الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مجالات توظيفها في بنائنا الثقافي ومؤسساتنا التعليمية المعاصرة، مما يؤكد الهوية الثقافية لأمتنا، ويحدد عملية الأخذ والعطاء المتبادلة بيننا وبين الثقافات المتنوعة، ومؤسسات التعليم المختلفة المعاصرة.
المبحث الثاني: نظرة الاسلام إلى العلم والتعليم
منح الاسلام العلم قدسية حين جعل "طلب العلم فريضة على كل مسلم"(1) فثمة قدر من العلم ضروري لإيمان المسلم وعيادته ومعاملاته، وهو القدر المفروض عليه تعلمه، وما سواه فهو من فروض الكفاية.
وقد وردت أحاديث كثيرة في الحث على طلب العلم ونشره وبيان فضل طالبه، فطلبة العلم تبسط لهم الملائكة أجنحتها (2)، وتحفهم الملائكة وتغشاهم الرحمة وتنزل عليهم السكينة ويذكرهم الله فيمن عنده (3).
وطلب العلم توفيق من الله للإنسان "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"(4).
والعلم مثل المال، يصلح للتصدق به على الناس "من الصدقة أن يتعلم الرجل العلم فيعمل به ثم يعلمه"(5).
(1) أخرجه ابن ماجة: السنن 1: 81 حديث رقم 244.
(2)
أخرجه ابن ماجة: السنن 1: 82 حديث رقم 226 وفيه عاصم بن أبي النجود اختلط بآخر.
(3)
أخرجه ابن ماجة: السنن 1: 82 حديث رقم 225.
(4)
أخرجه البخاري (فتح الباري حديث رقم 71)، ومسلم: الصحيح 2: 718.
(5)
ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 123.
وطلب العلم عبادة، فلابد من استحضار النية فيه "من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة"(1).
وتترتب على العمل مسؤولية دينية تضبط توجيهه نحو خير الإنسان وسعادته وتمنع انحرافه وتهديده للعدل والأمن البشري، وفي القرآن:(إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)(2).
فالحواس مسئولة دينياً عن العلم طلباً وتنفيذاً، والعالم يسأل عن موقفه العلمي، ففي الحديث:"لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه"(3).
والإحساس بالمسؤولية الدينية ولَّد ضوابط خلقية، وقواعد منطقية، وآداباً عامة تركت تأثيرها في الحركة الفكرية، من ذلك ضرورة التحلي بالأمانة العلمية، فالعالم لا يقول جزافاً، لأنه مسئول عن صحة المعلومات التي يدلي بها "فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم" (4). وهو لا يكتم العلم ولا يبخل به، إذ ليس العلم الذي حازه ملكاً خالصاً له، بل فيه "حق عام" ربما يكون أوسع من الحق العام في الملكية الفردية.
لذلك توعد القرآن والحديث العلماء الذين يكتمون العلم، ففي القرآن الكريم: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيَّناه للناس في الكتاب
(1) أخرجه أبو داؤد: السنن حديث رقم 3664 وأحمد: المسند 2: 338.
(2)
الإسراء 36.
(3)
أخرجه الترمذي بلفظ مقارب: الجامع حديث رقم 2417 وقال: هذا حديث حسن صحيح.
والنص من عند الخطيب البغدادي: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1: 88 - 89.
(4)
البخاري: الصحيح، كتاب التفسير 30، 38، 44، وأحمد: المسند 1: 431.
أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) (1). وفي الحديث: "من سئل عن علم نافع فكتمه جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار"(2).
والإنسان لا يولد عالماً، غير إنه قادر على تحصيل العلم ببذل الجهد، فهو يولد على الفطرة، وأبواه يؤثران تأثيراً بالغاً في نقل الأفكار والقيم والعقائد اليه، وفي الحديث:"إنما العلم بالتعلم"(3).
ومادام للتعليم قدسية، ومنه ما هو فرض متعين على الأفراد، فلابد أن يكون "التعليم للجميع" ميسراً لا تعيقه أية عوائق مادية أو اجتماعية، وهكذا ساد مبدأ "مجانية التعليم"، وورد النهي عن أخذ الأجرة عليه، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب عن قبول هدية من أحد طلابه، وقال له:"إن أخذتها فخذ بها قوساً من النار"(4). ويبدو أن النهي تكرر مع عبادة بن الصامت- إن لم يقع وهم في الاسم من قبل الرواة- قال عبادة: "علمت ناساً من أهل الصفة الكتاب والقرآن، فأهدي إلىَّ رجل منهم قوساً فقلت: ليست بمال وأرمي عليها في سبيل الله عز وجل، لآتيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه، فأتيته فقلت: يا رسول الله، رجل أهدى إليَّ قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست بمال وأرمي عليها في سبيل الله؟ قال: إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبلها"(5).
(1) البقرة 159، 174.
(2)
أخرجه أبو داؤد: السنن حديث رقم 3658، والترمذي: الجامع حديث رقم 2649، وابن ماجة
:السنن حديث رقم 266.
(3)
البخاري: الصحيح، كتاب العلم 10.
(4)
البيهقي: السنن 6: 126.
(5)
أخرجه أبو داؤد: السنن، كتاب البيوع، باب في كسب المعلم حديث رقم 3416 وفي إسناده المغيرة بن زياد أبو هاشم الموصلي صدوق له أوهام كما في تقريب التهذيب لابن حجر.
وقد تكفلت الدولة في عصر الراشدين بدفع نفقات التعليم أحياناً، وقام المجتمع بذلك أحياناً أخرى، ولم يعرف عن طلبة العلم أنهم دفعوا نفقة للتعلم آنذاك.
ونظراً لأن العلم كانت تحفظه صدور العلماء غالباً، ويتم نقله مشافهةً، فإنَّ العلم ارتبط بالعلماء، فهو يبقى ما بقوا، وينقص إذا توفي العالم، وهذا ما يشير إليه حديث قبض العلم:"إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"(1). فلا غرابة إذا اعتبر موت العالم ثلمة في الاسلام (2)، فالعلماء ورثة الأنبياء (3). ورثوا عنهم العلم، وهذا الاحساس بخطورة نقص العلم بسبب موت العلماء كان من أقوى الدوافع التي أدت إلى اختيار العلماء طريق تقييد العلم وعدم الاكتفاء بحفظ الصدور، ذلك الاختيار الذي كان له أهمية كبرى في حفظ علوم الاسلام، ولم يكد القرن الأول- الذي وقع فيه الخلاف والجدل حول كتابة الحديث - ينتهي حتى ظهرت أولى المصنفات دليلاً على غلبة الاتجاه نحو التدوين. ولكن حفظ الصدور لم ينقطع، بل استمر التأكد عليه قروناً طويلة، ولا زال التعليم الاسلامي يؤكد على "الحفظ" حتى الوقت الحاضر.
وتمتع العلماء- لارتباط العلم بهم- بمكانة عالية واحترام كبير في ذلك العصر وما بعده .. قال الشعبي: "أمسك ابن عباس بركاب زيد بن ثابت، فقال: أتمسك لي وأنت ابن عم رسول الله؟ قال: إنا هكذا نصنع بالعلماء"(4). وكذلك فعل مرة مع
(1) البخاري: الصحيح (فتح الباري 1: 194 حديث رقم 100).
(2)
الدارمي: السنن، المقدمة 32.
(3)
البخاري: الصحيح، كتاب العلم 10.
(4)
الخطيب: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1: 188، وابن عبد البر: جامع بيان العلم