الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الولي المنعم والصلاة والسلام على نبيه وآله وصحبه وسلم.
أما بعد .. فإن عصر الخلافة الراشدة امتداد لعصر السيرة النبوية حيث تؤثر القيم الإسلامية على الناس في نشاطهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وتنعكس على الحكم في علاقته بالأمة من ناحية وبالقوى الخارجية من ناحية أخرى، وتؤثر في اختيار الحاكم وقيم التعامل معه من حيث الطاعة المشروطة بإنفاذ أحكام الشريعة، والحفاظ على وحدة الأمة، والشورى، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والاجتهاد الفردي والجماعي لاستنباط الأحكام من الكتاب والسنة فيما يتعلق بالوقائع الجديدة المتنوعة وخاصة بعد الانسياح في الهلال الخصيب وبلاد إيران ومصر حيث التماس مع حضارات قديمة ونظم اجتماعية واقتصادية عريقة. فلولا الاجتهاد لما أمكن إنزال الأحكام الشرعية على الوقائع القائمة. ولولا الانفتاح العقلي والروح الملهمة لما تمكن الفاتحون من التعامل مع المجتمعات الجديدة، وإكسابها الطابع الإسلامي، مع الاحتفاظ بتقدمها في المدنية والعمران.
إن المألوف في التاريخ هو ذوبان الأمم البدوية في الحضارات القوية حتى لو اكتسحها البدو عسكرياً، إذ سرعان ما تنحل عصبتهم وتذوب روح المقاومة فيهم، ويتطبعون بطابع الحياة الجديدة، ولكن ما حدث في التقاء الفاتحين المسلمين مع الأمم الأخرى هو تلاقح وتبادل عميقان، وكان للإسلام بقيمه الروحية والثقافية المنفتحة الأثر الكبير في أحداثهما، وقد مكنت العقيدة الإسلامية والقيم الثقافية المنبثقة عنها المسلمين من الحفاظ على شخصيتهم وقيمهم ولغتهم وأدبهم وطابع حياتهم، وتحويل المجمعات الجديدة التي حكموها وإكسابها الصبغة الإسلامية واللسان العربي الذي صار اللغة الأدبية العامة فضلاً عن كونها لغة الدولة والسياسة
والإدارة، بحيث طغت بعد برهة وجيزة على اللغات واللهجات المحلية.
وينظر المسلمون إلى عصر الخلافة الراشدة باعتباره أميز العصور في تاريخهم بعد عصر النبوة حيث تولى الحكم كبار الصحابة المقربين من النبي صلى الله عليه وسلم ممن شهد لهم بالسابقة والفضل والبشارة بدخول الجنة، تعاونهم أعداد من الصحابة الذين نزل القرآن بتعديلهم، وهم الذين مثلوا النخبة القيادة في الفكر والسياسة والإدارة والاقتصاد والفتوح، كما أنهم نقلوا القرآن والسنة إلى الأجيال التالية لذلك كان لابد من تمحيص الأخبار المتعلقة بهم خاصة.
ولا شك أن أساليب الحكم والإدارة والتوجيه التي اتبعوها وضحت جوانب النظام الإسلامي وصارت مثالاً يتطلع له المؤمنون في كل الأجيال المتعاقبة، وهم يقيسون أحوال زمانهم به، ويصفونه لبيان الانحراف والظلم وانهيار القيم الخلقية والاجتماعية والسياسية، ويدعون إلى العودة إلى "المثال" الذي تحقق في الخلافة الراشدة.
وكان الحكم في العهد النبوي تخالطه النبوة، لكنه لم يعد كذلك في الخلافة الراشدة، فلم يكن توليهم السلطة بأمر من الله أو بوصية من نبيه، بل تم اختيارهم وبيعتهم من قبل المسلمين، بما في ذلك خلافة عمر رضي الله عنه الذي رشحه أبو بكر الصديق رضى الله عنه بعد مشورة الكبار من الصحابة، فلم تكن الخلافة لتنعقد له لولا بيعة الناس له في المدينة، ثم أخذ البيعة له من قبل الولاة على أرجاء الدولة الإسلامية ..
وقد طبَّق الخلفاء الأربعة التعاليم الإسلامية في الحكم، فاهتموا بالشورى الفردية والجماعية، لكنهم لم يؤسسوا مجلساً دائماً لها، بل كانت في الغالب تنحصر في المقدمين من الصحابة من ذوي السابقة والخبرة، وكان الجمهور يعترف لهم بهذه المكانة. لكن البيعة للخليفة لم تقتصر عليهم بل تمتد إلى الجمهور الذي يبايع البيعة العامة في المسجد بعد البيعة الخاصة التي يعقدها كبار الصحابة للخليفة.
إن أهم المظاهر التي برزت في عصر الخلافة الراشدة تتمثل في تنظيم الإدارة
والجيش والعطاء وتنظيم المناطق المفتوحة وخاصة في خلافة عمر رضي الله عنه. أما أهم الأحداث التي شهدها ذلك العصر فتتمثل في القضاء على حركات الانشقاق وإعادة توحيد الدولة الإسلامية في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، مما مهَّد للحدث البارز الثاني المتمثل في حركة الفتوح الإسلامية التي شغلت العصر، وامتازت بالانسياح السريع في الهلال الخصيب وإيران ومصر، حيث تغلب الفاتحون على الإمبراطوريتين البيزنطية والساسانية وهما أعظم القوى في الأرض في ذلك الزمان، وكانت الغلبة الحضارية المتمثلة في سيادة الإسلام واللغة العربية تزيد على أهمية الانتصار العسكري السريع، لأنها مكنت للإسلام ولغته العربية في الأرض المفتوحة حتى الوقت الحاضر، خلافًا للفتوحات الأخرى التي قادها هانيبال والإسكندر وهولاكو قديماً والتي قامت بها بريطانيا وأسبانيا والبرتغال وهولندا في العصر الحديث، فرغم الانتصار العسكري لهذه القوى إلا أنها لم تتمكن من صهر المناطق المفتوحة في بوتقتها الحضارية وإن تركت فيها آثاراً متباينة العمق. ويعود الأثر العميق الذي أحدثته الفتوح الإسلامية إلى تحول السكان إلى الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقاً، تمتد تعاليمه إلى جوانب الحياة المختلفة، وتؤثر في البنية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية .. وكان لقيم التسامح والعدل والمساواة أثر كبير في اجتذاب سكان المناطق المفتوحة وتوحدهم مع الفاتحين.
وقد كان الحدث الداخلي المهم يتمثل في أحداث الفتنة التي أودت بحياة الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه وطغت نتائجها على أحداث خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي واجه المعارضة المتنوعة في الجمل والنهروان وصفين، واستشهد قبل أن تستقر الدولة الإسلامية على حال.
ولا شك أن التجربة السياسية التي لم يمض عليها سوى أربعة عقود تمكنت من الصمود أمام العواصف العاتية وخرجت منها مثقلة بتجاربها وخبراتها متطلعة إلى الاستقرار والامتداد والتفاعل مع التطورات الجديدة في العصر الأموي.
وقد التزمتُ بتطبيق مناهج المحدثين في نقد الروايات التاريخية إذا تعلقت
بالعقيدة والشريعة، أما الأخبار التي تتناول الفتوحات، وتعيين الولاة والقضاة والموظفين فإنها لا تقتضي إعمال المنهج النقدي الحديثي فيها بل يكفي اتفاق الاخباريين واختلافهم عليها وسلامتها من التناقض والشذوذ، وسلامة القصد عند الرواة لئلا يميلوا بالأخبار نحو خدمة اتجاهاتهم العقدية والسياسة، وهكذا تعامل علماء السلف مع هذه الأخبار، ولو اشترطوا فيها ما اشترطوه في الأحاديث النبوية لما صفا لهم منها إلا القليل، وبذلك يبقى التأريخ علماً مستقلاً له أدواته الخاصة ومناهجه النقدية المتميزة
واللهُ من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
المؤلف
الدكتور أكرم ضياء العمري
المدينة المنورة
17 ذو الحجة 1414 هـ