الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الثامنة عشر تضمن المثليات بمثلها، والمتقوِّمات بقيمتها
هذه القاعدة قالها الفقهاء في سائر المذاهب، وهي تكاد تكون محل إجماع منهم، لكن خلافهم في المثلى والمتقوَّم، بعضهم قال: إن المثلى هو كل مكيل، أو موزون، فمن أتلف لإنسان شيئاً مكيلًا، أو موزوناً، أو ثبت في ذمته شيء مكيل، أو موزون بقرض، أو نحوه وجب عليه مثله، فمن استسلف من إنسان مائة صاع من البرّ مثلاً وجب عليه في ذمته مائة صاع من البرّ، ومن استسلف شيئاً موزوناً مثل لحم فإنه وجب في ذمته، ويجب ردُّ مثله، وهذا في القرض ما لم يتراضوا على شيء يوم التقابض، وإلا يجوز أن يعطيه غير ما استسلف إذا تراضوا على شيء وأن يجعله بدلاً عن قرضه، والمشهور في المذهب أن المثلي هو كل مكيل أو موزون لا صناعة فيه مباحة يصح السَّلَمُ فيه.
فقولهم: "كل مكيل وموزون ": يخرج ما لم يكن مكيلاً أو موزونًا من المعدودات المذروعات.
وقولهم: "لا صناعة فيه مباحة": يخرج الموزون إذا خرج عن الوزن بالصناعة، مثل أنواع الآنية من قدور وغيرها، مما أصلها الوزن لأنها من الحديد أو غيره مما يوزن من نحاس وغيره، فهذه وإن كان الأصل فيها الوزن لكن خرجت بالصناعة عن الوزن، فهذه تضمن لكن لا تضْمَنُ بمثلها لأنها خرجت من المثلية بالصناعة،
فلا مثل لها فتضمن بقيمتها، ومنه أيضاً الحلي وإن كان أصله الوزن لكنه خرج عن الوزن بالصناعة، فيضمن بقيمته.
وقوله "مباحة": يخرج الصناعة المحرمة، فإذا أتلف على إنسان إبريق من الذهب أومن الفضة أو ملاعق من الذهب أو من الفضة فإنها لا تضمن بقيمتها، بل تضمن قيمتها بوزنها، أي كم يساوي هذا الإبريق وزناً، وكم تساوي هذه الملعقة وزناً؟ لأنها بالصناعة زادت قيمتها؟ ولأجل هذا الذهب إذا كان تبراً له قيمة وإذا كان مصنوعاً له قيمة، فلذلك قالوا إنها لا تضمن بقيمتها لأن الصنعة محرمة ولا قيمة لها في الشرع، وإن كان لها قيمة عند الناس لكنها في الشرع ليس لها قيمة، فتهدر ولا تُحسب، وتحسب قيمتها غير مصنوعة.
وقولهم "يصح السَّلم فيه": يخرج الموزون الذي لا يصح السَّلم فيه كالجواهر واللؤلؤ وما أشبه ذلك من أنواع الجواهر، قالوا هذه وإن كانت موزونة فليست مثلية.
فلو قال: أعطيك مائة ألف ريال في جوهرة تأتي بها إلى مدة شهر صفتها كذا، ولونها كذا، وحجمها كذا، فهذه قالوا لا تصح لأن هذا لا يمكن ضبطه، والجواهر تختلف اختلافاً عظيماً، فقالوا كما أنه لا يصح السلم فيِها لأنها لا تنضبط فكذلك لا تكون مثلية لعدم انضباطها، وهذا هو تعريف المثلي في المذهب وهو المشهور عندهم، ولا شك أن هذا لا يدخل فيه إلا أشياء يسيرة ويخرج منه أشياء كثيرة.
القول الآخر في هذه المسألة:
أن المثلي ما له مثل يماثله أو يقاربه، وهذا هو أصح الأقوال وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله ونصَره ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين، وقاله جمع من أهل العلم، وهذا القول هو الذي يدل عليه القرآن والسنة والآثار عن الصحابة - رضى الله عنهم -، والقياس والقضاء الصحيح.
ولهذا يضمن الصيد إذا أتلفه بمثله أو ما يقاربه، فقضى الصحابة رضي الله عنهم في البعير بالنعامة، مع أن الفرق بينهما عظيم لكنها تشابهها في بعض الأشياء مثل طول الرقبة والجسم، وقضوا في الشاة بحمامة مع الفرق بينهما لكن لأنها تشبهها من جهة مص الماء - والله أعلم -، فالصحابة رضي الله عنهم هم أفقه الأمة وأعلمها، ومع هذا قضوا في مثل هذا بالمثل بما يشابهه من بعض الوجوه.
وقد صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه استلف بَكراً فقضى رباعياً (1)، فدل على أن الإبل مثلية، وإلا لرد القيمة، ولهذا يقولون في القرض يُردُّ مثله،
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب البيوع (5/ 54) وابو داود في البيوع برقم (3346) وكلاهما من حديث أبى رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فذكره وزاد: فجاءته إبلٌ من الصدقة، قال أبو رافع: فأمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقضي الرجل بكره فقلت: لم أجد في الإبل إلا جملًا رباعياً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أعطه إياه فإن خِيار الناس أحسنهم قضاء".
وقال الترمذى عقب سياقه له في سننه: "حديث حسن صحيح".
واستثنى بعضهم القرض في مثل هذه الأشياء وهو قول الجمهور، والأحناف يقولون أن الإبل ليست مثليه فلو اقترض شيئًا من الإبل لا يرد شيئًا لأنه ليس له مثل بل يرد قيمته، واختلفوا ما هي القيمة الواجبة، هل هي قيمته يوم القبض أو يوم الرد. . إلى غير ذلك، المقصود أن الإبل مثليه كما قلنا.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى عن داود عليه السلام قال: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} (1) وهذه القصة ذكرها أهل العلم، فداود عليه السلام قضى بحكم وخالفه ابنه سليمان، فهؤلاء القوم لهم غنم وقوم لهم بستان فنفشت هذه الغنم، والنفش هو الإفساد ليلًا، فقضى سليمان لأهل الزرع بأن يقوم أهل الغنم بإصلاح البستان، والبستان فيه الأشجار والثمار والحيطان التى تبنى، وهو قضي بإرجاع البستان كما كان، وهذا لا شك عند جماهير أهل العلم ليس مثليًا، فلما قضى بهذا أثنى عليه الله سبحانه وتعالى بالفهم، وأن الله فهَّمه، ومن عدله عليه الصلاة والسلام حكمه أن يأخذ أهل البستان الغنم فيستفيدوا منها في مدة إصلاح البستان، فجعل نماء هذه الغنم في هذه المدة مقابلًا للنماء الذي يستفيدونه من البستان لأنه فات عليهم في هذه المدة، وهذا بلا شك أقرب للعدل. . فعلى هذا كل شيء يماثل شيئًا فهو مثلي.
والأواني على الصحيح نقول إنها مثلية لأنها تماثلها، والسيارات التى تتماثل
(1) سورة الأنبياء، الآيتان 78، 79.
تكون مثلية، لكن هذا كما قلنا عند الجمهور ليست مثليه والثياب أيضًا عندهم ليست مثلية، بل قيمية لأنها ليست مكيلًا ولا موزونًا لأن الثياب خرجت عن الوزن بالصناعة، والصواب أنها مثلية، بل المشابهة في الأوانى قد تكون أعظم من المشابهة بين حبة بُر وحبة بُر، لأن الحب قد يكون بعضه صغيراً وبعضه كبيراً.
فالقول المختار كل ما له مثيل فهو مثلى، وهذا القول هو الذي تدل عليه الأخبار، وهو أيضًا ظاهر اختيار البخاري رحمه الله في صحيحه، وقد بوّب بابًا في صحيحه وقال: باب من هدم جداراً بنى مثله، وليس المراد بهذا أنه يلزمه المراد إذا اختلفوا، وإلا لو تراضوا على شيء جاز، فلو تراضوا على شيء في المثليات على القيمة جاز ذلك، لكن هذا يلزم إذا اختلفوا أو أرادوا أن يرجعوا إلى حكم الشرع الواجب عليهم، فعلى هذا إذا عُدم المثلى أو شق وجوده أو العثور عليه نرجع إلى القيمة.
ومن الأدلة - أيضاً - التي تدل على القول الصحيح في مسألة المثلى القصة المشهورة التى جاءت في حديث عائشة وحديث أنس أنه عليه الصلاة والسلام كان عند إحدى أزواجه وكانتا تصلح طعاماً له ولأصحابه، فجاءت إحدى أمهات المؤمنين بطعام، وجاء في بعض الروايات أنها عائشة وأن التى صنعت الطعام هي زينب بنت جحش، فجاءت فكسرت تلك الصحفة، فقال عليه الصلاة والسلام:"غارت أُمكُم"، وجاء في صحيح البخاري أنه عليه الصلاة والسلام حبس الصحفة المكسورة في بيت الكاسرة وردّ الصحيحة إلى
بيت من كُسِرَت صحفتها. فهذا ظاهره أنه قضى، ففعله عليه الصلاة والسلام من تضمين الكاسرة من إبقاء الصحفة المكسورة في بيتها وأخذ الصحيحة وجعلها لمن كسرت صحفتها يدل على أن المثل ماله مثل، لأن الصحفة عند الجمهور ليست مثلية لأنها خرجت بالصنعة عن كونها مثلية.
وأصرح منه ما رواه الترمذي بسند صحيح أنه بعد ما فعل هذا عليه الصلاة والسلام قال: "إناءٌ بإناءٍ، وطعامٌ بطعامٍ "(1)، وقد رواه الترمذي بسند على شرط الشيخين، وقد رواه - أيضاً - أبو داود والنسائي من طريق جسرة بنت
(1) رواه الترمذي في كتاب الأحكام (2/ 406)، باب ما جاء فيمن يُكسر له الشيء، وقال عنها الترمذي بعد سياقه لها:"حديث حسن صحيح ".
وجاء من حديث عائشة رضى الله عنها، أخرجه أبو داود في كتاب البيوع (3097)، والنسائى في عِشرة النساء (3895)، والإمام أحمد في مسنده (4/ 93) من طريق سفيان قال: حدثنى فُلِيت العامري عن جسرة بنت دجاجة قالت: قالت عائشة رضى الله عنها: "ما رأيت صانعاً طعاماً مثل صفية، صنعت لرسول الله طعاماً فبعثت به، فأخذنى أفْكَل فكسرت الإناء، فقلت: يا رسول الله، ما كفارة ما صنعت، قال: "إناء مثل إناء، وطعام مثل طعام". والحديث فيه جسرة قال عنها البخاري: وجسرة عندها عجائب.
وقال الحافظ في التقريب: "جسرة بنت دجاجة العامرية الكوفية مقبولة من الثالثة، ويقال إن لها إدراكاً".
والقصة عند البخاري من حديث أنس بن مالك رضى الله عنه (5/ 142) بلفظ آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام فضربت بيدها فكسرت القصعة فَضَمَّها وجعل فيها الطعام وقال: "كلوا" وحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم القصعة حتى فرغوا فدفع القصعة الصحيحة وحبس المكسورة.
دجاجة عن عائشة رضي الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إناءٌ باناءٍ، وطعامٌ بطعامٍ"، فهذان شاهدان لما جاء في البخاري، ويرد على من قال إن هذا على سبيل المكارمة، وليس على سبيل القضاء، وأنه من باب العقوبة للكاسرة، وأن هذا من ماله عليه الصلاة والسلام ولا يخرج من بيته وهن أزواجه عليه الصلاة والسلام، لكن قوله إناء بإناء قاعدة عامة، وجاء في لفظ آخر ذكره الحافظ ابن حجر عند ابن أبي حاتم أنه قال من كسر شيئاً فهو له وعليه مثله، وهذا قانون عام في هذه المسائل.
وقوله: "المتقوّمات بقيمتها": هذه واضحة تتضح من المثلي، وأن ما لم يكن مثلياً أو كان مثلياً وعُدم فيرجع إلى قيمته.