الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الثانية والعشرون الصلح جائزٌ بين المسلمين، إلا صلحاً أحلّ حراماً، أو حرّم حلالاً
هذه القاعدة نص حديث جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة طرق من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود، ومن حديث عمرو بن عوف المزني من رواية حفيده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده (1)، ولها أيضاً
(1) حديث: "الصلح جائز بين المسلمين، إلاّ صلحاً أحل حراماً، أو حرّم حلالاً. . " هذا الحديث روي من حديث أبى هريرة رضى الله عنه ومن حديث عائشة ومن حديث عمرو بن عوف ومن حديث رافع بن خديج رضى الله عن الجميع.
فأما حديث أبي هريرة رضى الله عنه فقد أخرجه أبو داود في سننه في كتاب البيوع باب في الصلح (3594)، والحاكم في المستدرك (2/ 49)، والبيهقى في الكبرى (6/ 79) كلهم من طريق كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبى هريرة رضى الله عنه مرفوعاً بلفظ "المسلمون على شروطهم، والصلح جائز بين المسلمين. . . " الحديث.
وفيه كثير بن زيد الأسلمى، وثقه ابن معين، وقال أبو زُرعة: صدوق فيه لين، وقال النسائى: ضعيف، وقال ابن عدي: لم أر بحديثه بأساً، وأرجو أنه لا بأس به.
وقال عنه الحافظ في التقريب: "صدوق يخطئ" فحديثه حسن إن شاء الله، وقد صحّح حديثه هذا عبد الحق في أحكامه.
وأما حديث عائشة رضى الله عنها فأخرجه الدارقطنى في سننه (3/ 99) من طريق عبد العزيز بن عبد الرحمن عن خصيف عن عروة عن عائشة رضى الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم به فذكره وزاد فيه: "المسلمون على شروطهم ما وافق الحق" وإسناده ضعيف جدا لأجل عبد العزيز بن عبد الرحمن، قال عنه الإمام أحمد: إضرب على أحاديثه فإنها كذبٌ أو موضوعة، وقال النسائى وغيره: ليس بثقة، ولهذا قال الحافظ ابن حجر في التلخيص (3/ 23):"وإسناده واهٍ".
شاهد آخر بلفظ قريب من هذا عن حديث رافع بن خديج، وجاء - أيضًا - عن عدة من الصحابة، وبعض طرق هذا الحديث من باب الحسن لغيره وبعضها ضعيف جداً مثل حديث عمرو بن عوف المُزني، وبعضها ضعفها يسير،
=وأما حديث عمرو بن عوف المزنى رضى الله عنه فأخرجه الترمذي في سننه في كتاب الأحكام، باب: ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين الناس (2/ 403) من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده مرفوعاً بلفظ: "الصلح جائز بين المسلمين إلَّا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً. . . ".
وقال عنه الترمذى: "هذا حديث حسن صحيح".
ولم يتابع الترمذي في تصحيحه لهذا الخبر أهل العلم رحمهم الله لأجل كثير هذا، قال عنه ابن معين: ليس بشيء، وقال الشافعى وأبو داود: ركنٌ من أركان الكذب، وضرب أحمد على حديثه، وقال الدارقطنى: متروك، وقال ابن حبان: له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة.
ولذا قال ابن عبد الهادي في المحرر بعد ذكره لتصحيح الترمذي (2/ 895): "ولم يُتابع على تصحيحه فإنّ كثيراً تكلَّم فيه الأئمة وضعّفوه وضرب الإمام أحمد على حديثه في المسند ولم يحدث به".
وقال الذهبى في الميزان (3/ 407): "وأما الترمذي فروى من حديثه الصلح جائز بين المسلمين وصححه فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي"، ولذا قال الحافظ في التلخيص (3/ 27):"وهو ضعيف "، وقال عنه في الفتح (4/ 371):"وكثير ضعيف عند الأكثر، لكن البخارى ومن تبعه كالترمذي وابن خزيمة يقوون أمره ".
وأما حديث رافع بن خديج فأخرجه الطبرانى في المعجم الكبير (1/ 222) من طريق جبارة بن المغلّس حدثنا قيس بن الربيع عن حكيم بن جبير عن عباية بن رفاعة عن رافع بن خديج رضي الله عنه به فذكره. . . " وفيه جبارة بن المغلِّس وهو ضعيف" والحديث جاء له شاهد مرسل ذكره الحافظ ابن حجر في التلخيص (3/ 27): " من طريق يحيى بن أبى زائدة عن عبد الملك هو ابن أبى سليمان عن عطاء عن النبى صلى الله عليه وسلم مرسلًا".
فالحديث بمجموع هذه الطرق يرتقى لدرجة الحسن أو الصحيح لغيره، وإن كان في بعض طيقه ضعف شديد، لكن بعضها مما يصلح للاستشهاد. والله أعلم.
فبمجموع طرقها تنجبر وتكون من باب الحسن لغيره، وقد ترتفع لدرجة الصحيح لغيره لكثرة طرقها، خاصة أن بعض طرقها مقارب ولا بأس بها كرواية أبى داود عن أبى هريرة، وهذا الحديث أصل في باب الصلح، وأن الصلح جائز بين المسلمين.
وكان عليه الصلاة والسلام يشير بالصلح في بعض القضايا، وقد ثبت في البخاري وغيره أنه لما تخاصم ابن أبى حَدْرَد وأبى بن كعب في مال بينهما وارتفعت أصواتها جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يُشير إلى صاحب المال أن ضع الشطر فرضى فوضع الشطر (1).
وثبت - أيضًا - في الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه أنه كان على أبيه دين فطلب منهم أن يُنظِروه فأبوا، فطلب منهم أن يأخذوا ثمر حائطه فأبوا، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع له، لكنهم على عادتهم، وهم قوم من اليهود وهم قوم بُهتٍ وكذبٍ فلم يقبلوا، فجاء عليه الصلاة والسلام على التمر فأمر جابراً أن يضعه بيادر كل بيدر على حدة، أي أن يأخذ التمر ويضعه في أماكنه لحفظه، فجاء عليه الصلاة والسلام فدار على أعظمهم بَيدراً فجعل يقضيهم
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في باب كلام الخصوم بعضهم في بعض (1/ 603)، وأخرجه مسلم في صحيحه (5/ 30) في كتاب البيوع كلاهما من حديث كعب بن مالك رضى الله عنه أنه تقاضى ابن أبي حدْرَد دَيناً كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فخرج إليهما رسول الله ونادى كعبًا فقال:"يا كعب" فقال: لبيك يا رسول الله، فأشار إليه أن ضع الشطر من دَينِك. . ".
منه فقضاهم، وكأن البيدر لم ينقص (1) والبيادر الأخرى على حالها، وكان هذا ببركته عليه الصلاة والسلام.
وجاء - أيضًا - عند أبى داود عن أم سلمة، أن رجلين اختصما في مواريث بينهما قد درست، فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يسقط كل منهما ماله على صاحبه، وأن يحلل كل منهما صاحبه، فأشار عليه الصلاة والسلام بالصلح (2).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في باب إذا قاضى أو جازفه في الدين تمراً بتمر أو غيره (1/ 598)، ومسلم في صحيحه في كتاب البيوع (5/ 32) كلاهما من حديث جابر رضي الله عنه ولفظه:"أنه أخبره أنّ أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقاً لرجل من اليهود فاستنظره جابر فأبى أن يُنظِره، فكلّم جابر رسول الله وكلَّم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى، فدخل رسول الله النخل فمشى فيها ثم قال لجابر: "جُدّ له فأوفِ له الذي له" فجدّ له بعدما رجع رسول الله فأوفاه ثلاثين وسقاً وفضلت له سبعة عشر وسقاً، فجاء جابر رسول الله ليُخبره بالذي كان فوجده يصلى العصر، فلما انصرف أخبره بالفضل فقال: "أخبر بذلك ابن الخطاب" فذهب جابر إلى عمر فأخبره، فقال عمر: قد علمت حين مشى فيها رسول الله ليباركنّ فيها.
(2)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/ 320)، وأبو داود في سننه في كتاب القضاء، والحاكم في المستدرك (4/ 95) وقال:"صحيح على شرط مسلم " ووافقه الذهبى، كلهم من طريق أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع عن أم سلمة رضي الله عنها ولفظه مرفوعاً:"جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست، ليس بينهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر ولعلّ بعضكم ألحن بحجته. . الحديث " وفيه:"فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقى لأخى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إذ قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق، ثم استهِما، ثم ليحلل كل واحدٍ منكما صاحبه"، والحديث فيه أسامة بن زيد الليثى أبو زيد المدنى، واختلفت فيه آراء الحفاظ فتكلم فيه الإمام أحمد وقال عنه: ليس بشيء فراجعه ابنه عبد الله فيه فقال: إذا تدبرت حديثه تعرف فيه النكرة، وضعّفه النسائى ويحيى بن=
والصلح من الأبواب العظيمة في الشريعة التى جاء الشرع بالحث عليها، حتى جاءت الأدلة في جواز الإصلاح بين المتخاصمين من رجلين أو قبيلتين ولو بالكذب لأنه يرتب عليه مصالح عظيمة، أعظم وأكبر من هذه المفسدة التى هي الكذب، وهذا من باب المصالح والمفاسد التي تُقدَّم فيها المصالح العظيمة على المفاسد اليسيرة.
فالأصل صحة الصلح لعموم الأدلة في هذا، إلا ما دلّ الدليل على استثنائه، أي على أن هذا الصلح لا يصح، ولهذا يصح الصلح مع الإقرار ومع الإنكار، فالصلح مع الإقرار جائز عند الجميع وذلك أن يدعى عليه مالاً أو عيناً فيُقر بها المدَّعى عليه لكن يصالحه على شيء لكونها ليست عنده، فلو كان عليه ألف ريال مثلاً فصالحه على خمسمائة ريال ويبرئه من الباقي لصحّ، ثم على الصحيح أنه سواء جرى بلفظ الصلح أو بغيره أي بلفظ الإبراء أو الهبة، أما إذا كان إسقاطه بالشرط فلا يجوز مثلاً أن يقول لا أسَلِّم لك إلا بشرط أن تسقط عنى خمسمائة ريال فهذا الصلح لا يصح؛ لأنه أكل للمال بالباطل؛ ولأنه إجبار لصاحب الحق على ترك حقه بدون رضاه، فله أن يأخذ ما أعطي من حقه، والصلح لا يلزمه في حكم الشرع، أي أنه لو أراد أن يطالبه بالباقي مرة أخرى فله ذلك.
= سعيد القطان، ووثقه ابن معين، وقال ابن عدي: ليس به بأس، وقال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب:"صدوق يهم".
ولعلّ حديثه لا ينزل عن مرتبة الحسن. والله أعلم.
وكذلك الصلح على الدِّية أي لو ادعوا عليهم دية قتيل فاعترفوا به قالوا إنه لا يجوز الصلح على الدية بأكثر منها، فإذا كانت الدية مائة من الإبل فارادوا أن يصالحوهم على أكثر منها قالوا إنه لا يجوز؛ لأنه حق ثابت في الذمة فلا يجوز بأكثر منه هذا هو القول الأول.
القول الثاني: الجواز سواء كان دية خطأ أم دية عمد، وهذا هو الصواب، ومنها - أيضًا - ما ذكروه في المتلفات المتقوّمة على الخلاف الذي ذكرناه، فإذا كان هذا الذي أتلف مُتَقَوَّمًا ليس مثليًا أي لو كان قيمة هذا الذي أتلف ألف ريال مثلًا وصالحه على ألف وخمسمائة ريال قالوا لا يجوز أن يصالح في المتقَوَّم على أكثر من قيمته لأنه هكذا ثبت في الذمة، هذا هو القول الأول.
القول الثاني: الجواز إذا تراضوا على ذلك كما نقول في جوازه في البيع أي لو أنها كانت موجودة وأراد أن يبيعها جاز أن يبيعها بأكثر من قيمتها وهذا هو الصواب، هذا هو النوع الأول من الصلح وهو صلح الإقرار.
والنوع الثاني من الصلح: هو صلح الإنكار:
وهذا قال به الجمهور غير الشافعي، وهو أن يدّعي عليه مالًا أو عينًا، فأنكر المدعى عليه لكن قال لأجل قطع الدعوى والنزاع قال المدَّعَى عليه سوف أصالحك، فصالحه على شيء، جاز في هذه الحال، فالصلح جائز بنوعيه، إلا صلحًا أحل حرامًا، أو حرّم حلالًا.