الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة السابعة عشر من تعجَّل شيئاً قبل أوانه، عوقب بحرمانه
هذه القاعدة ذكرها كثير من الأئمة في كتب القواعد، ونازع بعضهم في صحتها، وقالوا إنها قاعدة غير صحيحة، وإن كان يدخل تحتها مسائل، لكن الخارج منها أكثر من الداخل فيها، فهناك مسائل داخلة بلا إشكال، ومسائل خارجة بلا إشكال، ومسائل موضع خلاف بين أهل العلم، لكن لما كان الخارج منها كثيراً قالوا إن في صحتها نظر.
فمن المسائل التى تدخل فيها ومن أشهرها إذا قتل مُوَرِّثه لكى يرثه فإنّ هذا يعاقب بنقيض قصده، ويمنع من الإرث، وكذلك لو قتل الموَصَى له الموصِي، لكى تحصل له الوصية فإنه يعاقب بنقيض قصده، وذكر تقى الدين ابن تيمية رحمه الله وغيره إذا قتل إنساناً ليتزوج زوجته فإنه يعاقب بنقيض قصده، فلا يُمَكَّن من الزواج منها، وقال بعضهم إنها لا تحل له أبداً.
وهناك مسائل خرجت منها كما قلنا:
فلو أن امرأة شربت دواءً لكى ينزل منها دم الحيض فإنه إذا نزل منها هذا الدم فإنها تعتبر حائضاً ولا يجوز لها أن تصلى، ولا يُقال إنها تعاقب بنقيض قصدها.
ومنها - أيضاً - لو أنه رمى بنفسه من مكان مرتفع مثلاً حتى يتألم في رجله فلا يصلى قائماً، فإنه لا يعاقب بنقيض قصده، بل يصلي جالساً وصلاته
صحيحة، وإن كان فعله محرمًا.
ومنها - أيضاً - لو تناول شيئاً ليمرض نفسه لكى لا يصوم رمضان فإنه - أيضاً - لا يعاقب بنقيض قصده، بل عليه أن يفطر ويقضى إذا شُفى، لكنه آثم بفعله هذا. . إلى غير ذلك.
ولأجل هذا قال بعضهم: إنه لا يدخل فيها إلا مسألة قتل الوارث لمورثه، والباقي موضع خلاف، وقد تعرّض السبكى في الأشباه والنظائر لهذه القاعدة، وأشار إلى أن في صحتها نظراً، وتكلم على قيود تُصَحّحُها، وقال ما معناه: إذا كان الأمر الذي قصد المكلف إلى مخالفته، إن كان الأمر مطلوباً للشارع، وكان مُسبَّبه يحث على سببه مثل الصلاة فهى مطلوبة من الشارع وتحقيقها فيه أجر عظيم، فالسبب وهو الصلاة يحصل مسببُه وهو الأجر العظيم في الدار الآخرة، وهكذا مثل الصوم ما يترتب عليه من الأجر العظيم، فالمكلَّف يحرص على الصوم ويحرص على الصلاة، اللذين هما سبب من أسباب الأجر فإذا تعاطى المكلف أشياء قد تمنعه من القيام بما يجب أو يشترط للعبادة، أو مثل ما لو تعرض لأذى حتى لا يستطع القيام أو تسبب في إمراض نفسه حتى لا يصوم، فإنه لا يلتفت إلى قصده ويبقى الأجر على ما كان.
وإن كان غير مطلوب للشارع قال ينظر إن كان هذا الأمر يهدم قاعدة من قواعد الشرع، فإنه لا يلتفت إلى قصده، ولا يعامل بنقيض قصده: مثل ما لو كان عنده سبب الزكاة وهو النصاب وشرطها، وهو الحول، فإيجاد النصاب
وإيجاد الحول، ليس تحت قدرة المكلف إنما المطلوب إذا وجد السبب والنصاب وجبت عليه الزكاة، فقال: لو تحايل في إسقاط الزكاة فإنه لا تجب عليه الزكاة.
وإن كان الذي تسبب المكلف في إسقاطه لا يهدم قاعدة من قواعد الشرع فإنه يعامل بنقيض قصده، مثل ما لو قتل مُورِّثه لكي يرثه فإن هذا لا يهدم قاعدة من قواعد الشرع فيُحرَم من الميراث؛ لأن الميراث قد يسقط بين القريبين بسبب اختلاف دين أو بين الغرقى، إذا لم يعلم أولهما، المقصود أنه ذكر كلاماً نحو هذا، وكلامه هذا كله موضع نظر، وكثير من أمثلته التي أوردها ليقيّد بها هذه القاعدة لما يوافق مذهبه - عفا الله عنه -.
وزاد بعضهم فيها قيداً، وهذا القيد يُدخِل كثيراً مما استثنى، قال: من تعجّل شيئاَ قبل أوانه ولم تكن المصلحة في وجوده، عوقب بحرمانه، فهذا قيد جيد، وقد يرد عليه أشياء، وبهذا تكون قاعدة أغلبية، فقد يخرج منها بعض المسائل ولا حرج لأن هذا هو شأن القواعد أو معظمها.
فمثلًا المسائل التي أشرنا إليها: مسألة سقوط الركن من الصلاة، وعدم وجوب الصوم عليه وجواز الفطر، فهذه أمور لا يُقَال إنه يعاقب بنقيض قصده، لأن هذه الأشياء مطلوب وجودها والمصلحة في وجودها ومأمور العبد بتحقيقها، ولا يُقال كما أشار إليه السبكى رحمه الله وهو أن يُفرّق بين ما إذا كان يهدم قاعدة من قواعد الشرع، وبين ما لا يهدم قاعدة من قواعد الشرع؛ لأن هذا فيه خلاف؛ لأن من تحايل في إسقاط الزكاة ذهب كثير من أهل العلم إلى وجوب الزكاة عليه،
فيعامل بنقيض قصده، لكن على القول بعدم وجوب الزكاة هو جار على قول كثير من أهل العلم، من الأحناف والشافعية، لأنه لم يوجد شرط الزكاة وهو الحول، وإن كان الصواب هو وجوب الزكاة ويدخل تحت هذه القاعدة.
ومما يدخل فيها ما أشار إليه المصنف رحمه الله وذكرها أيضاً تقى الدين ابن تيمية وغيره: أن المكلف إذا تعجّل بعض الأمور في الدنيا قد يحصل له حرمان ومنع لها في الآخرة بحسب ما تعرض له، فالكفار بما هم عليه من كفرهم وضلالهم وتعجُّل طيباتهم في حياتهم الدنيا، مصيرهم إلى النار، فتعحلهم للطيبات هو مما يزيدهم الله به عذابًا في النار.
وأهل الإسلام بحسب مراتبهم، فمن تعجّل كثيراً من الطيبات فإن هذا يكون نقصًا في نعيمه من حيث الجملة، وقد يكون ليس نقصاً بحسب قصده ونيته.
المقصود أنه كلما كان أدخل في الشبهات والتوسع في المباحات، كلما كان تعرضًا للنقص في الدار الآخرة، فهذه القاعدة كما قلنا في بعض أمثلتها شيء صحيح وواضح، وإذا زيدَ هذا القيد في قوله:(ولم تكن المصلحة في وجوده) كانت قاعدة أغلبية.