الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة السابعة والخمسون يجب حمل كلام الناطقين على مرادهم كما أمكن في العقود والفسوخ والإقرارات وغيرها
كلام الناطقين لا شك أنه يكون أحياناً صريحاً في المراد، وأحياناً صريحاً في غيره، وأحياناً محتمل، وكلام الناطقين يختلف بحسب النية وبحسب القرائن، وهذا سبقت الإشارة إلى شيء منه، لكن حمله على مراده هو الواجب، وكذلك كلام الله سبحانه وتعالى فإنه يجب حمله على مراده، فلا يجوز حمله على ظاهر ظهر لنا أن الناطق لا يريده، أو أنه يريد خلافه فيجب حمل كلام الناطقين في العقود والإقرارات، وكذلك الواقفين والموصين، وما أشبه ذلك، كلها يجب حملها على مراده، فمن حملها على الظاهر المطلق الذي يظهر أن الناطق لم يرده اضطرب عليه كلام الناس ولم ينضبط، فهذا جار في كلام الناس، وكلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وكلام الناطقين ومرادهم ونياتهم على أقسام:
القسم الأول: أن تظهر مطابقة القصد للفظ مطابقة تامة، وأن يعرف أن الظاهر مطابق للقصد تماماً، وهذا يختلف، وقد يكون درجات يصل في بعض الأحيان إلى درجة القطع واليقين أنه أراد ذلك الشيء، وهذا هو الأصل في كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وكلما كانت الأمور أعظم التى يتكلم بها الشارع كلما كان وضوح القصد أظهر وأبين، ولهذا تجد أن النصوص في أسماء الله وصفاته سبحانه وتعالى فيها من الوضوح والبيان في الدلالة على معانيها الغاية من ذلك والبيان التام الذي لا فوقه بيان في إثبات أسمائه تعالى وصفاته، ولهذا تجد من ضل عن هذه لا يضل إلا عن بدعة أو مرض أو ضلال والعياذ بالله؛ لوضوح النصوص وأنها غاية في تمام البيان والفصاحة والبلاغة في المراد منها.
من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "أنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تُضامون في رؤيته. . . "(1) هذا من أوضح المراد في رؤيته سبحانه وتعالى وأنه يراه أهل الجنة في الجنة، فلو أراد إنسان أن يثبت الرؤية بطريق لم يستطيع أن يثبتها بطريق أوضح من هذا الطريق فليس فوق هذا اللفظ شيء يوضح مراده في إثبات المعنى الذي قصد إليه.
القسم الثاني: ما يظهر أن المتكلم لم يرد معناه ولم يقصد إليه، عكس القسم الذي قبله، وهذا على ثلاثة أنواع:
النوع الأولى: أن لا يكون مريداً لمقتضاه مطلقاً: ككلام المكره.
مثاله: إنسان أكره على إقرار أو على عقد من العقود فباع بيته مكرهاً بالتهديد أو بالضرب، أو إنسان نائم فتكلم بكلام فصار يبيع ويشتري ويعقد العقود وهو
(1) رواه البخارى في كتاب التوحيد برقم (7436)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة برقم (1002) كلاهما من حديث جرير بن عبد اللة البجلى رضي الله عنه ولفظه مرفوعاً:"إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تُضامون في رؤيته".
نائم، أو السكران، فهذا نقطع أنّه لم يرد ما نطق به، بل نطق لكونه مكرهاً أو مغلوباً على عقله لكونه سكراناً أو مغمى عليه، أو لكونه مسلوب العقل، فهو إما مسلوب العقل كالمجنون أو محجوب العقل كالنائم، أو مغلوب العقل كالمغمى عليه، فهؤلاء كلهم تصرفاتهم غير معتبرة.
النوع الثاني: أن يكون مريداً لخلافه كالمورّي الملغِز الذي يأتي بألغار ولها ظاهر لكنه في باطن الأمر يريد خلافه.
مثال: إنسان سُئل: هل عندك فلان؟ قال: لا، فهذا ظاهره أنه ليس موجودًا عنده في البيت، لكنه لم يقصد ذلك بل قصد أنه ليس موجودًا أمامه، أو ليس موجودًا بجانبه، أو ليس موجودًا في المجلس، فهذا يريد خلف ظاهر الأمر.
النوع الثالث: ما هو ظاهر في المراد ويحتمل غيره، وهذا النوع هو الذي وقع فيه الخلاف، فهل يعتبر الظاهر أم يعتبر القصد؟.
والصحيح أنه يعتبر القصد، وعلى هذا أدلة الشرع وهذا جار في أشياء كثيرة، مثاله: في عقد العينة من باع سيارة بمائة ألف ريال إلى أجل على إنسان، ثم اشتراها منه بثمانين ألف ريال، ثم دفعها إليه، فهذا ظاهره أنه بيع لكنه في الباطن قصدوا دراهم بدراهم، وإلا فإن السيارة مستعارة، وكما قيل حرف معناه في غيره وليس مقصوداً، كما قال ابن عباس: دراهم بدراهم بينهما حريرة، فبعض أهل العلم قال: إن هذا الظاهر معتبر، وإن كان محتملاً لغيره فهو
ظاهر في المراد، وأنه بيع صحيح كما هو مذهب الشافعي رحمه الله، وإن كان يقول إن كانوا قاصدين للربا فهم يأثمون، لكن يصحح العقد بمقتضى الظاهر؛ لأن الظاهر من عقود المسلمين السلامة والصحة.
لكن الصواب أنه يجب إبطاله، ولهذا نهى عنه عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر رضي الله عنهما (1)، وهو داخل في عموم النصوص في كونه ربا.
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 28) من طريق الأعمش عن عطاء بن أبى رباح وهو إسناد صحيح كما أشار إلى ذلك المحقق في الحاشية على المسند الشيخ شاكر.
وأخرجه أبو داود في سننه مع عون المعبود (9/ 3445) في كتاب البيوع باب في النهي عن العينة من طريق أبى عبد الرحمن الخراساني أن عطاء الخراساني حدثه أن نافعاً حدثه عن ابن عمر رضى الله عنهما به فذكره. . ".
وهذا السند قال فيه المنذري في تهذيب السنن (3317): "في إسناده إسحاق بن أسيد أبو عبد الرحمن الخراساني لا يحتج بحديثه، وفيه أيضاً: عطاء الخراساني، وفيه مقالٌ". اهـ.
وإسحاق بن أسيد هذا قال عنه أبو حاتم: لا يُشتغل به.
قال الذهبى في الميزان (1/ 184): "قلت حدث عنه يحيى بن أيوب والليث وهو جائز الحديث".
وأما عطاء الخراساني قال عنه النسائى: ليس به بأس.
وقال أحمد ويحيى والعجليّ وغيرهم: ثقة.
وقال أبو حاتم: لا بأس به، وذكره البخارى في الضعفاء".
وأما الرواية التى عند أحمد في المسند من طريق الأعمش عن عطاء بن أبى رباح عن ابن عمر رضي الله عنهما فهذه الرواية تكلَّم عليها الحافظ ابن حجر في التلخيص (3/ 21) بقوله: "وعندي أن إسناد الحديث الذى صححه ابن القطان معلول لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحاً؛ لأن الأعمش مدلس ولم ينكر سماعه عن عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني فيكون فيه تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر فرجع الحديث إلى الإسناد الأول وهو المشهور". اهـ.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن (9/ 335) مع العون، للحديث بعض الشواهد فقال رحمه الله في ذلك: "وفي الباب حديث أبى إسحاق السبيعى عن امرأته: أنها دخلت على عائشة فدخلت =
ومثله أيضاً المحلل الذي تزوج امرأة ليحلّها، وجرى العقد في الظاهر أنه نكاح صحيح، ولم يشترطوا في العقد أن يحلها بل اتفقوا قبل ذلك، فهل يعتبر الظاهر وهو أن العقد تم بشروطه في الظاهر؟
والصحيح أنه يعتبر القصد، وهذا هو الذي دلت عليه النصوص، ويكاد يقطع به، ولذلك أبطل الصحابة نكاح المحلل للأدلة في هذا منها حديث ابن مسعود أنه عليه الصلاة والسلام قال:"لعنَ الله المحلّل والمحلل له"(2).
= معها ولد زيد بن أرقم فقالت: يا أم المؤمنين، إنى بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم وإني ابتعتهُ منه بستمائة نقداً فقالت لها عائشة: بئسما اشتريت، وبئسما شريت، أخبرنى زيداً أن جهاده مع رسول الله قد بطل إلا أن يتوب".
هذا الحديث رواه البيهقى والدارقطني وذكره الشافعى وأعله بالجهالة بحال امرأة أبى إسحاق وقال: لو ثبت فإنما عابت عليها بيعاً إلى العطاء، لأنه أجل غير معلوم، ثم قال: ولا يثبت مثل هذا عن عائشة وزيد بن أرقم لا يبيع إلا ما يراه حلالاً.
قال البيهقي: ورواه يونس بن أبى إسحاق عن أمه العالية بنت أنفع "أنها دخلت على عائشة مع أم محمد".
وقال غيره: هذا الحديث حسن ويحتج بمثله، لأنه قد رواه عن العالية ثقتان ثبتان: أبو إسحاق زوجها ويونس ابنها ولم يعلم فيها جرح، والجهالة ترتفع عن الراوي بمثل ذلك ثم إن هذا مما ضبطت فيه القصة ومن دخل معها على عائشة، وقد صدقها زوجها وابنها وهما من هما، فالحديث محفوظ". اهـ.
(2)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/ 450 - 451)، والنسائى في سننه في كتاب الطلاق، باب: إحلال المطلقة ثلاثاً وما فيه من التغليظ (6/ 149)، والترمذى في جامعه في كتاب النكاح، باب ما جاء في المحلِّل والمحلل له (2/ 294) كلهم من طريق سفيان عن أبى قيس عن هُزيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه به. . فذكره.
وقال الترمذي عقِب سياقه: "هذا حديث حسن صحيح".
فلذلك يجب حمله على القصد، وهكذا في سائر العقود التي لها قصود خاصة، وهذا جار في أشياء كثيرة، وقد فصّل هذا العلاّمة ابن القيم رحمه الله، وذكر هذا التقسيم وبسطه بسطاً حسناً، وقد ذكر أمثلة مهمة ينبغى لطالب العلم مراجعتها، وذكر هذا في إعلام الموقعين - المجلد الثالث.