الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: نظام الخلافة
كانت فكرة الأمة الواحدة، والدولة الواحدة التي تسودها أحكام الشريعة في داخلها؛ والرغبة القوية في تبليغ رسالة الإسلام خارج حدودها قد تمكنت من النخبة المسلمة عندما واجهت الحادثة الأليمة التي تمثلت بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد عبر أنس بن مالك عن أثر الحادث في النفوس:"لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء .. وما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا"(1). ولفرط الذهول كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم (2) .. ولكن ربه أرسل إليه كما أرسل إلى موسى، فلبث عن قومه أربعين ليلة (3) .. وأخذ بقائم سيفه وقال: لا أسمع أحداً يقول مات رسول الله إلا ضربته بسيفي هذا"، وطلب الناس لسالم بن عبيد الأشجعي أن يدعو أبا بكر رضي الله عنه فرآه في المسجد فأخبره خبر الوفاة (4)، فدخل أبو بكر على عائشة وكشف عن وجه
(1) أحمد: المسند 3: 221، والترمذي: سنن 5: 588 وقال: حديث غريب صحيح، وابن ماجة: السنن 1: 522، وقال ابن كثير: إسناده على شرط الصحيحين (البداية والنهاية 5: 308)
(2)
البخاري: الصحيح 5: 8.
(3)
عبد الرزاق: المصنف 5: 433 بإسناد صحيح، وابن سعد: الطبقات الكبرى 2: 266، 269 بإسناد رجاله ثقات.
(4)
الترمذي: الشمائل المحمدية 308، والنسائي: كتاب الوفاة 73 وصححه الألباني (مختصر
النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجَّى ببرد حبرة، ثم قبله وبكى، وقال:"بأبي أنت وأمي، طبت حياً وميتاً" ثم خطب الناس معلناً الوفاة: "ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" واستشهد بالقرآن فنشج الناس يبكون (1).
وقد طهر في الموقف رجحان علم الصديق، ورباطة جأشه، وشجاعته وجرأته، وقوة رأيه (2).
ورغم الذهول الذي أصاب النخبة وعامة المسلمين فإن أهمية إقامة السلطة في الإسلام جعلتهم يتحركون في اتجاه اختيار الحاكم قبل أن ينتهوا من تشييع الجسد الشريف إلى مثواه. وقد يقف خلف هذا التحرك السريع إدراك النخبة بخطورة الأوضاع المحيطة بالكيان الإسلامي الذي مضى عليه عقد واحد من السنين، تأسست فيه الدولة واتسعت رقعتها وكسبت أنصارا لها داخل المدن الحجازية الثلاث خاصة في حين بقيت القبائل الكبيرة في أعدادها والمنتشرة في البوادي والصحراء تحيط بالمراكز الإسلامية من كل مكان ..
وكانت الضوابط الشرعية لاختيار المسؤول الأول للدولة تنحصر في قرشيته ومكانته التي يحددها قدمه في الإسلام وخدمته للدعوة وللدولة ومنزلته لدى النبي صلى الله عليه وسلم وإمكان إجماع الأمة أو أكثرها على شرعية توليه لرئاسة الدولة وخلافة النبوة.
وكانت النخبة تتمثل في المهاجرين الذين تطلعوا إلى أبي بكر رضي الله عنه
الشمائل المحمدية 198)، والطبراني: المعجم الكبير 7: 56 وقال الهيثمي: رجاله ثقات (مجمع الزوائد 5: 182).
(1)
البخاري: الصحيح 2: 90 و 5: 8 و 6: 17.
(2)
ابن حجر: فتح الباري 7: 30 و 8: 146.
وبعضهم كان منشغلاً مع علي رضي الله عنه بتشييع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الأنصار الذين التفوا حول زعيم الخزرج سعد بن عبادة وعقدوا اجتماعاً في سقيفة بني ساعدة لمناقشة الموقف الجديد .. فالأنصار هم السكان الأصليون للمدينة، وقد آووا المهاجرين ونصروا الإسلام بأرواحهم وأموالهم، وهيئوا له فرص الاستقرار والانتشار، وعرفوا بإيثارهم وصبرهم وجهادهم وتضحياتهم أفلا يكون لهم الحق في رئاسة الدولة ورعاية الإسلام؟
وقد بلغ خبر اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة إلى المهاجرين وهم مجتمعون مع أبي بكر الصديق رضى الله عنه لترشيح من يتولى الخلافة (1). فقال المهاجرون لبعضهم: "انطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار، فإن لهم في هذا الحق نصيباً"(2). قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان، فذكر ماتمالأ عليه القوم. فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار. فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم، اقضوا أمركم. فقلت: والله لنأتينهم. فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمِّل بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا؟ فقالوا: سعد بن عبادة فقلت ماله؟ قالوا: يوعك"(3).
(1) البخاري: الصحيح 8: 210، وعبد الرزاق: المصنف 5: 439، وابن سعد: الطبقات الكبرى 3: 615، والترمذي: الشمائل المحمدية 308، والنسائي: كتاب الوفاة 75، والطبراني: المعجم الكبير 7: 56، وابن أبي شيبة: المصنف 14: 565، وصرح ابن اسحق بالسماع كما في فتح الباري 12: 153 لابن حجر.
(2)
الترمذي: الشمائل المحمدية 308، والنسائي: كتاب الوفاة 75، والطبراني: المعجم الكبير 7: 56، وصححه الألباني (مختصر الشمائل 198).
(3)
البخاري: الصحيح 8: 210.
وقد كشفت روايات صحيحة عن اسمي الرجلين من الأنصار، وهما عويم بن ساعدة، ومعن بن عدي (1)، وموقفهما يدل على عدم وجود موقف موحد للأنصار (2).
ويبدو أن عدد المهاجرين الذين دخلوا السقيفة كان محدوداً، وربما دخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة أولاً ثم تلاحق المهاجرون (3).
وقد حدث نقاش طويل بين المهاجرين والأنصار حول أحقية كل طرف بتولي الخلافة. وقد بين أحد الأنصار أحقيتهم بقوله: "أما بعد فنحن أنصار الله، وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفَّت دافَّة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، وأن يحضنونا من الأمر"(4).
أما المهاجرون فتكلم عنهم أبو بكر الصديق بحلم ووقار وبديهية- كما وصفه ابن عمر- فقال: "ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً
…
يا معشر الأنصار إنا والله ما ننكر فضلكم، ولا بلاءكم في الإسلام، ولا حقكم الواجب علينا، ولكنكم عرفتم أن هذا الحي من قريش بمنزلة من العرب ليس بها غيرهم، وأن العرب لن تجتمع إلا على رجل منهم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، فاتقوا الله ولا تصدعوا الإسلام،
(1) عبد الرزاق: المصنف 5: 445، وابن أبي شيبة: المصنف 14: 563، وأحمد: المسند 1: 56، والبخاري: الصحيح 5: 110.
(2)
ابن حجر: فتح الباري 12: 151.
(3)
ابن حجر: فتح الباري 12: 153.
(4)
البخاري: الصحيح 8: 210. والدافَّة: العدد القليل (ابن حجر: فتح الباري 12: 151).
ويختزلونا: يقتطعونا وينفردوا بالأمر. ويحضنونا: يخرجونا (النهاية في غريب الحديث 2: 124 و2: 29 و 1: 401 على التوالي).
ولا تكونوا أول من أحدث في الإسلام" (1).
وقد وردت روايات ضعيفة تفيد أن المهاجرين احتجوا على الأنصار بحديث "قريش ولاة هذا الأمر"(2)، ولكن يبدو أن الحديث لم يخطر على بالهم، أو أن الصديق اكتفى بتضمينه في كلامه، والأول أقوى لأن الحديث كان سيقطع الأمر لصالح المهاجرين دون استمرار الحوار.
لقد نظر الأنصار إلى الخلافة من زاوية محدودة بظروف المجتمع المدني والعلاقة التأريخية بين المهاجرين والأنصار، أما المهاجرون فنظروا نظرة واسعة على مستوى الدولة كلها وما يترتب على خروج السلطة من قريش من عواقب كبيرة لأن العرب يمكن أن ترض بقيادتها لمكانتها فيهم، أما لو تولاها الأنصار فقد تقع انشقاقات خطيرة تؤدي إلى تفكك الدولة الإسلامية.
وقد طرح عدد من الأنصار فكرة تعيين أميرين أحدهما من المهاجرين والآخر من الأنصار (3)، ولكن أبا بكر رضي الله عنه قال:"لا، ولكنَّا الأمراء وأنتم الوزراء"(4). وقال عمر: "سيفان في غمد واحد!! إذا لا يصلحان"(5).
(1) ابن أبي شيبة: المصنف 14: 563 وصرح ابن اسحق بالسماع كما في فتح الباري 12: 153.
(2)
أحمد: المسند 1: 5 بإسناد رجاله ثقات لكنه من مرسل حميد بن عبد الرحمن الحميري وهو ثقة فقيه، وحسنه البزار وابن تيمية (ابن تيمية: منهاج السنة النبوية 1: 536، والمتقي الهندي: كنز العمال 5: 638 عن ابن المنذر).
(3)
أحمد: المسند 5: 185 بإسناد صحيح، وابن سعدْ: الطبقات 3: 212، وابن أبي شيبة: المصنف 14: 561، والبلاذري: أنساب الأشراف الشيخان 65، والطبراني: المعجم الكبير 5: 114. وصححه ابن كثير: البداية والنهاية 5: 281.
(4)
البخاري: الصحيح 5: 8.
(5)
الترمذي: الشمائل المحمدية 308. وصححه الألباني (مختصر الشمائل 198). والنسائي: