المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: الدعوة الاسلامية ومنطلقاتها الفكرية - عصر الخلافة الراشدة محاولة لنقد الرواية التاريخية وفق منهج المحدثين

[أكرم العمري]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تحليل المصادر

- ‌1 - كتب التأريخ:

- ‌محمد بن اسحق:

- ‌خليفة بن خياط:

- ‌محمد بن سعد (ت 230ه

- ‌البلاذري:

- ‌ابن عبد الحكم:

- ‌الأزدي:

- ‌ابن شبَّة:

- ‌اليعقوبي:

- ‌ابن قتيبة الدينوري:

- ‌الطبري:

- ‌المسعودي:

- ‌ابن أعثم الكوفي:

- ‌ابن حبيش:

- ‌الكلاعي:

- ‌المحب الطبري (ت 694ه

- ‌محمد بن يحيى الأشعري المالكي- ابن بكر- (ت 741ه

- ‌ابن كثير (ت 774 ه

- ‌ الذهبي

- ‌2 - كتب الحديث:

- ‌3 - كتب علم الرجال:

- ‌المراجع الحديثة:

- ‌الباب الأول: السياسة(الخلافة والخلفاء)

- ‌الفصل الأول: الخلافة

- ‌المبحث الأول: نظام الخلافة

- ‌المبحث الثاني: خلافة أبي بكر الصديق (رضى الله عنه)

- ‌المبحث الثالث: خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌المبحث الرابع: خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌المبحث الخامس: خلافة على بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌المبحث السابع (*): أزمة الخلافة وانتقال مركز الخلافة إلى العراق

- ‌الفصل الثاني: الخلفاء

- ‌المبحث الأول: أبو بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌المبحث الثاني: عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌المبحث الثالث: عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌المبحث الرابع: على بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌المبحث الخامس: حجية عمل الخلفاء الراشدين

- ‌المبحث السادس: الشورى

- ‌الباب الثانيالإدارة. القضاء

- ‌الفصل الأول: الإدارة(الولاة. الموظفون)

- ‌المبحث الأول: الولاة على البلدان

- ‌الولاة في خلافة أبي بكر:

- ‌قائمة بأسماء ولاة أبي بكر على البلدان:

- ‌الولاة في خلافة عمر:

- ‌مراقبة العمال والولاة:

- ‌قائمة بأسماء ولاة عمر على الأقاليم:

- ‌الولاة في خلافة عثمان:

- ‌قائمة بأسماء الولاة في خلافة عثمان:

- ‌الولاة في خلافة علي:

- ‌قائمة بأسماء الولاة في خلافة على:

- ‌المبحث الثاني: الموظفون

- ‌الرقابة على الأسواق (نظام الحسبة):

- ‌تنظيم العرفاء والنقباء ومساعدته في إيصال العطاء لمستحقيه:

- ‌الموظفون في خلافة أبو بكر:

- ‌عمال الصدقات:

- ‌الموظفون في خلافة عمر:

- ‌الموظفون في خلافة عثمان:

- ‌الموظفون في خلافة على:

- ‌الفصل الثاني: القضاء

- ‌القضاء في عصر الخلافة الراشدة:

- ‌تطبيق الحدود الشرعية:

- ‌ندرة الخصومات بين الناس:

- ‌إخضاع الخلفاء أنفسهم لأحكام القضاء وإجراءاته:

- ‌الجرائم والعقوبات:

- ‌التعزير:

- ‌الجنايات:

- ‌القضاة في خلافة أبي بكر:

- ‌القضاة في خلافة عمر:

- ‌رواتب القضاة:

- ‌القضاة في خلافة عثمان:

- ‌القضاة في خلافة على:

- ‌الباب الثالث: الاقتصاد

- ‌الفصل الأول: الموارد المالية

- ‌المبحث الأول: الجزية

- ‌الجزية في خلافة أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌الجزية في خلافة عمر رضي الله عنه:

- ‌الجزية في خلافة عثمان رضي الله عنه:

- ‌الجزية في خلافة علي رضي الله عنه:

- ‌المبحث الثاني: الخراج

- ‌المبحث الثالث: الغنائم

- ‌المبحث الرابع: الزكاة

- ‌المبحث الخامس: عشور التجارة

- ‌الفصل الثاني: النفقات العامة

- ‌المبحث الأول: مصارف الزكاة

- ‌المبحث الثاني: مصارف الغنائم والفيء

- ‌المبحث الثالث: العطاء

- ‌الأرزاق العينية:

- ‌نفقات طارئة:

- ‌المبحث الرابع: الإصلاحات

- ‌1 - الإقطاع:

- ‌2 - الحمى:

- ‌3 - الإنفاق على العمران:

- ‌عمران المساجد:

- ‌بناء الأمصار:

- ‌حفر الأنهار والخلجان وإقامة السدود والمنشآت الأخرى:

- ‌4 - مشروع تحرير الرقيق:

- ‌5 - النقود:

- ‌القروض الحسنة:

- ‌القوة الشرائية للنقود:

- ‌الرقابة المالية:

- ‌رقابة عمر لأهله:

- ‌الباب الرابع: الثقافة والتعليم

- ‌الفصل الأول: السمات والنظرية والتقاليد

- ‌تمهيد: التراث الثقافي قبل الإسلام

- ‌المبحث الأول: السمات العامة للتعليم

- ‌المبحث الثاني: نظرة الاسلام إلى العلم والتعليم

- ‌المبحث الثالث: آداب التعليم وتقاليده

- ‌الفصل الثاني: التطبيقات والمركز والموضوعات

- ‌المبحث الأول: النشاط التعليمي

- ‌تمهيد

- ‌أ - النشاط التعليمي بمكة قبل الهجرة

- ‌ب- النشاط التعليمي بالمدينة:

- ‌جـ - انتشار التعليم الاسلامي في البوادي والأمصار الجديدة:

- ‌المبحث الثاني: مراكز الحركة الفكرية

- ‌مواد الكتابة:

- ‌المبحث الثالث: موضوعات التعليم

- ‌أ- القرآن وعلومه:

- ‌ب- الحديث:

- ‌فمن مواقف كبار الصحابة الذين كرهوا كتابة الحديث ما يلي:

- ‌أما مواقف الصحابة التي تدل على إجارتهم الكتابة فهي:

- ‌جـ - الفقه:

- ‌د- اللغة العربية:

- ‌هـ - التاريخ:

- ‌و- علم الأنساب:

- ‌ز- الشعر:

- ‌حـ ـ القصص:

- ‌ط - الحكم والأمثال:

- ‌ي - الطب:

- ‌ك - علم النجوم (التنجيم):

- ‌ل- الثقافة واللغات الأجنبية:

- ‌الباب الخامسأحوال العالم.الدعوة الإسلامية ومنطلقاتها الفكرية.الفتوحات

- ‌الفصل الأولأحوال العالم.الدعوة الاسلامية ومنطلقاتها الفكرية

- ‌المبحث الأول: نظرة إلى أحوال العالم قبل الفتح الاسلامي

- ‌دولة الفرس

- ‌الحالة السياسية والاقتصادية:

- ‌الحالة الدينية والفكرية

- ‌الحالة الاجتماعية والأخلاقية

- ‌دولة الروم (الإمبراطورية البيزنطية) 312 - (1453) م

- ‌الحالة السياسية والاقتصادية:

- ‌الحالة الدينية والفكرية

- ‌الحالة الاجتماعية والأخلاقية:

- ‌تنبيه:

- ‌الهند والصين واليابان

- ‌المبحث الثاني: الدعوة الاسلامية ومنطلقاتها الفكرية

- ‌الفصل الثاني: الفتوحات

- ‌المبحث الأول: فتوح العراق والمشرق

- ‌في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه:

- ‌ملاحظات:

- ‌في خلافة عمر بن الخطاب (رضى الله عنه):

- ‌القادسية (15ه

- ‌المدائن:

- ‌جلولاء (16 ه

- ‌تكريت:

- ‌بناء الكوفة (17ه

- ‌بناء البصرة (16 هـ أو (17) ه

- ‌فتح الأهواز:

- ‌فتح رامهرمز:

- ‌فتح تستر

- ‌فتح السوس وجندي سابور:

- ‌نهاوند (21 ه

- ‌فتح أصبهان:

- ‌إعادة فتح همذان

- ‌فتح الري:

- ‌فتح إقليم فارس:

- ‌فتح كرمان ومكران:

- ‌فتح سجستان:

- ‌فتح خراسان:

- ‌في خلافة عثمان بن عفان (رضى الله عنه):

- ‌في خلافة علي بن أبي طالب (رضى الله عنه):

- ‌المبحث الثاني: فتوح الشام ومصر والمغرب

- ‌فتوح الشام في خلافة الصديق رضي الله عنه:

- ‌الصدمات الأولى:

- ‌اليرموك (في الطبري سنة (13) ه

- ‌ في خلافة عمر رضي الله عنه

- ‌عزل خالد:

- ‌فتح دمشق (في الطبري أوائل سنة (14) ه

- ‌حمص وحماة واللاذقية وقنسرين وحلب:

- ‌ أنطاكية

- ‌ بيت المقدس

- ‌فتح مصر:

- ‌العريش:

- ‌حصن بابليون:

- ‌في خلافة عثمان رضي الله عنه:

- ‌إعادة فتح الاسكندرية:

- ‌السودان:

- ‌أفريقية:

- ‌ذات الصواري:

- ‌الجيش ونظام القتال:

- ‌الباب السادس: الفتن الداخلية

- ‌الفصل الأول: الردة

- ‌تمهيد انتشار الاسلام خارج المدينة:

- ‌المبحث الأول حركات الردة

- ‌مراكز المرتدين

- ‌اليمن:

- ‌ردة اليمامة:

- ‌ردة طليحة الأسدي:

- ‌انتشار الردة:

- ‌المبحث الثاني القضاء على الردة

- ‌القضاء على ردة طليحة الأسدي:

- ‌القضاء على مالك بن نويرة:

- ‌القضاء على ردة مسيلمة الكذاب:

- ‌القضاء على ردة البحرين:

- ‌القضاء على ردة عمان ومهرة:

- ‌القضاء على ردة اليمن:

- ‌القضاء على ردة حضرموت:

- ‌الفصل الثاني: فتنة مقتل الخليفة عثمان رضى الله عنه

- ‌فتنه مقتل عثمان رضي الله عنه

- ‌خبر الراكب الذي تعرض للوفد المصري:

- ‌موقف الأنصار:

- ‌مواقف الصحابة في الفتنة

- ‌صفية أم المؤمنين:

- ‌الزبير بن العوام:

- ‌أبو ذر الغفاري:

- ‌أسامة بن زيد:

- ‌الحسن بن على بن أبي طالب:

- ‌عبد الرحمن بن عوف:

- ‌زيد بن ثابت:

- ‌عبد الله بن عمر:

- ‌تعليقات على مقتل الخليفة آراء الصحابة وتوقعاتهم لنتائج مقتل عثمان رضي الله عنه

- ‌على ابن أبي طالب:

- ‌سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل:

- ‌أبو موسي الأشعري:

- ‌سمرة بن جندب:

- ‌عائشة رضي الله عنها:

- ‌بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالخلافة:

- ‌الفصل الثالث: موقعة الجمل

- ‌موقعة الجمل:

- ‌الفصل الرابع: معركة صفين

- ‌معركة صفين:

- ‌الفصل الخامس: موقعة النهروان

- ‌موقعة النهروان:

- ‌المصادر والمراجع

- ‌المصادر

- ‌المراجع الحديثة

- ‌المؤلف

- ‌السيرة الذاتية:

- ‌مؤلفاته:

- ‌التحقيقات

- ‌البحوث:

الفصل: ‌المبحث الثاني: الدعوة الاسلامية ومنطلقاتها الفكرية

‌المبحث الثاني: الدعوة الاسلامية ومنطلقاتها الفكرية

إن الخطاب الاسلامي موجه للناس كافة بشتى بقاعهم ومختلف أزمانهم وبكل أجناسهم وقومياتهم وألوانهم (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(1)(وما أرسلناك إلا كافةً للناس بشيراً ونذيراً)(2)، وهذا العموم في الخطاب للبشرية اقتضى أن يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه بدعوة الآخرين إلى الدخول في الاسلام (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني). (3) وقد حفلت العصور الاسلامية المعاقبة بنشاط دعوي في أوضاع الحرب والسلام كان له أثره البالغ في تكثير أعداد المسلمين وتوسيع رقعة دار الاسلام. وكان الباعث الرئيسي على الدعوة هو طلب مرضاة الله والحصول على مثوبته ففي الحديث النبوي:"لأن يهد الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمر النَّعم"(4).

إن موضوع الدعوة هو الاسلام بشموله للعقيدة والشريعة والأخلاق أو بتعبير معاصر لجوانب الحياة المتنوعة فكرية واجتماعية واقتصادية وسياسية، ولكن المحور الأساسي هو التوحيد الخالص لله تعالى وأنه الرب الخالق والمنعم الرازق

(1) الأنبياء 107.

(2)

سبأ 28.

(3)

يوسف 108.

(4)

البخاري: الصحيح 4: 58، ومسلم: الصحيح، كتاب فضائل الصحابة باب 4 رقم 34 واللفظ

له.

ص: 342

وأنه خلق البشر لتحقيق العبودية له (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)(1)، ويتم اختبار طاعتهم في هذه الدنيا ويجازون على أعمالهم في اليوم الآخر، حيث يدخل المؤمنون الجنة والكافرون النار (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثنَّ ثم لتنبؤنَّ بما عملتم وذلك على الله يسير)(2)(سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين أمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)(3)(والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)(4)

إن الدخول في الاسلام يبدأ بـ "أشهد أن لا إله لا الله وأن محمداً رسول الله" وبها يعلن الانسان اخلاصه في العبودية لله وحده، والتزامه باتباع أحكام الاسلام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم وهكذا يدخل الانسان مرحلة الوعي الديني .. الوعي بالهدف النبيل من الوجود، والوعي بضرورة الارتقاء الروحي والمادي، والوعي بوسائل الارتقاء من الإحساس بمعاني الإيمان والتدبر والتفكر والذكر والشكر والعبادات المتنوعة من صلاة وصوم وحج لتوثيق الصلة بالخالق (الصلاة معراج المؤمن)، ومن الانتصار للحق والعدل والخير والجمال بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن تمثل القيم الاسلامية في واقع حياته ليكون مثال "الإنسان الصالح"، ومن العطاء السخي للآخرين عن طريق "العمل الصالح" الذي يقربه إلى الله تعالى.

إن دائرة العمل الصالح واسعة، وهو يهدف إلى الارتقاء بالحياة الروحية والمادية ومساندة قيم الحق والخير والجمال في الأرض .. وهي معاني كبيرة لا يسهل

(1) الذاريات 56.

(2)

التغابن 7.

(3)

الحديد 21.

(4)

التغابن 10.

ص: 343

تحقيقها نسبياً، وإن تحققت في جيل فليس ثمة ما يضمن تحققها في جيل لاحق، فالصعود والهبوط يعتقبان في تاريخ البشر، وتجديد الدين وإحياء السنن وتوثيق عرى الإيمان يرتبط بالدعوة الاسلامية، ومدى وعي الدعاة لمضامين الاسلام وشموليته وقدرتهم على تمثل تعاليمه، وإقناع الآخرين بها.

إن القرآن هو أول كتاب باللغة العربية حرَّك وعي الإنسان قبل أربعة عشر قرناً، وفتح عقله على مكانه في الكون والحياة، وعرَّف بالحقوق والواجبات التي تعمق وعيه الاجتماعي ونظرته الإنسانية، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوضح ذلك كله بأقواله وسيرته الشخصية، ونظراً لتمثله القرآن بعمق ووعي خاصين، وتأثيره الكبير في جيله خاصة فإن الرؤية القرآنية تحولت إلى واقع إنساني معاش، تفاعل مع الوحي الإلهي- قرآناً وسنةً- وأثمر ارتقاءً عظماً في الوعي الإنساني العام عندما انتشر الاسلام في الزمان والمكان ..

هدفت الدعوة الاسلامية إلى تخفيف معاناة الإنسان في الحياة، والتي يمكن أن تتضاءل بازدياد وعيه في ظل الوحي الإلهي، في حين قد يؤدي ازدياد الوعي الى زيادة المعاناة عند غياب الايمان، فقسوة الحياة تشتد عندما تفقد المعنى، والدين هو الذي يعطيها المعنى.

وقصدت الدعوة الاسلامية الى تحرير الإنسان من الأوهام والأساطير والخرافات والشعوذة التي يقوم بها منتفعون يزعمون أنهم وسطاء بين الله والناس. وأحياناً اتخذ الانسان وسطاء من الحجر والشجر والبشر يناجونهم ويسألونهم، فأعلنت الدعوة الاسلامية أنه محض الشرك وأن لا وساطة بين الله والإنسان، وفي الحديث "اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب"(1) مما يفتح بصيرة

(1) البخاري: الصحيح 7: 168، ومسلم: الصحيح 4: 1740

ص: 344

المؤمن على عاقبة ظلم الإنسان ويرسي أساساً للعدل السياسي والاجتماعي.

وتحمل الدعوة الاسلامية ميزاناً دقيقاً للحقوق والواجبات حسب الشريعة، فلا يجوز التفريط بها أو التخلي عنها، فهي منحة إلهية للبشرية، وقد اقتضى تطبيق تلك التعاليم جهاداً وبذلاً منذ نزول الوحي حتى استقرت دولة الاسلام، فلولا الحركة الجهادية لما قضي على الشرك وطابع الحياة الجاهلية، ولما استقرت معاني العقيدة وقيم الاسلام الاجتماعية ومضامينه الخلقية في نفوس الملايين.

وحرصت الدعوة الاسلامية على بناء مجتمع العدل والقوة (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز)(1) مما يوضح الأسس اللازمة لبناء مجتمع قوي متحضر يقوم على العدل والقوة، فالكتاب والميزان لإقامة العدل، والحديد لإيجاد القوة التي تحمي العدل وتكفل استمراره. والعدل الشامل يمتد إلى المسلم والذمي والكافر، والأغنياء والفقراء والأقوياء والضعفاء والرجال والنساء حيث تتحدد حقوق الجميع وفق موازين العدل دون احتكار أو استغلال أو استئثار أو ظلم (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)(2).

وتنطلق الدعوة الاسلامية من مبدأ المساواة بين البشر دون اعتبار للثروة والجاه ولا اللون أو العرق "الناس بنو آدم وآدم من تراب"(3). ويقتضي ذلك تحقيق تكافؤ الفرص أمام الناس والتزام العدل المطلق بينهم، وهدم النظم الطبقية إذ لا مكان للعنجهية والصلف والكبرياء والاستعلاء على الناس "المسلمون تتكافأ دماؤهم

(1) الحديد 25.

(2)

النحل 90.

(3)

الترمذي: الجامع حديث رقم 3956، وأحمد: المسند 2: 361.

ص: 345

ويسعى بذمتهم أدناهم" (1). وهذا يفسر تجاوب الأمم المختلفة مع الدعوة الاسلامية ودخولها في دين الله أفواجا. وربما من أجل ذلك كله قال الفيلسوف الألماني هيجل: "يعتبر المبدأ الاسلامي- أو روح التنوير في العالم الشرقي- أول مبدأ يقف في وجه البربرية" (2).

وتعلم الدعوة الاسلامية الشورى أساساً للنظام السياسي والاجتماعي انطلاقاً من الآية (وأمرهم شورى بينهم) والآية (وشاورهم في الأمر) وقد بيَّن عمر رضي الله عنه أن الحكم يخص الأمة وأن من يسلبها هذا الأمر يكون غاصباً (3).

وتوازن الدعوة الاسلامية بين المطالب الروحية والدنيوية، وتنظر إلى عمران الأرض وزينة الحياة وطيباتها نظرة متفائلة، فلا تطالب البشر بالتبتل والحرمان والنأي عن استثمار الطاقات المتنوعة لمصالحهم (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)(4)(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله اليك)(5) فالمطلوب أن يكون العمران والاستثمار في نطاق الإحساس دون الظلم والانحراف عن الفطرة وتسخير القوى نحو الشر والدمار والطغيان

وهي في دعوتها إلى العمران تربي الأتباع على الاتقان، والاتقان يقابل

بمصطلحات العصر (التكنولوجيا)، والاحسان مرتبة عليا فوق الاسلام والإيمان، وفيها تتفجر الطاقات الانسانية، وتنفتح على عالم الغيب بتركيز عال من العبادة

(1) أبو داؤد: السنن حديث رقم 2751.

(2)

هيجل: محاضرات في فلسفة التأريخ 250.

(3)

يعقوب بن سفيان: المعرفة والتأريخ 1: 351 بإسناد صحيح.

(4)

الأعراف 32.

(5)

القصص 77.

ص: 346

والرقابة واليقين "الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"(1).

وقد أثمرت هذه الدعوة حضارة مادية رائعة في العصور الاسلامية الذهبية شملت الفكر والعلوم والزراعة والصناعة.

وكان من مقاصد الدعوة الاسلامية حفظ النوع الإنساني واستمراره في الوجود، بتشريع الزواج وتحصين الأسرة وتحريم اتلاف النفس البشرية بالقتل أو الانتحار (من قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)(2) معتبرة تحقيق الأمان الفردي أساساً لتحقيق الأمن الجماعي.

وتفتح الدعوة الاسلامية أبواب التوبة أمام العالمين مهما بلغت معاصيهم دون الحاجة إلى الاعتراف أمام وسيط أو كشف مستور للآخرين (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم)(3) وبذلك تم التأكيد على قيم إيجابية تحارب اليأس والقنوط والتردي والعبثية والإحساس بمأساوية الحياة، وتمحو الصور القاتمة المظلمة الموحية بالاكتئاب والقلق مثل الطِّيرة (التشاؤم) والخوف من المستقبل. سأل صحابي النبي صلى الله عليه وسلم: منَّا رجال يتطيرون؟ فأجابه: "ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنَّهم"(4).

وتكثر الصور المتفائلة والمعالم المضيئة والمعاني الايجابية الملطفة للحياة والمجملة للاجتماع البشري بإشاعة السلام والمحبة بين الناس والاهتمام بحسن

(1) البخاري: الصحيح 1: 18.

(2)

المائدة 32.

(3)

الزمر 53.

(4)

مسلم: الصحيح 1: 382 حديث رقم 537، وأبو داؤد: السنن 1: 244 - 245.

ص: 347

المنظر والمظهر والنظافة وطيب الرائحة.

وأكدت الدعوة الاسلامية على التكافل والتعاون بين الناس ابتداءً بصلة الأرحام وانتهاءً بالمجمع بالحث على السخاء والكرم والإيثار ومراعاة حقوق الجيران حيث ينخلع الناس عن أموالهم التي يحبونها تحت شعار "الصدقة برهان"(1) يعني أنها دليل قاطع على تذوق حلاوة الإيمان.

وأعلنت الدعوة الاسلامية حماية الملكية الفردية، وحثَّت على دوام تداول الأموال بالاستثمار، ومنعت تبديدها حتى من قبل صاحبها فحجرت عليه إذا كان سفيهاً لا يدرك عواقب إتلاف الثروة، وحرمت الربا والاحتكار منعاً لانحصار المال بأيدٍ قليلة (كي لا يكون دولةً بين الأغنياء منكم)(2).

وكانت عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر تحفز روح المغامرة الجهادية والعلمية والتجارية، وتدفع للبذل والتضحية لبناء الأمة وكيانها الحضاري.

وقد اهتمت الدعوة الاسلامية بالعلم فهو فريضة على كل مسلم، ووعدت بالأجر العظيم على طلبه، وقد وردت كلمة العلم في (426) موضع من القرآن الكريم وأعلت مكانة العلماء حتى اعتبرتهم ورثة الأنبياء (3). وأرست قيماً ثقافية تضمن استمرار التقدم العلمي. فالعلم حق للجميع وليس حكراً لفئة معينة مما يؤدي للارتفاع بالمستوى الثقافي لجمهور الأمة، والعلم يجب أن يقترن بالعمل والسلوك، وهو دليل توفيق الله للإنسان "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" وفقه الدين يقتضي فهم الحياة والنظر إلى أحداثها وقضاياها وفق مفاهيم الاسلام الذي انتظم جوانب الحياة المتنوعة، فلا عجب إذا ما تفتحت بصيرة المسلم على جوانب

(1) مسلم: الصحيح 203:1.

(2)

الحشر 7.

(3)

أبو داؤد: السنن 3: 317، والترمذي: الجامع 5: 49، وابن ماجة: السنن 1: 81.

ص: 348

الاجتماع والاقتصاد والحس والذوق وقيم الجمال بصورة أرحب وأعمق وأشمل كلما ازداد بصيرة في دينه.

والعلم تترتب عليه مسؤولية دينية، فالعالم يُّسأل عن موقفه العلمي يوم القيامة "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال:

وعن علمه ماذا عمل فيه" (1). والعالم مسئول عن نشر العلم وعدم كتمانه "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة" (2).

والعلم بحر لا ساحل له، ولا يمكن للفرد الإحاطة به، لذلك لابد من الاستمرار في طلبه دون انقطاع، وقد أثمرت هذه القيم الثقافية حركة فكرية زاهرة حيث صار "التعلم المستمر" و "تراكم المعرفة" و "تجميع العلم" ودراسته بصورة منظمة من أبرز خصائص الحركة الفكرية في عصور الاسلام الذهبية.

وكانت الدعوة الاسلامية ترتكز على مفهوم أن العقل وحرية الفكر مناط التكليف وطالبت أتباعها بالبحث الحر عن الدليل أو البرهان، وأنكرت تقليد الآخرين، فلم يظهر في الاسلام كهنوت يدَّعي احتكار فهم الاسلام وحق تفسير نصوصه كما حدث في تأريخ الأديان الأخرى، بل بوسع كل مسلم أن يرجع إلى القرآن والسنة وأن يتضلع في علومهما ويأخذ بعد ذلك عنهما، ويناقش الآخرين في صحة الدليل وطريقة الاستدلال.

إن التأمل في المنطلقات الفكرية للدعوة الاسلامية يكشف عن مبادئ أساسية تتمثل في تحقيق العبودية لله والكرامة والحرية والعلم والعدل والمساواة والشورى للإنسان الذي يتجه إليه الخطاب الاسلامي في مطلق الزمان والمكان.

(1) أبو داؤد: السنن 3: 323، وابن ماجة: السنن 1: 93.

(2)

أبو داؤد: السنن 3: 321، والترمذي: الجامع 5: 29.

ص: 349