الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في المشكلات المستعصية. ولا شك أن قيام الولاة بإمامة الناس في الصلاة، وخطبتهم فيهم بأنفسهم في صلاة الجمعة يعزز مكانتهم ويوحد القيادة الدينية والسياسية في أشخاصهم، كما أن توليهم بأنفسهم لجيوش الفتح تكسبهم احترام الناس وطاعتهم، وعندما يتولى الحكم خليفة جديد فإن الولاة يأخذون له البيعة من سكان الولايات. ومن مهامهم أخذ الزكاة من الأغنياء وإنفاقها على الفقراء، وتحقيق الأمن للرعية، وإقامة الحدود الشرعية، وكان الوالي تنيب من تقوم مقامه عند غيابه عن الولاية (1).
وكانت العلاقة بين الخليفة في المدينة وولاة الأمصار تتم عن طريق الرسائل المتبادلة، كما يستدعي الخليفة بعض ولاته إلى المدينة أحياناً، وأحياناً كان يرسل ممثلاً عنه إلى الولاة للاطلاع على أحوال الولايات بصورة مباشرة، وكان محمد بن مسلمة الأنصاري يقوم بمهام التفتيش على الولاة في خلافة عمر (2). واهتم عمر بجمع الولاة بمكة في موسم الحج للتداول معهم في أحوال الأمة (3) بل قام عمر بتفقد أحوال الولاة والقادة في الشام عندما زار بيت المقدس لتسليم مفاتيحها وأصر على زيارتهم في بيوتهم ليعرف على أحوالهم وتعاملهم مع الدنيا والأموال ومدى تعلقهم بها، وقد عانق أبا عبيدة عامر بن الجراح عندما رأى زهده في الدنيا رياشاً وطعاماً وقال له:"ما من أحدٍ من أصحابي إلا وقد نال من الدنيا ونالت منه، غيرك"(4).
مراقبة العمال والولاة:
كان الولاة على الأمصار يخضعون لمحاسبة إذا زادت ثروتهم زيادة كبيرة خوفاً من استغلالهم لنفوذهم في تنمية الثروة حتى لو لم يقصدوا ذلك، بل حاباهم
(1) عبد العزيز إبراهيم العمري: الولاية على البلدان في عصر الخلفاء الراشدين 60.
(2)
البلاذري: فتوح البلدان 221، وابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها 146.
(3)
أبو يوسف: الخراج 116 وقارن بالطبري: تأريخ 4: 204.
(4)
الأزدي: فتوح الشام 255، 256.
الناس بسبب موقعهم في السلطة.
وقد سأل عمر رضي الله عنه أبا هريرة واليه على البحرين من أين اجتمعت له عشرة آلاف درهم؟ فأجاب أبو هريرة: خيلي تناسلت، وعطائي تلاحق، وسهامي تلاحقت. فأمر بها عمر فقبضت (1).
إن عمر يحسب حساباً للهدايا التي يحصل عليها الولاة من الناس، وكذلك محاباة الناس للولاة في المعاملات المالية من مضاربة ومؤاجرة ومساقاة ومزارعة وبيوع، ولهذا أخذ عمر رضي الله عنه نصف أموال عدد من الولاة من أصحاب الفضل والدين والأمانة لأجل هذه المحاباة دون أن يتهمهم بالخيانة (2).
وهكذا حاسب خالد بن الوليد- قائد جبهة الشام- على تصرفاته في المال العام "إني أعتذر إليكم من خالد بن الوليد، إنى أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين، فأعطاه ذا البأس، وذا الشرف، وذا اللسان، فنزعته، وأثبت أبا عبيدة .. "(3).
وهكذا أدت الرقابة المالية إلى عزل أعظم القادة العسكريين المسلمين، رغم
(1) أبو عبيد: الأموال 282 - 283، وابن سعد: الطبقات 4: 335، وابن زنجويه: الأموال 2: 605 - 606، والبلاذري: فتوح البلدان 93 - 94 والأثر صحيح.
وانظر روايات ضعيفة في محاسبة سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة ابن سعد: الطبقات الكبرى 3: 307، وابن زنجويه: الأموال 2: 604 - 605). ومحاسبة عمرو بن العاص (البلاذري: فتوح البلدان 220 - 221 من كلام ابن المبارك (ت 181 هـ) بدون إسناد.
(2)
ابن تيمية: السياسة الشرعية 68 - 70 بتصرف.
(3)
أحمد: المسند 3: 476، والبخاري: التأريخ الكبير 8: 54، والتأريخ الصغير 1: 82، والطبراني: المعجم الكبير 22: 298 - 299، وأبو نعيم: معرفة الصحابة 2: 161 - 162 والأثر صحيح.
أنه اجتهد في التصرف المالي حسب ما يرى فيه المصلحة.
وثبت أن عمر رضي الله عنه عاقب الصحابي أنس بن مالك لأنه فرَّط في حفظ ستة ألاف درهم من الأموال العامة استودعها عند أنس، فضمنه إياها ويبدو من السياق أن عمر شعر بوجود إهمال في حفظها ولم يتهم أنساً (1).
وكان عمر يحاسب ولاته على ثروتهم، فإذا زادت زيادة كبيرة عما كانت عليه عند تعيينهم قاسمهم ثروتهم (2)، دون اتهامهم بالخيانة، بل لأنه يعتقد أن ولايتهم على الإقليم تيسر لهم تنمية أموالهم. وكان الولاة في خلافته يتحرجون من الولاية على الناس، وبعضهم طالب عمر بإعفائه من الولاية (3).
وكان لا يرى أن من حق الولاة أن يتنعموا من المال العام دون الرعية فقد غضب على والي أذربيجان عتبة بن فرقد لأنه أهدى إليه خبيصا (نوع من الحلوى) لم يكن الجند ينالونه، فكتب إليه عمر:"إنه ليس من كدِّك ولا من كدِّ أبيك ولا من كدِّ أمك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياكم والتنعم"(4).
كما كان يحقق في شكاوى الرعية ضدهم، ولما ضرب ابن لعمرو بن العاص أحد الأقباط وبلغ عمر شكواه، أراد أن يقتص للقبطي وخاطب عمراً بعبارته
(1) عبد الرزاق: المصنف 8: 182، وابن أبي شيبة: المصنف 4: 398، والبيهقي: السنن الكبرى 6: 289 - 290 والأثر صحيح.
(2)
البلاذري: فتوح البلدان 121.
ابن تيمية: السياسة الشرعة 46.
(3)
عبد العزيز إبراهيم العمري: الولاية على البلدان في عصر الخلفاء الراشدين 54.
(4)
مسلم: الصحيح 1642:3
البيهقي: السنن الكبرى 10: 128.
المشهورة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"(1).
كما حقق في شكوى أحد الجند ضد الوالي عمرو بن العاص لأنه رماه بالنفاق، وأدان القضاء الوالي وأصدر أمراً بجلده حد القذف لولا أن الجندي عفا عنه (2).
كما غضب عمر على عمرو بن العاص لأنه أنفذ حد شرب الخمر على عبد الرحمن. بن عمر بن الخطاب في بيته (3)، والحق أن ينفذه علناً أمام الناس ليعتبروا، وتحقيقاً لمبدأ المساواة أمام الشريعة.
ومن الحوادث الشهيرة تحقيقه في اتهام المغيرة بن شعبة بالزنا خلال ولايته على البصرة حيث استدعاه إلى المدينة مع الشهود الأربعة وبعد التحقيق مع الشهود تراجع الشاهد الرابع، فجلد الثلاثة حد القذف ولكنه عزل المغيرة عن ولاية البصرة (4)، وولى مكانه أبا موسى الأشعري الذي قام بإدارة الولاية خير قيام، وعرف بقيادته العسكرية لجيوش البصرة في الحرب ضد الفرس، كما عرف بمهارته في قراءة القرآن وتعليمه لأهل البصرة، وبمراسلاته الكثيرة مع الخليفة عمر، لكن ذلك لم يمنعه من تقبل شكاوى الرعية ضده والعمل على إنصافهم (5). ولم يسلم من الشكوى سعد بن أبي وقاص والي الكوفة لعمر "أنه اتخذ قصراً، وجعل له باباً
(1) ابن أعثم الكوفي: الفتوح 2: 82، وابن الجوزي: مناقب عمر بن الخطاب 99.
(2)
عمر بن شبة: تأريخ المدينة 3: 808.
(3)
عمر بن شبة: تأريخ المدينة 3: 841.
(4)
عبد الرزاق: التفسير 2: 52 - 53، وعبد بن حميد: التفسير، وابن المنذر: التفسير (السيوطي: الدر المنثور 18: 131)، والبلاذري: فتوح البلدان 341، والطبري: تأريخ 4: 206 - 207، والذهبي: سير أعلام النبلاء 3: 27، وابن كثير: البداية والنهاية 7: 82.
(5)
ابن الجوزي: مناقب عمر 95، 131.
يحجبه عن الناس" فأرسل عمر محمد بن مسلمة الأنصاري وأمره أن يحرق الباب ففعل، وعاد برسالة من سعد توضح حقيقة الأمر فقبل عمر قول سعد وصدقه (1).
وتجددت الشكوى بأنه "لا يحسن الصلاة!! " ولما تحرى عمر حقيقة مواقف سعد في ولايته بإرسال رجال إلى الكوفة وجد الناس يثنون عليه، إلا أن رجلاً عبسياً قال:"كان لا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية ولا يغزو بالسرية" ولم يقتنع عمر بهذه الشكاوى، لكنه أدرك أن ثمة شغب يحيط بواليه فعزله معلناً استمرار ثقته به:"إني لم أعزله لعجز ولا خيانة"(2). وهكذا خسره الكوفيون بسبب شغب بعضهم.
وكان اختيار الولاة يتم بعد مشاورة الخليفة لكبار الصحابة، وكذلك بعد رضى المرشح للولاية (3)، وكان عمر لا يولى أحداً من أقاربه في حين كان عثمان وعلي لا يرون بأساً بتولية الأقارب، وكثير ما كان عمر يختبر من يريد توليته، ويدرس شخصيته عن كثب، كما أنه كان لا يولي أهل البادية على أهل الحاضرة لاختلاف الطبائع والعادات والأعراف، وقد عين سلمان الفارسي واليا على المدائن ربما ليلفت الانتباه إلى مبدأ المساواة في الإسلام (4).
وكان الوالي يزود بكتاب من الخليفة يتضمن أمر التعيين له واليا على المنطقة وشروطه عليه ويشهد عليه رهطاً من المهاجرين والأنصار (5). وقد جرى نقل
(1) البلاذري: فتوح البلدان 276، والطبري: تأريخ 4: 121.
(2)
خليفة: التأريخ 149.
(3)
ابن سعد: الطبقات 4: 360، والمتقي الهندي: كنز العمال 5: 620، وابن كثير: البداية والنهاية 7: 35، 107.
(4)
عبد العزيز إبراهيم العمري: الولاية على البلدان في عصر الخلفاء الراشدين 143، وظافر القاسمي: نظام الحكم في الشريعة والتأريخ الإسلامي 473.
(5)
الطبري: تأريخ 4: 207.
بعض الولاة من ولاية إلى أخرى حسب ما تقتضيه مصلحة الدولة (1). كما جرى عزل بعض الولاة لأسباب متنوعة، فقد عزل عمر بن الخطاب العلاء بن الحضرمي لأنه عبر بجنده البحر من البحرين إلى فارس دون استئذان الخليفة مما أدى إلى وقوع أضرار بالجيش، وعزل عمر خالد بن الوليد عن الشام، لأنه خشى افتتان الناس به بتصورهم أنه سبب النصر لبراعته القيادية، بينما ينبغي أن يعزوا النصر إلى الله تعالى (حتى يعلم أن الله إنما ينصر دينه)(2).
ويستعين الوالي في بعض الولايات الكبيرة بولاة آخرين على المدن التابعة للولاية يتبعونه كما حدث في ولاية الشام حيث كانت ولايات حمص والجزيرة والأردن وفلسطين تتبع أبا عبيدة والي دمشق. وكان سلطان الولاة على المدن يزداد وينقص حيث قد تضم ولاية صغيرة إلى أخرى أو تفصل ولاية مستقلة من تبعيتها الإدارية.
وقد راعى عمر رضي الله عنه في اختيار الولاة عدة مبادئ منها:
عدم حرص المرشح على الإمارة، وهو اتباع للسنة النبوية (3)، وكان يقول:"لا يحب الإمارة أحد فيعدل"(4).
كما كان ينظر إلى تمتع المرشح بصفات تؤهله للولاية بأن يكون من أهل القوة والأمانة، والهيبة والتواضع، والرحمة بالناس، والحلم والرفق بالرعية (5)،
(1) عبد العزيز إبراهيم العمري: الولاية على البلدان في عصر الخلفاء الراشدين 55.
(2)
خليفة: التأريخ 122.
(3)
في الحديث "إنَّا لا نولي على هذا العمل من سأله"(البخاري: أحكام 7، ومسلم: إمارة 14).
(4)
عمر بن شبة: تأريخ المدينة 3: 856.
(5)
مصطفى محمد مسعد: التنظيم الإداري في الجزيرة العربية في عصر الخلفاء الراشدين 1: 269 (ضمن بحوث ندوة الجزيرة العربية في عصر الرسول والخلفاء الراشدين).