الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القواعد الفقهية
القاعدة الأولى الشارع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما مفسدته خالصة أو راجحة
هذه القاعدة محل إجماع من أهل العلم قاطبة، بل هي كما قال كثير من أهل العلم إن الشريعة ترجع إليها وأن ما سواها من القواعد مأخوذ منها ومتفرع عليها وقال بعض أهل العلم إن الشريعة ترجع إلى جلب المصالح لأنه لا يمكن أن تُجلب المصالح إلا إذا دُرئت المفاسد.
دلّ على هذه القاعدة أدلة كثيرة من القرآن والسنة والإجماع، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} (1).
فهذه الآية يدل أولها على تحصيل المصالح في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} وآخرها يدل على درء المفاسد في قوله: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} .
أما الأحاديث النبوية فيمكن أن يستدل لذلك بحديث: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"(2)، وفي لفظ:"لأتمم صالح الأخلاق".
(1) سورة النحل، آية 90.
(2)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/ 323) من طريق سعيد بن منصور قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبى صالح عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما بُعثت لأتِّمم صالح الأخلاق".=
وكذلك ثبت في الصحيحين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مَثَلي ومَثَل الأنبياء قبلي كمَثَلِ رجل بنى داراً إلا موضع لَبِنة، فجعل الناس يطوفون في هذه الدار فيقولون: ما أحسن هذا لولا موضع اللَّبِنة، فأنا تلك اللَبِنة"(1).
ففى هذا الحديث إشارة إلى أنه أتى بجميع المصالح والأخلاق الحسنة التي جاء بها الرسل قبله - عليهم الصلاة والسلام -، وأنه كمّل هذا النقص كما جاء في الحديث "لأتمم مكارم الأخلاق"، وأنه جاء آمراً بما جاءت به تلك الرسالات من الخير والإحسان والعدل وجاء ليتم ذلك.
وإذا تأمّلتَ هذه القاعدة وجدتها تشتمل على أربعة أقسام في صياغتها وهي:
1 -
الأمر بالمصلحة الخالصة.
= فالحديث فيه محمد بن عجلان وهو صدوق إلا أنه قد اختلطت عليه أحاديث أبى هريرة رضى الله عنه، كما نصَّ على ذلك الحافظ ابن حجر في التقريب (6136).
وقال في التهذيب (5/ 219): "وقال يحيى القطان عن ابن عجلان: كان سعيد المقبري يحدث عن أبى هريرة وعن أبيه عن أبى هريرة وعن رجل عن أبى هريرة فاختلطت عليه فجعلها كلها عن أبى هريرة، ولما ذكر ابن حبان في كتاب الثقات هذه القصة قال: ليس هذا بوهن يوهن الإنسان به لأن الصحيفة كلها في نفسها صحيحة".
ورواه مالك في الموطأ بلاغاً عن النبى صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عبد البر: هو متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره، ومنها ما رواه أحمد والخرائطي في أول المكارم بسند صحيح عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ "إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق "ومنها ما رواه الطبراني في الأوسط بسند فيه عمر بن إبراهيم القرشى وهو ضعيف، لكن معناه صحيح". انظر: كشف الخفاء (1/ 244).
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه في مناقب النبى صلى الله عليه وسلم (2/ 228)، باب خاتم النبيين، ومسلم في صحيحه في كتاب فضائل النبى صلى الله عليه وسلم (7/ 64 - 65) كلاهما من طريق عبد الله بن دينار عن أبى صالح عن أبي هريرة رضى الله عنه به فذكره. . ".
2 -
الأمر بالمصلحة الراجحة.
3 -
النهي عن المفسدة الخالصة.
4 -
النهي عن المفسدة الراجحة.
فمثال المصالح الخالصة:
الإيمان بالله سبحانه وتعالى ورجاءه وتوحيده، والإخلاص له، هذه مصالح خالصة مقصودة بالذات أصالة، لم تقصد تبعاً.
ومثال المصالح الراجحة:
الجهاد في سبيل الله حيث إن فيه إعلاء الدين وتثبيته، ودحر الكفر وأهله؛ لأنه ليس مقصوداً أصالة، فقتل الكفار وسبيهم أمورٌ ليست مقصودة بالذات، إنما المقصود ما يترتب عليها من إعلاء دين الله، ولأجل هذا قال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} (1) فجعله مكروهاً للنفوس وغير محبب لها، لكن لما يترتب عليه من المصالح العاجلة في الدنيا والآجلة في الآخرة كان مكتوباً وكان واجباً.
ومثال المفاسد الخالصة:
الشرك فهو أكبر الكبائر وأكبر الذنوب فهو مفسدة خالصة ليست فيه أي مصلحة أو منفعة فهو مفسدة خالصة من جهة حكم الشرع، وإن كان أصحابه من جهة العادة ومن جهة ما يكسبون ما يحصل لهم بالشرك قد يكون لهم شيء من المنافع لكنها من جهة الشرع مفاسد خالصة.
كذلك السحر عند بعض أهل العلم هو مفسدة خالصة، وإن كان قد يحصل
(1) سورة البقرة، آية:216.
للساحر شيء من المنافع في الدنيا لكنها غير معتبرة من جهة الشرع.
ومثال المفاسد الراجحة:
شرب الخمر واللعب بالميسر، قال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (1).
فأشار سبحانه إلى أن فيهما منافع لكنها إذا قيست مصالحها من التجارة بها وما يحصل من نشوة النفوس بشرب الخمر إلى جانب ما يتولد ويترتب عليها من المفاسد تكون تلك المصلحة مرجوحة ولا قيمة لها، فلا أثر، لكن هي من هذه الجهة ليست كمفسدة الشرك بل هى أقل.
والمسألة الثانية في هذه القاعدة:
هل هناك مفسدة خالصة ومصلحة خالصة؟.
ظاهر كلام كثير من المصنفين في أبواب القواعد وظاهر كلام كثير من أهل العلم أن من المفاسد مفاسد خالصة وأن من المصالح مصالح خالصة.
وذهب آخرون إلى أنه ليس في الوجود مفاسد خالصة، كما أنه ليست في الوجود مفاسد راجحة، وقالوا إن ما ذكر من كون الشرك مفسدة خالصة فإنه ليس بصحيح؛ لأنه لو كان مفسدة خالصة من كل وجه لم تمل إليه النفوس، ولم تشرك كثير من النفوس وتتبع الشرك.
وكذلك السحر فلو كان مفسدة خالصة من كل وجه فإنه تنفر منه الطباع ولا تقبله.
(1) سورة البقرة، آية:219.
وكذلك قالوا في مسألة أعمال الإيمان من التوحيد والصلاة والصيام وأعمال البِّر من الذكر وما أشبه ذلك، التي ذكروا أنها مصالح خالصة وأنها لا مفسدة فيها بوجه من الوجوه.
قال كثير من أهل العلم إنه ليست مصالح خالصة من كل وجه بل هى مصالح راجحة، وقالوا: إن ما يقترن بالعبادات وما يسبقها من الاستعداد لها من المشقة والتعب وإن كان يسيراً في التقدير فإنه نوع مشقة ونوع تعب يسلبها مسمى الخلوص في باب المصلحة، فإن هذا لا شك أن فيه تعباً ومشقةً، وإن كانت يسيرة، وإن كان الذي يأتي بالعبادة، وتتروض نفسه بالعبادة يحبها ويأنس بها لكن مع ذلك لابد أن يكون هناك شيء من المشقة، ولأجل هذا قال عليه الصلاة والسلام:"حُفّت الجنة بالمكاره"(1).
فجعل الأعمال الصالحة جميعها مكاره، وقال في حديث أبي هريرة:"فذلكم الرباط"(2) عندما ذكر إسباغ الوضوء على المكاره أي في المكروهات في الأحوال
(1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب صفة الجنة وصفة نعيمها وأهلها، من طريق حماد بن سلمة عن ثابت وحُميد عن أنس بن مالك رضى الله عنه. . . فذكره".
وأخرج له شاهداً آخر بعده من حديث أبي هريرة رضى الله عنه من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم بمثله. . . فدكره".
وأخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الرقائق، باب حجبت النار بالشهوات (9/ 165) من طريق أبى الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"حُجِبت النار بالشهوات، وحُجِبت الجنة بالمكاره"(4/ 2035).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الوضوء (1/ 151) من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة رضى الله عنه به فذكره. . . ".
التي تكرهها النفس ويشق عليها كشدة البرد والحر، وقال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (1) فجعل في الخير كما هو في الشر، وهذا لا يكون في المصلحة الخالصة.
وتوسَّط آخرون كابن القيم في مفتاح دار السعادة فقال:" إنْ أريد بالمفسدة المشقة فإنه ليس في الوجود مصلحة خالصة، وإن أريد أن في نفس هذه المصالح وهي العبادة من صلاة وذكر وما أشبه ذلك من الأعمال الصالحة الخالصة أريد أن في نفس العبادة مفسدة فليس بصحيح، وإن أريد أنه قد يقارنها ويسبقها شيء من المشاق فلا حرج أن تسمى، فإذا سميت مفاسد بهذا الاعتبار فلا بأس فهي مشاق".
وقالوا: إن المصالح الخالصة لا تكون إلا في دار القرار في الجنة لأولياء الله، وإلا لو كانت مصالح خالصة في الدنيا لم يكن هناك فرق بين أهل الدنيا في نعيمهم بعبادتهم لله سبحانه وتعالى، وفي نعيمهم في دار الجنة والكرامة، فإن المصالح الخالصة لا تكون إلا في تلك الدار.
وكذلك المفاسد الخالصة هي لمن وجب عليه الخلود من الكفار في النار لا تكون إلا في تلك الدار في جهنم.
المسألة الثالثة في هذه القاعدة:
هل هناك قسم خامس وهو ما تساوت مصلحته ومفسدته؟
ظاهر كلام كثير من أهل العلم أن القسمة رباعية كما سبق، وأنه ليس هناك
(1) سورة الأنبياء، آية:35.
مفاسد تقابلها مصالح مساوية، وأن المفسدة تقابل المصلحة من كل وجه من الوجوه، بل لابد إذا وجد مصلحة ومفسدة لابد أن تترجح إحداهما على الأخرى.
ولا يليق بحكمته - سبحانه - أن يوجد في الكون شيء يتقابل تقابلاً تاماً مصلحته موافقة لمفسدته في كل شيء، أو مقابلة لها بل لابد أن يغلب أحدهما الآخر فهذا هو ظاهر الأدلة التى ذكرها أهل العلم في هذا الباب.
المسألة الرابعة في هذه القاعدة: المصالح على ثلاث مراتب.
1 -
مصالح في الدرجة العليا وهى الأفضل في المصالح.
2 -
مصالح في الدرجة التى بعدها وهي مصالح فاضلة.
3 -
مصالح متوسطة.
فالشرع جاء بهذه الأنواع من المصالح كما جاء بما هو في الدرجة العليا من المصالح وهي المصالح الأفضل، وكذلك جاء بالمصالح التي بعدها وهي المصالح الفاضلة، وكذلك جاء بالمصالح التي تكون أدنى من ذلك فهى أفضل ومتوسط وفاضل.
ودلَّ عليها حدث النبى صلى الله عليه وسلم: أنه سُئل أي العمل أفضل؟. قال: "إيمانٌ بالله ورسوله". قيل: ثم ماذا؟. قال: "الجهاد في سبيل الله". قيل: ثم ماذا؟. قال: "حجٌ مبرور"(1).
(1) أخرجه البخارى في صحيحه في كتاب الحج (1/ 384)، باب فضل الحج المبرور، من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه به، فذكره. . .".
فرتّبها إلى ثلاث مراتب، فجعل الإيمان بالله أعظم المصالح وأفضلها وأعظمها لما يكون فيه من توحيد الله والإقرار له والعبودية له، وما يكون في القلب من الخوف والخشية والتوكل من أعمال القلوب العظيمة التي لا يَعْدِلُها شيء.
ثم ذكر بعد ذلك الجهاد في سبيل الله الذي هو مقصود بالتتبع ليس مقصوداً بالذات، ولأنه يترتب عليه من إعلاء كلمة الله، وقمع الكفر وأهله فجعله بعد ذلك، ثم ذكر بعد ذلك الحج؛ لأن مصلحته تكون لنفس الحاج، ولمن وجب عليه الحج فليست مصلحته كمصلحة الجهاد في سبيل الله، وتحت هذه المراتب رُتَبٌ كثيرة.
فالأفضل من المصالح تحته رُتب كثيرة، والمتوسط والأفضل كذلك، فما كان في أدنى الرتب من الأفضل كان قريباً من المتوسط حتى يكون متوسطاً.
وما كان الأعلى من المصالح المتوسطة يصل إلى رتبة الأدنى من المصالح الأفضل، كما أن ما كان في رتبةٍ أنزل في الفاضل قد يصل إلى درجة المستحب أو إلى درجةٍ أقل من ذلك، وما كان في الدرجة العليا يصل إلى درجة الأدنى من المتوسط منها، فهذه تختلف رتبها وتختلف بحسب اختلاف مصالحها وبحسب تعدِّيها.
فإذا نظرت إلى العبادات وجدتها تختلف، فالصلاة هي أفضل الأعمال البدنية، والزكاة هى أفضل الأعمال المالية، وهكذا، إذا نظرت إلى هذه الأعمال فالمقصود أن تحتها رُتباً كثيرة.
كذلك المفاسد مراتب، فيها الأكبر، وهو الشرك بالله سبحانه وتعالى، وهو
أعظم المفاسد وأقبحها لأنه إبطال للتوحيد، وهذا ضد ما خلق الله له الخلق كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1).
وهو ضد ما أحبه سبحانه وتعالى من عباده، فعمد هذ المشرك إلى أقبح الأعمال وأكبر الكبائر فارتكبه فهو في أقبح الرتب من جهة المفاسد، ولهذا في حديث ابن مسعود في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام سُئل أي الذنب أعظم؟. قال:"أن تجعل لله نداً وهو خلقك" قيل: ثم أي؟. قال: "أن تقتُل ولدَك خشية أن يَطعَم معك". قيل: ثم أي؟. قال: "أن تُزَاني بحليلة جارك"(2).
فرتَّب المفاسد عليه الصلاة والسلام إلى ثلاث مراتب، فجعل الشرك بالله أشد مفسدة، وهو أكبرها، ثم يتلوه بعد ذلك قتل الابن خشية أن يطعم معه؛ لأن فيه قتل للنفس بغير حق، ولأن فيه قطيعة للرحم، فجعله في الرتبة الثانية بعد الشرك بالله، ثم ذكر بعد ذلك الزنا، وذكر نوعاً خاصاً من الزنا وهو الزنا بحليلة الجار، فالجار له حقه من الاحترام والتوقير وحفظ فراشه وصيانته ومعاونته على الأعمال الصالحة وحفظ حقوقه الواجبة والمستحبة، فتعمد هذا إلى الزنا بحليلة جاره، فكان من أعظم أنواع الزنا.
(1) سورة الذاريات، آية:56.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (8/ 163) في كتاب التفسير، باب قوله تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} ، وأخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان (2/ 141) كلاهما من طريق أبى وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه به فذكره. .".
المسألة الخامسة في هذه القاعدة: التعارض بين الحسنات:
وهو بحثٌ عظيمٌ، متعلقٌ بتحقيق المصالح الخالصة، أو المصالح الراجحة على حسب تلك الحسنة، فالتعارض بين الحسنات يحصل كثيراً، فأيهما يقدم؟.
إذا كان هناك حسنتان لا نستطيع أن نفعل إحداهما إلا بترك الأخرى، إما أن تفعل إحداهما، أو تتركهما جميعاً، ولا يستطيع الجمع بينهما، فماذا يُقدم؟.
يقدم أكملهما وأعظمهما، وهذا هو الأصل في تعارض الحسنات.
مثال ذلك: الواجب والمستحب. . وفرض العين مع فرض الكفاية.
مثال الواجب والمستحب:
إنسانٌ عليه دين حالّ، ومن المعلوم أن سداد الدين واجب إذا كان حالاً وطلبه صاحبه، بل ذهب بعض أهل العلم إلى أنه يجب ولو لم يطلبه، وهذا هو الأصح إذا اتفقا على وقت محدد، وإذا طلبه تأكّد الوجوب.
فالمقصود أنه إذا كان عليه هذا الدَّين الحالّ وهو يريد الصدقة ففى هذه الحالة عندنا حسنة واجبة وحسنة مستحبة، ولا يمكن الجمع بينهما، فإن تصدّق ضيع الواجب وهو سداد الدين، وإن سدد الدين لم يكن عنده شيء يتصدق به، فأيهما يقدّم؟. لا شك أنه يقدم الواجب خاصة أنه من حقوق العباد التي يجب العنابة بها وعدم التفريط بها، فيسدّد هذا الدين الذي عليه ولا يتصدق.
وذهب جمع من أهل العلم إلى أنه لو تصدّقه فإن صدقته مردودة عليه، ولا
يجوز له ذلك.
وذهب بعض أهل العلم إلى أعظم من ذلك، فلو كان عليه دَينٌ واجبٌ ووقف شيئاً من ماله، لا يصح وقفه؛ بل يجب إبطال هذا الوقف ولا يجب تضييع أموال الناس بحجة طلب هذا العمل الخيري من المصالح كوقف ونحوه، وهو اختيار تقي الدين ابن تيمية، وظاهر اختيار البخاري - رحمهما الله -.
فالمقصود أنه يجب عليه أن يقدم هذا الواجب، ولا شك أن الواجب من حيث الأصل أنه أعظم أجراً من المستحب.
مثال آخر:
إنسان يريد الصدقة لكن لا يستطع الجمع بينها وبين النفقة على من تحت يده، فإذا تصدق فرَّطَ في نفقة أولاده وأهله، فيقدم النفقة الواجبة على صدقة التطوع.
والرتبة الثانية: التعارض بين واجب وواجب: فيقدّم أشدهما وأقواهما يا الوجوب.
مثال ذلك:
إنسانٌ نذر حجة هذا العام، وعليه حجة الإسلام.
ذهب بعض أهل العلم إلى أن حجة الإسلام آكد، فعلى هذا يحج، وإذا حج كانت عن حجة الإسلام، والعام الذي بعده يحج حجة النذر.
وقال آخرون: النذر آكد، وهم الشافعية والمالكية، وقال آخرون: إنه يحج
حجة واحد تجزئه عن حجة الإسلام وحجة النذر، وعلى هذا القول الأخير لا تعارض.
والرتبة الثالثة: التعارض بين فرض العين وفرض الكفاية:
ومثاله:
إذا أراد الجهاد في سبيل الله ولم يتعين عليه الجهاد، ووالداه يمنعانه منه، فيقدم برّ والديه على الجهاد لما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم سُئل أي الأعمال أفضل؟ قال:"الصلاة في وقتها". قيل: ثم أي؟. قال: "بر الوالدين". قيل: ثم أي؟. قال: "الجهاد في سبيل الله"(1)، فقدّم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله، وفي حديث أبى هريرة - رضى الله عنه - أنه صلى الله عليه وسلم قدّم الجهاد على الحج (2).
فتلخص أن بر الوالدين مقدم على الحج والجهاد جميعاً، فإذا كان مقدماً على الجهاد فإنه يُقدم على الحج من باب أولى، وإذا كانا يحتاجان إليه لخدمة أو نفقة تأكد الوجوب، فهذه الأمور يكون تحتها رتب كثيرة.
مثال للتعارض بين الحسنات الواجبة:
إنسان أراد أن يصلي العصر وتذكر أنه لم يصل الفجر، وقد حضرت صلاة
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة، باب: الصلاة لوقتها (527)، ومسلم في كتاب الإيمان 1/ 85) كلاهما من طريق الوليد بن العَيزار عن أبي عمرو الشيبانى قال: حدثنا صاحب هذه الدار وأشار بيده إلى دار عبد الله بن مسعود رضى الله عنه.
(2)
سبق تخريجه ص: 29.
العصر، أيهما يقدّم؟.
في هذه المسألة خلاف كثير، فإذا تضايق الوقت ولم يَبْقَ من وقت العصر إلا مقدار أربع ركعات يُقدم العصر لأنها في وقتها، ولأن تقديم الفجر يؤدي إلى تفويت صلاتين وحق الوقت لهذه الحاضرة التى ضاق وقتها، فكان آكد من جهة الوجوب فيقدم هذه الحسنة الواجبة على تلك لأنه لا يمكن الجمع بينهما.
أما إذا كان في الوقت سعة ففيه خلاف، فمن قال: إنه يجب الترتيب فلا تعارض، ومن قال: إنه يجب تقديم الحاضرة، يأتى التعارض.
فالمقصود أن هذه المسائل تُتأمل وتُنظر ويتبين في بعضها بحسب الخلاف، ثم يكون القول الأظهر ما يؤيده الدليل، وهذا فيما يتعلق في التعارض بين الحسنات.
التعارض بين السيئات:
وهو يأتي في دفع المفاسد الخالصة ودفع المفاسد الراجحة، إذا كان هناك مفسدتان لا يمكنه التخلص من إحداهما إلا بارتكاب الأخرى، فلابد من ارتكاب إحدى المفسدتين، في هذه الحال يرتكب أخفهما مفسدة عكس الحسنة، يقدم أعظمهما مصلحة ويترك أقلهما مصلحة.
مثاله: قطع يد السارق وجلد الزاني، إقامة الحدّ عليهما فيه ضرر عليهما، لكن ترك إقامة الحدّ عليهما يترتب عليه مفاسد أعظم من الشر وفساد العقول وقتل النفوس وما أشبه ذلك ما يربو على مفسدة ذلك القطع والجلد، فتحتمل هذه المفاسد وترتكب لأجل دفع مفاسد هي أعظم منها.
مثال آخر: لو أن امرأة في بلاد الكفر أرادت الهجرة وليس لها محرم، فهجرتها بلا محرم مفسدة، فقد يحصل لها شر وفساد، ولكنْ بقاؤها في بلاد الكفر يفتنونها عن دينها مفسدة أعظم، ولأجل هذا نقول لها تهاجر بل يجب عليها الهجرة، وإن كانت بلا محرم، حتى ذكر بعضهم الاتفاق عليه، فترتكب هذه المفاسد الصغار في سبيل دفع تلك المفاسد الكبار، وهذا أصل عظيم من أصول الشرع.
وقد أورد أهل العلم إشكالاً في هذه المسألة وقالوا: إنه ليس على كل حال، وممن أورده العز بن عبد السلام في كتابه (قواعد الأحكام) وقال ما معناه: إنه لو حاصر بلادَ المسلمين عدوٌّ من أعدائهم، وضايقوهم وقالوا: نحن لا نذهب ونترككم حتى تعطونا شخصاً فدية لأجل ترككم.
قال أهل العلم في هذه المسألة: إنه لا يجوز ارتكاب هذه المفسدة، وإن كانت صغيرة في جنب تلك المفسدة الكبيرة.
وأورد أيضاً مثالاً في قوم ركبوا البحر، وثقل حمل السفينة ولا تستقر على الماء إلا أن يرمى بعضهم في البحر لكي يخف وزنها ويسلم باقي الركاب، فهذه أجمع أهل العلم على أنه لا يُلقى أحد منهم وإن كان عدم الإلقاء يؤدي إلى غرق من في السفينة جميعهم.
وأجاب العز بن عبد السلام ما معناه: إن من المصالح والمفاسد ما هو من الأمور التعبدية التى لا تُعقَل فهذه منها ما يجب الانقياد والتسليم لها، وإن لم تُعقل حكمتها.
وذكر ابن القيم رحمه الله جواباً آخر أوضحَ من هذا، وقال: إن النفوس مستوية في العصمة فلا يجوز إهدار عصمة أحد مقابل إبقاء واحد من الناس أو جماعة، لكن الأصل في هذا كما قلنا إن المفاسد الكبيرة تدفع في سبيل ارتكاب المفاسد الصغيرة، وما أورد على القاعدة لا يخرجها لوضوح الجواب عليه من كلام أهل العلم.
ومن ذلك أيضاً: لو تترس العدو بالمسلمين، وقالوا هل يجوز قتل المسلمين الذين تترس بهم الكفار أم لا يجوز؟ والأظهر - والله أعلم - كما ذكر جمع من أهل العلم أن في هذا تفصيلاً فيقال:
أولاً: إذا كان في عدم قتلهم ضررٌ على المسلمين يُخشَى أن يُغزَى المسلمون ويدخل عليهم العدو جاز قتلهم؛ لأنه دفع ضرر متحقق.
ثانياً: إذا كان قتلهم لأجل تحصيل مصلحة الجهاد، وليس فيه ضرر على المسلمين، فإنه يقدم عصمة من تترس بهم الكفار.
مسألة أخرى: التلازم بين الحسنات والسيئات:
المعنى: أنه لا يمكن أن تفعل حسنة إلا بارتكاب السيئة ولا يمكن أن تترك السيئة إلا باجتناب الحسنة، إما أن تتركهما جميعاً أو تفعلهما جميعاً، وهذا البحث من أهم مباحث التعارض بين الحسنات والسيئات، ومن أهم المباحث المتعلقة بتعارض المصالح والمفاسد والترجيح بينهما.
مثاله: أكلُ الميتة في حال المخمصة لا بأس به؛ لأنه إذا اضطر الإنسان إلى [. . .](*) الميتة، فالأكل منها في هذه الحال فيه مصلحة، ولأن فيه دفع هذه الحال [. . .](*) وترك الأكل مفسدة، فلا يمكن التخلص من المخمصة إلا بالأكل من الميتة، وإذا أراد أن يتجنب تلك المفسدة فإنه لابد أن يتجنب الأكل فلابد أن يفعلها جميعاً أو يتركها جميعاً، وهذه لها أقسام:
تارة يقدم فعل الحسنة، وتارة تفعل الحسنة، ولا ترتكب السيئة، وتارة ترتكب هذه السيئة، وإن تركنا تلك الحسنة حسب حالاتها، فالأكل من الميتة في حال المخمصة مصلحة أعظم من تلك المفسدة.
عكسها: الدواء الخبيث، لو أن إنساناً أراد التداوي بالخمر، وإن كان في شربه مصلحة لكن تحقيق هذه المصلحة يجلب معه مفسدة عظيمة فتترك تلك الحسنة لأجل اجتناب تلك المفسدة.
ومن الأمثلة - أيضاً -: لو أن إنساناً يعمل في مكان، وفي وجوده في هذا المكان مصالح من الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويواجه أموراً يضيق صدره منها ويكرهها ولا يستطيع دفعها، فهذه - والله أعلم - لا يمكن أن يجاب عنه بجواب عام يكون قاعدة في هذا، بل هذا يختلف بحسب المكان الذي يوجد فيه، وبحسب الشخص نفسه، وبحسب ما يترتب على بقائه من الأعمال الصالحة، وما يحصل فيه من الأمور المنكرة، فقد يكون الجواب لشخص بالبقاء، وقد يكون لآخر عليه أن يترك ويهجر هذا المكان إلا للضرورة. والله أعلم.
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: بياض بالمطبوع