الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صحيح الجسم يستطيع أن يتوضأ هذا حكمه واضح يجب عليه أن يصلى كما أمر بالوضوء الشرعي أو الغسل لقدرته على امتثال ما أمر به.
ومثله أيضًا: القادر على الصوم، والقادر على الحج، وما أشبه ذلك يقابله مريض عاجز عن الآلة التي يؤمر بها، مثل إنسان مريض عادم للماء فإنه ينتقل إلى البدل، وهذا والحمد لله محل إجماع لأنه عاجز بأمرين:
1 -
ببدنه 2 - الآلة التي أمر بها.
الحالة الثانية: قادر ببدنه عاجز عن الآلة المأمور بها:
إنسان صحيح الجسم ليس مريضًا لكنه عادم للماء، هذا أيضًا كالحالة التي قبلها ولا يؤمر بتحصيله لأنه في هذه الحالة غير مكلف به؛ لأنه غير واجد لما أمر به، فله أن ينتقل إلى البدل كما قلنا في الحالة الأولى.
الحالة الثالثة: عاجز ببدنه، قادر على الآلة التي أمر بها:
هذه الحالة مثل إنسان ضعيف البدن لا يستطيع الركوب للحج مثلًا، أو مريض بمرض في الغالب لا يرجى برؤه، هذا إذا كان قادرًا بماله فإنه يلزمه الحج في ماله على الصحيح من قولي العلماء، كما هو قول جمهور أهل العلم؛ لأن الأدلة الواردة في هذا الباب صحيحة وصريحة، قال:"حج عن أبيك واعتمر"(1)، وحديث
(1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده (10/ 4)، وأبو داود في سننه في كتاب المناسك، باب: الرجل يحجُّ مع غيره (2/ 402)، والترمذي في سننه كتاب الحج، باب: ما جاء في الحج عن الشيخ الكبير والميت (3/ 269) وقال عنه: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في سننه في كتاب الحج، باب: وجوب العمرة (5/ 83)، =
المرأة التي جاءت فقالت: إن أبي لا يستطيع الركوب ولا الظعن (1)، إلى غير ذلك من الأخبار التي جاءت في هذا الباب، وفي لفظ:"إن أمي"، وفي بعضها:"إن أختي" على خلاف هل هو حديث واحد أو أحاديث، المقصود أنه يلزمه أن يحج عن نفسه وأن يخرج شيئًا من المال ولو مات كان دَينًا في تركته يجب إخراجه.
مثاله: الكبير الذي لا يستطيع الصوم لكن يستطيع إخراج الكفارة، هذا يلزمه أن يخرج الكفارة عن كل يوم مسكينًا على الخلاف في القدر المخرج، والقول الأظهر أنه يخرج نصف صاع، أو يطعم مسكينًا يغديه أو يعشيه، أو يملّكه هذا القدر من القوت، وإن كان طَبْخُهُ له وإعطاؤه له مطبوخًا أبلغ له في إكرامه، إلا أن يُؤثِرَ الفقيُر ذلك، لكن لا يلزم أن يجيبه إلى هذا، فالمقصود أنه في هذه الحالة يلزمه أن يُكفِّر.
= وابن ماجه في المناسك من سننه، باب: الحج عن الحي إذا لم يستطع (2/ 970) كلُّهم من طريق النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبي رزين العُقيلي رضي الله عنه. . . به فذكره". وسنده صحيح.
قال البيهقي في سنته (4/ 35): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا علي بن حمشاذ حدثنا أحمد بن سلمة قال: سألت مسلم بن الحجاج عن هذا الحديث - يعني حديث أبى رزين هذا - فقال: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثًا أجود من هذا الحديث، ولا أصحِّ منه". اهـ.
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الحج، باب: وجوب الحج وفضله (1/ 383)، ومسلم في صحيحه في كتاب الحج (4/ 101) كلاهما من طريق سليمان بن يسار عن ابن عباس رضي الله عنهما به. . . فذكره".
وله عند البخاري أيضًا من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة من جُهينَة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمى نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفحُجُّ عنها؟. قال: نعم، حجّي عنها، أرأيتِ لو كان على أمك دَينٌ أكنتِ قاضيته، اقضوا الله، فاللهُ أحقّ بالوفاء".
ومثاله: إنسانٌ لا يستطيع الجهاد كما ذكر أهل العلم أن جنس الجهاد واجب على الصحيح، لكن قد يكون واجبًا بالبدن بأن يباشر القتال بنفسه، وقد يكون الجهاد باللسان، وقد يكون الجهاد بالكتابة إلى غير ذلك على حسب أنواع الجهاد التي جاءت بها الأدلة، ذكر هذه الأنواع العلاّمة ابن القيم رحمه الله وهي واضحة من جهة الأدلة.
بقي في هذه الأقسام الأربعة ما إذا كان قادرًا على بعض الواجب المأمور به، هل يكون مستطيعًا أو غير مستطيع، إنسان قادر على بعض الواجب المأمور به مثل إنسان عليه غسل جنابة وعنده من الماء شيء يكفيه لنصف بدنه وليس قادرًا على جميع الواجب المأمور به فهذا يمكن أن يكون قسمًا خامسًا، فهذا هل هو كالعادم للماء؟ أو كالواجد له؟ محل خلاف.
ذهب بعض أهل العلم إلى أنه في حكم الواجد، فإذا كان عنده ما يكفيه لغسل بدنه أو بعضِهِ، أو عنده شيء يكفي لغسل بعض أعضائه، مثل من عنده ماء يكفيه للمضمضة والاستنشاق وغسل الوجه وغسل اليد اليمنى، أي ليس عنده إلا هذا الماء والباقي ليس واجدًا له، أو يستبقيه لشربه وحاجته، فهذا هل يكون في حكم الواجد أم حكم العادم؟.
قيل: هذا، وقيل: هذا، والأظهر في مسألة الجنب أنه في حكم الواجد، فإذا وجد بعض ما يكفيه فعليه أن يغسل بدنه بما يجده من الماء، وهذا والله أعلم لأن غسل بعض البدن في الجنابة عبادة، ويخفف الجنابة ولهذا أمر عليه - الصلاة والسلام -
الجنب إذا أراد النوم أن يتوضأ (1)، وإذا أراد أن يُعاودَ الجماع أو أن يأكل، أو أن يشرب، يشرع له أن يتوضأ تخفيفًا للجنابة؛ لأن هذا الجزء المفعول والمعمول هو عبادة، ويخفف الجنابة، ولهذا ثبت عن كثير من الصحابة أنهم أجازوا للجنب إذا توضأ أن يمكث في المسجد، ولم يجعلوه كالجنب من كل وجه، بل جعلوه كأنه مرتبة بين المرتبتين، فليس كالجنب الذي لم يغسل شيئًا، وليس كالمتطهر تمامًا، وهذا واضح من جهة الأدلة التي جاءت بالأمر للجنب أن يتوضأ، ولهذا لا تشترط الموالاة في الجنابة، فإذا غسل بعض بدنه زال منه حكم الجنابة فيما غسل، فهل الوضوء كالغسل في هذه المسألة؟. موضع خلاف.
ذهب بعض أهل العلم إلى هذا العموم في قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} (2)؛ لأنها نكرة في سياق النفى، والنكرة في سياق النفي عامة، وهذا واجد للماء، وقال بعض أهل العلم: لا يشرع أن يتوضأ بل هو في حكم عادم الماء، وقالوا: إنه فرق بينما جزءه عبادة، وبين الذين ليس جزءه عبادة، فالذي جزءه عبادة فإنه
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الغسل، باب: الجنب يتوضأ ثمّ ينام (1/ 287)، ومسلم في صحيحه في كتاب الحيض (3/ 216) كلاهما من حديث عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله، أيرقد أحدُنا وهو جُنُب؟. قال:"نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد وهو جُنُب".
وله شاهد في صحيح مسلم من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه ولفظه مرفوعًا: "إذا أتى أحدكم أهله ثُمَّ أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءًا"(3/ 217).
وجاء له شاهد أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان جنبًا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وُضوءهُ للصلاة". وهو أيضًا في صحيح مسلم (3/ 216) وهذا من فعله عليه الصلاة والسلام.
(2)
سورة المائدة، الآية:6.
يستعمل الماء، والذي ليس جزءه عبادة فإنه لا يستعمل الماء، وقالوا: تخفيف الجنابة بالوضوء أو بغسل بعض الأعضاء عبادة، ولهذا أمر عليه الصلاة والسلام الجنب أن يتوضأ فكان عبادة، أما غسل بعض أعضاء الوضوء فليس جزء عبادة، ولم يأتِ في الشرع أنه جزء عبادة، لكن ورد في حديث علي رضي الله عنه أنه توضّأ وضوءًا خفيفًا لم يغسل جميع الأعضاء، ثم قال: هذا وضوء من لم يحدث (1)، فهو في بعض الأعضاء لكنه لمن لم يحدث فما ليس جزءه جزء عبادة لا يصح الإتيان به.
مثاله: لو أن إنسانًا في رمضان عليه كفارة في الصيام فيقول أنا أستطيع أن أصوم نصف اليوم بدون أي مشقة ولا يحصل لي أي شيء فهل يلزمه الصوم؟.
(1) هذا الأثر أخرجه ابن جرير رحمه الله في تفسيره "جامع البيان" عن اثنين من الصحابة هما: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وذلك عند تفسيره لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. .} (6/ 113).
أما أثر عمر رضي الله عنه فقد أخرجه من طريق حميد عن أنس قال: "توضأ عمر بن الخطاب وضوءًا فيه تجَوُّز خفيفًا فقال: "هذا وضوء من لم يحدث". وسنده صحيح.
وأما أثر علي رضي الله عنه فأخرجه عنه من طريقين:
1) من طريق شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال: "رأيت عليًّا صلّى الظهر ثم قعد للناس في الرحبة، ثم أتى بماء فغسل وجهه ويديه ثم مسح برأسه ورجليه وقال: "هذا وضوء من لم يحدث".
2) من طريق هشيم عن مغيرة عن إبراهيم: "أن عليًا اكتال من حُب فتوضأ وضوءًا فيه تجوُّز فقال: "هذا وضوء من لم يحدث".
والإسناد في كلا الطريقين صحيح.
نقول: ليس صيام نصف يوم عبادة ولا جزء عبادة، فيكون في حكم غير القادر، وهكذا الذي يستطيع أن يغسل بعض أعضائه ليس عليه شيء، وهذا موضع خلاف كما قلنا في مسألة الجنب واضح، وفي مسألة الوضوء محل نظر - والله أعلم -.
هذه المسائل التي هى موضع اجتهاد يخرج من خلاف أهل العلم بفعل ما أوجبه بعض العلماء واجتناب ما نهى عنه بعض العلماء، وهذا في المسائل الاجتهادية أو المسائل الخلافية التي يكون الخلاف فيها قويًا حيث لا تظهر السنة ظهورًا بيِّنًا، أما مع ظهور الدليل عند وجود الخلاف فإن الاحتياط هو الأخذ بالدليل، ولا يُحتاط للقول المخالف؛ لأن الاحتياط الصحيح يكون باتباع السنة، أما مع ضعف الخلاف ومخالفته للدليل فلا يلتفت إلى هذا الخلاف، ولا يقال يشرع الاحتياط له.
وقد قرر الإِمام البخاري مسألة الخروج من الخلاف في صحيحه ذكر مسألة كشف الفخذ، وذكر حديث أنس رضي الله عنه لما أجرى في زقاق خيبر وحسر عن فخذه فقال: حديث أنس أسند وحديث جرهد أحوط؛ ليخرج من اختلافهم (1). والله أعلم.
(1) البخاري، باب ما يذكر في الفخذ (1/ 103).