القاسم بن محمَّد عن عائشة رضي الله عنها. قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
الإباحة، وقال آخرون: إن الأصل فيها المنع، والصواب في مسألة الشروط والعقود والبيوع فها الحل لقوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (1)، والصواب أن الآية عامة ليست مجملة كما قاله جمع من أهل العلم، فلذلك يجوز أن يشرط ما شاء إلا ما حرم الله ورسوله، وليس معنى ذلك أن يأتي إنسان جاهل بأمور البيع فيشترط ما شاء، هذا لا يجوز، المعنى أنه يقدم على شيء لا يعلم تحريمه، أما أنه يقدم على شيء لا يعلم حله ولا تحريمه فلا يجوز له ذلك؛ لأنه قد يقدم على شيء محرم، ولهذا نص أهل العلم أنه يجب على من أراد أن يعمل عملًا من الأمور أن يعلم أحكامه على الجملة، وليس على التفصيل، ومما يتعلق بهذا الأصل ما يذكره جمع من أهل العلم أن الأصل في الأعيان المنتفع بها يذكرون مبحثًا في باب الأصول، وكثير منهم يذكرونه في باب التحسين والتقبيح، والأصل في الأعيان قبل البعثة هل هو الإباحة أم التحريم؟ يعني أفعال الإنسان من ذهابه وإيابه وأكله وشربه قبل البعثة (2)، فكثير من أهل العلم يقولون ذكر هذه المسألة لا فائدة فيها؛ لأن الشرع قد جاء وبيَّنَ ما يحرم وما يباح، لكن يستفاد من هذه القاعدة في مسألة المأكولات والمشروبات، فلو كان هناك نوع من الطيور مثلًا، ولم يأت نص في تحريمه ولا تحليله هل نقول هذا الطير حلال أم حرام؟.
فمن قال إن الأصل فيها التحريم قال: إنه لا يجوز أن يقال إن هذا الصيد حلال
(1) سورة البقرة، الآية:275.
(2)
المراد قبل بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام.
لأنه لم يأتِ دليل على حِلِّه، والصواب كما قلنا: أن الأصل في الأشياء الإباحة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام حرّم أشياء إما لخبثها، أو لكونها سامة، أو ضارة، أو لكونها ذات ناب، أو ذات مخلب، وكذلك في الأشربة، أحلّ منها ما أحلّ، وحرّم منها ما حرّم عليه الصلاة والسلام فالأصل فيما سواها الحِلّ، ولا يحُرّم إلا بدليل.
وقال بعضهم: إن من فائدة هذه القاعدة أنه لو أن إنسانًا نشأ في بلاد غير المسلمين، ولم يتمكن من الاتصال بهم ومعرفة الأحكام، هل الأصل فيما عندهم من الأعيان الحل، وأنه يجوز له أن يُقدم على هذه الأشياء، أم لا يجوز حتى يسأل لأن الأصل فيها التحريم؟ فهذه أمور تُستفاد من هذه القاعدة. اهـ.