الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهنا تدخل كاتب الوحي زيد بن ثابت وهو من الخزرج فقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، ونحن أنصارهم كما كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم". فقال أبو بكر "جزاكم الله خيرا من حي يا معشر الأنصار، وثبت قائلكم، والله لو فعلتم غير ذلك لما صالحناكم"(1). وهكذا فإن الخزرج هم الذين قاموا بالتنازل إتباعا للحق ومراعاة للمصلحة الإسلامية، ولم يكن التنازل بسبب عدم رغبة الأوس في تولي الخزرج الخلافة- كما يزعم أبو مخنف- (2)
المبحث الثاني: خلافة أبي بكر الصديق (رضى الله عنه)
لقد جرى الترشيح بعد أن استقر الرأي على استخلاف أحد المهاجرين، فرشح أبو بكر أحد اثنين، عمر وأبي عبيدة. فقال عمر:"بل نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"(3). وذكَّر بفضل أبا بكر قائلا: "ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر أن
كتاب الوفاة 75، والطبراني: المعجم الكبير 7: 56.
(1)
أحمد: المسند 5: 185 بإسناد صحيح، وابن أبي شيبة: المصنف 4: 561، وابن سعد: الطبقات الكبرى 3: 212، والبلاذري: أنساب الأشراف 65، والطبراني: المعجم الكبير 5: 114. وصححه ابن كثير (البداية والنهاية 5: 281).
(2)
الطبري: تأريخ 3: 221 - 222 عن أبي مخنف.
(3)
البخاري: الصحيح 8: 211 و 5: 8.
يصلي بالناس، فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ قالوا: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر" (1). وذكرهم بموقفه في حادثة الهجرة، ثم بايعه عمر وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار (2).
"ومن استعراض الروايات الصحيحة لاجتماع السقيفة ومبايعة أبي بكر خليفة يتبين أن الاجتماع لم يدم طويلاً، ولم تجر فيه مناقشات طويلة بين المهاجرين والأنصار، أو تنافس وصراع على تولي الخلافة، أو حدَّة في الكلام أو تهديدات أو عراك بالأيدي بين المجتمعين. وهذا كله مما صورته بعض الروايات الضعيفة التي وردت عن اجتماع السقيفة، والتي تناقلها المؤلفون المعاصرون (3) فشوَّهوا الصورة الوضاءة لذلك الاجتماع التأريخي الرفيع والذي قرر مصير الخلافة والدولة الإسلامية بحزم وترفع وإحساس كبير بالمسؤولية يستعلى على التفاهات والأهواء.
ولم يكن أبو بكر رضي الله عنه حريصاً على الإمارة بل كان كارهاً لتوليها لما يعلمه من عظم المسؤولية أمام الله تعالى وخوفه من التقصير فيها، رغم أن الصحابة كانوا يعلمون أنه أحقهم بها، وأقواهم عليها، وقد صارح أبو بكر المسلمين بمشاعره مرارا: "والله ما كنتُ حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلةً قط، ولا كنت راغباً فيها، ولا سألتها الله عز وجل في سر ولا علانية، ولكني أشفقت من
(1) النسائي: السنن 2: 74 - 75 وحسنه الألباني (صحيح سنن النسائي 1: 168)، وابن سعد: الطبقات الكبرى 2: 224 و 3: 178، وابن أبي شيبة: المصنف 14: 567، وأحمد: المسند 1: 213 (ط. شاكر) وصحح إسناده أحمد شاكر، وله شاهد 1: 172 (ط. شاكر) وصححه أحمد شاكر. وأحمد: فضائل الصحابة 1: 182 بإسناد حسن.
(2)
البخاري: الصحيح 8: 211، والترمذي: الشمائل المحمدية 308، والنسائي: فضائل الصحابة 5، وكتاب الوفاة 76.
(3)
عبد العزيز بن سليمان المقبل: خلافة أبي بكر الصديق 42.
الفتنة، ومالي في الإمارة من راحة، ولكن قُلِّدتُ أمراً عظيماً مالي به من طاقة، ولا يد إلا بتقوية الله عز وجل، ولوددتُ أن أقوى الناس عليها مكاني اليوم" (1).
فما أعظمها من مشاعر، وما أرفع صاحبها وأوعاه بحق الله تعالى وحقوق الرعية، وما أعمق تدينه وأحسن توكله، وأجمل تواضعه وأصدق أمانيه. إنه لم يجد أمامه إلا أن يقبل تولي الخلافة ليقود الأمة في طريق الوحدة والإيمان ورفع راية الرسالة الإسلامية رغم أن نفسه لا تطاوعه في تحمل المسؤولية الجسيمة خوفاً من التقصير والتفريط .. وهكذا كان توليه الخلافة تضحية منه لصالح الإسلام وأمة الإسلام وليس مغنماً يسعى إليه، وقد أعانه الله لصدق نيته وحسن وجهته.
وقد عرفت بيعة أبي بكر في السقيفة بالبيعة الخاصة وكانت يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 11 هـ، وفي اليوم التالي (الثلاثاء)(2) خرج إلى المسجد فبايعه الناس فيما عرف بالبيعة العامة بعد خطبة ألقاها عمر بن الخطاب اعتذر فيها عن موقفه من حادثة الوفاة النبوية وإنكارها، وبين مكانة أبي بكر في الصحبة والهجرة، وأبو بكر صامت لا يتكلم، حتى انتهى عمر من خطبته وطلب من أبي بكر الصعود إلى المنبر لتلقي البيعة من الناس (3). ويحكي شاهد عيان طريقة البيعة لأبي بكر، يجتمع عليه العصابة فيقول لهم: "بايعوني على السمع والطاعة لله
(1) أخرجه موسى بن عقبة في مغازيه (الذهبي: تأريخ الإسلام 3: 8، وابن كثير: البداية والنهاية 6: 341 وقال ابن كثير: إسناده جيد، البداية والنهاية 5: 281، والحاكم: المستدرك 3: 66 وصححه ووافقه الذهبي).
(2)
عبد العزيز المقبل: خلافة أبي بكر 57 - 58، والطبري: تأريخ 3: 199، والسهيلي: الروض الأنف 4: 270، وابن كثير: البداية والنهاية 5: 286، والخزاعي: تخريج الدلالات السمعية 36، وابن حجر: فتح الباري 8: 129.
(3)
البخاري: الصحيح 9: 100، وعبد الرزاق: المصنف 5: 437.
ولكتابه ثم للأمير" (1).
وبعد البيعة العامة هذه، خطب أبو بكر في الناس قائلاً:"إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه- إن شاء الله-، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه- إن شاء الله-. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم اللهُ بالبلاء. أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيتُ الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله"(2).
وقد تضمنت الخطبة الوجيزة هذه علاقة الحاكم بالمحكومين، فبين أن مجيئه للخلافة بإرادة الأمة وبتعاقد واضح، الطاعة من الناس مقابل التزام الحاكم بالشريعة، ورقابة الأمة على سياسته، وإعانته في الخير، وتصحيح سياسته إذا انحرف، كما فيها بيان الالتزام بإقامة العدل والجهاد وتنظيف المجتمع من الانحراف الخلقي، بالإضافة إلى ما تكشف عنه مقدمة الخطبة من تواضع الصديق الجم.
والحق أن انتخاب أبي بكر للخلافة يوضح استعلاء قيم الإيمان وخضوع مقاييس الشخصية لها، لأن أبا بكر من تيم، وتيم من أضعف عشائر قريش.
وتدل الروايات الصحيحة على غضب علي بن أبي طالب لعدم استشارته في أمر الخلافة، بل تشير رواية الصحيحين على أن بيعته تأخرت ستة أشهر، وتربط بين
(1) الحارث بن أبي أسامة: المسند بإسناد حسن (الهيثمي: بغية الباحث 3: 753).
(2)
ابن هشام: السيرة النبوية 4: 66 وصحح إسناده ابن كثير (البداية والنهاية 5: 280 و 6: 340). وعبد الرزاق: المصنف 11: 336 من طريق معمر قال: حدثني بعض أهل المدينة (بعض أصحابي).