الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد: التراث الثقافي قبل الإسلام
يبدو أن من المتعذر الكلام عن حركة التعليم، واقعه ومداه ومستوياته ومناهجه ومؤسساته بصورة دقيقة وشاملة للمنطقة الواسعة التي كان الإسلام يحكمها في عصر السيرة والراشدين، فقد امتد الإسلام في برهة وجيزة من أطراف خراسان الشرقية حتى أفريقية (تونس)، ومن شرق الأناضول حتى البحر العربي، وهي منطقة تبلغ مساحتها (3500000) ميل مربع (1)، وتشتمل على مراكز الحضارة العالمية القديمة، في بلاد الرافدين ووادي النيل، حيث قامت الحضارات السومرية والآشورية والبابلية في العراق، والحضارة الفرعونية بمصر.
ورغم أن التاريخ يحدثنا عن الكتابة وظهورها في العراق (3000 قبل الميلاد) وعن مكتبة آشور بانيبال، ومجموعة الألواح التي اكتشفت في مدينة نُفَّر وحدها، والتي تضم (30000) رقيم طيني في شتى صنوف المعرفة العظيمة (2)، ومسلة حمرابي ونصوصها القانونية، وعن بقية مظاهر الرقي الأدبي والفني المتنوعة الأخرى في العراق.
كما يحدثنا عن الكتابة الهيروغليفية والآثار الفرعونية ذات الدلالة القوية على تقدم المصريين في العلم والحضارة، وخاصة الطب والهندسة والرسم والنحت، رغم هذا كله فإن هذه الحضارات كانت قد اندثرت قبل ظهور الإسلام بزمن بعيد. كما
(1) محمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية (لاحظ الخارطة مقابل: 542).
(2)
وزارة الثقافة والأعلام العراقية: العراق في التاريخ 65، 69.
اندثرت حضارات معين وسبأ وحمير في اليمن، حيث انتشرت الكتابة وعرف خط المسند.
وما نعرفه عن مراكز العلم والثقافة العالمية عند ظهور الإسلام يبدو ضئيلاً جداً، فالقوى العالمية المعاصرة لظهوره كانت متمثلة بالإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية وقد أزال الإسلام الأولى، وحسر الثانية عن حوض البحر المتوسط الجنوبي والشرقي حيث مستعمراتها الغنية. لكنها بقيت تناهضه وتعارضه بدينها وثقافتها وتتبادل معه الخبرات عبر اتصالات الحرب والسلام.
ومن هذه المعلومات الضئيلة التي حفظها التاريخ، عرفنا مركزاً ثقافياً مهماً في علوم الطب والفلسفة، يتمثل في مكتبة الإسكندرية الشهيرة التي حافظت على الثقافة الإغريقية والكتب البابلية التي اعتكف العلماء على ترجمتها وشرحها (1)، ومركزاً آخر في جند يسابور، حيث أنشأ كسرى انوشروان (531 - (578) م) المدارس العليا لتعليم الطب، كما أمر بنقل كتب علمية من اللغات السريانية واليونانية والسنسكريتية إلى البهلوية التي كانت في ذلك العصر لغة الفرس (2). وثمة إشارات إلى أنشطة فكرية في الأديرة النصرانية أو المدارس اليهودية، وخاصة في الرها حيث ينشط السريان. وإشارات أخرى إلى المعابد المصرية القديمة التي حفظت كتب علماء مصر القدماء، ومنها معبد سيرابيس بالإسكندرية (3) ومعبد أخميم الذي أقامه اليونان في مصر العليا، وكان يطلق عليه "دار الحكمة لقدماء اليونان"(4).
(1) ابن النديم: الفهرست 239 - 240، والقفطي: تاريخ الحكماء 71، 356.
(2)
ناللينو: علم الفلك- تاريخه عند العرب 180 - 181.
(3)
المقريزي: خطط 133.
(4)
ابن النديم: الفهرست 238، 352.
ونقرأ ملحوظات عن "مدى عناية الأمم القديمة بالعلوم عند صاعد الأندلسي (ت (462) هـ) في كتابه (طبقات الأمم)، فقد ذكر عناية بعض الشعوب بالعلم، وهم: الهنود، والفرس، والكلدان، واليونان، والروم، وأهل مصر، والعرب، وبنو إسرائيل"(1).
وكان اهتمام هذه الشعوب ينصب على التاريخ، والأدب، والفلسفة، والطب، والفلك، والإسرائيليات (تاريخ الأنبياء). ومن الواضح أن أياً من هذه العلوم المدونة باللغات الأجنبية لم يترك أثراً على الثقافة والتعليم في عصر السيرة والراشدين ماعدا الإسرائيليات التي اطلع عليها- بحذر شديد- أفراد معدودون من الصحابة.
ولكن- للأسف- لم يحفظ لنا التاريخ ما يكفي لتصوير واقع التعليم في المنطقة الواسعة التي حكمها الإسلام في عصر السيرة والراشدين، والتي يتنوع سكانها مابين عرب وفرس وسريان وكرد وأرمن وقبط، وتتنوع معهم ثقافاتهم وأديانهم وعقائدهم التي حاولت التشبث بالبقاء طويلاً مستغلة ظروف الحرية الدينية التي أتاحها الإسلام. ومن ثم فنحن لا نعرف على وجه التحديد طبيعة المؤسسات التعليمية في المناطق المفتوحة، وعلاقتها بالدولة والمجتمع، ولا نعرف إلى أي مدى كان التعليم منتشراً وما موازين الثقافة آنذاك، ولا نعرف شيئاً عن أعداد المتعلمين ومستوياتهم، ومستوى المعلمين وطبيعة المعلومات التي يقدمونها للطلبة، ولا علاقة مراكز الثقافة ومؤسسات التعليم ببعضها داخل الدولة الواحدة، وصلاتها مع مثيلاتها في الدول الأخرى. ثم ما مآل ذلك كله بعد الفتح الإسلامي؟.
إن التاريخ لا يرد على تساؤلنا، ولعله لن يفعل ذلك إلى الأبد، إلا أن نقف على مصادر جديدة لمعرفتنا يكتنزها باطن الأرض، أو تختفي بين أكداس الكتب الكثيرة
(1) صالح أحمد العلي: تاريخ العلماء وفهارس المصنفات في المصادر العربية (مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد الرابع والثلاثون 1: 6 - 7).
التي لا تزال حبيسة لم يعرض لها أحد بالفهرسة والدراسة، فقد زادت معلوماتنا التاريخية خلال العقدين الأخيرين بعد أن نشرت للمرة الأولى مجموعة من المصادر التاريخية، مما يبعث الأمل في المستقبل. أما معلوماتنا عن واقع التعليم في الحجاز في عصر السيرة والراشدين فإنها وإن كانت مشتتة إلا أنها أكثر وضوحاً، بسبب عناية المؤرخين المسلمين بهذه الفترة، وتقييدهم لأخبار السيرة النبوية، وأخبار الخلفاء الراشدين بتفصيل، لما تمثله من أهمية دينية وتشريعية.
لقد وردت معلومات متناثرة عن معرفه أفراد من العرب في الحجاز بالكتابة والقراءة والحساب، حيث استدعت ذلك ضرورات الحياة، وخاصة في المجتمع المكي التجاري، أو حيث الأقلية اليهودية المتمركزة في يثرب، والتي كانت تمارس التجارة والزراعة وتحتفظ بتراثها الديني وكتابتها بالعبرانية.
ولا شك في أن أسماء المتعلمين التي أوردتها المصادر لا تمثل إحصاء دقيقاً، ولكن ينبغي أن لا يبالغ في تصور انتشار التعليم على نطاق أوسع مما أوردت، لأن قلة عدد المتعلمين هي التي استرعت انتباه الإخباريين لذكر أسمائهم.
ويذكر البلاذري أن عدد الكاتبين من قريش عند ظهور الإسلام كان سبعة عشر رجلاً (1)
وقد سمَّت المصادر بعض الكاتبين، فقد كان أمية بن أبي الصلت نظر الكتب وقرأها في الجاهلية (2)، وكذلك قيس بن نشبه الذي "كان يتأله في الجاهلية وينظر في الكتب"(3)، وكان كردوس بن عمرو "يقرأ الكتب وينقل عبارات من
(1) البلاذري: فتوح البلدان 660 - 661.
(2)
البلاذري: فتوح البلدان 5: 504.
(3)
ابن حجر: الإصابة 1: 250.
الإنجيل" (1).
وقد ذكر القرآن الكريم معرفة بعض اليهود بالكتابة، وذلك في الآية:(فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون)(2).
ولا شك أن ورود مصطلحات الكتابة وأدواتها في القرآن الكريم كاللوح والقرطاس والقلم والمداد يدل على معرفة المخاطبين بها.
وكذلك فإن المستوى البياني والفكري للقرآن الكريم يبين المستوى الثقافي للعرب وقت نزوله، فما فيه من أوجه البلاغة ومعاني الحكمة، والمحاججات والأقيسة العقلية كل ذلك يحتاج فهمه إلى مستوى ثقافي وذوق لغوي وقدرة عقلية. ثم إن القرآن معجزة بيانية أولاً- وإن ظهرت للبعض فيه أوجه أخرى للإعجاز- تحدى الله بها العرب لعنايتهم الفائقة بفن القول، حتى صار شغلهم الشاغل في ندواتهم، بل في سائر حياتهم. وهل يبلغ التحدي مداه والإعجاز حده إلا عندما تعجز أمة (فن القول) عن أن تقول مثل القرآن؟.
ولا غرابة أن يرتفع مستوى الثقافة آنذاك مع قلة عدد الكاتبين، بل ربما كان ذلك أدعى إلى حفظ الصدر وحدَّة الفكر واعتماد السليقة، فلابد من التمييز بين (الثقافة) و (تعلم الكتابة)، فالعلم والتقاليد يمكن نقلهما من جيل إلى آخر عن طريق التواصل بين الأجيال حتى في المجتمعات الأمية. وقد قامت العائلة والقبيلة بنقل التراث الثقافي في المجتمع العربي قبل الإسلام، وكانت الأسمار في مجلس القبيلة الذي يحضره الشعراء والنسابون والإخباريون، ثم الأسواق الأدبية، التي تجتمع فيها
(1) ابن حجر: الإصابة 5: 640.
(2)
البقرة 79.