المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: السمات العامة للتعليم - عصر الخلافة الراشدة محاولة لنقد الرواية التاريخية وفق منهج المحدثين

[أكرم العمري]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تحليل المصادر

- ‌1 - كتب التأريخ:

- ‌محمد بن اسحق:

- ‌خليفة بن خياط:

- ‌محمد بن سعد (ت 230ه

- ‌البلاذري:

- ‌ابن عبد الحكم:

- ‌الأزدي:

- ‌ابن شبَّة:

- ‌اليعقوبي:

- ‌ابن قتيبة الدينوري:

- ‌الطبري:

- ‌المسعودي:

- ‌ابن أعثم الكوفي:

- ‌ابن حبيش:

- ‌الكلاعي:

- ‌المحب الطبري (ت 694ه

- ‌محمد بن يحيى الأشعري المالكي- ابن بكر- (ت 741ه

- ‌ابن كثير (ت 774 ه

- ‌ الذهبي

- ‌2 - كتب الحديث:

- ‌3 - كتب علم الرجال:

- ‌المراجع الحديثة:

- ‌الباب الأول: السياسة(الخلافة والخلفاء)

- ‌الفصل الأول: الخلافة

- ‌المبحث الأول: نظام الخلافة

- ‌المبحث الثاني: خلافة أبي بكر الصديق (رضى الله عنه)

- ‌المبحث الثالث: خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌المبحث الرابع: خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌المبحث الخامس: خلافة على بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌المبحث السابع (*): أزمة الخلافة وانتقال مركز الخلافة إلى العراق

- ‌الفصل الثاني: الخلفاء

- ‌المبحث الأول: أبو بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌المبحث الثاني: عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌المبحث الثالث: عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌المبحث الرابع: على بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌المبحث الخامس: حجية عمل الخلفاء الراشدين

- ‌المبحث السادس: الشورى

- ‌الباب الثانيالإدارة. القضاء

- ‌الفصل الأول: الإدارة(الولاة. الموظفون)

- ‌المبحث الأول: الولاة على البلدان

- ‌الولاة في خلافة أبي بكر:

- ‌قائمة بأسماء ولاة أبي بكر على البلدان:

- ‌الولاة في خلافة عمر:

- ‌مراقبة العمال والولاة:

- ‌قائمة بأسماء ولاة عمر على الأقاليم:

- ‌الولاة في خلافة عثمان:

- ‌قائمة بأسماء الولاة في خلافة عثمان:

- ‌الولاة في خلافة علي:

- ‌قائمة بأسماء الولاة في خلافة على:

- ‌المبحث الثاني: الموظفون

- ‌الرقابة على الأسواق (نظام الحسبة):

- ‌تنظيم العرفاء والنقباء ومساعدته في إيصال العطاء لمستحقيه:

- ‌الموظفون في خلافة أبو بكر:

- ‌عمال الصدقات:

- ‌الموظفون في خلافة عمر:

- ‌الموظفون في خلافة عثمان:

- ‌الموظفون في خلافة على:

- ‌الفصل الثاني: القضاء

- ‌القضاء في عصر الخلافة الراشدة:

- ‌تطبيق الحدود الشرعية:

- ‌ندرة الخصومات بين الناس:

- ‌إخضاع الخلفاء أنفسهم لأحكام القضاء وإجراءاته:

- ‌الجرائم والعقوبات:

- ‌التعزير:

- ‌الجنايات:

- ‌القضاة في خلافة أبي بكر:

- ‌القضاة في خلافة عمر:

- ‌رواتب القضاة:

- ‌القضاة في خلافة عثمان:

- ‌القضاة في خلافة على:

- ‌الباب الثالث: الاقتصاد

- ‌الفصل الأول: الموارد المالية

- ‌المبحث الأول: الجزية

- ‌الجزية في خلافة أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌الجزية في خلافة عمر رضي الله عنه:

- ‌الجزية في خلافة عثمان رضي الله عنه:

- ‌الجزية في خلافة علي رضي الله عنه:

- ‌المبحث الثاني: الخراج

- ‌المبحث الثالث: الغنائم

- ‌المبحث الرابع: الزكاة

- ‌المبحث الخامس: عشور التجارة

- ‌الفصل الثاني: النفقات العامة

- ‌المبحث الأول: مصارف الزكاة

- ‌المبحث الثاني: مصارف الغنائم والفيء

- ‌المبحث الثالث: العطاء

- ‌الأرزاق العينية:

- ‌نفقات طارئة:

- ‌المبحث الرابع: الإصلاحات

- ‌1 - الإقطاع:

- ‌2 - الحمى:

- ‌3 - الإنفاق على العمران:

- ‌عمران المساجد:

- ‌بناء الأمصار:

- ‌حفر الأنهار والخلجان وإقامة السدود والمنشآت الأخرى:

- ‌4 - مشروع تحرير الرقيق:

- ‌5 - النقود:

- ‌القروض الحسنة:

- ‌القوة الشرائية للنقود:

- ‌الرقابة المالية:

- ‌رقابة عمر لأهله:

- ‌الباب الرابع: الثقافة والتعليم

- ‌الفصل الأول: السمات والنظرية والتقاليد

- ‌تمهيد: التراث الثقافي قبل الإسلام

- ‌المبحث الأول: السمات العامة للتعليم

- ‌المبحث الثاني: نظرة الاسلام إلى العلم والتعليم

- ‌المبحث الثالث: آداب التعليم وتقاليده

- ‌الفصل الثاني: التطبيقات والمركز والموضوعات

- ‌المبحث الأول: النشاط التعليمي

- ‌تمهيد

- ‌أ - النشاط التعليمي بمكة قبل الهجرة

- ‌ب- النشاط التعليمي بالمدينة:

- ‌جـ - انتشار التعليم الاسلامي في البوادي والأمصار الجديدة:

- ‌المبحث الثاني: مراكز الحركة الفكرية

- ‌مواد الكتابة:

- ‌المبحث الثالث: موضوعات التعليم

- ‌أ- القرآن وعلومه:

- ‌ب- الحديث:

- ‌فمن مواقف كبار الصحابة الذين كرهوا كتابة الحديث ما يلي:

- ‌أما مواقف الصحابة التي تدل على إجارتهم الكتابة فهي:

- ‌جـ - الفقه:

- ‌د- اللغة العربية:

- ‌هـ - التاريخ:

- ‌و- علم الأنساب:

- ‌ز- الشعر:

- ‌حـ ـ القصص:

- ‌ط - الحكم والأمثال:

- ‌ي - الطب:

- ‌ك - علم النجوم (التنجيم):

- ‌ل- الثقافة واللغات الأجنبية:

- ‌الباب الخامسأحوال العالم.الدعوة الإسلامية ومنطلقاتها الفكرية.الفتوحات

- ‌الفصل الأولأحوال العالم.الدعوة الاسلامية ومنطلقاتها الفكرية

- ‌المبحث الأول: نظرة إلى أحوال العالم قبل الفتح الاسلامي

- ‌دولة الفرس

- ‌الحالة السياسية والاقتصادية:

- ‌الحالة الدينية والفكرية

- ‌الحالة الاجتماعية والأخلاقية

- ‌دولة الروم (الإمبراطورية البيزنطية) 312 - (1453) م

- ‌الحالة السياسية والاقتصادية:

- ‌الحالة الدينية والفكرية

- ‌الحالة الاجتماعية والأخلاقية:

- ‌تنبيه:

- ‌الهند والصين واليابان

- ‌المبحث الثاني: الدعوة الاسلامية ومنطلقاتها الفكرية

- ‌الفصل الثاني: الفتوحات

- ‌المبحث الأول: فتوح العراق والمشرق

- ‌في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه:

- ‌ملاحظات:

- ‌في خلافة عمر بن الخطاب (رضى الله عنه):

- ‌القادسية (15ه

- ‌المدائن:

- ‌جلولاء (16 ه

- ‌تكريت:

- ‌بناء الكوفة (17ه

- ‌بناء البصرة (16 هـ أو (17) ه

- ‌فتح الأهواز:

- ‌فتح رامهرمز:

- ‌فتح تستر

- ‌فتح السوس وجندي سابور:

- ‌نهاوند (21 ه

- ‌فتح أصبهان:

- ‌إعادة فتح همذان

- ‌فتح الري:

- ‌فتح إقليم فارس:

- ‌فتح كرمان ومكران:

- ‌فتح سجستان:

- ‌فتح خراسان:

- ‌في خلافة عثمان بن عفان (رضى الله عنه):

- ‌في خلافة علي بن أبي طالب (رضى الله عنه):

- ‌المبحث الثاني: فتوح الشام ومصر والمغرب

- ‌فتوح الشام في خلافة الصديق رضي الله عنه:

- ‌الصدمات الأولى:

- ‌اليرموك (في الطبري سنة (13) ه

- ‌ في خلافة عمر رضي الله عنه

- ‌عزل خالد:

- ‌فتح دمشق (في الطبري أوائل سنة (14) ه

- ‌حمص وحماة واللاذقية وقنسرين وحلب:

- ‌ أنطاكية

- ‌ بيت المقدس

- ‌فتح مصر:

- ‌العريش:

- ‌حصن بابليون:

- ‌في خلافة عثمان رضي الله عنه:

- ‌إعادة فتح الاسكندرية:

- ‌السودان:

- ‌أفريقية:

- ‌ذات الصواري:

- ‌الجيش ونظام القتال:

- ‌الباب السادس: الفتن الداخلية

- ‌الفصل الأول: الردة

- ‌تمهيد انتشار الاسلام خارج المدينة:

- ‌المبحث الأول حركات الردة

- ‌مراكز المرتدين

- ‌اليمن:

- ‌ردة اليمامة:

- ‌ردة طليحة الأسدي:

- ‌انتشار الردة:

- ‌المبحث الثاني القضاء على الردة

- ‌القضاء على ردة طليحة الأسدي:

- ‌القضاء على مالك بن نويرة:

- ‌القضاء على ردة مسيلمة الكذاب:

- ‌القضاء على ردة البحرين:

- ‌القضاء على ردة عمان ومهرة:

- ‌القضاء على ردة اليمن:

- ‌القضاء على ردة حضرموت:

- ‌الفصل الثاني: فتنة مقتل الخليفة عثمان رضى الله عنه

- ‌فتنه مقتل عثمان رضي الله عنه

- ‌خبر الراكب الذي تعرض للوفد المصري:

- ‌موقف الأنصار:

- ‌مواقف الصحابة في الفتنة

- ‌صفية أم المؤمنين:

- ‌الزبير بن العوام:

- ‌أبو ذر الغفاري:

- ‌أسامة بن زيد:

- ‌الحسن بن على بن أبي طالب:

- ‌عبد الرحمن بن عوف:

- ‌زيد بن ثابت:

- ‌عبد الله بن عمر:

- ‌تعليقات على مقتل الخليفة آراء الصحابة وتوقعاتهم لنتائج مقتل عثمان رضي الله عنه

- ‌على ابن أبي طالب:

- ‌سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل:

- ‌أبو موسي الأشعري:

- ‌سمرة بن جندب:

- ‌عائشة رضي الله عنها:

- ‌بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالخلافة:

- ‌الفصل الثالث: موقعة الجمل

- ‌موقعة الجمل:

- ‌الفصل الرابع: معركة صفين

- ‌معركة صفين:

- ‌الفصل الخامس: موقعة النهروان

- ‌موقعة النهروان:

- ‌المصادر والمراجع

- ‌المصادر

- ‌المراجع الحديثة

- ‌المؤلف

- ‌السيرة الذاتية:

- ‌مؤلفاته:

- ‌التحقيقات

- ‌البحوث:

الفصل: ‌المبحث الأول: السمات العامة للتعليم

القبائل، تتناشد الأشعار وتتفاخر بالأحساب والأنساب، وتزهو بأخبار الكرم والشجاعة والمروءة، من أهم وسائل نقل التراث الذي كان ينمو بإضافة الأجيال اللاحقة على السابقة، وقد هيأت هذه الاجتماعات فرصاً هامة للتلاقح الثقافي واللغوي، ولتوحيد المقاييس النقدية والذوقية، وللتقريب بين لغات العرب، ومهدت بذلك لفهم القرآن الذي أنزل بلغه قريش.

‌المبحث الأول: السمات العامة للتعليم

إن الاعتماد الكبير على الذاكرة النشيطة في نقل التراث، وعدم اكتراث جمهور العرب بتعلم الكتابة والقراءة، أدَّيا إلى إعاقة ظهور مؤسسات التعليم، فلم يقم منها سوى الكتاب الذي لم ينتشر إلا على نطاق محدود في المراكز الحضرية، مثل مكة والطائف ويثرب، فلم يكن هناك تعليم عام، بل كانت الأمية هي الطاغية، وورد في الحديث:"إنَّا أمة أميه لا نكتب ولا نحسب"(1). وبالتالي لم تكن عندهم تقاليد متبلورة للتعليم، فكان أن حدد الإسلام المعالم كامله، فأوضح أهمية العلم وربطه بالدين، فعزز بذلك مكانة العلماء، وبيَّن آداب التعليم وتقاليده بعمق وشمول، فأصبحت تحتذى طوال القرون اللاحقة، ولا تزال قادرة على إعطائنا الكثير من القيم الثقافية والتربوية الراشدة، إذ ربما تكون من أهم معطيات عصر السيرة والراشدين في نطاق التعليم.

لقد قامت حركة التعليم في عصر السيرة والراشدين على أكتاف رجال يعدون

(1) رواه مسلم: الصحيح 2: 761.

ص: 268

على أصابع اليد، ولكن الحافز الديني القوي- الذي جعل الأمة تحدد أهدافها وتوحد قواها لبلوغها- أوجد وسطاً ملائماً لانتشار التعليم. وبعد زمن يسير طهرت آثار حركة التعليم الجديدة في إظهار الطاقات الكامنة، فإذا بأعداد هائلة تعنى بالفكر والعلم، وتظهر القدرة والإبداع في ميادين شتى، فتسهم في بناء الصرح الثقافي والحضاري الجديد.

ولا شك في أن الانسجام العقيدي والفكري والاجتماعي، ووضوح الرؤية بتحديد الأهداف العامة للدولة والمجتمع، دفعا بقوة حركة التعليم، بل الحركة الثقافية العامة، لمواكبه التقدم العسكري والسياسي، وحل المشكلات الجديدة في الدولة الواسعة. فتحديد وجهة التعليم وأهدافه لأول مرة كان من معطيات عصر السيرة والراشدين، وقد أدت هذه الحوافز القوية والضوابط الجديدة إلى انتشار التعليم بسرعة خارقة، لا تقل دهشة الإنسان أمامها عن دهشته إزاء سرعة الفتوح العسكرية، إذ لا ريب في أن الإسلام أحدث ثورة التعليم التي أثمرت "النضوج الفكري المباغت" وشكلت بذلك "ظاهرة خارقة".

يقول العالم الألماني مورتز كانتور: "إن شعباً ظل قروناً متتابعة معزولاً عن المؤثرات الحضارية التي كان يتعرض لها جيرانه، ولم يؤثر هو نفسه على الآخرين كل هذا الوقت، نهض فجأه وفرض عقيدته وقوانينه ولغته على الأمم الأخرى إلى درجة لا مثيل في التاريخ لظاهرة غريبة مثلها، وأسبابها جديرة بالدراسة والتقصي، لأننا في الوقت نفسه متأكدون من أن هذا النضج الفكري المباغت الذي تكون بسرعة تشبه سرعة حدوث الانفجار لم يأت من تلقاء نفسه"(1).

وتتطابق رؤية عالم آخر هو فلوريان كاجوري مع ما ذكره مورتز كانتور، قال

(1) الدكتور سيد معظم حسين: التعليم الإسلامي 128، "مناشدة لإقامة جامعة إسلامية حديثة" حيث

تم اقتباس النص بواسطته، ولم أقف على كتاب كانتور.

ص: 269

كاجوري في كتاب "تأريخ تدوين الرياضيات": "إن العرب يمثلون ظاهرة خارقة في تاريخ المدنية، حيث القبائل الجاهلة المنقسمة على نفسها في الجزيرة العربية، والتي لم تعرف الحكم ولا الحرب، قد انصهرت في أتون الحماس الديني خلال عشر سنوات، وجعلت من نفسها أمة قوية، وبعد مائة عام من مسيرة الفتوحات الجليلة، رأيناهم يتصدرون أمماً غيرهم في الجهد الفكري، وأصبح المسلمون هم علماء زمانهم الأجلاء"(1).

لقد أعاد الإسلام صياغة شخصية الإنسان، ففجر طاقاته الإبداعية الكامنة من أجل العلم والعمل لبناء حضارة إنسانية متوازنة، وكانت نظرية المعرفة الإسلامية بشمولها وتكاملها واتساقها، وسيلته لإحداث التغيير الجذري في كيان الإنسان وبنية المجتمع، تلك النظرية التي غرس القرآن بذرتها وعبَّرت عنها "السنة " في فجر تاريخ الإسلام.

وقامت الدولة الناشئة في المدينة المنورة بمسؤوليتها في بداية الأمر، فقيادتها أكثر وعياً للحاجة إلى التعليم، وهي تواجه مسؤولية إدارة الدولة وحاجاتها المتنوعة للتعليم.

وصدرت البادرة الأولى عن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، عندما أمر بعض المتعلمين من المسلمين بتعليم الآخرين، وأمر بعض الأسرى ببدر بتعليم شباب الأنصار الكتابة مقابل مفاداتهم، وأرسل المعلمين- وسط الأخطار- إلى البوادي للدعوة ولتعليم الناس القرآن وتفقيههم بالدين.

وما إن أشعلت الدولة الفتيلة حتى انطلقت الأمة لتوسع من نطاق التعليم بحيث أصبح لا قبل للدولة باحتواء مؤسساته أو الإشراف عليها.

(1) المصدر السابق.

ص: 270

وهكذا تحولت حركة التعليم إلى كتاتيب وحلقات علم ومجالس في المساجد وفي دور العلماء، وظهرت جذور المدارس الفكرية المتنوعة متمثلة بمدرسة أبي موسى الأشعري في القراءات في البصرة، ومدرسة عبد الله بن مسعود في الفقه في الكوفة، ومدرسة عبد الله بن عباس في التفسير بمكة، والمدرستين البصرية والكوفية في النحو.

والحق أن مسؤولية الدولة عن التعليم كانت محدودة النطاق، إذ تركت للناس حريتهم في التعليم مع أنها منحتهم التشجيع والمؤازرة. وكان الانسجام في الأهداف والتطلعات يوحد بين الحكومة والأمة، فلم تكن انطلاقة التعليم الواسعة تهدد الدولة، بل كانت تحقق لها القوة والاستقرار رغم عدم هيمنتها عليها.

ولا شك في أن حرية التعليم وبعده عن هيمنة الدولة ظلَاّ سمةً مميزةً له طوال القرون اللاحقة، إلى أن ظهرت المدارس والجامعات الأولى في الإسلام، تلك التي رعتها الدولة، غير أنها لم تكن في الحقيقة تحت إشراف الدولة إلا من حيث إمدادها بالنفقات ومساعدتها على البقاء، فقد استمرت حرية التعليم بعد ظهور تلك المؤسسات.

إن مبدأ "مجانية التعليم" وكذلك مبدأ "التعليم للجميع" هما من معطيات ذلك العصر. فقدسية التعليم وارتباطه بالعقيدة جعلت رواده يهدفون إلى خدمة المبدأ عن طريق التعليم بدلاً من التكسب به. وقد استمر هذا المبدأ قروناً طويلة، كان التعليم خلالها شعبياً بما تحمله هذه الكلمة من معنى، يناله الغني والفقير، بل إن حظ الفقراء فيه أعظم من حط الأغنياء، وتفرغهم له وبروزهم فيه كان أكبر، ولم يكن قاصراً على الطبقات الحاكمة والغنيمة، كما هو حال العصور الوسطى الأوربية.

ومنذ بدء حركة التعليم في الإسلام، اقترن العلم بالعمل، فلم يفصل بين العلم وحاجيات الحياة الواقعية طوال عدة قرون، باستثناء تيارات تمثل الترف الفكري والنزوع العقلي النظري، ومن أبرزها مدرسة المعتزلة التي لم يكتب لها الهيمنة على الحياة الفكرية، وإن علا صوتها- بقوة السلطان- زمناً يسيراً في العصر العباسي.

ص: 271

واقتران العلم بالعمل من أهم المبادئ التي صبغت فلسفة التعليم في الإسلام فيما يشبه البراجماتيكية المعاصرة في عمليتها، ويخالفها في ماديتها ونفعيتها، وقد ولَّد هذا الطابع العملي آثاراً تربوية عميقة، وأثمر حضارة باهرة شاركت في بناء صرح التمدن البشري.

إن تقاليد التعليم عند المسلمين مدينه لذلك العصر بمبدأ "التعليم المستمر" طوال الحياة، وهكذا انقطع رجال كثيرون للعلم من المهد إلى اللحد، ويندر أن نجد عالماً ترك التعلم أو اعتقد أنه وصل إلى الكمال. ولو استمر هذا المبدأ يسيطر على حياتنا الثقافية حتى الوقت الحاضر لكان لنا شأن آخر في الحركة الثقافية العالمية.

وقد اهتم الاسلام بتعليم الكبار "فكان الصحابة يتعلمون في كبر سنهم" ولكن الأصل هو البدء بالتعلم عند الصغر، غير أن من فاته ذلك يلقى الباب مفتوحاً أمامه. ومن أبرز خصائص التعليم في ذلك العصر قيامه على الجهود الفردية، فمبدأ "التعلم الذاتي" كان مهيمناً على نشاط العلماء والمتعلمين، حيث ظل العلماء قروناً طويلة يقومون بتعليم أنفسهم بجهودهم الخاصة، دون الارتباط بمؤسسات التعليم، أو تلقي الحوافز التشجيعية من الدولة. والجدير بالذكر أن مبدأ "تراكم المعرفة" و"تجميع العلم" كان من خصائص الحركة الفكرية في القرون الأولى عن طريق تنويع مصادر التلقي والأخذ عن الشيوخ الكثيرين، والرحلة في طلب العلم لتجميعه. تلك الرحلة التي بدأت في عصر الراشدين واتسع نطاقها في القرون التالية، والتي أثمرت التجانس الفكري، والتلاقح الأدبي، والحفاظ على وحدة الهوية الثقافية. كما أثمرت- فيما بعد- الدراسات المتعلقة بالبلدان والسكان والجغرافية والانثروبولوجيا.

إن هذه السمات العامة لبداية التعليم في الإسلام تدعمها النصوص المبعثرة في المصادر التراثية وهي مصادر تحتاج إلى قراءات معاصرة تقف على قيم التعليم وتقاليده في عصر السيرة والراشدين وما بعده من عصور التاريخ الاسلامي، وتحدد

ص: 272