الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة التاسعة العرف والعادة يرجع إليه في كل حُكمٍ حَكَم الشارع به ولم يَحدّه
هذه القاعدة فروعها كثيرة ومنتشرة في باب الفقه، وقد أجمع العلماء عليها في الجملة، وأن العرف محكِّم، أو كما يقول كثير من الفقهاء إن العادة محكِّمة، وهي قاعدة من قواعد الفقه التي يعملون بها في الأحكام كلها فإذا اختلفوا في شيء رجعوا إلى العرف في هذا فيما يتعارفه الناس بينهم وهنا ذكر المصنف رحمه الله العرف والعادة.
والعرف هو ما يتكرر بين الناس ويقبلونه من الأقوال والأفعال، فإذا تكرر شيء بين جماعة من الناس، أو أهل بلد واعتادوه بمنهم كان عرفًا معمولًا به بينهم.
والعرف على نوعين: عرف صحيح، وعرف فاسد.
فالعرف الصحيح هو العرف الذي يتعارفه الناس مما لا يخالف نصًا أو دليلًا من أدلة الشرع بحيث لا نقول إنه يجب أن يكون مطابقًا للشرع بل يكفي أن لا يكون مخالفًا له؛ لأن الغالب أن الأعراف ينشئها الناس بينهم وذلك أن الناس لابد أن يكون بينهم أعراف وعادات وأمور يعتادونها.
وهناك عرف فاسد وهو ما خالف النصوص الشرعية مثل لو اعتاد الناس شرب الخمر أو الربا مثلًا، فإن هذا عرف فاسد لا يلتفت إليه ولا يجوز العمل به
لمخالفته النصوص وإن اعتاده الناس بينهم.
والمصنف رحمه الله عطف العادة على العرف وظاهر كلامه أنهما شيء واحد، وقد اختلف هل العرف والعادة شيء واحد، أم هما شيئان؟. قيل: إن العرف والعادة شيء واحد، وذلك أن العادة هي العرف والعرف هى العادة.
وقيل: العرف ما يختص بالأقوال، والعادة تختص بالأفعال.
وقيل: إن العادة أعمّ من العرف، والعرف أخص من العادة.
وعلى هذا يكون قول المصنف والعادة من باب عطف العام على الخاص، وهذا أظهر أن العادة أعم من العرف.
فعلى هذا يكون كل عرف عادة، وليس كل عادة عرفًا؛ لأن العادة أعم من العرف، فكلما وجدتَ عرفًا فاحكم عليه بأنه عادة، وليست كل عادة عرفًا، فقد تكون العادة عرفًا وقد تكون العادة ليست عرفًا؛ لأن العرف هو ما يعتاده جاعة من الناس ويتعارفونه فيما بينهم في البيع والشراء والنكاح وما أشبه ذلك من الأمور التي يعتادونها.
أما العادة فهي الأمر المتكرر سواء كان لجماعة أم لفرد، فيكون في هذه الحال مباينًا من هذا الوجه للعرف، فهو قد يكون عادة لجماعة، وقد يكون عادة لفرد، أما العرف فلا يكون عادة لفرد بل يكون عادة للجماعة فقط، وبين العرف والعادة كما يقول الأصوليون عموم وخصوص مطلق.
والعموم والخصوص المطلق يعني أن أحدهما أعَمُّ مطلقًا، والآخر أخص مطلقًا، فالعرف أخص مطلقًا، والعادة أعمّ مطلقًا، وتصوّر مثلًا في دائرتين دائرة كبيرة ودائرة صغيرة فالعادة هي الدائرة الكبيرة، والعرف هو الدائرة الصغيرة، فكل عرف عادة، وليس كل عادة عرفًا.
وهذا مثل الإيمان والإِسلام، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنًا، وهكذا في مسائل كثيرة، هذا هو العموم والخصوص المطلق، بخلاف العموم والخصوص الوجهي بأن يكون كل منهما أخص من وجه، وأعم من وجه، فيوافق كل منهما الآخر في وجه من الوجوه، ويخالفه في وجه آخر.
والعرف أيضًا على نوعين: عرف قولي وعرف فعلي:
العرف القولي: كأن يعتاد الناس بينهم في بيعهم وشرائهم صيغة معينة يعتادونها في الإيجاب والقبول، وعليه يحمل عرف الناس، مثل أن يقول الله يربحك أو يقول:(نصيبك) أو ما أشبه ذلك.
العرف الفعلي أو العملي: هو ما يعتاده الناس بينهم عن طريق العادة المتكررة أو عن طريق العمل، وهو في الغالب يكون أقل رتبة من العرف القولي؛ لأن العرف القولي صريح في إرادة هذا الشيء.
فالعرف القولي تطابق النية مع القول، والعرف العملى تطابق النية مع العمل.
ولاشك أن النية مع العمل أشبه بالقرينة بأنه يريد هذا الشيء، أما القول مع النية أشبه بالتصريح، فهذا يشبه النص، وذاك يشبه دليلًا من جهة الظاهر أو من
جهة القرينة وهو أقوى.
فإذا تعارف الناس أمرًا من الأمور بينهم من جهة الأفعال يعمل بها، مثل أن الأصل أن الإنسان لا يدخل مكان غيره أو مسكن غيره إلا بإذن، لكن اعتاد الناس أن يدخلوا محلات البيع والشراء بدون إذن والمحلات العامة كمحلات القضاء والمكاتب وما أشبه ذلك، فهذه أمور لا يحتاجون فيها للإذن؛ لأنه معروف أنه ليس هناك موضع للإذن فيها فتعارفها الناس فيما بينهم.
أوضح من هذا: إنسان يذهب للغسال يعطيه الثياب ويناوله إياها ويعرف أنه يريد غسلها، فبدون أن يكون بينهما عقد بصريح القول بل يكفي أن يعطيه إياها، وهكذا كل ما جرى معرفته من جهة الفعل يكفى فيه الفعل، وليس هنالك حاجة للتصريح بالقول؛ لأن العرف في هذه الحال يكفى.
العرف - أيضًا - على نوعين من جهة عمومه وخصوصه، عام وخاص.
عالم: يعمل به أهل البلاد كلهم.
خاص: يعمل به مجموعة من الناس.
العرف العام: أن يتوارثه الناس في البلاد كلها.
والعرف الخاص: في بلد معين، والعرف العام بلا شك موضع اتفاق من الفقهاء أنه يعمل به، وأنه يحكم به بين الناس في سائر معاملاتهم، وأنه لو ادعى أحد من الناس أنه لا يريد العرف بعد عقد العقد فإنه لا يقبل قوله؛ لأن الأصل أن تحمل
معاملات الناس على العرف الجاري بينهم، وهذا هو العرف العام، وهو موضع اتفاق بين أهل العلم بالعمل به.
عرف خاص لأهل بلد، مثلًا أن يعتاد أهل الرياض عرفًا، ويعتاد أهل القصيم عرفًا، ويعتاد أهل الغربية عرفًا، وأهل الشرقية عرفًا، وأهل مكة عرفًا دون غيرهم من أهل جدة، أو الدمام دون غيرهم من أهل الشرقية يعتادون عرفًا، إذا اعتادوا عرفًا يعمل به على الصحيح - أيضًا - ثم إن من قال إنه لا يعمل به لا يكاد يطبقه في الواقع بل كما قال العلاّمة ابن القيم رحمه الله:"إن من ينكر بعض أنواع الأعراف التي تجري بين الناس لا يعمل به في الواقع بل يتبعه ويعمل به، وإن خالفه قولًا فهو يوافق فعلًا، فهذا هو العرف الخاص"، فإذا جرى بين الناس عرف خاص فإنه يعمل به في هذه الحال.
مثال للعرف العام: إذا اتفق رجل مع دلاّل في مسألة بيع أرض مثلًا، أو بيت، أو سيارة، فإن العرف بين الناس أن المشتري هو الذي يدفع السعي لذلك الوسيط، ولا يصح أن يمتنع عن الدفع، وإذا امتنع أُجبر بالدفع لأنه عرف عام بين الناس ما لم يكن هناك شرط بينهما يخالف ذلك العرف فيعمل به.
مثال العرف الخاص: قد يكون لبعض الناس عرف بينهم يختلف عن غيرهم، مثلًا لأهل الرياض عرف يختلف عن أهل القصيم، قد يكون لهم عرف خاص بينهم في البيع والشراء مثلًا، يمكن أن يقال مثلًا من باب التوضيح في المسألة التي ذكرنا: لو كان بعض أهل البلاد عندهم أن السعى على البائع عرفٌ بينهم بخلاف
لعرف أهل البلاد هل يعمل به لأنه عرف خاص أم لا يعمل به؟ الصحيح أنه يعمل به ولو خالف العرف العام، لأنهم محمولون على الأعراف التي تجري بينهم.
ننتقل إلى مسألة أخرى في العرف: العرف له شروط، فليس كل عرف مقبولًا، وقد أشرنا إليه في بداية البحث؛ بل إن منها ما هو مردود لفقد شرط من الشروط أو غير ملزم مثلًا.
الشرط الأول: أن يكون العرف مُطَّرِدًا:
أي معروفًا ومتكررًا وظاهرًا بين الناس، فليس أيُّ عادة تجري بين الناس تكون عرفًا، قد يكون هذا عادة ليس عرفًا، وقد يكون أمرًا خاصًا لأناس معينين، فلابد أن يكون أمرًا مطردًا متكررًا بين الناس معروفًا بينهم.
الشرط الثاني: أن يكون عامًا:
وهذا موضع خلاف كما أشرنا، لكن إذا فسر العموم بأنه لكل أهل بلد فلا بأس، أما إذا كان عرفًا بين بعض الناس في أهل هذا البلد دون غيرهم، أو معروفًا في حارة من الحارات دون غيرها من حارات هذا البلد، فهو لا يصح؛ لأنه لابد أن يكون عامًا وهو شرط من شروط العرف إلا إذا كان بين هؤلاء القوم جاريًا مجرى الشرط فيعمل به، وإدن لم يكن عامًا في البلد.
والعرف دلت عليه أدلة في أنه يُحكَّم كما قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} (1) وقال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2)،
(1) سورة الطلاق، الآية:7.
(2)
سورة البقرة، الآية:233.
وقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} (1) وهذه الآية احتج بها جمع من أهل العلم على أن العرف مُحَكَّم، وقال بعضهم إنها لا تدل، وظاهر كلام كثير من المفسرين أنها ليست دالة على العرف؛ لأن العرف المراد به المعروف، وهو ما أمر الله به من محاسن الأخلاق والأعمال، فلا تكون دليلًا على العرف المتعارف عليه، وكذلك ثبت في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال لهند بنت عتبة:"خذي ما يكفيك أنت وولدك بالمعروف"(2)، فأرجعها إلى الأمر المعروف، وهناك أدلة أخرى على حجية العرف ذكروها في هذا الباب.
الشرط الثالث: أنه لا يخالف نصاً شرعياً:
فلو خالف نصًا شرعيًا لِكون عرفًا فاسداً، فلو أن الناس تعارفوا بينهم أنواعًا من الأعراف الفاسدة، مثل الأمور المحرمة فإن هذا لا يجوز أن يكون محلًا للقبول، أو جواز هذا الشيء؛ لأن العرف كما قلنا ما يتعارفه الناس مما لا يخالف نصًا شرعيًا، فإذا خالف النصوص الشرعية فيكون باطلاً مردوداً.
الشرط الرابع: أنا لا يكون طارئاً:
لو أن إنسانًا عَقَد عَقْدَ مبايعة مع إنسان آخر وكان هناك عرف، ولكنه لم
(1) سورة الأعراف، الآية:199.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب النفقات، باب: إذا لم ينفق الرجل (9/ 507) مع الفتح.
ومسلم في صحيحه في كتاب الأقضية (5/ 130) كلاهما من حديث عائشة رضى الله عنها قالت: جاءت هند إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفينى ويكفي ابني. . . الحديث".
يحدث إلا منذ فترة يسيرة ولم يشتهر بعد، فقال المشتري: أنا أحاكمك على العرف، وقال البائع: أنا لم أسمع بهذا العرف، فقال المشتري: بل موجود عند أهل المكاتب يعملون به، وعند سؤال أهل المكاتب قالوا: هذا صحيح عند فلان عن فلان ولكن نحن لا نعمل به.
نقول: هذا عرف طارئ، وننتظر حتى يشتهر وينتشر ويكون مستقراً تألفه النفوس ويقبلونه، فنعمل به، أما ما دام أنه طارئ لتوّه لم يشتهر ولم ينتشر فإنه لا يكون ملزمًا؛ لأن العرف ما تألفه النفوس، وهذا غير معروف، وفي هذه الحال لا يكون مقبولًا.
الشرط الخامس: أنا لا يعارضه تصريح:
مثاله: لو أن هناك عرفًا بين الناس في السعي للدلال (الوسيط بين البائع والمشتري) فلو قال المشتري: السعي عليك، أو قال له: أنا أشتري هذه السلعة صافي، في هذا الحال نقول: عارضَ العُرفَ صريحُ القَولِ، فلا يكون ملزمًا، وكذلك مسألة العرف في النكاح، لو أن إنسانًا لما تزوج قال: أنا سأدفع نصف المهر أو ربعه معجلًا والباقى مؤخراً، قالوا: لكن هذا العرف ليس عندنا، فهم لا يلزمون بهذا لأنه ليس عرفًا موجوداً لأهل هذه البلاد.
فنقول في هذه المسألة: أن لا يعارضه تصريح فالعرف مثلًا في هذه البلاد أن المهر يكون معجلًا لا يؤجل منه شيء، وبهذا يعمل بالعرف وهو تعجيل المهر كله، لكن لو قال الزوج: سوف أعطيكم نصف المهر مثلًا، والباقى مؤجلًا.
فوافقوا فيكون خالف العرفُ صريحَ القولِ، فإنه في هذه الحال لا بأس به، ومما ينبغى أن يعلم أن العرف إذا استكمل هذه الشروط فإنه لا يشترط ذكره بل يكفي إطلاق القول، فإذا أطلق العقد حمل على عرف الناس بشروطه هذه.
هناك مسألة أخرى تتعلق بمعارضة العرف للنص، نحن ذكرنا في الشروط بأن لا يخالف نصًا، لكن هنا إذا كان فيه معارضة، فالعرف يخالف النص، فهل يرد العرف مطلقًا؟ نقول: فيه تفصيل.
العرف إذا خالف النص أو خالف دليلًا من أدلة الشرع ينظر، إن كان العرف خاصًا، والنص عامًا، فلا معارضة، فيعمل بالعرف في الخصوص، ويعمل بما سواه في العموم.
مثاله: لو حلف أن لا يأكل اللحم، وهو يقصد لحم السمك، فأكل لحم الغنم، هل يحنث لأنه يسمي لحمًا في القرآن، ولغة يسمى لحمًا؟.
نقول: لا يحنث؛ لأنه لا معارضة بين العرف والنص في هذه الحال، فيعمل بالعرف فيما سوى الخصوص، لكن بشرط أن لا يكون للنص حكم شرعى، أما إذا كان للنص حكم شرعى فلا يقبل العرف في هذه الحال، فيعمل بالعرف في الخصوص، وأنه يعمل على ما تعارفه الناس بينهم في اللحم.
مثال آخر: قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} (1) أي أن جميع ما على
(1) سورة هود، الآية:6.
الأرض دواب، لكن المتعارف بين الناس أن الدابة هى التى تكون لها أربع قوائم لتمشي عليها، فلو حلف إنسان أن لا يركب دابة، فهل يحنث إذا ركب فيما سوى ذوات الأربع.
نقول: عرف الناس أنه خاص بذوات الأربع، فلا يحنث إلا إذا ركب ذوات الأربع، ولأنه ليس لهذا النص حكم في الشرع، أي في مسألة الدواب، أما إذا كان النص له حكم في الشرع فإنه لا يعمل بالعرف في هذه الحال، مثلًا الصلاة جاءت بمعنى الدعاء، ولو كان في عرف الناس أنه الدعاء فقال: والله لا أصلى، ولا شَكَّ أن الصلاة في عرف الشرع أنها هي ذات الركوع والسجود، لكن عندما حلف أن لا يصلي ثم سبح وذكر الله هل يحنث؟ نقول: لا يحنث حتى يصلى صلاة ذات ركوع وسجود. فإذا كان له حكم شرعي فإنه يعمل به كما قلنا.
ومن مسائل العرف - أيضًا - معارضة اللغة للعرف، في هذه الحالة تقدم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية، إلا إذا كانت الحقيقة اللغوية أعم أو مساوية، وإذا كانت الحقيقة العرفية هي العامة وهى المشتهرة فيعمل بها، أما إذا لم يكن هناك حقيقة عرفية فيعمل بالحقيقة اللغوية.
مثاله: لو قال مثلًا: والله لا آكل شُواء - الشُّواء في اللغة كل ما شوي من لحم أو بيض، أو خبز خلط به شيء، أو بعض الخضروات التى تشوى فهى في اللغة تسمى شواء، لكن في العرف معلوم أن الشواء هو شواء اللحم خاصة، فبهذا
لا يحنث ويحمل على العرف، ونعلم أن الحقيقة العرفية مقدمة على الحقيقة اللغوية، والحقيقة العرفية مقدمة على الحقيقة الشرعية إلا إذا كانت الحقيقة الشرعية فيها حكم من جهة الشرع فإنه يعمل بها، أو كانت الحقيقة اللغوية أعم والحقيقة العرفية غير واضحة.