الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جـ - انتشار التعليم الاسلامي في البوادي والأمصار الجديدة:
أخذ التعليم في البوادي القريبة من مكة والمدينة ينتشر منذ عصر الرسالة، فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بعثات التعليم إلى البادية، وكان منها وفد الرجيع إلى عضل والقارة لتعليمهم شرائع الاسلام، وكان يضم عشرة من الصحابة رضي الله عنهم، وقد تعرض بنو لحيان للوفد فقتلوهم ولم ينج منهم سوى اثنين أسروهما وباعوهما لقريش فقتلهما (1). ووفد بئر معونة كان يضم سبعين من القراء توجهوا إلى نجد حيث تعرضوا لغدر الأعراب وقتلوا جميعاً باستثناء واحد عاد بخبرهم إلى المدينة (2).
وقد أبقى الرسول صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه بمكة بعد الفتح لتفقه الناس في الذين ويعلمهم القرآن (3)، ثم بعثه قاضياً إلى الجند- من اليمن- ليعلم الناس القرآن وشرائع الاسلام ويقضي بينهم (4). "وكان معاذ معلماً يتنقل في عمالة كل عامل باليمن وحضرموت"(5).
كذلك بعث الرسول صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى أهل نجران، بناء على طلب وفدهم "أن يبعث من يعلمهم السنة والإسلام"(6)، ثم أرسل إليهم عمرو بن حزم رضي الله عنه بعده، وهو ابن سبع عشرة سنة، ليفقههم
(1) البخاري: الصحيح (فتح الباري 7: 38).
(2)
المصدر نفسه 7: 386 - 388.
(3)
ابن هشام: السيرة 2: 500، والخزاعي: تخريج الدلالات السمعية 67
(4)
ابن سعد: الطبقات 7: 388، وابن عبد البر: الاستيعاب 1: 246، والخزاعي: تخريج الدلالات السمعية 67.
(5)
الطبري: تاريخ الرسل والملوك 1: 1852 - 1853 (ط. ليدن).
(6)
أحمد: المسند 3: 212، وابن سعد: الطبقات 3: 411 - 412.
في الدين ويعلمهم القرآن ويأخذ صدقاتهم، وذلك في السنة العاشرة للهجرة (1).
وتنقطع أخبار إرسال البعثات التعليمية في خلافة الصديق رضي الله عنه، وربما يرجع ذلك إلى أحداث حركة الردة الخطيرة حيث لم تعد البوادي آمنة. ثم تنشط هذه البعثات بعد إعادة توحيد الجزيرة والتوسع في الفتوح في خلافة عمر رضي الله عنه.
وقد بعث عمر رضي الله عنه رجلاً يقال له أبو سفيان يستقرئ أهل البوادي القرآن فمن لم يقرأ ضربه بالسوط (2).
وقد اعتبر عمر رضي الله عنه التعليم من المسؤوليات المنوطة بالولاة في الأمصار فقد ورد في إحدى خطبه: "اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار، فإني بعثتهم يعلمون الناس دينهم وسنة نبيهم"(3)، وقد أكد هذا المعنى في مناسبة أخرى (4).
وكان عمال عمر رضي الله عنه على الأمصار يدركون هذه المسؤولية، فقد صرَّح بها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه حين قدم البصرة والياً فقال:"بعثني إليكم عمر بن الخطاب أعلمكم كتاب ربكم وسنتكم"(5). وكان أبو موسى الأشعري يقرئ تلاميذه القرآن بعد أن يجلسهم حلقاً حلقاً، وعليه بردان أبيضان (6).
وقد أولى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه القراء في البصرة عناية خاصة،
(1) الطبري: تاريخ الرسل والملوك 1: 1852، والخزاعي: تخريج الدلالات السمعية 79.
(2)
ابن حجر: الإصابة 1: 151.
(3)
أحمد: المسند 1: 48، وابن سعد: الطبقات 3: 1، 149.
(4)
ابن سعد: الطبقات 3: 281.
(5)
الدارمي: سنن 1: 135.
(6)
الفاكهي: أخبار مكة 4: 10 بإسناد صحيح.
فازداد عددهم وقويت مكانتهم الفكرية والسياسية، وكان لهم دور في كثير من الأحداث في صدر الاسلام (1).
ولم يكتف الخليفة عمر رضي الله عنه بجهود ولاة الأمصار في نشر التعليم، بل دعمها بالعلماء الذين كان يرسلهم من المدينة، محملين بوصاياه
…
فقد بعث عشرة من الصحابة رضي الله عنهم وكان فيهم عبد الله بن مغفل المزني ليفقهوا الناس بالبصرة (2).
كذلك بعث عمران بن حصين الخزاعي رضي الله عنه إلى البصرة ليفقه أهلها وكان من فقهاء الصحابة (3).
ويروي قرظة بن كعب أنه لما أراد الذهاب مع عدد من أصحابه إلى الكوفة شيعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: "إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جرِّدوا القرآن، وأقِّلوا الرواية عن رسول الله"(4).
وقد سير عمر عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما إلى الكوفة ليعلم أهلها أمور دينهم (5). وكان نصيب الكوفة من الصحابة كبيراً إذ هبط فيها ثلاثمائة من أصحاب الحديبية وسبعون من أهل بدر (6).
(1) صالح أحمد العلي: دراسات في تطور الحركة الفكرية 15.
(2)
ابن حجر: الإصابة 4: 243.
(3)
ابن حجر: الإصابة 4: 705، 706.
(4)
ابن سعد: الطبقات 6: 7.
(5)
ابن حجر: الإصابة 4: 235
(6)
ابن سعد: الطبقات 6: 9
وأرسل عمر معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبا الدرداء رضي الله عنهم إلى الشُام، لأن أهلها بحاجة إلى من يعلمهم القرآن الكريم (1). فكان عبادة في الشام قاضياً ومعلماً (2).
وقد نظم أبو الدرداء رضي الله عنه طلابه، ووزعهم في مجموعات لكثرتهم واستحالة قيامه بتعليمهم بطريقة مباشرة، وراعى تدرجهم في العلم عند تقسيمهم، فكانت المجموعات متباينة المستوى. قال سويد بن عزيز: كان أبو الدرداء رضي الله عنه إذا صلى الغداة في جامع اجتمع الناس للقراءة عليه، فكان يجعلهم عشرة عشرة، وعلى كل عشرة عريفاً، ويقف هو في المحراب يرمقهم ببصره، فإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفهم، فإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء رضي الله عنه فسأله عن ذلك، وكان ابن عامر عريفاً على عشرة، فلما مات أبو الدرداء رضي الله عنه خلفه ابن عامر. قال مسلم بن مشكم- أحد تلاميذ أبي الدرداء-: قال لي أبو الدرداء رضي الله عنه: أعدد من يقرأ عندي القرآن. فعددتهم ألفاً وستمائة ونيفاً، وكان لكل عشرة منهم مقرئ، وأبو الدرداء يكون عليهم قائماً، وإذا أحكم الرجل منهم تحوَّل إلى أبي الدرداء رضي الله عنه (3).
وقد اهتم قادة الفتح في الشام بتعليم المسلمين القراءة والكتابة حيث طلبوا من أسرى قيسارية تعليم المسلمين الكتابة، وقد وضعوا في الجرف وهو معسكر
(1) ابن عساكر: تاريخ دمشق (تحقيق د. شكري فيصل وآخرين) ص 23 وابن حجر: الإصابة 2: 626.
(2)
ابن عبد البر: الاستيعاب 2: 424.
(3)
ابن الجزري: غاية النهاية في طبقات القراء 1: 606 - 607. ويعرض ابن عساكر في تاريخ دمشق صوراً أخرى 1: 399 - 400.
المسلمين في فلسطين (1).
وقد ظهرت الكتاتيب في الشام بعد الفتح، وتعلم فيها أبناء الفاتحين. يقول أدهم بن محرز الباهلي الحمصي:"أنا أول مولود ولد بحمص- يعني من المسلمين- وأول مولود رئي في كتف- يعني يحمل كتفاً مكتوباً فيه القرآن- وأنا أختلف إلى الكتاب أتعلم الكتاب- يعني القرآن-"(2). وممن تعلم في كتاتيب الشام وهو صبي إياس بن معاوية المزني قاضي البصرة المشهور (3).
وقد شاركت المرأة في نشر التعليم في الشام منذ وقت مبكر، قال عبد ربه بن سليمان: كتبت لي أم الدرداء في لوحي فيما تعلمني (تعلموا الحكمة صغاراً تعملوا بها كباراً) و (إن لكل حاصد ما زرع من خير أو شر)(4).
ويبدو أن التعليم في الشام كان أكثر مركزية من بقية الأمصار لأن عمر رضي الله عنه "لما افتتح البلدان كتب إلى أبي موسى الأشعري، وهو على البصرة، يأمره أن يتخذ للجماعة مسجداً، ويتخذ للقبائل مساجد، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة وشهدوا الجمعة. وكتب إلى سعد بن أبي وقاص، وهو على الكوفة بمثل ذلك. وكتب إلى عمرو بن العاص، وهو على مصر بمثل ذلك. وكتب إلى أمراء أجناد الشام: لا يتبدوا إلى القرى ويتركوا المدائن، وأن يتخذوا في كل مدينة مسجداً واحداً، ولا يتخذوا للقبائل مساجد كما اتخذ أهل الكوفة والبصرة ومصر.
(1) البلاذري: فتوح البلدان 193.
(2)
ابن بدران: تهذيب تاريخ دمشق الكبير لابن عساكر 2: 367.
(3)
المصدر السابق 3: 180.
(4)
ابن عساكر: تاريخ دمشق 19: ق 408. ترجمة هجيمة بنت حيي أم الدرداء.