الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موقعة الجمل:
وصل المعارضون إلى البصرة، ففوجئ الناس بهم وارتاعوا وتعجبوا، قال كليب بن شهاب- شاهد عيان تابعي صدوق-:"لما قُتل عثمان رضي الله عنه أتانا الخبر ونحن راجعون من غزاتنا .. فانتهينا إلى البصرة، فلم نلبث إلا قليلاً حتى قيل: هذا طلحة والزبير، معهما أم المؤمنين، فراع ذلك الناس وتعجبوا، فإذا هم يزعمون للناس أنهم إنما خرجوا غضباً لعثمان وتوبة مما صنعوا من خذلانه، وإنَّ أمَّ المؤمنين تقول: غضبنا لكم على عثمان في ثلاث: إمارة الفتى، وموقع الغمامة، وضربة السوط والعصا. فما أنصفنا إن لم نغضب له عليكم في ثلاث جررتموها إليه حرمة الشهر، والبلد، والدم. فقال الناس: أفلم تبايعوا علياً، وتدخلوا في أمره؟ فقالوا: دخلنا واللج- السيف- في أعناقنا"(1).
وقد غلب المعارضون على البصرة دون أن يتمكن عثمان بن حنيف واليها لعلي من مقاومتهم، لأن قبائل البصرة انضم معظمها إليهم، وقد ألقي القبض على الوالي، ثم أطلق سراحه ليلتحق بعلي .. واتجه المعارضون إلى بيت المال ودار الرزق فاعترضهم حكيم بن جبلة العبدي أحد الثوار المشاركين في حصار الدار بالمدينة، ومعه سبعمائة من قومه وجرت معركة قُتل فيها حكيم بن جبلة وسبعون من قومه كانوا قد شاركوا في حصار دار عثمان رضي الله عنه بالمدينة (2).
وسيطر المعارضون بقيادة الزبير بن العوام على البصرة (3)، وقوي موقفهم باستيلائهم على بيت المال، وفيه الذهب والفضة (4).
(1) الطبري: تأريخ 4: 490 بإسناد حسن.
(2)
الطبري: تأريخ 4: 469 من مرسل الزهري بسند صحيح إليه.
(3)
البلاذري: أنساب الأشراف 2: 39 ب بسند حسن.
(4)
ابن أبي شيبة: المصنف 15: 280 بإسناد صحيح.
أدرك علي رضي الله عنه خطورة الموقف، وما يمكن أن يجرَّ إليه الخلاف من تمزيق الدولة الإسلامية، فعزم على إعادة المعارضين إلى الطاعة، واستنفر أهل المدينة للخروج معه فاجتمع معه حوالي سبعمائة رجل (1)، وتثاقل عنه عدد من كبار الصحابة منهم سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وأبو مسعود الأنصاري ومحمد بن مسلمة الأنصاري وعبد الله بن سلام وأسامة بن زيد وأهبان بن صيفيّ .. إذ رأوا أنها أحداث فتنة ينبغي عدم الخوض فيها. وقد اختص النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم بالتحذير من المشاركة في الفتن الداخلية، فاعتذروا لعلي بذلك.
وقد حاول عبد الله بن سلام أن يثني علياً عن عزمه على الخروج من المدينة إلى العراق "لا تأتِ العراق، وعليك بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فالزمه .. فوالله لئن تركته لا تراه أبداً". فقال رجال من حول علي: دعنا فلنقتله. فأجابهم: إن عبد الله بن سلام منا رجل صالح (2).
وقد خرج علي من المدينة متجهاً إلى العراق، وقد عسكر في الربذة (3) حيث أضيف إلى جنده مائتا رجل (4)، فبلغوا تسعمائة رجل.
وقد حاول الحسن بن علي ثني أبيه عن الذهاب إلى العراق وهو يبكي لما أصاب المسلمين من الفرقة والاختلاف، لكن علياً رفض ذلك، وأصر على إعادة المعارضين له إلى الطاعة محتجاً ببيعتهم له بالمدينة (5).
(1) البلاذري: أنساب الأشراف 2: 45 ب بسند حسن.
(2)
ابن حجر: المطالب العالية (المسندة) ق 630 - 631 نقلاً عن ابن اسحق بن راهويه.
(3)
الربذة: قرية تقع شرق المدينة على بعد 204 كيلومتر عنها، وعلى الإبل مسافة ثلاثة أيام ونصف اليوم للإبل السريعة (علي ثائب العمري: النبذة في ترجمة أبي ذر وتأريخ الربذة ص 269).
(4)
البلاذري: أنساب الأشراف 2: 45 ب.
(5)
ابن أبي شيبة: المصنف 15: 99 - 100 بإسناد حسن و 274، والبخاري: التأريخ الكبير 1: 67، والحاكم: المستدرك 3: 115، والذهبي: تأريخ الإسلام (الخلفاء الراشدون)487.
وقد أرسل علي من الربذة رسولين لاستنفار الكوفيين، وهما محمد بن أبي بكر الصديق ومحمد بن جعفر، فأخفقا في مهمتهما لأن أبا موسى الأشعري والي الكوفة لعلي التزم موقف اعتزال الفتنة وحذر الناس من المشاركة فيها (1)، فأرسل علي رسولاً ثالثاً هو هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، فأخفق في التأثير فيهم (2). فاتجه علي إلى ذي قار- قرب الكوفة- وعسكر بها (3)، ومنها أرسل عبد الله بن عباس وأتبعه ابنه الحسن وعمار بن ياسر لاستنفار الكوفيين، كما عزل أبا موسى الأشعري عن الكوفة وولى عليها قرظة بن كعب (4).
ولم يتأثر عمار بن ياسر بملامة أبي موسى الأشعري وأبي مسعود الأنصاري له لتسرعه في الأمر، بل صعد يوم الجمعة إلى المنبر وخاطب الناس قائلا:"أما والله إنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي"(5). وهكذا شهد لعائشة رضي الله عنها بالجنة، وبصَّر الناس بأن هذا امتحاناً
(1) ابن أبي شيبة: المصنف 15: 12 بإسناد حسن، وأبو داود: السنن (مع شرح الخطابي) 4: 457 بإسناد حسن، والترمذي: السنن- نسخة تحفة الأحوذي- 6: 446 حديث رقم 2300 وقال: حسن غريب. والألباني: سلسلة الأحاديث الصحيحة 4: 1524 وقال: إسناده صحيح رجاله كلهم ثقات رجال البخاري.
(2)
الطبري: تأريخ 4: 477 وفيه محمد بن أبي ليلى سيء الحفظ، وابن حجر: فتح الباري 13: 58.
(3)
الطبري: تأريخ 4: 452 بسند صحيح إلى الزهري مرسلاً.
(4)
البخاري: الصحيح (فتح الباري 13: 53 و 13: 58) نقلاً عن ابن أبي شيبة وصحح الحافظ سنده.
(5)
البخاري: الصحيح (فتح الباري 13: 53 - 54)، وابن أبي شيبة: المصنف 15: 287،
لهم من الله، ليعلم إن كانوا يتبعون عواطفهم، أم ينقادون للحق فيتبعون علياً، وهو الخليفة الشرعي الواجب الطاعة
…
وبعد هذا الاستنفار التحق ما بين الستة آلاف إلى السبعة آلاف رجل بجيش علي بذي قار، كما التحق به ألفان من أهل البصرة من عبد القيس قبيلة حكيم بن جبلة كما التحقت به قبائل أخرى حتى بلغ جيشه حوالي اثني عشر ألف رجل منهم ثمانمائة من الأنصار، وأربعمائة ممن شهد بيعة الرضوان (1).
عسكر علي بالزاوية أياماً، وطلب من الأحنف بن قيس أن يكفَّ الناس عن الالتحاق بالزبير- وكان الأحنف ممن بايع علياً بالمدينة-، وأن يفي بوعده لطلحة بأن يعتزل القتال (2).
كانت المواجهة بين علي من ناحية والزبير وأصحابه من ناحية أخرى قرب قصر عبيد الله، وجرت محاولات لمنع القتال قام بها المعتزلون للقتال "خرج كعب بن سور ناشراً مصحفه، يُذكِّر هؤلاء، ويذكر هؤلاء، حتى أتاه سهم فقتله"(3).
وكذلك فإن الصحابي عمران بن الحصين أرسل إلى بني عدي رسولاً ينصحهم باعتزال الفريقين: "إني لكم ناصح، ويحلف بالله لئن يكون عبداً حبشياً
وخليفة: التأريخ 184، والطبراني: المعجم الأوسط 1: 322، والذهبي: تأريخ الإسلام 2: 149 (ط. القدسي)، وابن حجر: فتح الباري 13: 58 - 59.
(1)
عبد الرزاق: المصنف 5: 456 - 457، والطبري: تأريخ 4: 508 كلاهما بإسناد صحيح إلى الزهري. وخليفة بن خياط: التأريخ 184 ص مرسل سعيد بن جبير، والبلاذري: أنساب الأشراف 2: 45 ب بسند حسن وتعتضد الطرق.
(2)
الداني: الفتن 194 ب- 1195، والطبري: تأريخ 4: 500 - 501.
(3)
ابن سعد: الطبقات 7: 92 وصححه ابن حجر (فتح الباري 13: 34).
مجدعاً يرعى أعنزاً في رأس جبل حتى يدركه الموت أحب إليه من أن يرمي في أحد من الفريقين بسهم أخطأ أو أصاب فأمسكوا". فأجابوا رسوله: "دعنا منك أيها الغلام، فإنا والله لا ندع ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لشيء أبداً" (1).
وكان الناس يحددون موقفهم من الصراع بسؤال كبار الصحابة أحياناً، وقد تأتي الفتوى ضد مصلحة المفتي، فقد سأل مماليك بقبيلة ربيعة الزبير عن موقفهم:"مع من تكون العبيد؟ قال: مع مواليهم. قلنا: فإن موالينا مع علي. قال: فكأنما ألقمنا حجراً"(2).
وقبل نشوب القتال بثلاثة أيام نصبت خيمة بين المعسكرين، التقى فيها علي وطلحة والزبير في محاولة لإيجاد حلَّ سلمي للموقف (3)، كما أرسل علي عبد الله بن عباس إلى طلحة والزبير يسألهما:"هل أحدث ما يوجد السخط على خلافته، كحيفٍ في حكم، أو استئثار بفيء؟ أو في كذا؟ فقال الزبير: ولا في واحدة منها"(4).
وقد أخفق الطرفان في التوصل إلى حلٍّ خلال الأيام الثلاثة، وعرض رجل على الزبير أن يغتال علياً بعد التظاهر بالالتحاق به، فرفض الزبير ذاكراً حديث:"لا يفتك مؤمن".
وفي اليوم الرابع حدث الالتحام بين الجيشين، وتؤكد رواية صحيحة أن
(1) ابن سعد: الطبقات 4: 287 - 288 بإسناد حسن، والطبراني: المعجم الكبير 18: 105، والطبري: تأريخ 4: 52 وتعتضد هذه الطرق إلى الصحيح لغيره.
(2)
الداني: الفتن 16 ب وفي إسناده أبو كنانة شاهد عيان مجهول الحال (البخاري: التأريخ الكبير 8: 65).
(3)
أحمد: فضائل الصحابة 2: 596 بسند حسن، وابن أبي شيبة: المصنف 15: 267.
(4)
المصدرين السابقين.
جيش الزبير وطلحة هو الذي بدأ القتال، وأن علياً أصدر أمره بالقتال بعد صلاة الظهر، واستمر القتال ساعات "فما غربت الشمس وحول الجمل عين تطرف ممن كان يذبُّ عنه"(1). ويتضح الموقف المأساوي أكثر فأكثر، فيشك الزبير وهو القائد الأول بشرعية الموقف ويلاحظ عظم المصاب واختلاف الناس فينصرف عن الميدان دون أن يقاتل (2)، ولحق به عمير بن جرموز وآخران إلى سفوان فاغتالوه (3). وهكذا انتهت حياة القائد الأول، وتبعه القائد الثاني طلحة بن عبيد الله فقد رماه مروان بن الحكم بسهم فقتله فدفن على شط الكلأ (4). وأثخنت الجراح عبد الله بن الزبير فأخذ من وسط القتلى وبه بضع وأربعون طعنة وضربة (5).
"وقد قتل بشر كثير حول عائشة يومئذ، سبعون كلهم قد جمع القرآن، ومن لم يجمع القرآن أكثر"(6).
(1) ابن أبي شيبة: المصنف 15: 286 - 287 بإسناد صحيح (ابن حجر: فتح الباري 13: 57).
(2)
الحاكم: المستدرك 3: 366 بإسناد حسن، وانظر الذهبي: تاريخ الإسلام (الخلفاء الراشدون)505.
(3)
ابن سعد: الطبقات 3: 110 بإسناد صحيح (ابن حجر: الاصابة 1: 526)، وخليفة: التأريخ 186، وابن أبي عاصم: الآحاد والمثاني 1: 160.
(4)
ابن سعد: الطبقات 3: 223 بإسناد صحيح، وخليفة: التأريخ 186، وابن أبي شيبة: المصنف 15: 259، والحاكم: المستدرك 3: 370.
(5)
ابن عساكر: تأريخ دمشق- ترجمة عبد الله بن الزبير- ص 427 نقلاً عن يحيى بن معين بإسناد صحيح.
(6)
ابن سعد: الطبقات الكبرى 4: 287 - 288 بإسناد صحيح لغيره، وأبو نعامة توبع (الطبراني: المعجم الكبير 18: 105)، وروايته عن حميد بن هلال في صحيح مسلم (بشرح النووي) 2: 8 فلا يضر اختلاطه.
قال أبو رجاء عمران بن ملحان العطاردي- شاهد عيان-: "لقد رأيت الجمل يومئذ كأنه قنفذ من النبل، ورجل آخذ بالخطام وهو يقول:
نحن بنو ضبة أصحاب الجمل
…
ننازل الموت إذا الموت نزل
والموت أحلى عندنا من العسل
…
نبغي ابن عفان بأطراف الأسل (1)
وكانت عائشة على جمل أحمر في هودج أحمر (2)، وقد تكلمت في المربد لاعنةً قتلة عثمان، فلما سمع علي ذلك لعن قتلة عثمان (3). وكان مؤيدوها "يهتفون بقتلة عثمان" فلما نقل ذلك لعلي قال:"اللهم أحلل بقتلة عثمان خزياً"(4).
وارتفعت أصوات الدعاء في المعسكرين .. يقول الحارث بن سويد الكوفي- شاهد عيان ثقة ثبت-: "لقد رأيتُنا يوم الجمل، وإن رماحنا ورماحهم لمتشاجرة، ولو شاءت الرجال لمشت عليه، يقولون: الله أكبر، سبحان الله، الله أكبر. وترتفع أصوات تؤكد سلامة موقف المقاتلين دينياً "ليس فيها شك"- أي لا يشكون في شرعية قتالهم للطائفة الأخرى- و "ليتني لم أشهد"- موقف الندم للشعور بأنها فتنة والشك في شرعية القتال- و "ما سرني أني لم أشهد"- مؤكداً على وضوح الرؤية الشرعية في القتال إلى جانب علي-"(5). ويتساقط القتلى من الجانبين "قتل
(1) خليفة: التأريخ 190 بإسناد حسن.
(2)
الطبري: تأريخ 4: 532 - 533 بإسناد فيه مقبول فيحتاج إلى متابعة، لكن الرواية مما يتساهل فيه.
(3)
ابن أبي شيبة: المصنف 15: 268 بإسناد صحيح.
(4)
المصدر السابق 15: 277 بإسناد صحيح.
(5)
خليفة: التأريخ 198 بإسناد صحيح.
يوم الجمل عشرون ألفاً" (1) - والرقم لا يخلو من مبالغة ولكنه يعبر عن عمق الشعور بمرارة الحادثة-، "قتل ألفان وخمسمائة من الأزد، وثمانمائة من بني ضبَّة"- وبنو ضبة من تميم- والراويان من بني تميم أحدهما ثقة والآخر صدوق ناصبي (2)، لكن رواية الطبري عن أحدهما تذكر "قتل علي يوم الجمل ألفين وخمسمائة، ألف وثلاثمائة وخمسون من الأزد، وثمانمائة من بني ضبَّة وثلاثمائة وخمسون من سائر الناس" (3).
وهكذا فقد جيش المعارضين قادته .. واشتد القتال حول جمل عائشة رضي الله عنها فأمر عبد الله بن بديل بعقر الجمل لينتهي القتال، ثم نزل مع أخيها محمد بن أبي بكر الصديق فاحتملا الهودج حتى وضعاه بين يدي علي، فأمر به فأدخل في منزل- خباء- عبد الله بن بديل (4).
"فلم ينشب أهل البصرة أن انهزموا، فصرخ صارخ لعلي: لا يقتل مُدبر، ولا يدفف على جريح، ومن أغلق باب داره فهو آمن، ومن طرح السلاح آمن"(5).
أدرك الطرفان خسارتهم، وحلَّت مراجعة النفس محل الغضب، وفتَّت الندم قلوبهم .. وذابت نفوسهم حسرة على ما حدث حيث التقى المسلمان بسيفيهما في فتنة داخلية اتضحت معالمها، ولم يتمكنوا من تجنبها، فمضوا لا يغالبون أقدارهم حتى
(1) خليفة: التأريخ 186 بإسنادين ضعيفين أحدهما فيه انقطاع والآخر فيه مجاهيل.
(2)
خليفة: التأريخ 186 مرسلاً، والطبري: تأريخ 4: 545 بإسناد حسن.
(3)
البلاذري: أنساب الأشراف 2: ق 145، والطبري: تأريخ 4: 545.
(4)
ابن أبي شيبة: المصنف 15: 284 - 285 بإسناد جيج (ابن حجر: فتح الباري 13: 57).
(5)
سعيد بن منصور: السنن 2: 337 - 338 بإسناد حسن، وأحمد: المسند 1: 102، وابن أبي عاصم: السنة 2: 610، وأحمد: فضائل الصحابة 2: 737، والطبراني: المعجم الكبير 1: 83، وابن أبي شيبة: المصنف 15: 267.
انجلت عن صرعى من خيرة المسلمين من الطرفين، دون إنجاز لصالح دنياهم أو دينهم
…
بل إن الألم والندم تملكا القادة خلال القتال، قال الحسن بن علي يصور الحالة النفسية لعلي رضي الله عنه:"لقد رأيته حين اشتد القتال يلوذُ بي ويقول: ياحسن لودِدتُ أني متُّ قبل هذا بعشرين حجة- أو سنة-"(1)
ولما رأى علي محمد بن طلحة بن عبيد الله قتيلاً قال: "إنا لله وإنا إليه راجعون، أما والله لقد كان شاباً صالحاً" ثم قعد كئيباً حزيناً (2).
وقد زاره عمران بن طلحة بن عبيد الله بعد سنين فرحب به علي قائلاً: "إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله (إخواناً على سررٍ متقابلين) "(3). وأعاد إليه أراضيه قائلاً: "أما إنا لم نقبض أرضكم هذه السنين ونحن نريد أن نأخذها، إنما أخذناها مخافة أن ينتهبها الناس"(4). وكثيراً ماردَّدَّ هذه الآية وأظهر محبته لطلحة والزبير رغم اختلافهما معه (5).
وأما الابن الثالث لطلحة فقد بايع علياً بعد الجمل مباشرة ورجع إلى أهله وماله، واطمأن المعارضون فدخلوا إلى علي وبايعوه (6). وهكذا كان علي باراً بأخيه
(1) ابن أبي شيبة: المصنف 15: 288 بإسناد صحيح، وعبد الله بن أحمد: السنة 2: 566، ونعيم بن حماد: الفتن 1: ق 19 ب، والطبراني: المعجم الكبير 1: 72 حديث رقم 203.
(2)
الحاكم: المستدرك 3: 103 - 104، 375 بإسناد حسن لغيره، ونعيم بن حماد: الفتن 1: 181 بإسناد صحيح.
(3)
الحجر 47.
(4)
ابن سعد: الطبقات الكبرى 3: 224، والبلاذري: أنساب الأشراف 13: ق 85 ب- 86 أ، والطبري: تفسير 14: 37، والحاكم: المستدرك 3: 376 وصححه ووافقه الذهبي.
(5)
أحمد: فضائل الصحابة 2: 618 بإسناد صحيح.
(6)
ابن أبي شيبة: المصنف 15: 276، وأبو العرب: المحن 350.
الذي خاصمه وقاتله متأولاً.
وأما نظرته للزبير بن العوام فقد عقب على مقتله بقوله: "بشر قاتل ابن صفية بالنار"(1).
ولم تكن الحسرة على ما حدث تخص بعلي رضي الله عنه، فهذه عائشة رضي الله عنها تقول:"وددت أني كنت غصناً رطباً ولم أسر مسيري هذا"(2). وتقول:"وددت أني كنت قد ثكلت عشرة مثل الحارث بن هشام، وأني لم أسر مسيري مع ابن الزبير"(3)، وتقول: إنه كان قدراً (4). وكانت تترحم على قتلى الطرفين إذا ذُكروا، وقد ترحمت على طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وزيد بن صوحان، والأخير كان في صفِّ علي، فقال خالد بن الواشمة: يرحمك الله تترحمين عليهم وقد قتل بعضهم بعضا والله لا يجمعهم الله في الجنة أبداً!! قالت: أو لا تدري أن رحمة الله واسعة وهو على كل شيء قدير. فقال خالد: فكانت أفضل مني (5).
ولا تقدم الفتن حتى غنائم الحرب، قسم علي يوم الجمل في العسكر ما أجلب
(1) - ابن سعد: الطبقات 3: 105، والطيالسي: المسند 24، وأحمد: المسند 1: 102، وفضائل الصحابة 2: 737، وابن أبي عاصم: السنة 2: 737 بإسناد حسن مداره على أبي عاصم بن بهدلة صدوق له أوهام.
(2)
- ابن أبي شيبة: المصنف 15: 281 بإسناد صحيح.
(3)
- الحاكم: المستدرك 3: 119 بإسناد حسن، والهيثمي: مجمع الزوائد 7: 238 وفي سنده أبو معشر نجيح ضعيف.
(4)
- ابن أبي شيبة: المصنف 15: 281، والبلاذري: أنساب الأشراف 2: 146 وإسناده حسن، لأن رواية أحمد بن يونس عن أبي بكر بن عياش في صحيح البخاري (فتح الباري 13: 473)
(5)
- البيهقي: السنن الكبرى 8: 174 بإسناد حسن وساق له طرقاً أخرى.
عليه المعارضون من سلاح أو كراع (1)، ودفع لكل مقاتل خمسمائة درهم (2) وليس ثمة شيء آخر .. إذ "أن علياً لم يسبِ يوم الجمل ولم يُخمِّس، قالوا: يا أمير المؤمنين ألا تُخمس أموالهم؟ فقال: هذه عائشة تستأمرونها!! قالوا: ما هو إلا هذا ما هو إلا هذا"(3).
وتعتضد عدة روايات لبيان رأي علي في حكم الشرع فيما حدث من فتنة وقتال: "سئل علي رضي الله عنه عن أهل الجمل فقال: إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم وقد فاؤا وقد قبلنا منهم"(4).
وكانت أحكام البغاة التفصيلية بحاجة إلى تجلية، وقد جلَاّها علي بعقليته الفقهية العميقة، وروحه المتشبعة بفهم مقاصد الإسلام وأهدافه العليا. "قال عمار لعلي يوم الجمل: ما ترى في سبي الذرية؟ فقال: إنما قاتلنا من قاتلنا- أي أنه استجاز القتال دفاعاً عن النفس لأن خصومه شرعوا في قتاله- قال عمار: لو قلت غير هذا لخالفناك" (5).
ويحكي الحافظ الزهري إجماع الصحابة على حصانة أموال وأعراض الخارجين على الحاكم بتأويل .. "أما بعد، فإن الفتنة الأولى ثارت وأصحاب
(1) ابن أبي شيبة: المصنف 15: 263 بإسناد ضعيف، 281 بإسناد حسن.
(2)
ابن أبي شيبة: المصنف 15: 263 بإسناد حسن.
(3)
ابن أبي شيبة: المصنف 15: 257 بإسناد صحيح، والبيهقي: السنن الكبرى 8: 182
(4)
البيهقي: السنن الكبرى 8: 182 بسند فيه العطاردي ضعيف في غير سماعه لسيرة ابن اسحق، وابن أبي شيبة: المصنف 15: 256 - 257 مرسل أبي البختري و 15: 258، 277 مرسل محمد الباقر.
(5)
ابن أبي شيبة: المصنف 15: 269 - 270 بإسناد حسن، والبيهقي: السنن الكبرى 8: 181 - 182.
رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدراً كثير. فاجتمع رأيهم على أن لا يقيموا على أحدٍ حدَّاً في فرج استحلوه بتأويل القرآن، ولا قصاص في قتل أصابوه على تأويل القرآن، ولا يُرد ما أصابوه على تأويل القرآن، إلا أن يوجد بعينه فيرد على صاحبه" (1)
وتتضافر روايات تؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر علياً بما سيكون بينه وبين عائشة وأوصاه بها خيراً، فكانت أحداث الفتنة من أعلام النبوة التي تحققت في جيل الصحابة رضوان الله عليهم (2).
(1) ابن أبي شيبة: المصنف 10: 120 - 121 بإسناد صحيح إلى الزهري.
(2)
الهيثمي: كشف الأستار 4: 93 - 94 نقلاً عن البزار، وأحمد: المسند 6: 393 من زوائد ابنه عبد الله، والطبراني: المعجم الكبير 1: 314 رقم 995 ومداره على الفضيل بن سليمان وهو صدوق له خطأ كثير (التقريب 2912) ولكن ابن حجر حسَّن سند عبد الله والبزار (فتح الباري 13: 55) وله شاهد حسنه ابن عساكر (مناقب أمهات المؤمنين 71 رقم 11).