الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَنْفُذُ حُكْمُهُ) أَيْ الْقَاضِي (عَلَى عَدُوِّهِ) كَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ (بَلْ يُفْتِي عَلَى عَدُوِّهِ) ; لِأَنَّهُ لَا إلْزَامَ فِي الْفُتْيَا بِخِلَافِ الْقَضَاءِ، (وَلَا) يَصِحُّ وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ (لِنَفْسِهِ وَلَا لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُمْ) كَزَوْجَتِهِ وَعَمُودَيْ نَسَبِهِ كَالشَّهَادَةِ، وَلَوْ كَانَتْ الْخُصُومَةُ بَيْنَ وَالِدَيْهِ أَوْ بَيْنَ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ لِعَدَمِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ عَرَضَتْ لِلْقَاضِي أَوْ لِمَنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لَهُ حُكُومَةٌ تَحَاكَمَا إلَى بَعْضِ خُلَفَائِهِ أَوْ بَعْضِ رَعِيَّتِهِ، فَإِنَّ عُمَرَ حَاكَمَ أُبَيًّا إلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَحَاكَمَ رَجُلًا عِرَاقِيًّا إلَى شُرَيْحٍ، وَحَاكَمَ عَلِيٌّ رَجُلًا يَهُودِيًّا إلَى شُرَيْحٍ، وَحَاكَمَ عُثْمَانُ طَلْحَةَ إلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، (وَلَهُ اسْتِخْلَافُهُمْ) أَيْ لِلْقَاضِي اسْتِنَابَةُ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَنَحْوِهِمَا عَنْهُ فِي الْحُكْمِ مَعَ صَلَاحِيَتِهِمْ كَغَيْرِهِمْ (كَحُكْمِهِ) أَيْ: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ (لِغَيْرِهِمْ) أَيْ: لِغَيْرِ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ (بِشَهَادَتِهِمْ) كَأَنْ حَكَمَ عَلَى أَجْنَبِيٍّ بِشَهَادَةِ أَبِيهِ وَابْنِهِ، (وَ) كَحُكْمِهِ (عَلَيْهِمْ أَيْ عَلَى مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، فَيَصِحُّ حُكْمُهُ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ وَزَوْجَتِهِ وَنَحْوِهِمْ كَشَهَادَتِهِ عَلَيْهِمْ) .
[فَصْلٌ الْقَاضِي يَبْدَأُ بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِ الْمَحْبُوسِينَ]
(فَصْلٌ وَيُسَنُّ لِقَاضٍ أَنْ يَبْدَأَ بِ) النَّظَرِ فِي أَمْرِ الْمَحْبُوسِينَ ; لِأَنَّ الْحَبْسَ عَذَابٌ وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْبَقَاءَ فِيهِ، (فَيُنْفِذَ ثِقَةً) إلَى الْحَبْسِ فَ (يَكْتُبُ أَسْمَاءَهُمْ و) أَسْمَاءَ (مَنْ حَبَسَهُمْ وَفِيمَ ذَلِكَ) ؟ أَيْ حَبْسُهُمْ كُلَّ وَاحِدٍ فِي رُقْعَةٍ مُنْفَرِدَةٍ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ النَّظَرُ فِي حَالِ الْأَوَّلِ لَوْ كُتِبُوا فِي رُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيُخْرِجُ وَاحِدَةً مِنْ الرِّقَاعِ بِالِاتِّفَاقِ كَالْقُرْعَةِ، (ثُمَّ يُنَادِي فِي الْبَلَدِ أَنَّهُ) أَيْ الْقَاضِي (يَنْظُرُ فِي أَمْرِهِمْ) أَيْ: الْمَحْبُوسِينَ فِي يَوْمِ كَذَا، فَمَنْ لَهُ خَصْمٌ مَحْبُوسٌ فَلْيَحْضُرْ ; لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ لِحُضُورِهِمْ مِنْ التَّفْتِيشِ عَلَيْهِمْ، (فَإِذَا جَلَسَ) الْقَاضِي (لِوَعْدِهِ) نَظَرَ ابْتِدَاءً فِي رِقَاعِ الْمَحْبُوسِينَ فَتُخْرَجُ رُقْعَةٌ مِنْهَا وَيُقَالُ: هَذِهِ رُقْعَةُ فُلَانٍ فَمَنْ خَصْمُهُ؟ (فَمَنْ حَضَرَ لَهُ خَصْمٌ نَظَرَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ) الْمَحْبُوسُ (حُبِسَ لِتُعَدَّلَ الْبَيِّنَةُ) أَيْ: بَيِّنَةُ خَصْمِهِ عَلَيْهِ (فَإِعَادَتُهُ) إلَى الْحَبْسِ (مَبْنِيَّةٌ عَلَى حَبْسِهِ فِي ذَلِكَ)، وَالْأَصَحُّ حَبْسُهُ إنْ كَانَ فِي غَيْرِ حَدٍّ فَيُعَادُ لِلْحَبْسِ (وَيُقْبَلُ قَوْلُ خَصْمِهِ) أَيْ: الْمَحْبُوسِ (فِي أَنَّهُ) أَيْ الْقَاضِي (حَبَسَهُ بَعْدَ تَكْمِيلِ بَيِّنَتِهِ وَ) بَعْدَ (تَعْدِيلِهَا) ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا حَبَسَهُ لِحَقٍّ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ، (وَإِنْ ذَكَرَ) مَحْبُوسٌ أَنَّهُ (حَبَسَهُ بِقِيمَةِ كَلْبٍ أَوْ خَمْرِ
ذِمِّيٍّ وَصَدَّقَهُ غَرِيمٌ) فِي ذَلِكَ (خَلَّى) سَبِيلَهُ ; لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ غَرِيمَهُ وَقَالَ: بَلْ بِحَقٍّ وَاجِبٍ غَيْرِ هَذَا فَقَوْلَهُ: لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ (وَإِنْ بَانَ حَبْسُهُ فِي تُهْمَةٍ أَوْ تَعْزِيرٍ كَافْتِيَاتٍ عَلَى الْقَاضِي قَبْلَهُ وَنَحْوَهُ) كَكَوْنِهِ غَائِبًا (خَلَّاهُ) أَيْ: أَطْلَقَهُ، (أَوْ أَبْقَاهُ) فِي الْحَبْسِ (بِقَدْرِ مَا يَرَى) بِحَسْبِ اجْتِهَادِهِ ; لِأَنَّ التَّعْزِيرَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِهِ (فَإِطْلَاقُهُ) أَيْ: الْمَحْبُوسِ
(وَإِذْنُهُ) أَيْ الْقَاضِي (وَلَوْ فِي قَضَاءِ دَيْنٍ وَ) فِي (نَفَقَةٍ لِيَرْجِعَ) قَاضِي الدَّيْنِ وَالْمُنْفِقُ حُكْمٌ،.
(وَ) إذْنُهُ فِي (وَضْعِ مِيزَابٍ وَ) وَضْعِ (بِنَاءٍ) مِنْ جَنَاحٍ وَسَابَاطٍ بِدَرْبٍ نَافِذٍ بِلَا ضَرَرٍ حُكْمٌ، فَيُمْنَعُ الضَّمَانُ ; لِأَنَّهُ كَإِذْنِ الْجَمِيعِ، (وَ) إذْنُهُ (فِي غَيْرِهِ) كَوَضْعِ خَشَبٍ عَلَى جِدَارِ جَارٍ بِشَرْطِهِ حُكْمٌ، (وَأَمْرُهُ) أَيْ الْقَاضِي (بِإِرَاقَةِ نَبِيذٍ) حُكْمٌ ذَكَرَهُ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ فِي الْمُحْتَسِبِ، (وَقُرْعَتُهُ) أَيْ الْقَاضِي (حُكْمٌ يَرْفَعُ الْخِلَافَ إنْ كَانَ) ثَمَّ خِلَافٌ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ أَوْ حَكَمَ لِأَحَدٍ بِاسْتِحْقَاقِ عَقْدٍ أَوْ فَسْخٍ فَعَقَدَ أَوْ فَسَخَ لَمْ يَحْتَجْ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى حُكْمِهِ بِصِحَّتِهِ بِلَا نِزَاعٍ.
(وَكَذَا نَوْعٌ مِنْ فِعْلِهِ) أَيْ الْحَاكِمِ (كَتَزْوِيجِهِ يَتِيمَةً) بِالْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ (وَشِرَاءِ عَيْنٍ غَائِبَةٍ) مَوْصُوفَةٍ بِمَا يَكْفِي فِي سَلَمٍ لِقَضَاءِ دَيْنِ غَائِبٍ وَمُمْتَنِعٍ (وَعَقْدِ نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ) ، حَيْثُ رَآهُ وَفَسْخٍ لِعُنَّةٍ وَعَيْبٍ وَنَحْوَهُ، فَهُوَ حُكْمٌ يَرْفَعُ الْخِلَافَ إنْ كَانَ، وَكَذَا نَصْبُهُ لِنَحْوِ مِيزَابٍ لِنَصْبِهِ صلى الله عليه وسلم مِيزَابَ الْعَبَّاسِ،.
وَمِنْ ذَلِكَ بَيْعُهُ لِأَرْضِ الْعَنْوَةِ لِمَصْلَحَةٍ وَتَرْكُهُ لَهَا بِلَا قِسْمَةٍ وَقْفٌ لَهَا عَلَى مَا فِي الْمُغْنِي، (وَحُكْمُهُ) أَيْ الْقَاضِي (بِشَيْءٍ) كَبَيْعِ عَبْدٍ أَعْتَقَهُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ (حُكْمٌ بِلَازِمِهِ) أَيْ الشَّيْءَ الْمَحْكُومَ بِهِ وَهُوَ بُطْلَانُ الْعِتْقِ فِي الْمِثَالِ ; لِأَنَّهُ لَازِمٌ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ فَلَا يَحْكُمُ غَيْرُهُ بِخِلَافِهِ ; لِأَنَّهُ نَقْضٌ لِحُكْمِهِ.
(وَإِقْرَارُهُ) أَيْ الْقَاضِي مُكَلَّفًا (غَيْرَهُ عَلَى فِعْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ) أَيْ فِي صِحَّتِهِ أَوْ حِلِّهِ لَيْسَ حُكْمًا بِصِحَّتِهِ أَوْ حِلِّهِ إنَّهُ الْإِقْرَارُ عَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهُ، (وَثُبُوتِ شَيْءٍ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ الْقَاضِي كَوَقْفٍ وَبَيْعٍ وَإِجَارَةٍ (لَيْسَ حُكْمًا بِهِ) ، بِخِلَافِ إثْبَاتِ صِفَةٍ كَعَدَالَةٍ وَأَهْلِيَّةِ وَصِيَّةٍ فَهُوَ حُكْمٌ عَلَى مَا يَأْتِي، وَكَذَا ثُبُوتُ سَبَبِ الْمُطَالَبَةِ كَفَرْضِهِ مَهْرَ مِثْلٍ أَوْ نَفَقَةٍ أَوْ أُجْرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ
(وَتَنْفِيذُ الْحُكْمِ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الْحُكْمِ الْمُنَفَّذِ) قَالَهُ ابْنُ نَصْرِ اللَّهِ، (وَفِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ) أَيْ التَّنْفِيذَ حُكْمٌ، بَلْ قَدْ فُسِّرَ فِي الشَّرْحِ التَّنْفِيذُ بِالْحُكْمِ فِي مَوْضِعٍ.
وَفِي شَرْحِ الْمُحَرَّرِ نَفْسُ الْحُكْمِ فِي شَيْءٍ لَا يَكُونُ حُكْمًا بِصِحَّةِ الْحُكْمِ فِيهِ، لَكِنْ
لَوْ نَفَّذَهُ حَاكِمٌ آخَرُ لَزِمَهُ إنْفَاذُهُ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ صَارَ مَحْكُومًا بِهِ فَلَزِمَهُ تَنْفِيذُهُ كَغَيْرِهِ، (وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ) أَيْ الْأَصْحَابِ (أَنَّهُ) أَيْ التَّنْفِيذَ (عَمَلٌ بِالْحُكْمِ) الْمُنَفَّذِ (وَإِجَازَةٌ لَهُ وَإِمْضَاءٌ كَتَنْفِيذِ) الْوَارِثِ (الْوَصِيَّةَ) حَيْثُ تَوَقَّفَتْ عَلَى الْإِجَازَةِ.
قَالَ ابْنُ نَصْرِ اللَّهِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ بِالْمَحْكُومِ بِهِ، إذْ الْحُكْمُ بِالْمَحْكُومِ بِهِ تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنَّمَا هُوَ عَمَلٌ بِالْحُكْمِ وَإِمْضَاءٌ لَهُ كَتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ وَإِجَازَةٌ لَهُ، فَكَأَنَّهُ يُجِيزُ هَذَا الْمَحْكُومَ بِهِ بِعَيْنِهِ لِحُرْمَةِ الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ حَبَسَ ذَلِكَ الْمَحْكُومَ بِهِ غَيْرُهُ انْتَهَى. وَذَكَرَ ابْنُ الْفَرَسِ الْحَنَفِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: أَنَّ التَّنْفِيذَ حُكْمٌ إنْ كَانَ التَّرَافُعُ عَنْ خُصُومَةٍ، وَأَنَّ الْحَادِثَةَ الشَّخْصِيَّةَ الْوَاحِدَةَ يَجُوزُ شَرْعًا أَنْ تَتَوَارَدَ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْمُتَّفِقَةُ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ. وَأَمَّا التَّنْفِيذُ الْمُتَعَارَفُ الْآنَ الْمُسْتَعْمَلُ غَالِبًا فَمَعْنَاهُ إحَاطَةُ الْقَاضِي عِلْمًا بِحُكْمِ الْقَاضِي الْأَوَّلِ عَلَى وَجْهِ التَّسْلِيمِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَرَضٍ عَلَيْهِ، وَيُسَمَّى اتِّصَالًا وَيُتَجَوَّزُ بِذِكْرِ الثُّبُوتِ وَالتَّنْفِيذِ فِيهِ
(وَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ وَالْحِيَازَةِ قَطْعًا) ، فَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ ابْتَاعَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَيْنًا وَاعْتَرَفَ لَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، حَتَّى يَدَّعِيَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ بَاعَهُ الْعَيْنَ الْمَذْكُورَةَ وَهُوَ مَالِكٌ، وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ. (وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ (حُكْمٌ بِمُوجَبِ الدَّعْوَى الثَّابِتَةِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ غَيْرِهَا) كَالْإِقْرَارِ وَالنُّكُولِ، (فَالدَّعْوَى الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْعَقْدِ الْمُدَّعَى بِهِ) مِنْ نَحْوِ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ (الْحُكْمُ فِيهَا بِالْمُوجَبِ حُكْمٌ بِالصِّحَّةِ) ; لِأَنَّهَا مِنْ مُوجَبِهِ كَسَائِرِ آثَارِهِ.
قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ: فَيَكُونُ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ حِينَئِذٍ أَقْوَى مُطْلَقًا لِسَعَتِهِ وَتَنَاوُلِهِ الصِّحَّةَ وَآثَارَهَا.
(وَ) الدَّعْوَى (غَيْرُ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْعَقْدِ الْمُدَّعَى بِهِ كَأَنْ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَهُ الْعَيْنَ فَقَطْ (الْحُكْمُ فِيهَا بِالْمُوجَبِ لَيْسَ حُكْمًا بِهَا) أَيْ: الصِّحَّةِ، إذْ مُوجَبُ الدَّعْوَى حِينَئِذٍ حُصُولُ صُورَةِ بَيْعٍ بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَشْتَمِلْ الدَّعْوَى عَلَى مَا يَقْتَضِي صِحَّتَهُ ; حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ لِلْبَائِعِ مِلْكًا وَلَمْ تَقُمْ بِهِ بَيِّنَةٌ، وَصِحَّةُ الْعَقْدِ تَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. لَا يُقَالُ: هُوَ أَيْضًا فِي الْأُولَى لَمْ يَدَّعِ الصِّحَّةَ فَكَيْفَ يُحْكَمُ لَهُ بِهَا؟ لِأَنَّ دَعْوَاهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَرِيحَةً فَهِيَ وَاقِعَةٌ ضِمْنًا ; لِأَنَّهَا مَقْصُودُ الْمُشْتَرِي.
(وَقَالَ بَعْضُهُمْ) هُوَ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ قُنْدُسٍ: (الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ يَسْتَدْعِي صِحَّةَ الصِّيغَةِ) أَيْ الْإِيجَابِ
وَالْقَبُولِ قَوْلَيْنِ كَانَا أَوْ فِعْلَيْنِ، أَوْ صِيغَةِ الْوَقْفِ أَوْ الْعِتْقِ كَذَلِكَ، (وَأَهْلِيَّةَ الْمُتَصَرِّفِ) مِنْ بَائِعٍ وَوَاقِفٍ وَنَحْوِهِمَا، (وَيَزِيدُ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ كَوْنُهُ تَصَرُّفُهُ فِي مَحَلِّهِ) بِأَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ فِيمَا يَمْلِكُهُ وَلَا مَانِعَ مِنْهُ، (وَقَالَهُ) السُّبْكِيُّ (أَيْضًا الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ هُوَ الْأَثَرُ) أَيْ: الْحُكْمُ بِالْأَثَرِ (الَّذِي يُوجِبُهُ اللَّفْظُ) أَيْ: يَتَرَتَّبُ عَلَى صِيغَةِ الْعَاقِدِ، (وَ) الْحُكْمُ (بِالصِّحَّةِ كَوْنُ اللَّفْظِ) أَيْ الصِّيغَةِ (بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَثَرُ) مِنْ انْتِقَالِ الْمِلْكِ وَنَحْوِهِ، فَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ حُكْمٌ عَلَى الْعَاقِدِ بِمُقْتَضَى عَقْدِهِ، لَا حُكْمٌ بِالْعَقْدِ بِخِلَافِ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، (وَهُمَا) أَيْ: الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ (مُخْتَلِفَانِ فَلَا يُحْكَمُ بِالصِّحَّةِ إلَّا بِاجْتِمَاعٍ لِشُرُوطٍ) أَيْ: شُرُوطِ الْعَقْدِ الْمَحْكُومِ بِصِحَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ، فَهُوَ حُكْمٌ بِالْمُوجَبِ.
(وَالْحُكْمُ بِالْإِقْرَارِ وَنَحْوِهِ كَالْحُكْمِ بِمُوجَبِهِ) ، إذْ مَعْنَاهُ إلْزَامُ الْمُقِرِّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ وَهُوَ أَثَرُ إقْرَارِهِ، وَلَا يُحْكَمُ بِالصِّحَّةِ، نَقَلَهُ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ عَنْ شَيْخِهِ الْبُلْقِينِيِّ وَقَالَ: وَلَا يَظْهَرُ لِهَذَا مَعْنًى فَلْيُتَأَمَّلْ، وَقَدْ رَجَعَ الشَّيْخُ إلَى مَا ذَكَرْتُهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ (وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ لَا يَشْمَلُ الْفَسَادَ انْتَهَى)، هَذَا رَدٌّ لِقَوْلِ الْقَائِلِ: إنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ لَا فَائِدَة لَهُ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَكَمْت بِصِحَّتِهِ إنْ كَانَ صَحِيحًا وَبِفَسَادِهِ إنْ كَانَ فَاسِدًا، فَهُوَ تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ مُوجَبَهُ هِيَ آثَارُهُ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَالْفَسَادُ لَيْسَ مِنْهَا فَلَا يَشْمَلُهُ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ، قَالَ (الْمُنَقَّحُ: وَالْعَمَلُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالُوا) أَيْ الْأَصْحَابُ: (الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ) ; لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى الْعَاقِدِ بِمُقْتَضَى مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَقْدِ، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَحَكَمَ بِمُوجَبِهِ مَنْ يَرَاهُ فَلَيْسَ لِشَافِعِيٍّ سَمَاعُ دَعْوَى الْوَاقِفِ فِي إبْطَالِ الْوَقْفِ بِمُقْتَضَى كَوْنِهِ وَقْفًا عَلَى النَّفْسِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ مُوجَبٌ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْوَقْفِ كَكَوْنِ الْمَوْقُوفِ مَرْهُونًا مَثَلًا. وَقَدْ ذَكَرَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ فِي رِسَالَةٍ لَهُ ذَكَرَهَا فِي شَرْحِهِ فُرُوقًا بَيْنَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ عَنْ شَيْخِهِ الْبُلْقِينِيِّ مَعَ مُنَاقَشَتِهِ لَهُ، وَذَكَرَ مُلَخَّصَ مَا اخْتَارَهُ غَيْرَ مَا سَبَقَ مِنْهَا أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ يَتَنَاوَلُ الْآثَارَ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهَا لِلْإِتْيَانِ بِلَفْظٍ عَامٍّ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ آثَارِهَا، فَإِنَّ مُوجَبَ الشَّيْءِ هُوَ مُقْتَضَاهُ، وَهُوَ مُفْرَدٌ مُضَافٌ فَيَعُمُّ كُلَّ مُوجَبٍ بِخِلَافِ لَفْظِ الصِّحَّةِ ; فَإِنَّهَا إنَّمَا تَتَنَاوَلُ الْآثَارَ بِالتَّضَمُّنِ لَا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهَا، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ أَعْلَى، وَهُوَ خِلَافُ الِاصْطِلَاحِ، وَلَوْ حَكَمَ حَنَفِيٌّ
بِمُوجَبِ التَّدْبِيرِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بَعْدُ ; لِأَنَّ مِنْ مُوجَبِهِ مَنْعَ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ فَقَدْ صَارَ مَحْكُومًا بِعَدَمِ بَيْعِهِ فِي وَقْتِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَلَّقَ مُكَلَّفٌ طَلَاقَ أَجْنَبِيَّةٍ عَلَى تَزْوِيجِهِ بِهَا وَحَكَمَ بِمُوجَبِهِ حَنَفِيٌّ أَوْ مَالِكِيٌّ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِهَا وَبَادَرَ شَافِعِيٌّ وَحَكَمَ بِاسْتِمْرَارِ الْعِصْمَةِ وَعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ نَفَذَ حُكْمُهُ، وَلَمْ يَكُنْ نَقْضًا لِحُكْمِ الْأَوَّلِ بِمُوجَبِ التَّعْلِيقِ ; لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ لَوْ تَزَوَّجَ بِهَا ; لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَقَعْ إلَى الْآنَ فَكَيْفَ يَحْكُمُ عَلَى مَا لَمْ يَقَعْ؟ ، وَمِنْهَا إذَا كَانَ الصَّادِرُ صَحِيحًا بِاتِّفَاقٍ وَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي مُوجَبِهِ، فَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْعَمَلِ بِمُوجَبِهِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَاكِمِ بِالصِّحَّةِ، وَلَوْ حَكَمَ فِيهِ بِالْمُوجَبِ امْتَنَعَ الْعَمَلُ بِمُوجَبِهِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَاكِمِ بِالْمُوجَبِ، وَلَا بَأْسَ بِهَذَا الْفَرْقِ لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ جَاءَ وَقْتُ الْحُكْمِ بِمُوجَبِهِ فَمَتَى لَمْ يَجِئْ وَقْتُهُ فَلِغَيْرِهِ الْحُكْمُ بِمُوجَبِهِ عِنْدَهُ عِنْدَ مَجِيءِ وَقْتِهِ.
وَقَدْ يَكُونُ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ أَقْوَى كَمَا لَوْ حَكَمَ شَافِعِيٌّ بِمُوجَبِ شِرَاءِ دَارٍ فَلَيْسَ لِلْحَنَفِيِّ أَنْ يَحْكُمَ بِشُفْعَتِهَا لِلْجَارِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الشَّافِعِيُّ حَكَمَ بِالصِّحَّةِ، وَكَذَا لَوْ حَكَمَ بِصِحَّةِ التَّدْبِيرِ لَمْ يَمْنَعْ حُكْمَ الشَّافِعِيِّ بِبَيْعِهِ بَعْدُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَكَمَ بِمُوجَبِهِ، وَكَذَا لَوْ حَكَمَ شَافِعِيٌّ بِصِحَّةِ إجَارَةٍ ثُمَّ مَاتَ مُؤَجِّرٌ فَلِلْحَنَفِيِّ إبْطَالُهَا بِالْمَوْتِ، وَلَوْ كَانَ حَكَمَ بِمُوجَبِهَا لَمْ يَكُنْ لِلْحَنَفِيِّ الْحُكْمُ بِإِبْطَالِهَا بِالْمَوْتِ ; لِأَنَّ مِنْ مُوجَبِهَا الدَّوَامَ وَالِاسْتِمْرَارَ لِلْوَرَثَةِ. وَنَازَعَ الْعِرَاقِيُّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا بِأَنَّ الْحُكْمَ بِمُوجَبِ الْإِجَارَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَتَوَجَّهْ إلَى عَدَمِ الِانْفِسَاخِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَجِئْ وَقْتُهُ وَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُهُ. وَلَوْ وَجَّهَ الْحُكْمَ إلَيْهِ فَقَالَ: حَكَمْتُ بِعَدَمِ انْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ إذَا مَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمًا، وَكَيْفَ يَحْكُمُ عَلَى مَا لَمْ يَقَعْ؟ قُلْت: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ عَدَمَ انْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ هُوَ مَعْنَى لُزُومِهَا وَهُوَ مَوْجُودٌ مُنْذُ تَفَرَّقَا مِنْ الْمَجْلِسِ، فَهُوَ كَمَنْعِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ عِنْدَ الْحَنَفِيّ بِلَا فَرْقٍ. ثُمَّ نَقَلَ عَنْ شَيْخِهِ الْبُلْقِينِيِّ ضَابِطًا وَهُوَ أَنَّ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ إنْ كَانَ صِحَّةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَكَانَتْ لَوَازِمُهُ لَا تَتَرَتَّبُ إلَّا بَعْدَ صِحَّتِهِ، كَانَ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ رَافِعًا لِخِلَافٍ وَاسْتَوَيَا حِينَئِذٍ.
وَإِنْ كَانَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ الْآثَارَ وَاللَّوَازِمَ كَانَ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ غَيْرَ رَافِعٍ لِلْخِلَافِ، وَكَانَ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ رَافِعًا وَقَوِيَ الْمُوجَبُ حِينَئِذٍ، وَإِنْ كَانَتْ آثَارُهُ تَتَرَتَّبُ مَعَ فَسَادِهِ قَوِيَ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ عَلَى الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ، لَكِنْ لَوْ حَكَمَ حَنَفِيٌّ بِمُوجَبِ وَقْفٍ شُرِطَ فِيهِ التَّغْيِيرُ وَالزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ، فَهَلْ لِلشَّافِعِيِّ الْمُبَادَرَةُ بَعْدَ التَّغْيِيرِ