الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الخامسة عشر لا ضرر ولا ضرار
هذه القاعدة نص حديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا ضرر ولا ضرار"(1)، وهذا الحديث بمجموع طرقه صحيح، أو صحيح لغيره لأنه رواه ابن ماجه، ورواه الدارقطني، وله طرق عن ابن عباس، وعن عبادة بن الصامت، وغيرهما، وجاء أيضًا من طرق مرسلة، ويشهد له عدة أدلة من القرآن منها قوله تعالى:{وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} (2)، وقال تعالى:{وَلَا يُضَار كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} (3).
فهذه القاعدة محل إجماع في الجملة، لكن في تفاصيلها خلاف، ولها فروع كثيرة منها ما سبق لنا: أن الضرورات تبيح المحظورات، وزاد بعض أهل العلم: بشرط عدم نقصانها، أي أن تكون الضرورة أشد مما أراد أن يستبيحه، ولأجل هذا لما كان أكل الميتة أيسر وأسهل من هلاك النفس جاز الأكل من الميتة، ولما كان العلاج بالخمر أو بالدواء الخبيث ضرره أشد لم يجز العلاج به لأنها ضرورة؛ من أجل أن ضرره أشد مما يستباح له الخمر.
كذلك لا يجوز أن يقدِم على قتل إنسان أُمر بقتله لأجل استبقاء نفسه؛ لأن ما
(1) سبق تخريجه في المقدمة، ص:13.
(2)
سورة الطلاق، الآية:6.
(3)
سورة البقرة، الآية:282.
قدم عليه أشد مما أُجبر عليه، فلا يقتل نفسًا معصومة لأجل أن يستبقي نفسه.
كذلك من فروعها أن ما أبيح للضرورة يُقدَّر بقدرها، فالذي يضطر للميتة فإنه يل بقدر ما يقيم النفس، وهذا محل تفصيل، فإذا كانت الضرورة دائمة فالصواب أنه يجوز الشبع لما روى أبو داود من حديث جابر بن سمرة أن رجلاً نزل الحرة ومعه أهله وولده، فقال رجل إن ناقة لي ضلّت فإن وجدتَها فأمسكها، فوجدها فلم يجد صاحبها، فمرضت فقالت امرأته: انحرها، فأبى فنَفَقَت، فقالت: اسلخها حتى نقَدِّد شحمها ولحمها ونأكله، فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فسأله، فقال:"هل عندك غنى يغنيك؟ " قال: لا، قال:"فكُلُوها"، قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر، فقال: هلا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك (1).
وجاء أيضاً عند أبى داود من حديث عقبة بن وهب بن عقبة العامري قال: سمعت أبى يحدث عن الفُجَيع العامري أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما يحل لنا من الميتة، قال:"ما طعامكم؟ " قال: نغتبق ونصطبح، قال أبو نعيم: فسَّره لي عقبة قدح غدوة وقدح عشيةٌ: قال ذلك وأبي الجوع فأحل لهم الميتة على هذه الحال (2)، أما إذا كانت عارضة وهي قريبة الزوال فإنه يأكل بقدر ما يسد جوعه.
(1) رواه أبو داود في كتاب الأطعمة، باب: في المضطر إلى الميتة (3/ 358)، والحديث سكت عنه المنذرى، وقال العلامة الشوكانى: وليس في إسناده مطعن.
(2)
رواه أبو داود (3/ 358) قال المنذرى في إسناده عقبة بن وهب، قال ابن معين: صالح، =
ومنها: الضرر لا يزال بالضرر، ويدل عليها ما ذكرنا في المثال السابق من الاعتداء على غيره لأجل استبقاء نفسه.
ومنها: إذا تعارضت مفسدتان روعى أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما، وهذا أشرنا إليه، لأنه نوع ضرورة، فإذا كان هناك مفسدتان فإنه يرتكب أخفهما في دفع أعظمهما، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
والحاجة تنزل منزلة الضرورة، عامة كانت أم خاصة، وذكروا لهذه من الأمثلة في مسألة السَّلَمِ ومسألة الإجارة، فقالوا إن هذه حاجات تنزل منزلة الضرورة، وقالوا: إن هذه في القياس عقد على معدوم، وهذا ردّه شيخ الإسلام وابن القيم - رحمهما الله - وقالوا: إن هذا ليس بصحيح، بل إن السَّلَمَ عقد على شيء في الذمة، وليس عقدًا على معدوم، لكن هذا جار في بعض أنواع البيوع، فيجوز بيع البيت مع الجهالة في بعض الأشياء مثل الأساسات والحيطان، وكذلك نشتري أنواعًا من الفرو والملابس ولا يرى داخلها فعفي عن المجهول التابع والجهالة يسيرة؛ لأنها محل حاجات لأن هذا يحتاجه العامة والخاصة، قالوا مثل لو أن عنده إناء فانكسر فاحتاج إلى جبره بشيء من الفضة مع أنه يجد شيئاً من النحاس، فإنه يجوز أن يلحم بالفضة وإن كان يجد غير الفضة، أي لا يشترط في جبره بالفضة عدم وجود غير الفضة لأنه إذا لم يجد غير الفضة فإنه يكون في هذه الحالة ضرورة،
= وقال ابن المدينى: قلت لسفيان بن عيينة: عقبة بن وهب؟، فقال: ما كان ذاك فندرى ما هذا الأمر ولا كان من شأن يعنى الحديث، وأخرجه الطبراني 9/ 356، وأخرجه 5/ 104.
ولهذا لما انكسر إناء النبي عليه الصلاة والسلام اتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة كما في البخاري (1).
(1) أخرجه البخارى في صحيحه برقم (5638).