المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: آداب التعليم وتقاليده - عصر الخلافة الراشدة محاولة لنقد الرواية التاريخية وفق منهج المحدثين

[أكرم العمري]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تحليل المصادر

- ‌1 - كتب التأريخ:

- ‌محمد بن اسحق:

- ‌خليفة بن خياط:

- ‌محمد بن سعد (ت 230ه

- ‌البلاذري:

- ‌ابن عبد الحكم:

- ‌الأزدي:

- ‌ابن شبَّة:

- ‌اليعقوبي:

- ‌ابن قتيبة الدينوري:

- ‌الطبري:

- ‌المسعودي:

- ‌ابن أعثم الكوفي:

- ‌ابن حبيش:

- ‌الكلاعي:

- ‌المحب الطبري (ت 694ه

- ‌محمد بن يحيى الأشعري المالكي- ابن بكر- (ت 741ه

- ‌ابن كثير (ت 774 ه

- ‌ الذهبي

- ‌2 - كتب الحديث:

- ‌3 - كتب علم الرجال:

- ‌المراجع الحديثة:

- ‌الباب الأول: السياسة(الخلافة والخلفاء)

- ‌الفصل الأول: الخلافة

- ‌المبحث الأول: نظام الخلافة

- ‌المبحث الثاني: خلافة أبي بكر الصديق (رضى الله عنه)

- ‌المبحث الثالث: خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌المبحث الرابع: خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌المبحث الخامس: خلافة على بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌المبحث السابع (*): أزمة الخلافة وانتقال مركز الخلافة إلى العراق

- ‌الفصل الثاني: الخلفاء

- ‌المبحث الأول: أبو بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌المبحث الثاني: عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌المبحث الثالث: عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌المبحث الرابع: على بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌المبحث الخامس: حجية عمل الخلفاء الراشدين

- ‌المبحث السادس: الشورى

- ‌الباب الثانيالإدارة. القضاء

- ‌الفصل الأول: الإدارة(الولاة. الموظفون)

- ‌المبحث الأول: الولاة على البلدان

- ‌الولاة في خلافة أبي بكر:

- ‌قائمة بأسماء ولاة أبي بكر على البلدان:

- ‌الولاة في خلافة عمر:

- ‌مراقبة العمال والولاة:

- ‌قائمة بأسماء ولاة عمر على الأقاليم:

- ‌الولاة في خلافة عثمان:

- ‌قائمة بأسماء الولاة في خلافة عثمان:

- ‌الولاة في خلافة علي:

- ‌قائمة بأسماء الولاة في خلافة على:

- ‌المبحث الثاني: الموظفون

- ‌الرقابة على الأسواق (نظام الحسبة):

- ‌تنظيم العرفاء والنقباء ومساعدته في إيصال العطاء لمستحقيه:

- ‌الموظفون في خلافة أبو بكر:

- ‌عمال الصدقات:

- ‌الموظفون في خلافة عمر:

- ‌الموظفون في خلافة عثمان:

- ‌الموظفون في خلافة على:

- ‌الفصل الثاني: القضاء

- ‌القضاء في عصر الخلافة الراشدة:

- ‌تطبيق الحدود الشرعية:

- ‌ندرة الخصومات بين الناس:

- ‌إخضاع الخلفاء أنفسهم لأحكام القضاء وإجراءاته:

- ‌الجرائم والعقوبات:

- ‌التعزير:

- ‌الجنايات:

- ‌القضاة في خلافة أبي بكر:

- ‌القضاة في خلافة عمر:

- ‌رواتب القضاة:

- ‌القضاة في خلافة عثمان:

- ‌القضاة في خلافة على:

- ‌الباب الثالث: الاقتصاد

- ‌الفصل الأول: الموارد المالية

- ‌المبحث الأول: الجزية

- ‌الجزية في خلافة أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌الجزية في خلافة عمر رضي الله عنه:

- ‌الجزية في خلافة عثمان رضي الله عنه:

- ‌الجزية في خلافة علي رضي الله عنه:

- ‌المبحث الثاني: الخراج

- ‌المبحث الثالث: الغنائم

- ‌المبحث الرابع: الزكاة

- ‌المبحث الخامس: عشور التجارة

- ‌الفصل الثاني: النفقات العامة

- ‌المبحث الأول: مصارف الزكاة

- ‌المبحث الثاني: مصارف الغنائم والفيء

- ‌المبحث الثالث: العطاء

- ‌الأرزاق العينية:

- ‌نفقات طارئة:

- ‌المبحث الرابع: الإصلاحات

- ‌1 - الإقطاع:

- ‌2 - الحمى:

- ‌3 - الإنفاق على العمران:

- ‌عمران المساجد:

- ‌بناء الأمصار:

- ‌حفر الأنهار والخلجان وإقامة السدود والمنشآت الأخرى:

- ‌4 - مشروع تحرير الرقيق:

- ‌5 - النقود:

- ‌القروض الحسنة:

- ‌القوة الشرائية للنقود:

- ‌الرقابة المالية:

- ‌رقابة عمر لأهله:

- ‌الباب الرابع: الثقافة والتعليم

- ‌الفصل الأول: السمات والنظرية والتقاليد

- ‌تمهيد: التراث الثقافي قبل الإسلام

- ‌المبحث الأول: السمات العامة للتعليم

- ‌المبحث الثاني: نظرة الاسلام إلى العلم والتعليم

- ‌المبحث الثالث: آداب التعليم وتقاليده

- ‌الفصل الثاني: التطبيقات والمركز والموضوعات

- ‌المبحث الأول: النشاط التعليمي

- ‌تمهيد

- ‌أ - النشاط التعليمي بمكة قبل الهجرة

- ‌ب- النشاط التعليمي بالمدينة:

- ‌جـ - انتشار التعليم الاسلامي في البوادي والأمصار الجديدة:

- ‌المبحث الثاني: مراكز الحركة الفكرية

- ‌مواد الكتابة:

- ‌المبحث الثالث: موضوعات التعليم

- ‌أ- القرآن وعلومه:

- ‌ب- الحديث:

- ‌فمن مواقف كبار الصحابة الذين كرهوا كتابة الحديث ما يلي:

- ‌أما مواقف الصحابة التي تدل على إجارتهم الكتابة فهي:

- ‌جـ - الفقه:

- ‌د- اللغة العربية:

- ‌هـ - التاريخ:

- ‌و- علم الأنساب:

- ‌ز- الشعر:

- ‌حـ ـ القصص:

- ‌ط - الحكم والأمثال:

- ‌ي - الطب:

- ‌ك - علم النجوم (التنجيم):

- ‌ل- الثقافة واللغات الأجنبية:

- ‌الباب الخامسأحوال العالم.الدعوة الإسلامية ومنطلقاتها الفكرية.الفتوحات

- ‌الفصل الأولأحوال العالم.الدعوة الاسلامية ومنطلقاتها الفكرية

- ‌المبحث الأول: نظرة إلى أحوال العالم قبل الفتح الاسلامي

- ‌دولة الفرس

- ‌الحالة السياسية والاقتصادية:

- ‌الحالة الدينية والفكرية

- ‌الحالة الاجتماعية والأخلاقية

- ‌دولة الروم (الإمبراطورية البيزنطية) 312 - (1453) م

- ‌الحالة السياسية والاقتصادية:

- ‌الحالة الدينية والفكرية

- ‌الحالة الاجتماعية والأخلاقية:

- ‌تنبيه:

- ‌الهند والصين واليابان

- ‌المبحث الثاني: الدعوة الاسلامية ومنطلقاتها الفكرية

- ‌الفصل الثاني: الفتوحات

- ‌المبحث الأول: فتوح العراق والمشرق

- ‌في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه:

- ‌ملاحظات:

- ‌في خلافة عمر بن الخطاب (رضى الله عنه):

- ‌القادسية (15ه

- ‌المدائن:

- ‌جلولاء (16 ه

- ‌تكريت:

- ‌بناء الكوفة (17ه

- ‌بناء البصرة (16 هـ أو (17) ه

- ‌فتح الأهواز:

- ‌فتح رامهرمز:

- ‌فتح تستر

- ‌فتح السوس وجندي سابور:

- ‌نهاوند (21 ه

- ‌فتح أصبهان:

- ‌إعادة فتح همذان

- ‌فتح الري:

- ‌فتح إقليم فارس:

- ‌فتح كرمان ومكران:

- ‌فتح سجستان:

- ‌فتح خراسان:

- ‌في خلافة عثمان بن عفان (رضى الله عنه):

- ‌في خلافة علي بن أبي طالب (رضى الله عنه):

- ‌المبحث الثاني: فتوح الشام ومصر والمغرب

- ‌فتوح الشام في خلافة الصديق رضي الله عنه:

- ‌الصدمات الأولى:

- ‌اليرموك (في الطبري سنة (13) ه

- ‌ في خلافة عمر رضي الله عنه

- ‌عزل خالد:

- ‌فتح دمشق (في الطبري أوائل سنة (14) ه

- ‌حمص وحماة واللاذقية وقنسرين وحلب:

- ‌ أنطاكية

- ‌ بيت المقدس

- ‌فتح مصر:

- ‌العريش:

- ‌حصن بابليون:

- ‌في خلافة عثمان رضي الله عنه:

- ‌إعادة فتح الاسكندرية:

- ‌السودان:

- ‌أفريقية:

- ‌ذات الصواري:

- ‌الجيش ونظام القتال:

- ‌الباب السادس: الفتن الداخلية

- ‌الفصل الأول: الردة

- ‌تمهيد انتشار الاسلام خارج المدينة:

- ‌المبحث الأول حركات الردة

- ‌مراكز المرتدين

- ‌اليمن:

- ‌ردة اليمامة:

- ‌ردة طليحة الأسدي:

- ‌انتشار الردة:

- ‌المبحث الثاني القضاء على الردة

- ‌القضاء على ردة طليحة الأسدي:

- ‌القضاء على مالك بن نويرة:

- ‌القضاء على ردة مسيلمة الكذاب:

- ‌القضاء على ردة البحرين:

- ‌القضاء على ردة عمان ومهرة:

- ‌القضاء على ردة اليمن:

- ‌القضاء على ردة حضرموت:

- ‌الفصل الثاني: فتنة مقتل الخليفة عثمان رضى الله عنه

- ‌فتنه مقتل عثمان رضي الله عنه

- ‌خبر الراكب الذي تعرض للوفد المصري:

- ‌موقف الأنصار:

- ‌مواقف الصحابة في الفتنة

- ‌صفية أم المؤمنين:

- ‌الزبير بن العوام:

- ‌أبو ذر الغفاري:

- ‌أسامة بن زيد:

- ‌الحسن بن على بن أبي طالب:

- ‌عبد الرحمن بن عوف:

- ‌زيد بن ثابت:

- ‌عبد الله بن عمر:

- ‌تعليقات على مقتل الخليفة آراء الصحابة وتوقعاتهم لنتائج مقتل عثمان رضي الله عنه

- ‌على ابن أبي طالب:

- ‌سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل:

- ‌أبو موسي الأشعري:

- ‌سمرة بن جندب:

- ‌عائشة رضي الله عنها:

- ‌بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالخلافة:

- ‌الفصل الثالث: موقعة الجمل

- ‌موقعة الجمل:

- ‌الفصل الرابع: معركة صفين

- ‌معركة صفين:

- ‌الفصل الخامس: موقعة النهروان

- ‌موقعة النهروان:

- ‌المصادر والمراجع

- ‌المصادر

- ‌المراجع الحديثة

- ‌المؤلف

- ‌السيرة الذاتية:

- ‌مؤلفاته:

- ‌التحقيقات

- ‌البحوث:

الفصل: ‌المبحث الثالث: آداب التعليم وتقاليده

أبي بن كعب قائلاً: "إنه ينبغي للحبر أن يعظم ويشرف"(1).

‌المبحث الثالث: آداب التعليم وتقاليده

إن آداب التعليم وتقاليده عند المسلمين مدينة بأصولها إلى عصر السيرة والراشدين، رغم أنها تبلورت على مر الأيام كما تظهر في المؤلفات المتخصصة.

ومن أقدم الآداب والتقاليد ظهوراً ما يتعلق بتنظيم مجلس العلم والحلقة العلمية، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الجلوس وسط الحلقة (2)، وأن يجلس المتعلم بين رجلين إلا بإذنهما (3). وسمح للرجل بالجلوس في المكان إذا فسح له فيه فقال:"إذا أخذ القوم مجالسهم، فإن دعا رجل أخاه، فأوسع له في مجلسه فليأته، فإنما هي كرامة أكرمه فليجلس فيه"(4). وأمر بحفظ حق الرجل في مجلسه فقال: "إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه، فهو أحق به"(5).

وفضله 128:1.

(1)

الخطيب: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1: 188.

(2)

أخرجه أبو داؤد: السنن 4: 258، والترمذي: الجامع حديث رقم 2753 وقال: هذا حديث حسن صحيح. والخطيب: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1: 176.

(3)

أخرجه أبو داؤد: السنن حديث رقم 4844، والخطيب: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1: 178.

(4)

أورده الهيثمي: مجمع الزوائد 8: 59 وقال: "رواه الطبراني وإسناده حسن"، وأخرجه الخطيب: الجامع 1: 178.

(5)

أخرجه أبو داؤد: السنن حديث رقم 4853.

ص: 277

ومن السنة احترام مجلس العلم وعدم رفع الصوت أو اللغط فيه والتزام السكينة. قال أسامة بن شريك: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير"(1).

وقد وصف أبو اسحق السبيعي تنظيم الحلقة العلمية في مجلس الصحابي البراء بن عازب فقال: "كنا نجلس عند البراء بعضنا خلف بعض"(2) وهو نص يشير أيضا إلى سعة الحلقة.

ومن الحلقات المعروفة آنذاك في المسجد النبوي حلقة الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري (3).

ويرجع كثير من آداب طلبة العلم مع الشيوخ إلى ذلك العهد، فاحترام العالم، وعدم الإلحاح في الاستئذان عليه أو التردد على منزله، والصبر على التلقي، وتحمل الشدائد في طلب العلم، كل ذلك يمكن أن نقف عليه من الخبر التالي الذي يحكيه ابن عباس، قال: "لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم اليوم كثير. قال: واعجباً لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك، وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم؟ قال: فترك ذاك، وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحديث، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتي بابه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، تسفي الريح عليَّ من التراب فيخرج فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك؟ ألا أرسلت إليَّ فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك،

(1) أخرجه أبو داؤد: السنن حديث رقم 3855، والخطيب: الجامع 1: 192.

(2)

الخطيب: الجامع 1: 174.

(3)

ابن حجر: الإصابة 1: 435.

ص: 278

فأسأله عن الحديث. قال: فعاش ذلك الرجل الأنصاري حتى رآني، وقد اجتمع الناس حولي يسألوني. فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني" (1).

وثمة رواية أخرى توضح العلاقة بين صغار العلماء وكبارهم في ذلك العصر، فاحترام الكبير مبدأ اسلامي عام، وقد كان معهوداً في الحياة العلمية أيضاً، قال الصحابي سمرة بن جندب:"لقد كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً، فكنت أحفظ عنه، وما يمنعني من القول إلا أن هاهنا رجالاً هم أسن مني"(2)

والتبكير في الحياة اليومية وعدم الاخلاد للنوم بعد الفجر سمت عام في حياة مسلمي ذلك العصر، لكن ابن عمر يرى أن حديث "اللهم بارك لأمتي في بكورها" يراد به التبكير في طلب العلم والصلاة في الصف الأول في المساجد (3).

وقد انتبه المسلمون في ذلك العصر إلى أهمية التعلم في الصغر، وقد أرشدهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تعليم الصغار أحكام الصلاة وتربيتهم عليها وهم في السابعة من العمر.

وقد كشف عمر رضي الله عنه عن جانب سيكولوجي هام عندما نصح مواطنيه بالتعلم في الصغر فقال: "تفقهوا قبل أن تسودوا"(4). لأن الكبير في السن وصاحب الشأن في المجتمع قد يأنفان من السؤال أو الجلوس في حلقات العلم خلافاً للصغير، كما أن عمر رضي الله عنه كان يدرك حدة الذكاء وقوة الاستعداد لدى الصغار فكان يحرص على سؤالهم والإفادة من نباهتهم.

(1) الخطيب: الجامع 1: 158 - 159.

(2)

الخطيب: الجامع 1: 318.

(3)

ابن حجر: الإصابة 1: 150.

(4)

البخاري: الصحيح (فتح الباري 1: 165 باب 15 بإسناد صحيح.

ص: 279

وقد استمر هذا المبدأ "التعلم في الصغر" يسود حياة المسلمين التعليمية حتى الوقت الحاضر، كما أن التعليم في إطار الحضارة الغربية يلتقي مع التعليم الاسلامي في مراعاة هذا المبدأ.

وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم اختلاف الاستعداد العقلي والقدرة على الفهم بين الناس في الحديث: "نضَّر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه"(1).

وقد راعى الصحابة ذلك فقال عبد الله بن مسعود: "إن الرجل ليحدث بالحديث فيسمعه من لا يبلغ عقله فهم ذلك الحديث، فيكون عليه فتنة"(2).

كذلك أدرك عبد الله بن مسعود أثر الأحوال النفسية والجسمية في عملية تلقي العلم، وأوصى بمراعاة ذلك فقال:"إن للقلوب شهوة وإقبالاً، وإن للقلوب فترة وإدباراً، فاغتنموها عند شهوتها، ودعوها عند فترتها وإدبارها"(3).

وقال: "حدِّث القوم ما أقبلت عليك قلوبهم، فإذا انصرفت قلوبهم فلا تحدثهم، قيل له: ما علامة ذلك؟ قال: إذا حدقوك بأبصارهم. فإذا تثاءبوا واتكأ بعضهم على بعض فقد انصرفت قلوبهم فلا تحدثهم"(4).

وقد بين ابن مسعود أن من السنة مراعاة ذلك فقال: "أما إني أخبر بمكانكم فأترككم كراهية أن أملكم. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة بين الأيام مخافة السأم علينا"(5).

(1) أخرجه الترمذي: الجامع، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع.

(2)

الخطيب: الجامع 2: 109.

(3)

الخطيب: الجامع 1: 331.

(4)

المصدر نفسه 1: 330.

(5)

أخرجه البخاري (فتح الباري 1: 163 حديث رقم 70)، ومسلم: الصحيح 4: 2172.

ص: 280

وقالت عائشة رضي الله عنها لعبيد بن عمير: "ألم أحدث أنك تجلس ويجلس إليك؟ قال: بلى. قالت: فإياك وإملال الناس وتقنيطهم"(1).

واحترام الحرف العربي حامل الوحي الإلهي كان مستقراً في نفوس أهل ذلك العصر، فالقرآن الكريم مكتوب به، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً، وقد استمر هذا الاحترام لدى الناس قروناً طويلة، بل لا زالت آثاره قائمة في حياتنا، عندما يرفض بعض الناس رمي الكتابة العربية على الأرض.

قيل لأنس بن مالك الصحابي الجليل رضي الله عنه (ت (93) هـ): "كيف كان المؤدبون على عهد الأئمة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي- رضي الله عنهم؟ قال أنس: كان المؤدب له أجانة (2)، وكل صبي يأتي كل يوم بنوبته ماء طاهراً، فيصبونه فيها، فيمحون به ألواحهم. قال أنس: ثم يحفرون حفرة في الأرض، فيصبون ذلك الماء فيها فينشف. قلت: أفترى أن يلعط؟ (3) قال: لا بأس به، ولا يمسح بالرجل، ويمسح بالمنديل وما أشبهه. قلت: فما ترى فيما يكتب الصبيان في الكتاب من المسائل؟ قال: أما ما كان من ذكر الله فلا يمحوه برجله، ولا بأس أن يمحو غير ذلك مما ليس في القرآن"(4).

فهذه الصورة الرائعة تعبر أصدق تعبير عما كان في نفوس أبناء ذلك العصر من احترام للحرف العربي عندما يكتب به الوحي الإلهي، فيختارون الماء الطاهر لمسحه ويحفرون له في الأرض ويصبونه لينشف.

(1) الخطيب: الجامع 2: 128.

(2)

إناه من فخار يوضع فيه الماء.

(3)

يلعط: يلطع، أي يلحس، وهو مقلوب.

(4)

ابن سحنون: آداب المعلمين 40 - 41.

ص: 281

كما تبين هذه الرواية وجود الكتاتيب والمؤدبين في عصر الراشدين واستخدام الألواح في التعليم.

وقد ترك خروج الصحابة من المدينة إلى الأمصار مع جيوش الفتح تأثيراً بالغاً في انتشار العلم، وتفرق العلماء، وقد ظهرت تقاليد علمية استمرت راسخة لقرون طويلة، وتركت آثاراً عميقة في تواصل الحركة العلمية في أرجاء العالم الاسلامي، وفي توحيد الآداب والمناهج والتقاليد العلمية، وفي التقريب بين وجهات نظر العلماء الأخرى، وفي إعادة تجميع العلم المنتشر، تلك هي الرحلة في طلب العلم. فقد سار جابر بن عبد الله شهراً حتى قدم الشام ليسمع حديثاً واحداً لم يسمعه من قبل، كان سمعه عبد الله بن أنس رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ورحل إلى مصر للقاء مسلمة بن مخلد رضي الله عنه لسماع حديث بلغه عنه (2).

وقال الحارث بن معاوية الكندي إنه ركب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليسأله عن ثلاث خلال، فقدم المدينة، فقال له عمر رضي الله عنه: ما أقدمك عليَّ؟ قال: لأسألك عن ثلاث. قال: وما هنَّ؟ قال: ربما كنت أنا والمرأة في بناء مبني، فتحضر الصلاة، فإن صليت أنا وهي كانت بحذائي، وإن صلت خلفي خرجت من البناء. فقال عمر رضي الله عنه: تستر بينك وبينها بثوب ثم تصلي بحذائك إن شئت قال: وعن الركعتين بعد العصر؟ فقال: نهاني عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وعن القصص، فإنهم أرادوني على القصص؟ فقال: ما شئت. كأنه كره أن يمنعه. قال: إنما أردت أن أنتهي إلى قولك. قال: أخشى عليك أن تقص، فترفع

(1) البخاري: الصحيح 1: 29، والخطيب: الجامع 2: 225، وابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1: 93.

(2)

الخطيب: الرحلة في طلب الحديث 56.

ص: 282

عليهم في نفسك، ثم تقص فترفع حتى يخيل أنك فوقهم بمنزلة الثريا فيضعك الله تحت أقدامهم يوم القيامة بقدر ذلك (1).

ورحل أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر وكان بمصر ليسمع منه حديث: "من ستر على أخيه في الدنيا، ستر الله عليه في الآخرة". ولم يحل رحله حتى رجع إلى بيته (2).

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته"(3).

إن طرق تلقي العلم في عصر السيرة والراشدين تتمثل في السماع والعرض والمذاكرة والسؤال. وكان الاعتماد على المحاضرات الشفهية لا الكتب، وهو الأسلوب الذي اعتمده الرسول صلى الله عليه وسلم في توضيح معالم الدين ونشر الاسلام (4). أما الرسائل المكتوبة فكان نطاقها محدوداً.

واعتبر بعض الصحابة هذا الأسلوب شيئاً من "السنة" فقال أبو سعيد الخدري: "لا نكتبكم ولا نجعلها مصاحف، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا فنحفظ، فاحفظوا عنا كما حفظنا نحن عن نبيكم"(5)

والسماع هو الطريقة الأكثر انتشاراً لقلة المواد المكتوبة، فالطلبة يتلقون المعلومات عن طريق سماع الشيخ الذي يلقيها بصوته بعد أن حفظها بصدره.

(1) المتقي الهندي: كنز العمال 5: 855 نقلاً عن مسند أحمد وسنن سعيد ابن منصور.

(2)

ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1: 93 - 94، والخطيب: الكفاية 402، والخطيب: الرحلة في طلب الحديث 56، والخطيب: الجامع 2: 226.

(3)

الخطيب: الكفاية 402.

(4)

صالح العلي: دراسات في تطور الحركة الفكرية 19.

(5)

الخطيب: تقييد العلم 38.

ص: 283

والإلقاء ينبغي أن يكون واضحاً، وقد يؤكد الشيخ المعنى بإعادة الكلام ليتمكن المستمع من إتقان حفظه، وقد كان هذا هو أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقد أنكرت عائشة رضي الله عنها على أبي هريرة رضي الله عنه سرد الحديث والتعجل في إلقائه فقالت لابن أختها عروة بن الزبير: "ألا يعجبك أبو هريرة، جاء فجلس إلى جانب حجرتي، يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعني ذلك وكنت أسبح، فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث سردكم"(1).

أما العرض: فهو أن يقرأ الطالب على العالم من نسخة مكتوبة.

قال زيد بن ثابت: "كنت أكتب الوحي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم

فاكتب وهو يملي عليَّ، فما أفرغ حتى يثقل، وإذا فرغت قال: اقرأه عليَّ، فإن كان فيه سقط أقامه، ثم يخرج به" (2).

ولما أراد بشير بن نهيك أن يتصرف عن أبي هريرة أتاه بكتبه التي كتبها عنه فقرأها عليه، فقال:"هذه سمعتها منك؟ قال: نعم"(3).

لقد اتخذ العلماء فيما بعد من هذه السوابق دليلاً على صحة المعارضة بين الفرع المكتوب وأصله الذي كتب عنه. وقد روي عن علي رضي الله عنه قوله: "القراءة على العالم بمنزلة السماع منه"(4).

وروي عن عبد الله بن عباس قوله: "اقرءوا عليَّ فإن قراءتكم عليَّ كقراءتي

(1) البخاري: الصحيح حديث رقم 3568، والخطيب: الجامع 1: 414.

(2)

ذكره الهيثمي: مجمع الزوائد 1: 152 وقال: "رواه الطبراني في الأوسط ورجاله موثوقون". والخطيب: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2: 133.

(3)

الخطيب: الجامع 2: 124.

(4)

الرامهرمزي: المحدث الفاصل 76 ب.

ص: 284

عليكم" (1).

وأما المذاكرة فقد قال الصحابي أبو نضرة العبدي: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجمعوا تذاكروا العلم وقرءوا سورة"(2).

وكان الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري يوصي بالمذاكرة لتثبيت المعلومات يقول: "تحدثوا وتذاكروا فإن الحديث يذكر بعضه بعضاً"(3).

ولم تقصر المذاكرة على الحديث بل كانت في الفقه أيضاً، فقد أتى أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد العشاء فقال له عمر رضي الله عنه:"ما جاء بك؟ قال: جئت أتحدث إليك. قال: هذه الساعة؟ قال: إنه فقه. فجلس عمر، فتحدثا طويلاً. ثم إن أبا موسى قال: الصلاة يا أمير المؤمنين. فقال عمر: إنَّا في صلاة"(4).

وأما السؤال فهو أسلوب شائع حيث كان الصحابة يسألون الرسول عليه الصلاة والسلام عما يعرض لهم ويحتاجون لمعرفة حكم الدين فيه.

وقد روي عن علي رضي الله عنه ما فيه الحث على السؤال العلمي بقوله: "ألا رجل يسأل فينتفع وينفع جلساءه"(5).

(1) الترمذي: الجامع 2: 337.

(2)

الخطيب: الجامع 2: 68.

(3)

أورده الهيثمي: مجمع الزوائد 1: 161 وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح. وأخرجه الخطيب: الجامع 1: 237.

(4)

المتقي الهندي: كنز العمال 10: 253.

(5)

المتقي الهندي: كنز العمال 10: 302.

ص: 285