المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌معركة صفين: لم يمكث علي بعد موقعة الجمل بالبصرة طويلاً، فما - عصر الخلافة الراشدة محاولة لنقد الرواية التاريخية وفق منهج المحدثين

[أكرم العمري]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تحليل المصادر

- ‌1 - كتب التأريخ:

- ‌محمد بن اسحق:

- ‌خليفة بن خياط:

- ‌محمد بن سعد (ت 230ه

- ‌البلاذري:

- ‌ابن عبد الحكم:

- ‌الأزدي:

- ‌ابن شبَّة:

- ‌اليعقوبي:

- ‌ابن قتيبة الدينوري:

- ‌الطبري:

- ‌المسعودي:

- ‌ابن أعثم الكوفي:

- ‌ابن حبيش:

- ‌الكلاعي:

- ‌المحب الطبري (ت 694ه

- ‌محمد بن يحيى الأشعري المالكي- ابن بكر- (ت 741ه

- ‌ابن كثير (ت 774 ه

- ‌ الذهبي

- ‌2 - كتب الحديث:

- ‌3 - كتب علم الرجال:

- ‌المراجع الحديثة:

- ‌الباب الأول: السياسة(الخلافة والخلفاء)

- ‌الفصل الأول: الخلافة

- ‌المبحث الأول: نظام الخلافة

- ‌المبحث الثاني: خلافة أبي بكر الصديق (رضى الله عنه)

- ‌المبحث الثالث: خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌المبحث الرابع: خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌المبحث الخامس: خلافة على بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌المبحث السابع (*): أزمة الخلافة وانتقال مركز الخلافة إلى العراق

- ‌الفصل الثاني: الخلفاء

- ‌المبحث الأول: أبو بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌المبحث الثاني: عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌المبحث الثالث: عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌المبحث الرابع: على بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌المبحث الخامس: حجية عمل الخلفاء الراشدين

- ‌المبحث السادس: الشورى

- ‌الباب الثانيالإدارة. القضاء

- ‌الفصل الأول: الإدارة(الولاة. الموظفون)

- ‌المبحث الأول: الولاة على البلدان

- ‌الولاة في خلافة أبي بكر:

- ‌قائمة بأسماء ولاة أبي بكر على البلدان:

- ‌الولاة في خلافة عمر:

- ‌مراقبة العمال والولاة:

- ‌قائمة بأسماء ولاة عمر على الأقاليم:

- ‌الولاة في خلافة عثمان:

- ‌قائمة بأسماء الولاة في خلافة عثمان:

- ‌الولاة في خلافة علي:

- ‌قائمة بأسماء الولاة في خلافة على:

- ‌المبحث الثاني: الموظفون

- ‌الرقابة على الأسواق (نظام الحسبة):

- ‌تنظيم العرفاء والنقباء ومساعدته في إيصال العطاء لمستحقيه:

- ‌الموظفون في خلافة أبو بكر:

- ‌عمال الصدقات:

- ‌الموظفون في خلافة عمر:

- ‌الموظفون في خلافة عثمان:

- ‌الموظفون في خلافة على:

- ‌الفصل الثاني: القضاء

- ‌القضاء في عصر الخلافة الراشدة:

- ‌تطبيق الحدود الشرعية:

- ‌ندرة الخصومات بين الناس:

- ‌إخضاع الخلفاء أنفسهم لأحكام القضاء وإجراءاته:

- ‌الجرائم والعقوبات:

- ‌التعزير:

- ‌الجنايات:

- ‌القضاة في خلافة أبي بكر:

- ‌القضاة في خلافة عمر:

- ‌رواتب القضاة:

- ‌القضاة في خلافة عثمان:

- ‌القضاة في خلافة على:

- ‌الباب الثالث: الاقتصاد

- ‌الفصل الأول: الموارد المالية

- ‌المبحث الأول: الجزية

- ‌الجزية في خلافة أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌الجزية في خلافة عمر رضي الله عنه:

- ‌الجزية في خلافة عثمان رضي الله عنه:

- ‌الجزية في خلافة علي رضي الله عنه:

- ‌المبحث الثاني: الخراج

- ‌المبحث الثالث: الغنائم

- ‌المبحث الرابع: الزكاة

- ‌المبحث الخامس: عشور التجارة

- ‌الفصل الثاني: النفقات العامة

- ‌المبحث الأول: مصارف الزكاة

- ‌المبحث الثاني: مصارف الغنائم والفيء

- ‌المبحث الثالث: العطاء

- ‌الأرزاق العينية:

- ‌نفقات طارئة:

- ‌المبحث الرابع: الإصلاحات

- ‌1 - الإقطاع:

- ‌2 - الحمى:

- ‌3 - الإنفاق على العمران:

- ‌عمران المساجد:

- ‌بناء الأمصار:

- ‌حفر الأنهار والخلجان وإقامة السدود والمنشآت الأخرى:

- ‌4 - مشروع تحرير الرقيق:

- ‌5 - النقود:

- ‌القروض الحسنة:

- ‌القوة الشرائية للنقود:

- ‌الرقابة المالية:

- ‌رقابة عمر لأهله:

- ‌الباب الرابع: الثقافة والتعليم

- ‌الفصل الأول: السمات والنظرية والتقاليد

- ‌تمهيد: التراث الثقافي قبل الإسلام

- ‌المبحث الأول: السمات العامة للتعليم

- ‌المبحث الثاني: نظرة الاسلام إلى العلم والتعليم

- ‌المبحث الثالث: آداب التعليم وتقاليده

- ‌الفصل الثاني: التطبيقات والمركز والموضوعات

- ‌المبحث الأول: النشاط التعليمي

- ‌تمهيد

- ‌أ - النشاط التعليمي بمكة قبل الهجرة

- ‌ب- النشاط التعليمي بالمدينة:

- ‌جـ - انتشار التعليم الاسلامي في البوادي والأمصار الجديدة:

- ‌المبحث الثاني: مراكز الحركة الفكرية

- ‌مواد الكتابة:

- ‌المبحث الثالث: موضوعات التعليم

- ‌أ- القرآن وعلومه:

- ‌ب- الحديث:

- ‌فمن مواقف كبار الصحابة الذين كرهوا كتابة الحديث ما يلي:

- ‌أما مواقف الصحابة التي تدل على إجارتهم الكتابة فهي:

- ‌جـ - الفقه:

- ‌د- اللغة العربية:

- ‌هـ - التاريخ:

- ‌و- علم الأنساب:

- ‌ز- الشعر:

- ‌حـ ـ القصص:

- ‌ط - الحكم والأمثال:

- ‌ي - الطب:

- ‌ك - علم النجوم (التنجيم):

- ‌ل- الثقافة واللغات الأجنبية:

- ‌الباب الخامسأحوال العالم.الدعوة الإسلامية ومنطلقاتها الفكرية.الفتوحات

- ‌الفصل الأولأحوال العالم.الدعوة الاسلامية ومنطلقاتها الفكرية

- ‌المبحث الأول: نظرة إلى أحوال العالم قبل الفتح الاسلامي

- ‌دولة الفرس

- ‌الحالة السياسية والاقتصادية:

- ‌الحالة الدينية والفكرية

- ‌الحالة الاجتماعية والأخلاقية

- ‌دولة الروم (الإمبراطورية البيزنطية) 312 - (1453) م

- ‌الحالة السياسية والاقتصادية:

- ‌الحالة الدينية والفكرية

- ‌الحالة الاجتماعية والأخلاقية:

- ‌تنبيه:

- ‌الهند والصين واليابان

- ‌المبحث الثاني: الدعوة الاسلامية ومنطلقاتها الفكرية

- ‌الفصل الثاني: الفتوحات

- ‌المبحث الأول: فتوح العراق والمشرق

- ‌في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه:

- ‌ملاحظات:

- ‌في خلافة عمر بن الخطاب (رضى الله عنه):

- ‌القادسية (15ه

- ‌المدائن:

- ‌جلولاء (16 ه

- ‌تكريت:

- ‌بناء الكوفة (17ه

- ‌بناء البصرة (16 هـ أو (17) ه

- ‌فتح الأهواز:

- ‌فتح رامهرمز:

- ‌فتح تستر

- ‌فتح السوس وجندي سابور:

- ‌نهاوند (21 ه

- ‌فتح أصبهان:

- ‌إعادة فتح همذان

- ‌فتح الري:

- ‌فتح إقليم فارس:

- ‌فتح كرمان ومكران:

- ‌فتح سجستان:

- ‌فتح خراسان:

- ‌في خلافة عثمان بن عفان (رضى الله عنه):

- ‌في خلافة علي بن أبي طالب (رضى الله عنه):

- ‌المبحث الثاني: فتوح الشام ومصر والمغرب

- ‌فتوح الشام في خلافة الصديق رضي الله عنه:

- ‌الصدمات الأولى:

- ‌اليرموك (في الطبري سنة (13) ه

- ‌ في خلافة عمر رضي الله عنه

- ‌عزل خالد:

- ‌فتح دمشق (في الطبري أوائل سنة (14) ه

- ‌حمص وحماة واللاذقية وقنسرين وحلب:

- ‌ أنطاكية

- ‌ بيت المقدس

- ‌فتح مصر:

- ‌العريش:

- ‌حصن بابليون:

- ‌في خلافة عثمان رضي الله عنه:

- ‌إعادة فتح الاسكندرية:

- ‌السودان:

- ‌أفريقية:

- ‌ذات الصواري:

- ‌الجيش ونظام القتال:

- ‌الباب السادس: الفتن الداخلية

- ‌الفصل الأول: الردة

- ‌تمهيد انتشار الاسلام خارج المدينة:

- ‌المبحث الأول حركات الردة

- ‌مراكز المرتدين

- ‌اليمن:

- ‌ردة اليمامة:

- ‌ردة طليحة الأسدي:

- ‌انتشار الردة:

- ‌المبحث الثاني القضاء على الردة

- ‌القضاء على ردة طليحة الأسدي:

- ‌القضاء على مالك بن نويرة:

- ‌القضاء على ردة مسيلمة الكذاب:

- ‌القضاء على ردة البحرين:

- ‌القضاء على ردة عمان ومهرة:

- ‌القضاء على ردة اليمن:

- ‌القضاء على ردة حضرموت:

- ‌الفصل الثاني: فتنة مقتل الخليفة عثمان رضى الله عنه

- ‌فتنه مقتل عثمان رضي الله عنه

- ‌خبر الراكب الذي تعرض للوفد المصري:

- ‌موقف الأنصار:

- ‌مواقف الصحابة في الفتنة

- ‌صفية أم المؤمنين:

- ‌الزبير بن العوام:

- ‌أبو ذر الغفاري:

- ‌أسامة بن زيد:

- ‌الحسن بن على بن أبي طالب:

- ‌عبد الرحمن بن عوف:

- ‌زيد بن ثابت:

- ‌عبد الله بن عمر:

- ‌تعليقات على مقتل الخليفة آراء الصحابة وتوقعاتهم لنتائج مقتل عثمان رضي الله عنه

- ‌على ابن أبي طالب:

- ‌سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل:

- ‌أبو موسي الأشعري:

- ‌سمرة بن جندب:

- ‌عائشة رضي الله عنها:

- ‌بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالخلافة:

- ‌الفصل الثالث: موقعة الجمل

- ‌موقعة الجمل:

- ‌الفصل الرابع: معركة صفين

- ‌معركة صفين:

- ‌الفصل الخامس: موقعة النهروان

- ‌موقعة النهروان:

- ‌المصادر والمراجع

- ‌المصادر

- ‌المراجع الحديثة

- ‌المؤلف

- ‌السيرة الذاتية:

- ‌مؤلفاته:

- ‌التحقيقات

- ‌البحوث:

الفصل: ‌ ‌معركة صفين: لم يمكث علي بعد موقعة الجمل بالبصرة طويلاً، فما

‌معركة صفين:

لم يمكث علي بعد موقعة الجمل بالبصرة طويلاً، فما إن أعطى أهلها بيعتهم واستقام له الأمر فيها، حتى اتجه بجيشه نحو الكوفة، حيث يلقى تأييداً قوياً من أهلها في مواجهة معاوية بن أبي سفيان بالشام الذي أصرَّ على معاقبة قتلة عثمان قبل إعطاء البيعة لعلي، ويتضح موقفه وهو يحاور القراء من رجاله، مما توضحه الرواية التالية:"جاء أبو مسلم الخولاني وناس معه إلى معاوية فقالوا له: أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال معاوية: لا والله إني لأعلم أن علياً أفضل مني، وإنه لأحقُّ بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً، وأنا ابن عمه، وإنما أطلب بدم عثمان، فأتوه فقولوا له فليدفع إليَّ قتلة عثمان وأسلِّمُ له (1)، فأتوا علياً فكلموه بذلك فلم يدفعهم إليه"(2). وكان معاوية يؤكد على هذا المعنى "ما قاتلت علياً إلا في أمر عثمان"(3).

وقد رأى معاوية أنه ولي دم عثمان، لأنه صار رأس بني أمية مكانةً، والأحاديث النبوية تدل على أن عثمان يُقتل مظلوماً، بل تذكر أن النبي صلى الله عليه

(1) يعني أنه يبايعه بالخلافة.

(2)

ابن عساكر: تأريخ دمشق 16: ق 356 ب، والذهبي: سير أعلام النبلاء 3: 140، وابن حجر: فتح الباري 13: 86 وحسن ابن حجر إسناد يحيى بن سليمان الجعفي- أحد شيوخ البخاري- في كتاب صفين، والكتاب مفقود شأن العديد من المصنفات عن صفين مثل كتاب صفين لعبد الله بن أحمد بن حنبل، وكتاب صفين لابن ديزيل (أبو اسحق إبراهيم بن الحسين بن ديزيل وثقه الذهبي في تذكرة الحفاظ 2: 608).

(3)

ابن أبي شيبة: المصنف 11: 92 بإسناد حسن.

ص: 464

وسلم أوصاه بأن لا يخلع نفسه من الخلافة، ووصف الثائرين عليه بالمنافقين (1). وشهد الصحابي كعب بن مرة البهزي أمام معسكر معاوية بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن عثمان بن عفان:"لتخرجنّ فتنة من تحت قدمي هذا- أو من بين رجلي هذا-، هذا ومن اتبعه يومئذ على الهدى"، واذا كان المدافعون عن عثمان كانوا على الهدى خلافاً للثائرين عليه الذين سيكونون أصحاب ضلالة، فإن الموقف في نظر معسكر معاوية ينسحب عليهم ليصبحوا أصحاب الهدى ويصبح خصمهم على ضلالة وهكذا استحلوا القتال متأولين، ولم يتبين خطأوهم إلا فيما بعد مقتل عمار بن ياسر في صفين ومقتل المخدَّج في النهروان .. فالذين استندوا إلى نصوص شرعية في تحديد مواقفهم كانوا يواجهون تحديات التفسير والتأويل للنصوص، وكانت أحداث الفتن تؤثر في نضوج الرأي الشرعي وتمنع استنارة البصيرة.

وقد وقف عدد من فقهاء الصحابة خارج الصراع مثل سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة الأنصاري وعند الله بن عمر وآخرين رضي الله عنهم جميعاً.

وجهز علي رضي الله عنه جيشاً كبيراً قدرته الروايات مابين خمسين ألفاً ومائة وخمسين ألفاً (2)، في حين قدرت جيش معاوية بستين ألفاً أو سبعين ألفاً أو مائة وعشرين ألفاً (3)، واذا كان ديوان الجند في أول خلافة علي يضم مائة ألف مقاتل

(1) أحمد: المسند 6: 75، 86 - 87، 149، والترمذي: السنن (تحفة الأحوذي 10: 200)، وابن ماجة: السنن 1: 41، 112، 113. وصححه الألباني (صحيح ابن ماجة 1: 25).

(2)

خليفة: التأريخ 193 بسند حسن.

(3)

قدرت الروايات الضعيفة عدد الجيش بسبعين ألفاً، وتسعين ألفاً، ومائة ألف، ومائة وعشرة آلاف، ومائة وعشرين ألفاً، ومائة وخمسين ألفاً (الذهبي: دول الإسلام 1: 28 بدون سند، وخليفة: التأريخ 193 بسند فه مجاهيل، وابن كثير: البداية والنهاية 7: 260، وابن دحية: أعلام النصر ق 14 بدون سند، ويعقوب بن سفيان: المعرفة والتأريخ 3: 113 بسند منقطع،

ص: 465

من البصريين والكوفيين (1)، فإن جيش علي ينبغي أن يبلغ أكثر من خمسين ألف مقاتل، ولكن الأخباريين يشيرون إلى تخلف أزد البصرة (2)، كما أن الأشتر ضعف حماسه للقتال، بل ثبط قومه عندما نصحهم بالتبصر في الأمر، قال عمير بن سعيد النخعي الكوفي (ت (107) هـ):"لما رجع علي من الجمل وتهيأ لصفين، اجتمعت النخع حتى دخلوا على الأشتر فقال: هل في البيت إلا نخعي؟ فقالوا: لا. فقال: إن هذه الأمة عمدت إلى خيرها فقتلته، وسرنا إلى أهل البصرة، قوم لنا عليهم بيعة، فنُصرنا عليهم بنكثهم، وإنكم تسيرون غداً إلى أهل الشام، قوم ليس لكم عليهم بيعة، فلينظر كل امرئ منكم أين يضع سيفه"(3). وهذه النصيحة المثقلة بالورع تدل على غضب الأشتر لعدم حصوله على ما كان يتوقعه من إمارة البصرة التي تولاها ابن عباس (4)، ولا تعبر عن تغير دائم في موقفه من مواجهة معاوية والشاميين فقد كان من مثيري الفتنة ضد عثمان. وإنما يطالب معاوية برأسه ورؤوس أمثاله من الذين تمالؤا على قتل عثمان.

وبالمقابل فقد أشرك الأحنف بن قيس التميمي وعشيرته في جيش على، وكان معتزلاً لحرب الجمل بإذن من علي رضي الله عنه (5).

وابن كثير: البداية والنهاية 7: 260 وراجع عن دراسة الروايات عبد الحميد علي ناصر: خلافة علي، الملحق رقم 172).

(1)

صالح العلي: امتداد العرب في صدر الإسلام 25، 26.

(2)

البلاذري: أنساب الأشراف 2: ق 51أعن أبي مخنف وغيره، وأبو مخنف أزدي متعاطف بقوة مع علي، فلا يمكن أن يتعمد التقليل من مشاركة قبيلته في صفين بدون حق.

(3)

ابن أبي شيبة: المصنف 11: 112 و 15: 265، والحاكم: المستدرك 3: 107 بسند حسن

(4)

الطبري: تأريخ 4: 490 بسند حسن.

(5)

البلاذري: أنساب الأشراف 2: ق 51 أعن أبي مخنف وغيره.

ص: 466

وقد تجمع جيش علي بالنخيلة غرب الكوفة، وقد ضم عدداً من الصحابة البدريين وأصحاب بيعة الرضوان (1)، ويذكر الأخباري عوانة بن الحكم أن علياً بعث من النخيلة اثني عشر ألف مقاتل باتجاه الموصل، ثم اجتاز إلى المدائن فأرسل منها ثلاثة آلاف مقاتل (2) ثم مضى علي بجيشه من المدائن إلى محاذاة الموصل (نينوى)(3) ثم عبر الفرات قرب الرقة حيث نزل على صفين، وكانت مدن الجزيرة مثل الرقة وقرقيسياء وعانات وهيت موالية لمعاوية، ومعظمهم من بني الأرقم وهو حي عظيم من كندة، وقد شهدوا صفين مع معاوية (4).

وكان الجيش الشامي قد عسكر في صفين واستولى على المياه، ومنع جيش العراق منها، فقام الأشعث بن قيس- بأمر على- بتخليص المياه من أيدي الشاميين (5) وكان ذلك في بداية شهر ذي الحجة سنة (36) هـ، ثم استمر القتال بشكل كتائب محدودة العدد طيلة الشهر والأسبوع الأول من محرم (37) هـ دون أن يلتحم الجيشان، وكان الأمل في الصلح يحدو الجميع، ويرى الأخباريون أن عدد الوقعات بين

(1) بالغ ابن دحية في تقدير أعدادهم حتى ذكر أنهم سبعمائة من أصحاب الشجرة وذلك لبيان أن الحق مع علي، ولكن ترجح موقف علي واضح لا يحتاج إلى هذه المبالغات (عبد الحميد علي ناصر: خلافة علي 188 - 189).

(2)

الطبري: تأريخ 4: 565 بإسناد منقطع.

(3)

أحمد: المسند 1: 85، وأبو يعلى الموصلي: المسند 1: 298.

(4)

ابن سعد: الطبقات الكبرى، تحقيق عبد العزيز السلومي (أطروحة دكتوراه بجامعة أم القرى، وهي قطعة ساقطة من المطبوع) 2: 638 - 640 بدون سند.

والبلاذري: أنساب الأشراف ق 51 أ، وابن حجر: الإصابة 1: 259 - 260، وصالح العلي: امتداد العرب في صدر الإسلام 98 - 99، وعبد الحميد علي ناصر: خلافة علي 189 - 190.

(5)

ابن أبي شيبة: المصنف 15: 294، وخليفة: التأريخ 193 بسند حسن.

ص: 467

الطرفين تزيد على السبعين (1). ثم في يوم الأربعاء التالي بدأ الالتحام بين الجيشين، وكان قادة جيش علي رضي الله عنه هم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعمار بن ياسر، ومحمد بن الحنفية، وهاشم بن عتبة، والمرقال، والأشعث بن قيس. أما قادة جيش معاوية رضي الله عنه فهم: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وذو الكلاع الحميري، وحبيب بن مسلمة الفهري، والمخارق بن الصباح الكلاعي (2)، وعبد الله بن عمرو بن العاص (3).

وقد وصف أبو العالية الرفاعي- شاهد عيان ثقة ت (90) هـ- المعركة بقوله: "لما كان زمن علي عليه السلام ومعاوية، وإني لشاب القتال أحب إليَّ من الطعام الطيب، تجهزت بجهاز حسن حتى أتيتهم، فإذا صفان لا يُرى طرفاهما، إذا كبَّر هؤلاء كبرَّ هؤلاء، وإذا هلَّل هؤلاء هلَّل هؤلاء. قال: فراجعتُ نفسي فقلت: أي الفريقين أنزلُهُ كافراً، وأي الفريقين أنزله مؤمناً؟ فما أمسيتُ حتى رجعت وتركتهم"(4).

ولم ينفرد أبو العالية الرياحي بالتردد والشك ثم التوقف عن القتال، فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص يُصرح بحقيقة مشاعره وهو يقف إلى جوار أبيه بيده الراية ويتقدم في الجيش الشامي منزلة أو منزلتين: "مالي ولصفين!! مالي وقتال المسلمين!! لوددتُ أني مِتُّ قبله بعشر سنين أما والله على ذلك ما ضربتُ بسيف

(1) ابن حجر: فتح الباري 3: 86 نقلاً عن تاريخ ابن أبي خيثمة، وأما المصدر المتقدم في ذكر الخبر فهو نصر بن مزاحم (صفين 202).

(2)

خليفة: التأريخ 193 بسند حسن إلى شاهد عيان.

(3)

ابن سعد: الطبقات 4: 266 بسند صحيح.

(4)

ابن سعد: الطبقات 7: 114 بإسناد فيه يحيي بن خلف السعدي، حديثه عن الثوري منكر وليس هذا عنه (ابن عدي: الكامل 7: 2700 - 2701).

ص: 468

ولا طعنت برمح، ولا رميت بسهم" (1). وعبد الله بن عمرو بن العاص عالم محدِّث، وتعتوره الشكوك- في صحة موقفه من الفتنة دون أن يحسم الأمر مع نفسه أولاً ثم في الميدان فقد أرغمه أبوه على الاشتراك مع الجيش الشامي مذكراً إياه بحديث: "أطع أباك مادام حياً" فاشترط أن يقف معهم ولا يقاتل (2) فهل نسي أن الطاعة بالمعروف؟ (3)

بالله كيف كانت حالة عامة الجند الإسلامي!! قاتل الله الفتن تدع الحليم حيرانا.

لم يكن الطرفان يكفران بعضهما، لكن بعض الجند المتحمس في جيش علي رضي الله عنه كان يلعن ويكفر الشاميين، فلا يلقى من قادته إلا النهر والتوضيح "قال رجل يوم صفين: اللهم العن أهل الشام. فقال علي رضي الله عنه: لا تسب أهل الشام جمعاً غفيراً، فإنَّ بها الأبدال، فإن بها الأبدال، فإن بها الأبدال" (4).

وقال زياد بن الحارث الصدائي- صحابي شاهد عيان-: "كنت إلى جنب عمار بن ياسر بصفين، وركبتي تمسُّ ركبته. فقال رجل: كفر أهل الشُام. فقال عمار: لا تقولوا ذلك، نبينا ونبيهم واحد، وقبلتنا وقبلتهم واحدة، ولكنهم قوم مفتونون جاروا عن الحق، فحقَّ علينا أن نقاتلهم حتى يرجعوا إليه"(5).

ولم تكن بين الجيشين أحقاد، بل كان كل طرف ينافح عما يعتقده حقاً، فلا غرابة إذا قال شاهد عيان هو عبد الرحمن السلمي: "شهدنا صفين مع علي

(1) ابن سعد: الطبقات الكبرى 4: 266 - 267 بإسناد صحيح.

(2)

أحمد: المسند- بتحقيق أحمد شاكر- 11: 138 - 139 بسند صحيح.

(3)

سلم: الصحيح- بشرح النووي- 12: 227.

(4)

عبد الرزاق: المصنف 11: 246 بإسناد صحيح.

(5)

ابن أبي شيبة: المصنف 15: 290 وله شواهد في المصنف 15: 290 أيضاً، وابن عساكر: تأريخ دمشق (تحقيق المنجد) 1: 332، 333 ويعتضد بشواهده إلى الحسن لغيره.

ص: 469

فكنا إذا توادعنا (1) دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء، وهؤلاء في عسكر هؤلاء" (2). ولا غرابة إذا ما صرح عبد الله بن عمرو بن العاص أمام معاوية، ورجلان يختصمان في قتل عمار بن ياسر كل واحد يزعم أنه قتله: "إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية" ويستغرب معاوية من هذا التصريح فيقول: فما بالك معنا؟ قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أطع أباك مادام حياً ولا تعصه، فأنا معكم ولست أقاتل"(3). وهكذا تتجلى الصراحة في الحق وتتخطى المعوقات من المجاملات والمواربات .. فقد كان الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص من أقوى الحجج على أن الحق مع علي وأن معاوية بغى عليه لكن معاوية تأول الحديث: "لما قتل عمار بن ياسر دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص فقال: قُتل عمار وقد سمعتُ رسول الله صلى الله عله وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية. فقام عمرو يرجع فزعاً حتى دخل على معاوية. فقال له معاوية: ما شأنك؟ فقال: قُتل عمار. فقال له معاوية: قُتل عمار فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية. فقال له معاوية: دحضت في قولك أنحن قتلناه!؟ إنما قتله علي وأصحابه، جاؤا به حتى ألقوه تحت رماحنا"(4)

(1) الموادعة بين الجيشين تقتضي وقف القتال لمدة محدودة لدفن القتلى أو لسبب يقتنع به الطرفان

(2)

الهيثمي: مجمع الزوائد 7: 240 - 241 وقال: رواه الطبراني وأحمد باختصار، وأبو يعلى بنحو الطبراني، ورجال أحمد وأبي يعلى ثقات.

(3)

أحمد: السند 11: 138 - 139 وقال أحمد شاكر: إسناد. صحيح.

(4)

عبد الرزاق: المصنف 11: 240 بإسناد صحيح. وحديث: "تقتله الفئة الباغية" متواتر (السيوطي: الخصائص الكبرى، ط. الهراس 2: 496، وانظر الحديث في صحيح البخاري- فتح الباري 1: 54 و 6: 30 - وصحيح مسلم 4: 2235 - 2236)، وراجع حول تواتر الحديث عبد الحميد علي ناصر: خلافة علي 212 - 219. وقد اشتهر بعد مقتل عمار بن ياسر

ص: 470

وقد أنقذ معاوية بتأويله للنص معنويات الجند الشامي، كما أنقذ معنويات قائده عمرو بن العاص الذي تبنى هذا التأويل بعد أن كان قد تملكته الرهبة، بل مضى يتأول حديثاً آخر كان يرويه:"إن قاتله وسالبه في النار. فقيل له: هو ذا أنت تقاتله؟ فقال: إنما قال قاتله وسالبه"(1). أي أن النص مخصص بالقاتل الفعلي وحده وإذا نفع التأويل في إقناع الشاميين، فإن مقتل عمار أذكى حماسة العراقيين فقد بان لهم بمقتله أن علياً محق، وأن معاوية باغ، وما في ذلك من دلائل النبوة (2). ويبدو أن النصر لاح لهم بعد قتال شديد دام ثلاثة أيام بلياليها (3). وقد التزم كلُّ من الطرفين بأحكام قتال البغاة، قال أبو أمامة- وهو صحابي شاهد عيان-:"شهدت صفين فكانوا لا يجهزون على جريح ولا يطلبون مولياً ولا يلبسون قتيلاً"(4).

وقال أبو فاختة (ت (90) هـ) - شاهد عيان ثقة-: "حدثني جار لي قال: أتيت علياً بأسير يوم صفين، فقال لي: أرسله، لا أقتله صبراً، إني أخاف الله رب العالمين، أفيك خير؟ بايع. وقال للذي جاء به: لك سلبه"(5).

وقدَّر محمد بن سيرين (تابعي كبير ت (110) هـ) عدد القتلى في صفين "بسبعين ألفاً، فما قدروا على عدِّهم إلا بالقصب، وضعوا على كل إنسان قصبة، ثم

(1) أحمد: السند (الفتح الرباني 23: 143 بسند صحيح). وابن سعد: الطبقات الكبرى 3: 260 بسند صحيح.

(2)

ابن كثير: البداية والنهاية 7: 267.

(3)

ابن كثير: البداية والنهاية 7: 272 - 273.

(4)

ابن سعد: الطبقات 7: 411، والحاكم: المستدرك 2: 155 وصححه الألباني (إرواء الغليل 114:8).

(5)

عبد الرزاق: المصنف 10: 124 بإسناد صحيح، وسعيد بن منصور: السنن 2: 339

ص: 471

عدُّوا القصب" (1).

وكذلك قدرهم شاهد عيان هو عبد الرحمن بن أبزى "افترقوا على سبعين ألف قتيل، خمسة وأربعين ألفاً من أهل الشام، وخمسة وعشرين ألفاً من أهل العراق ويقال على ستين ألفاً"(2).

وسئل علي رضي الله عنه عن قتلى يوم صفين فقال: "قتلانا وقتلاهم في الجنة، ويصير الأمر إلي وإلى معاوية"(3). أي أنه يرى نفسه ومعاوية مسئولين عما حدث وهما يحاسبان على ذلك (4).

ويصف شاهد عيان هو الصحابي سالم بن عبيد الأشجعي موقف علي رضي الله عنه فيقول: "رأيت علياً بعد صفين، وهو أخذ بيدي، ونحن نمشي في القتلى، فجعل علي يستغفر لهم حتى بلغ أهل الشام، فقلت له: يا أمير المؤمنين، إنَّا في أصحاب معاوية!؟ فقال علي: إنما الحساب عليَّ وعلى معاوية"(5).

وقد طحنت المعركة ألوفاً من الجانبين، وكل الباقون من القتال، وهنا

(1) ابن أبي شيبة: المصنف 15: 295 بإسناد حسن لكنه من مرسل ابن سيرين. وخليفة: التأريخ 194 مختصراً.

(2)

خليفة: التأريخ 194 بإسناد ضعيف بسبب تدليس يزيد في عبد الرحمن، وضعف عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى فهو مقبول ويحتاج إلى متابع. ولبعض الرواية شاهد عند خليفة: التأريخ 194 وهو تقديرهم بسبعين ألفاً.

(3)

ابن أبي شيبة: المصنف 15: 303 بإسناد حسن، والطبراني: المعجم الكبير 19: 307، وسعيد بن منصور: السنن 2: 344 - 345 من طريق آخر فهو شاهد له.

(4)

ابن عساكر: تأريخ دمشق نقلاً عن كتاب صفين لابن ديزيل، وإسناد ابن ديزيل حسن، وابن العديم: بغية الطب في تأريخ حلب 1: ق 202 - 303.

(5)

المصادر السابقة.

ص: 472

تفتق ذهن عمرو بن العاص عن فكرة التحكيم التي أنقذت الجيش الشامي من الهزيمة فأرسل معاوية رجلاً تحمل المصحف إلى علي ويقول له: بيننا وبينكم كتاب الله، فقال علي: إنا أولى بذلك بيننا كتاب الله. ويبدو أن معظم الجند العراقي جنحوا إلى التحكيم، لكن كثيراً من القراء أنكروا عليه قبوله بالتحكيم وقالوا: لا حكم إلا لله. فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل (1).

وقد انشق المحتجون من القراء واعتزلوا جيش علي محتجين بأنه محا اسمه من إمرة المؤمنين (2). وقد مثل أبو موسى الأشعري علياً، ومثل عمرو بن العاص معاوية في اجتماع الحكمين بدومة الجندل، وحضر الاجتماع جمع من الصحابة فيهم عبد الله بن عمر، وحاول عمرو بن العاص استمالته إلى صف معاوية قائلا:"إنَّا قد رأينا أن نبايعك فهل لك أن نعطيك مالاً وتدعها لمن هو أحرص عليها منك؟ فوثب ابن عمر مغضباً، فأخذ ابن الزبير بثوبه فجلس وقال: ويحك يا عمرو!! بعت آخرتك بدنياك، إني والله لا أعطي عليها مالاً، ولا أقبل عليها مالاً، ولا أقبلها إلا عن رضى جميع الناس (3). فقال عمرو: إنما قلت أجربك"(4). وكان ابن عمر قد صرَّح مراراً بأنه لا يقبل الخلافة إلا عن إجماع المسلمين (5)، ومعنى ذلك عملياً أنه لا يريد أن يتولاها.

وقد اختبره عمرو بن العاص مرةً فقال له: "يا أبا عبد الرحمن، ما يمنعك أن

(1) ابن حجر: فتح الباري 8: 587.

(2)

البلاذري: أنساب الأشراف 2: ق 60 أبإسناد حسن، وأبو نعيم: حلية الأولياء 1: 293 - 294 بإسناد صحيح، والذهبي: سير أعلام النبلاء3: 226 - 227.

(3)

المصادر السابقة.

(4)

أبو نعيم: حلية الأولياء 1: 293 - 294 بإسناد صحيح.

(5)

ابن سعد: الطبقات الكبرى 4: 151 بإسناد حسن.

ص: 473

تخرج فنبايعك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أمير المؤمنين وأنت أحق الناس بهذا الأمر؟ فأجابه ابن عمر: لو لم يبق إلا ثلاثة أعلاج بهجر لم يكن لي فيها حاجة". وهنا يعرض عليه عمرو بن العاص البيعة لمعاوية: "هل لك أن تبايع لمن قد كاد الناس أن يجتمعوا عليه، ويكتب لك من الأرضين والأموال ما لا تحتاج أنت ولا ولدك إلى ما بعده؟ فقال ابن عمر: ويحك إن ديني ليس بديناركم ولا درهمكم، وإني أرجو أن أخرج من الدنيا ويدي بيضاء نقيه" (1).

ورغم اعتزال ابن عمر الفتنة، إلا أنه كان يصرح بأن الحق مع علي فيقول:"ما أسى على شيء، كما أسى أني لم أقاتل مع علي رضي الله عنه"(2).

أما الشخصية الأخرى التي عُجم عودها في أحداث التحكيم فهو الصحابي أبو موسى الأشعري، يقول شاهد عيان هو مسروق بن الأجدع (ت (62) هـ):"كنتُ مع أبي موسى أيام الحكمين، وفسطاطي إلى جانب فسطاطه، فأصبح الناس ذات يوم قد لحقوا بمعاوية من الليل، فلما أصبح أبو موسى رفع رفرف فسطاطه فقال: يا مسروق بن الأجدع. قلت: لبيك أبا موسى. قال: إن الإمرة ما اؤتمر فيها، وإن الملك ما غُلب عليه بالسيف"(3).

وقد حاول معاوية استمالة أبي موسى- في ظروف التحكيم أو عقبها- إلى جانبه دون جدوى، قال أبو موسى الأشعري: "كتب إليَّ معاوية: سلام عليك، أما

(1) ابن سعد: الطبقات الكبرى 4: 164، وابن عساكر: تأريخ دمشق (ترجمة عبد الله بن عمر) ق 145 - 146، والذهبي: سير أعلام النبلاء3: 228، ويقوى بشواهده إلى الصحيح لغيره.

(2)

ابن عبد البر: الاستيعاب 1: 77، والحاكم: المستدرك 3: 117 وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. والهيثمي: مجمع الزوائد 7: 242 وقال: رواه الطبراني بأسانيد وأحدها رجاله رجال الصحيح.

(3)

ابن سعد: الطبقات 4: 113 بإسناد صحيح.

ص: 474

بعد، فإن عمرو بن العاص قد بايعني على الذي قد بايعني عليه، وأقسم بالله لئن بايعتني على ما بايعني عليه لأبعثنَّ ابنيك أحدهما على البصرة والآخر على الكوفة، ولا يغلق دونك باب، ولا تقضى دونك حاجة، وإني كتبت إليك بخط يدي فاكتب إلىَّ بخط يدك. فقال أبو موسى لابنه أبي بردة: يا بني إنما تعلمتُ المعجم (الخط) بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وكتبت إليك مثل العقارب. أما بعد فإنك كتبت إلي في جسيم أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لا حاجة لي فيما عرضت عليَّ" (1).

وقد حاولت الروايات الإخبارية الضعيفة أن تعطى صورة محرفة عن أبي موسى الأشعري وأنه اختير للتحكيم من قبل الجند العراقي وفرض على الخليفة علي رضي الله عنه، وأنه أظهر وهناً وغفلةً خلال التحكيم، وأن عمرو بن العاص استغل بمكره الموقف، ولكن الصحيح أن عليًا كان راضياً عن اختيار أبي موسى الأشعري "قال الأحنف بن قيس لعلى حين أراد أن يحكم أبا موسى: إنك تبعث رجلاً من أهل القرى رقيق

فابعثني مكانه آخذ لك بالوثيقة، وأضعك من الأمر بحيث أنت. فقال له ابن عباس: دعنا يا أحنف منك فإنا أعلم بأمرنا منك" (2).

ولا يخفى أن أبا موسى الأشعري أرسخ في الإسلام وأسبق، وأفقه وأورع حتى لو سلمنا بأن الأحنف أكثر دهاء وأوسع حيلة. كما أن اعتزال أبي موسى لأحداث الفتنة أقدر على ضبط النفس والتحكم في الأقوال والأفعال من الأحنف الذي

(1) ابن سعد: الطبقات 4: 111 - 112 بإسناد صحيح. وابن عساكر: تأريخ دمشق 541 - 542 (ترجمة أبي موسى الأشعري). والذهبي: سير أعلام النبلاء2: 396، وتأريخ الإسلام (41 - 60 هـ) ص 145.

(2)

البلاذري: أنساب الأشراف 2: 57أبإسناد حسن، وراويه عن الأحنف هو محمد بن أبي يعقوب سيد بني تميم ثقة وبحكم مكانته فإنه يستطيع التحقق من صحة المعلومات.

ص: 475

يمثل خصماً لدوداً للشاميين. ولعل من عوامل اختيار أبي موسى للتحكيم مهارته في القضاء وممارسته الطويلة في هذا الميدان في عهد النبوة وخلافة أبي بكر وعمر وعثمان (1).

ولا يرجع فشل التحكيم إلى شخصية أبي موسى بل إلى صعوبة حل الخلاف وإصرار الطرفين على مواقفهما السابقة، وعدم حيازة المحكمين على قوة محايدة تنفذ القرار. ومما يوضح سلامة التحكيم وحياده نص الوثيقة التي أقرها، بما في ذلك التسامح في رفض عمرو بن العاص صيغة أول وثيقة التحكيم التي تشير إلى إمرة علي للمؤمنين، لأن الشاميين لم يبايعوه على ذلك (2). ولا يبت نص وثيقة التحكيم في القضية بل يوضح الإطار العام الذي يحكم المباحثات ويوضح الهدف منها وهو الإصلاح بين الأمة وعدم ردها إلى الفرقة والحرب، ويحدد زمناً لانتهائها، كما يحدد مكان التحكيم وأنه متوسط بين الكوفة والشام والحجاز، واشترطا رضا الطرفين عمن يحضر المباحثات، أما الشهود فيختار كل طرفٍ شهوده، وتلتزم الأمة بنصره قرارات التحكيم، كما يلتزم بذلك الشهود (3).

وقد بقيت هذه الوثيقة محفوظة حيث اطلع عليها أبو اسحق الشيباني (محدث ثقة ت (141) هـ) ووصفها بقوله: "صحيفة صفراء عليها خاتم من أسفلها وخاتم من أعلاها، وهما ختما علي ومعاوية ونقشهما- محمد رسول الله-"(4).

(1) عبد الحميد علي ناصر: خلافة علي 261 - 262.

(2)

أبو عبيد: الأموال 158 - 159 بسند حسن، وعبد الرزاق: المصنف 10: 157، ويعقوب بن سفيان: المعرفة والتأريخ 1: 522، والنسائي: خصائص أمير المؤمنين علي 195.

(3)

البلاذري: أنساب الأشراف 2: ق 58 أ.

(4)

ابن سعد: الطبقات 3: 30 بسند حسن. وانظر محمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية 538 - 544 حيث يمكن ملاحظة الاختلاف بين رواية البلاذري وأبي مخنف والجاحظ

ص: 476

وقد اجتمع الحكمان في دومة الجندل ولم يتوصلا إلى اتفاق، وكان معاوية حاضراً اجتماع الدومة، ولم يحضر علي، ولعل لتحركات الخوارج أثراً في ذلك، فخطب معاوية في الناس قائلاً:"من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به ومن أبيه. قال ابن عمر: فحللتُ حبوتي وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر من قاتلك وأباك على الإسلام. فخشيتُ أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدماء، ويُحمل عني غير ذلك، فذكرتُ ما أعد الله في الجنان"(1). فبقيت الأوضاع على حالها، علي خليفة المسلمين، ومعاوية أمير الشام ولم يبايع معاوية بالخلافة إلا بعد استشهاد علي على يد الخوارج وكانت بيعته في بيت المقدس في شهر رمضان سنة (40) هـ، بعد وصول خبر استشهاد علي رضي الله عنه (2).

وإسماعيل التيمي.

(1)

البخاري: الصحيح (فتح الباري 7: 403). وعبد الرزاق: المصنف 5: 465، وابن سعد: الطبقات 7: 403.

(2)

ابن كثير: البداية والنهاية 8: 131.

ص: 477