الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القبائل، تتناشد الأشعار وتتفاخر بالأحساب والأنساب، وتزهو بأخبار الكرم والشجاعة والمروءة، من أهم وسائل نقل التراث الذي كان ينمو بإضافة الأجيال اللاحقة على السابقة، وقد هيأت هذه الاجتماعات فرصاً هامة للتلاقح الثقافي واللغوي، ولتوحيد المقاييس النقدية والذوقية، وللتقريب بين لغات العرب، ومهدت بذلك لفهم القرآن الذي أنزل بلغه قريش.
المبحث الأول: السمات العامة للتعليم
إن الاعتماد الكبير على الذاكرة النشيطة في نقل التراث، وعدم اكتراث جمهور العرب بتعلم الكتابة والقراءة، أدَّيا إلى إعاقة ظهور مؤسسات التعليم، فلم يقم منها سوى الكتاب الذي لم ينتشر إلا على نطاق محدود في المراكز الحضرية، مثل مكة والطائف ويثرب، فلم يكن هناك تعليم عام، بل كانت الأمية هي الطاغية، وورد في الحديث:"إنَّا أمة أميه لا نكتب ولا نحسب"(1). وبالتالي لم تكن عندهم تقاليد متبلورة للتعليم، فكان أن حدد الإسلام المعالم كامله، فأوضح أهمية العلم وربطه بالدين، فعزز بذلك مكانة العلماء، وبيَّن آداب التعليم وتقاليده بعمق وشمول، فأصبحت تحتذى طوال القرون اللاحقة، ولا تزال قادرة على إعطائنا الكثير من القيم الثقافية والتربوية الراشدة، إذ ربما تكون من أهم معطيات عصر السيرة والراشدين في نطاق التعليم.
لقد قامت حركة التعليم في عصر السيرة والراشدين على أكتاف رجال يعدون
(1) رواه مسلم: الصحيح 2: 761.
على أصابع اليد، ولكن الحافز الديني القوي- الذي جعل الأمة تحدد أهدافها وتوحد قواها لبلوغها- أوجد وسطاً ملائماً لانتشار التعليم. وبعد زمن يسير طهرت آثار حركة التعليم الجديدة في إظهار الطاقات الكامنة، فإذا بأعداد هائلة تعنى بالفكر والعلم، وتظهر القدرة والإبداع في ميادين شتى، فتسهم في بناء الصرح الثقافي والحضاري الجديد.
ولا شك في أن الانسجام العقيدي والفكري والاجتماعي، ووضوح الرؤية بتحديد الأهداف العامة للدولة والمجتمع، دفعا بقوة حركة التعليم، بل الحركة الثقافية العامة، لمواكبه التقدم العسكري والسياسي، وحل المشكلات الجديدة في الدولة الواسعة. فتحديد وجهة التعليم وأهدافه لأول مرة كان من معطيات عصر السيرة والراشدين، وقد أدت هذه الحوافز القوية والضوابط الجديدة إلى انتشار التعليم بسرعة خارقة، لا تقل دهشة الإنسان أمامها عن دهشته إزاء سرعة الفتوح العسكرية، إذ لا ريب في أن الإسلام أحدث ثورة التعليم التي أثمرت "النضوج الفكري المباغت" وشكلت بذلك "ظاهرة خارقة".
يقول العالم الألماني مورتز كانتور: "إن شعباً ظل قروناً متتابعة معزولاً عن المؤثرات الحضارية التي كان يتعرض لها جيرانه، ولم يؤثر هو نفسه على الآخرين كل هذا الوقت، نهض فجأه وفرض عقيدته وقوانينه ولغته على الأمم الأخرى إلى درجة لا مثيل في التاريخ لظاهرة غريبة مثلها، وأسبابها جديرة بالدراسة والتقصي، لأننا في الوقت نفسه متأكدون من أن هذا النضج الفكري المباغت الذي تكون بسرعة تشبه سرعة حدوث الانفجار لم يأت من تلقاء نفسه"(1).
وتتطابق رؤية عالم آخر هو فلوريان كاجوري مع ما ذكره مورتز كانتور، قال
(1) الدكتور سيد معظم حسين: التعليم الإسلامي 128، "مناشدة لإقامة جامعة إسلامية حديثة" حيث
تم اقتباس النص بواسطته، ولم أقف على كتاب كانتور.
كاجوري في كتاب "تأريخ تدوين الرياضيات": "إن العرب يمثلون ظاهرة خارقة في تاريخ المدنية، حيث القبائل الجاهلة المنقسمة على نفسها في الجزيرة العربية، والتي لم تعرف الحكم ولا الحرب، قد انصهرت في أتون الحماس الديني خلال عشر سنوات، وجعلت من نفسها أمة قوية، وبعد مائة عام من مسيرة الفتوحات الجليلة، رأيناهم يتصدرون أمماً غيرهم في الجهد الفكري، وأصبح المسلمون هم علماء زمانهم الأجلاء"(1).
لقد أعاد الإسلام صياغة شخصية الإنسان، ففجر طاقاته الإبداعية الكامنة من أجل العلم والعمل لبناء حضارة إنسانية متوازنة، وكانت نظرية المعرفة الإسلامية بشمولها وتكاملها واتساقها، وسيلته لإحداث التغيير الجذري في كيان الإنسان وبنية المجتمع، تلك النظرية التي غرس القرآن بذرتها وعبَّرت عنها "السنة " في فجر تاريخ الإسلام.
وقامت الدولة الناشئة في المدينة المنورة بمسؤوليتها في بداية الأمر، فقيادتها أكثر وعياً للحاجة إلى التعليم، وهي تواجه مسؤولية إدارة الدولة وحاجاتها المتنوعة للتعليم.
وصدرت البادرة الأولى عن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، عندما أمر بعض المتعلمين من المسلمين بتعليم الآخرين، وأمر بعض الأسرى ببدر بتعليم شباب الأنصار الكتابة مقابل مفاداتهم، وأرسل المعلمين- وسط الأخطار- إلى البوادي للدعوة ولتعليم الناس القرآن وتفقيههم بالدين.
وما إن أشعلت الدولة الفتيلة حتى انطلقت الأمة لتوسع من نطاق التعليم بحيث أصبح لا قبل للدولة باحتواء مؤسساته أو الإشراف عليها.
(1) المصدر السابق.
وهكذا تحولت حركة التعليم إلى كتاتيب وحلقات علم ومجالس في المساجد وفي دور العلماء، وظهرت جذور المدارس الفكرية المتنوعة متمثلة بمدرسة أبي موسى الأشعري في القراءات في البصرة، ومدرسة عبد الله بن مسعود في الفقه في الكوفة، ومدرسة عبد الله بن عباس في التفسير بمكة، والمدرستين البصرية والكوفية في النحو.
والحق أن مسؤولية الدولة عن التعليم كانت محدودة النطاق، إذ تركت للناس حريتهم في التعليم مع أنها منحتهم التشجيع والمؤازرة. وكان الانسجام في الأهداف والتطلعات يوحد بين الحكومة والأمة، فلم تكن انطلاقة التعليم الواسعة تهدد الدولة، بل كانت تحقق لها القوة والاستقرار رغم عدم هيمنتها عليها.
ولا شك في أن حرية التعليم وبعده عن هيمنة الدولة ظلَاّ سمةً مميزةً له طوال القرون اللاحقة، إلى أن ظهرت المدارس والجامعات الأولى في الإسلام، تلك التي رعتها الدولة، غير أنها لم تكن في الحقيقة تحت إشراف الدولة إلا من حيث إمدادها بالنفقات ومساعدتها على البقاء، فقد استمرت حرية التعليم بعد ظهور تلك المؤسسات.
إن مبدأ "مجانية التعليم" وكذلك مبدأ "التعليم للجميع" هما من معطيات ذلك العصر. فقدسية التعليم وارتباطه بالعقيدة جعلت رواده يهدفون إلى خدمة المبدأ عن طريق التعليم بدلاً من التكسب به. وقد استمر هذا المبدأ قروناً طويلة، كان التعليم خلالها شعبياً بما تحمله هذه الكلمة من معنى، يناله الغني والفقير، بل إن حظ الفقراء فيه أعظم من حط الأغنياء، وتفرغهم له وبروزهم فيه كان أكبر، ولم يكن قاصراً على الطبقات الحاكمة والغنيمة، كما هو حال العصور الوسطى الأوربية.
ومنذ بدء حركة التعليم في الإسلام، اقترن العلم بالعمل، فلم يفصل بين العلم وحاجيات الحياة الواقعية طوال عدة قرون، باستثناء تيارات تمثل الترف الفكري والنزوع العقلي النظري، ومن أبرزها مدرسة المعتزلة التي لم يكتب لها الهيمنة على الحياة الفكرية، وإن علا صوتها- بقوة السلطان- زمناً يسيراً في العصر العباسي.
واقتران العلم بالعمل من أهم المبادئ التي صبغت فلسفة التعليم في الإسلام فيما يشبه البراجماتيكية المعاصرة في عمليتها، ويخالفها في ماديتها ونفعيتها، وقد ولَّد هذا الطابع العملي آثاراً تربوية عميقة، وأثمر حضارة باهرة شاركت في بناء صرح التمدن البشري.
إن تقاليد التعليم عند المسلمين مدينه لذلك العصر بمبدأ "التعليم المستمر" طوال الحياة، وهكذا انقطع رجال كثيرون للعلم من المهد إلى اللحد، ويندر أن نجد عالماً ترك التعلم أو اعتقد أنه وصل إلى الكمال. ولو استمر هذا المبدأ يسيطر على حياتنا الثقافية حتى الوقت الحاضر لكان لنا شأن آخر في الحركة الثقافية العالمية.
وقد اهتم الاسلام بتعليم الكبار "فكان الصحابة يتعلمون في كبر سنهم" ولكن الأصل هو البدء بالتعلم عند الصغر، غير أن من فاته ذلك يلقى الباب مفتوحاً أمامه. ومن أبرز خصائص التعليم في ذلك العصر قيامه على الجهود الفردية، فمبدأ "التعلم الذاتي" كان مهيمناً على نشاط العلماء والمتعلمين، حيث ظل العلماء قروناً طويلة يقومون بتعليم أنفسهم بجهودهم الخاصة، دون الارتباط بمؤسسات التعليم، أو تلقي الحوافز التشجيعية من الدولة. والجدير بالذكر أن مبدأ "تراكم المعرفة" و"تجميع العلم" كان من خصائص الحركة الفكرية في القرون الأولى عن طريق تنويع مصادر التلقي والأخذ عن الشيوخ الكثيرين، والرحلة في طلب العلم لتجميعه. تلك الرحلة التي بدأت في عصر الراشدين واتسع نطاقها في القرون التالية، والتي أثمرت التجانس الفكري، والتلاقح الأدبي، والحفاظ على وحدة الهوية الثقافية. كما أثمرت- فيما بعد- الدراسات المتعلقة بالبلدان والسكان والجغرافية والانثروبولوجيا.
إن هذه السمات العامة لبداية التعليم في الإسلام تدعمها النصوص المبعثرة في المصادر التراثية وهي مصادر تحتاج إلى قراءات معاصرة تقف على قيم التعليم وتقاليده في عصر السيرة والراشدين وما بعده من عصور التاريخ الاسلامي، وتحدد