الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ فِيهَا.
وَفِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا الْمُسْتَأْجِرُ إنْ رَضِيَ الْمُسْتَأْجِرُ بِدُخُولِ الْمُدَرِّسِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ لِوَظَائِفِهِمْ فَبِهَا أَقَامُوهَا وَإِلَّا فَهُمْ مَعْذُورُونَ وَيُقِيمُونَهَا فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَيْهَا مَا عَسَاهُ يَحْصُلُ مِنْ رِيعِ الْعَقَارِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهَا مِمَّا يَفْضُلُ لَهُمْ، وَحَكَمَ الْحَاكِمُ الْمُنَفِّذُ بِبَقَاءِ الْإِجَارَةِ وَصَيْرُورَتِهَا مَدْرَسَةً وَمَسْجِدًا وَالْإِذْنُ لِمَنْ وَلِيَ تَدْرِيسَهَا أَنْ يَذْكُرَ الدَّرْسَ فِي مَسْجِدٍ قَرِيبٍ مِنْهَا هُوَ كَمَا قُلْنَا: وَلَا تَجِبُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَدَّلَ الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ وَالْإِجَارَةُ بَاقِيَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ لِتَكْرِيرِ السُّؤَالِ، وَلَا نَقُولُ بِإِخْرَاجِ مَنْ اتَّخَذَهَا سَكَنًا، بَلْ نَقُولُ بِصَيْرُورَتِهَا مَدْرَسَةً مَعَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إخْرَاجُهُ، بَلْ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ إخْرَاجُهُ، وَهُوَ لَمْ يَمْنَعْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، وَلَا سَعَى فِي خَرَابِهَا، وَإِنَّمَا سَعَى فِي عِمَارَتِهَا وَعِمَارَتُهُ أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي صَدَرَ صَحِيحًا، وَهُوَ فِي ذِمَّةِ الْحَاكِمِ وَالشُّهُودِ وَقَدْ تَقَلَّدُوهُ إنْ كَانَ خَيْرًا فَلَهُمْ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَعَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَنَا أَنَّهُ شَرٌّ،، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي فِي يَدِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَوْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمُبَاشِرَاتُ الْمَكْسِيَّةُ عَلَيْهِ إثْمُهَا، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِنَا مِنْهَا شَيْءٌ.
هَذَا جَوَابُنَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ،، وَإِنْ كَانَ حَاكِمُ الْآنِ يَظْهَرُ لَهُ بِالْكَشْفِ وَالْفَحْصِ مِنْ صُورَةِ الْحَالِ خِلَافُ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ اتِّبَاعُ مَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ الْحَقِّ، وَلَا يَلْزَمُهُ مَا قُلْنَاهُ وَيَجِبُ الدَّوَرَانُ مَعَ ظُهُورِ الْحَقِّ وُجُودًا وَعَدَمًا انْتَهَى.
[مَسْأَلَةٌ الْأَكْلِ مِنْ الْأَوْقَافِ هَذَا الزَّمَانِ]
(مَسْأَلَةٌ) سُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ رَأْيِهِ فِي الْأَكْلِ مِنْ الْأَوْقَافِ هَذَا الزَّمَانِ.
(أَجَابَ) الْأَوْقَافُ مِنْهَا مَا يَقِفُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمِنْهَا مَا يُقِرُّ بِأَنَّ وَاقِفًا وَقَفَهُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ مُرَادُهُ نَفْسَهُ، وَالْوَقْفُ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ بَاطِلٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ الْمَشْهُورِ وَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَمُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمِنْهَا مَا يَمْلِكُهُ لِغَيْرِهِ وَيُسَلِّمُهُ إيَّاهُ ثُمَّ يَقِفُهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ.
وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ مِنْ الْأَوْقَافِ قَدْ يَكُونُ مَصِيرُهَا إلَى الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَالْأَكْلُ مِنْهَا فِيهِ شُبْهَةٌ؛ لِأَنَّ مِنْ الشُّبُهَاتِ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ، فَلَيْسَتْ مِنْ الْحَلَالِ الْبَيِّنِ، وَلَوْ اتَّفَقَ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ بِهَا وَبِصِحَّتِهَا، وَهُوَ يَرَى صِحَّتَهَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ، أَوْ يَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْإِقْرَارِ فِي النَّوْعِ الثَّانِي وَصَدَّقَهُ وَيَرَى صِحَّةَ الْمُقِرِّ بِهِ فَالْحُكْمُ يَنْفُذُ ظَاهِرًا، وَفِي نُفُوذِهِ بَاطِنًا اخْتِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ فَلَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ الشُّبُهَاتِ الَّتِي مَنْ اتَّقَاهَا اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَإِنْ عَلِمَ كَذِبَ الْإِقْرَارِ، فَهُوَ حَرَامٌ بَيِّنٌ، وَإِنْ شَكَّ فِيهِ كَانَ فِي مَحَلِّ الشُّبْهَةِ فَالتَّوَقُّفُ
عَنْ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَوْقَافِ الثَّلَاثَةِ وَرَعٌ، أَوْ مُحَرَّمٌ التَّحْرِيمَ فِي الْقِسْمِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَالْوَرَعُ فِيمَا سِوَاهُ، وَالْأَكْلُ مِنْ وَقْفِ الْهَكَّارِيَّةِ مِنْ النَّوْعِ الثَّالِثِ وَكَثِيرٌ مِنْ مَدَارِسِ الشَّامِ كَذَلِكَ.
وَمِنْ الْأَوْقَافِ مَا يَقِفُهُ عَلَى غَيْرِهِ ابْتِدَاءً وَلَكِنْ يَكُونُ وَاقِفُهُ قَدْ اكْتَسَبَهُ بِطَرِيقٍ فِيهِ شُبْهَةٌ فَالْأَكْلُ مِنْهُ فِيهِ شُبْهَةٌ أَيْضًا، وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَوْقَافِ الَّتِي يَقِفُهَا الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ وَأَشْبَاهُهُمْ كَذَلِكَ إذَا كَانَتْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي لَمْ يَتَوَرَّعُوا فِيهَا.
وَمِنْ الْأَوْقَافِ مَا يَقِفُهُ الْمُلُوكُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَالْوَقْفُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَالتَّوَقُّفُ عَنْهُ وَرَعٌ وَالْأَكْلُ مِنْهُ شُبْهَةٌ.
وَمِنْ الْأَوْقَافِ مَا يَقِفُهُ الشَّخْصُ مِنْ مَالِهِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ عَلَى الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَلَكِنْ يَتَضَمَّنُ شَرْطًا يُفْسِدُهُ عَلَى مَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْمُعْتَبَرَةِ، فَيَكُونُ الْأَكْلُ مِنْهُ أَيْضًا شُبْهَةً وَالْإِمْسَاكُ عَنْهُ تَوَرُّعًا.
وَمِنْ الْأَوْقَافِ مَا يَسْلَمُ عَنْ ذَلِكَ كُلُّهُ وَيَشْتَرِطُ الْوَاقِفُ فِيهِ شُرُوطًا، فَإِنْ تَدَاوَلَهَا مَنْ فِيهِ تِلْكَ الشُّرُوطُ ظَاهِرَةٌ كَانَ حَلَالًا، وَإِنْ تَنَاوَلَهَا مَنْ لَيْسَتْ فِيهِ كَانَ حَرَامًا، وَإِنْ تَنَاوَلَهَا مَنْ هُوَ عَلَى نَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ، أَوْ مَذْهَبٍ دُونَ مَذْهَبٍ، أَوْ احْتِمَالٍ دُونَ احْتِمَالٍ يَحْتَمِلُهُ كَلَامُ الْوَاقِفِ، فَهُوَ شُبْهَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَا يَقُومُونَ بِمَقْصُودِ الْوَاقِفِ عَلَى الْكَمَالِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَافِ الْمُشْتَرَطَةِ عَلَيْهِمْ يُدْخِلُونَ فِي ذَلِكَ، وَكَذَا مَنْ يَغِيبُ فِي بَعْضِ أَيَّامِ الِاشْتِغَالِ.
وَمِنْ الْأَوْقَافِ مَا يَسْلَمُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَيَعْرِضُ لَهُ احْتِيَاجٌ إلَى عِمَارَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا مِنْ كَلَفِ الْوَقْفِ الْمُقَدَّمَةِ عَلَى الصَّرْفِ إلَى الْمُسْتَحَقِّينَ وَهَذَا يَنْقَسِمُ إلَى حَرَامٍ وَشُبْهَةٍ بِاعْتِبَارِ قُوَّةِ الِاحْتِيَاجِ وَضَعْفِهِ وَتَعَيُّنِ وَقْتِ ذَلِكَ وَعَدَمِ تَعَيُّنِهِ.
وَمِنْ الْأَوْقَافِ مَا يَسْلَمُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَيَكُونُ تَحْصِيلُ الْمَالِ بِشُبْهَةٍ كَالْمُزَارَعَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَالْأَكْلُ مِنْهُ شُبْهَةٌ. وَمِنْ الْأَوْقَافِ مَا يَسْلَمُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَيَكُونُ السَّاكِنُ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ أُجْرَتُهُ مَالَهُ فِيهِ شُبْهَةٌ فَأَخْذُ الْأُجْرَةِ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ كَذَلِكَ فَالْأَكْلُ مِنْهُ شُبْهَةٌ.
وَمِنْ الْأَوْقَافِ مَا يَسْلَمُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا يَحْصُلُ مِنْ النَّاظِرِ، أَوْ نَائِبِهِ إيجَارٌ صَحِيحٌ، بَلْ يُسْلِمُهُ لِمَنْ يَسْكُنُهُ بِغَيْرِ عَقْدٍ لِيَقْبَلَ مَا عَسَاهُ يَتَوَقَّعُهُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِيهِ، وَالْوَاجِبُ عَلَى السَّاكِنِ حِينَئِذٍ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَقَدْ يَتَّفِقُ أَنَّ الَّذِي يَدْفَعُهُ زَائِدٌ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَالزَّائِدُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فَتَنَاوُلُ الْمُسْتَحِقِّ لِذَلِكَ الْوَقْفِ إمَّا حَرَامٌ وَإِمَّا شُبْهَةٌ بِاعْتِبَارِ عِلْمِهِ وَجَهْلِهِ.
وَمِنْ الْأَوْقَافِ مَا يَسْلَمُ عَنْ ذَلِكَ، وَيَكُونُ نَاظِرُهُ، أَوْ الْمُتَكَلِّمُ فِيهِ لَيْسَ أَهْلًا لِلنَّظَرِ، أَوْ أَخَذَهُ بِطَرِيقِ التَّغَلُّبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْقَبْضِ فَلَا يَكُونُ قَبْضُهُ صَحِيحًا فَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَحِقِّ تَنَاوُلُهُ مِنْهُ فَأَكْلُهُ لِذَلِكَ إمَّا حَرَامٌ وَإِمَّا شُبْهَةٌ.
وَمِنْ الْأَوْقَافِ مَا
يَسْلَمُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَيَكُونُ مُخْتَلِطًا بِغَيْرِهِ كَالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ الَّذِي مَعْلُومِي عَلَى الْحُكْمِ مِنْهُ، فَالْأَكْلُ مِنْهُ شُبْهَةٌ وَلَيْتَنِي إذْ أَكَلْت مِنْ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ اقْتَصَرْت عَلَى قَدْرِ الضَّرُورَةِ وَكَانَ فِيهِ مَعْذِرَةٌ لِقِيَامِ الْبِنْيَةِ لَكِنِّي أَتَوَسَّعُ وَمَنْ يَكُونُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ بَعِيدٌ مِنْ الْوَرَعِ وَالْكَلَامِ فِيهِ فَكَيْفَ يَتَكَلَّمُ فِي الْإِخْلَاصِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى دَرَجَةٍ؟ ، اللَّهُمَّ غَفْرًا وَلَكِنِّي أَقُولُ الْكَلَامَ تَارَةً بِلِسَانِ الْحَالِ، وَلَيْسَ لِي فِيهِ مَجَالٌ وَتَارَةً بِلِسَانِ الْعِلْمِ فَرُبَّمَا لِي فِيهِ بَعْضُ قِسْمٍ، وَأَيْضًا قَدْ يَحْصُلُ لِمَنْ لَيْسَ بِوَرِعٍ إخْلَاصٌ فِي عَمَلٍ فَيَسْتَعِينُ بِبَرَكَةِ ذَلِكَ الْإِخْلَاصِ، وَيَكُونُ مِنْ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، وَوَدِدْت لَوْ حَصَلَ لِي ذَلِكَ الْمَقَامُ وَأَنَا الْيَوْمَ فِي إحْدَى وَسَبْعِينَ سَنَةً مَا أَثِقُ بِأَنِّي حَصَلَ لِي ذَلِكَ طَرْفَةَ عَيْنٍ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْت فِي جَنْبِ اللَّهِ وَاَللَّهِ أَوَدُّ الْآنَ لَوْ كَانَ عُمْرِي الَّذِي مَضَى كُلُّهُ كَفَافًا لَا عَلَيَّ، وَلَا لِي، وَأَنْ يَحْصُلَ لِي الْآنَ عَمَلٌ وَاحِدٌ يَرْضَاهُ اللَّهُ، وَلَسْت رَاضِيًا عَنْ نَفْسِي، وَلَا عَنْ كَلَامِي هَذَا، وَلَا عَنْ هَذَا الْكَلَامِ أَيْضًا، وَلَا بِاطِّلَاعِ أَحَدٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَتَبْتُهُ كَعَادَتِي بِالْكِتَابَةِ وَعَسَى أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِ مَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلَا يَحْصُلُ لِي بِهِ ضَرَرٌ، وَاَلَّذِي فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ فَلَعَلَّكَ لَا تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِك؛ لِأَنَّ لَهَا دَسَائِسَ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ وَغَيْرُك بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لَا يَعْلَمُ، وَلَا يُصَدِّقُك عَمَّا تُخْبِرُ بِهِ، بَلْ يُكَذِّبُك أَوْ لَا يُصْغِي إلَيْك فَأَنْتَ اجْتَهَدَ فِي إخْلَاصِ مَا فِي قَلْبِك إنْ كَانَ خَيْرًا فَلَكَ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَعَلَيْك، وَلَا يَنْفَعُك غَيْرُ اللَّهِ وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ غَيْرَك عَلِمَ بِذَلِكَ وَصَدَّقَك عَلَيْهِ فَغَيْرُك إمَّا يُحِبُّ وَإِمَّا يَبْغُضُ وَإِمَّا بَيْنَ ذَلِكَ فَالْمُحِبُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا يَقْدِرُ أَنْ يَنْفَعَك بِذَرِّهِ، وَلَا يَدْفَعُ عَنْك ضُرَّهُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ الْمُحِبِّ فَكَيْفَ الْقِسْمَانِ الْآخَرَانِ فَقَدِّرْ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ عَدَمًا وَتَحَقَّقْ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهِمْ، أَوْ رُؤْيَتَهُمْ لَا تُفِيدُ شَيْئًا، وَإِذَا تَحَقَّقْت ذَلِكَ انْتَفَعْت وَانْدَفَعَ عَنْك الرِّيَاءُ وَيْحَك تُرَائِي مَنْ لَا شَيْءَ؟ فَانْفَرِدْ مَعَ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ وَتَقَرَّبْ إلَى الرَّبِّ الصَّمَدِ، وَلَا يَقَعْ فِي نَفْسِك أَنَّ فِي الْوُجُودِ غَيْرَهُ أَحَدًا، وَلَا أُرِيدُ بِذَلِكَ مَقَالَةَ أَهْلِ الْإِلْحَادِ هَيْهَاتَ أُولَئِكَ نَظَرُوا إلَى الْأَغْيَارِ وَأَنَا أَجْعَلُهَا عَدَمًا فَلَسْت أَرَى فِي كُلِّ وَجْهٍ قَصَدْتُهُ سِوَى خَالِقِي اللَّهِ الرَّقِيبِ الْمُهَيْمِنِ إلَّا أَنْ تَقْصِدَ أَمْرًا دِينِيًّا كَالتَّعْلِيمِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ أَنْ يَرَى شَيْخَهُ لِيَعْرِفَهُ حَالَ عَمَلِهِ وَلِيُسِرَّهُ بِهِ فَذَلِكَ قَصْدٌ صَالِحٌ.
وَاَلَّذِي ذَكَرْته فِي الْأَوْقَافِ تَنْبِيهٌ لِي وَلِكَثِيرٍ مِنْ أَمْثَالِي. وَكَذَلِكَ فِي الْأَكْلِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِلْفُقَهَاءِ وَالْأَجْنَادِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّ بَيْتَ الْمَالِ عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ حَرَامٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ وَذَلِكَ لَا يُسَمَّى مَالَ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِيُعْرَفَ، وَقِسْمٌ هُوَ الْحَلَالُ وَهُوَ
نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا الْأَرَاضِي الْوَاصِلَةُ إلَيْنَا مِنْ فُتُوحِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَالْكَلَامُ فِي كَوْنِهَا، أَوْ بَعْضِهَا وَقْفًا، أَوْ غَيْرَ وَقْفٍ مَعْلُومٌ فَمَنْ يَأْخُذُ مِنْهَا، وَهُوَ بِصِفَةِ اسْتِحْقَاقِهَا الْمَعْلُومِ فِي الشَّرْعِ قَدْرَ مَا يُبِيحُهُ لَهُ الشَّرْعُ جَيِّدٌ وَمَنْ يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ إمَّا حَرَامٌ وَإِمَّا شُبْهَةٌ وَشَرْحُ ذَلِكَ يَطُولُ وَكُلُّ أَحَدٍ أَعْرَفُ بِنَفْسِهِ وَبِمَا يَحْصُلُ مِنْهُ مِنْ مَنْفَعَةِ الْإِسْلَامِ وَاتِّصَافٍ بِمَا قَصَدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَمَنْ بَعْدِهِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ غَرَضٌ إلَّا إقَامَةُ دِينِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَالْفُقَهَاءُ وَالْأَجْنَادُ هُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الِاحْتِرَازُ فِي مَطْعَمِهِمْ مِنْهَا وَأَنْ يَكُونَ الدِّرْهَمُ يَدْخُلُ لَهُمْ مِنْهَا حَلَالًا مَحْضًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَذَلِكَ عَزِيزٌ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلَمْ يَجِدْ عَنْهُ مَنْدُوحَةً يُقِيمُ بِهَا صُلْبَهُ فَيَقْتَصِرُ عَلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ، وَغَيْرُ هَذِهِ الْأَمْوَالِ إمَّا أَنْ تَدْخُلَ إلَى الشَّخْصِ بِلَا عِوَضٍ كَصَدَقَةٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ فَيُحْتَرَزُ فِي مَالِ ذَلِكَ الْمُتَصَدِّقِ وَالْوَاهِبِ وَالْمُوصِي وَهَلْ فِيهِ شُبْهَةٌ، أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ حَلَالًا بَيِّنًا وَقَدْ حَصَلَ لَك مِنْهُ بِطَرِيقٍ حَلَالٍ بَيِّنٍ فَاشْكُرْ رَبَّكَ وَإِلَّا، فَهُوَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِنَابِ إمَّا حَرَامٌ وَإِمَّا شُبْهَةٌ، وَإِنْ دَخَلَ لَك بِعِوَضٍ وَجَبَ عَلَيْك النَّظَرُ فِي شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا مَالُ مَنْ دَخَلَ إلَيْك مِنْهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ وَالثَّانِي الْعِوَضُ الَّذِي دَفَعْتَهُ إلَيْهِ هَلْ هُوَ سَالِمٌ عَنْ الشُّبْهَةِ، أَوْ لَا وَالطَّرِيقُ الَّذِي عَاوَضْتَهُ بِهَا هَلْ هِيَ سَالِمَةٌ عَنْ الشُّبْهَةِ، أَوْ لَا، وَهَذِهِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ إذَا فَتَّشَ عَنْهَا لَمْ يَكَدْ يُوجَدُ عَلَى بُسُطِ الْأَرْضِ دِرْهَمٌ حَلَالٌ بَيِّنٌ فَإِنَّ أَرْبَابَ الصَّنَائِعِ وَالتِّجَارَاتِ وَالزِّرَاعَاتِ مَكَاسِبُهُمْ وَأَعْوَاضُهُمْ تَنْتَهِي إلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ. وَأَكْلُ الْحَلَالِ هُوَ سَبَبٌ لِكُلِّ خَيْرٍ وَخِلَافُهُ خِلَافُ ذَلِكَ وَمُبْعَدٌ مِنْ اللَّهِ وَمِنْ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَمِنْ الْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ.
اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُك أَنْ تَتَوَلَّى أُمُورَنَا بِيَدِك، وَلَا تَكِلَنَا إلَى أَنْفُسِنَا، وَلَا إلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِك، وَلَا إلَى أَعْمَالِنَا، فَلَيْسَ لَنَا أَعْمَالٌ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلَ مَا يَكُونُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ وَأَدْوَمَهَا يَا كَرِيمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
{مَسْأَلَةٌ} فِي رَجُلٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ وَلَهُ ابْنُ ابْنِ ابْنِ بِنْتٍ وَابْنُ ابْنِ ابْنِ بِنْتٍ أُخْرَى، وَهُوَ ابْنُ ابْنِ ابْنِ أَخٍ فَمَنْ هُوَ الْأَقْرَبُ إلَى الْوَاقِفِ مِنْهُمَا وَمَنْ يَسْتَحِقُّ الْوَقْفَ مِنْهُمَا أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.
{أَجَابَ بِمَا صُورَتُهُ} الْحَمْدُ لِلَّهِ، الثَّانِي أَقْرَبُ وَيَسْتَحِقُّ الْوَقْفَ؛ لِأَنَّهُ يُدْلِي بِقَرَابَتَيْنِ وَمَنْ يُدْلِي بِقَرَابَتَيْنِ أَقْرَبُ مِمَّنْ يُدْلِي بِقَرَابَةٍ وَاحِدَةٍ، لَكِنَّ أَقْرَبَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ وَتَارَةً تَكُونُ بِقُرْبِ الدَّرَجَةِ وَتَارَةً بِزِيَادَةِ الْقَرَابَةِ مَعَ اتِّحَادِ الدَّرَجَةِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا اتِّفَاقُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَخِ الشَّقِيقِ عَلَى الْأَخِ
لِلْأَبِ، وَإِنْ كَانَا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ لَمَّا كَانَ الشَّقِيقُ يُدْلِي بِقَرَابَةِ أَبٍ وَأُمٍّ وَالْأَخُ لِلْأَبِ يُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأَبِ فَقَطْ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْوَصِيَّةِ أَيُّهُمْ جَمَعَ قَرَابَةَ أَبٍ وَأُمٍّ كَانَ أَقْرَبَ مِمَّنْ انْفَرَدَ بِأَبٍ، أَوْ أُمٍّ.
وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ هَذِهِ تَشْمَلُ الْإِخْوَةَ وَالْأَعْمَامَ وَبَنِيهِمْ وَيُقَاسُ عَلَيْهَا مَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَا يُرَدُّ عَلَى هَذَا قَوْلُ ابْنِ الصَّبَّاغِ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى لِلْأَقْرَبِ وَلَهُ جَدَّتَانِ إحْدَاهُمَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْأُخْرَى مِنْ جِهَتَيْنِ هَلْ تُقَدَّمُ الَّتِي مِنْ جِهَتَيْنِ، أَوْ يَسْتَوِيَانِ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ جَرَيَانَ الْوَجْهَيْنِ وَلَكِنْ نَقُولُ الرَّاجِحُ مِنْهُمَا تَقْدِيمُ ذَاتِ الْوَجْهَيْنِ، وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إنَّهُ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الْإِرْثِ وَالْمَذْهَبُ فِي الْإِرْثِ اسْتِوَاؤُهُمَا لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْإِرْثِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ، أَوْ نَقْصِدُ ذَاتَ الْجِهَتَيْنِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِجَرَيَانِ ذَاتِ الْجِهَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْإِرْثِ وَالْمَأْخَذُ مُخْتَلِفٌ فَإِنَّ مَأْخَذَ الْإِرْثِ اسْمُ الْجَدَّةِ وَالْجُدُودَةُ مَعْنًى وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ قَدْ يَكْثُرُ وَقَدْ يَقِلُّ كَمَا أَنَّ الْأُخُوَّةَ مَعْنًى وَاحِدٌ قَدْ تَكُونُ بِأَبٍ، أَوْ بِأُمٍّ، أَوْ بِهِمَا، وَلَوْ أَوْصَى لِإِخْوَتِهِ دَخَلَ الْجَمِيعُ، وَلَوْ أَوْصَى لِأَقْرَبِهِمْ لَمْ يَدْخُلْ إلَّا ذُو الْجِهَتَيْنِ إذَا وُجِدَ فَكَذَلِكَ كَانَ الْمَذْهَبُ فِي الْمِيرَاثِ اسْتِوَاؤُهُمَا.
وَأَمَّا فِي الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ إذَا اُعْتُبِرَ الْأَقْرَبُ فَالْمَأْخَذُ مَعْنَى الْقَرَابَةِ فَمَنْ يُرَجَّحْ فِيهِ قُدِّمَ فَلَا جَرَمَ قُلْنَا: يَجِبُ تَقْدِيمُ ذِي الْقَرَابَتَيْنِ عَلَى ذِي الْقَرَابَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْوَجْهَانِ فِي الْإِرْثِ صَحِيحَانِ وَالْوَجْهَانِ فِي الْوَصِيَّةِ صَحِيحَانِ وَالصَّحِيحُ مُخْتَلَفٌ، وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ ابْنِ الصَّبَّاغِ مِنْ اسْتِوَائِهِمَا غَيْرُ مَقْبُولٍ، بَلْ يَجِبُ رَدُّهُ وَتَأْوِيلُهُ وَكُلُّ مَوْضِعٍ كَانَ مَعْنَى الْقَرَابَةِ وَاسْمُهَا مُعْتَبَرًا، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُقْتَضَى سُقُوطِ أَحَدِهِمَا وَجَبَ النَّظَرُ إلَيْهِمَا وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ التَّرْجِيحُ بِالْكَثْرَةِ مِنْهُمَا وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يَقْتَضِي سُقُوطَ أَحَدِهِمَا عَنْ ابْنٍ هُوَ ابْنُ ابْنِ عَمٍّ فِي الْإِرْثِ لَا نَظِيرَ إلَى بُنُوَّةِ الْعَمِّ فَقَطْعًا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْفٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ فَقَدْ ذَكَرْتُ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ.
اخْتِيَارِي الْآنَ مِنْهُمَا التَّقْدِيمُ فَيُقَدَّمُ الِابْنُ الَّذِي هُوَ ابْنُ ابْنِ عَمٍّ عَلَى الِابْنِ الَّذِي لَا يُدْلِي إلَّا بِالْبُنُوَّةِ إذَا كَانَا فِي وَقْفٍ عَلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ وَأَقْرَبِ أَقَارِبِهِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْتُهُ مِنْ حَيْثُ الْفِقْهُ لَا شَكَّ فِيهِ، وَقَدْ وَجَدْت فِي السُّنَّةِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ شَاهِدًا لَهُ، وَهُوَ حَدِيثُ صَدَقَةِ أَبِي طَلْحَةَ لَمَّا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ» فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ وَأَعْطَى مِنْهَا حَسَّانَ وَأُبَيًّا، وَلَمْ يُعْطِ أَنَسًا مِنْهَا شَيْئًا وَثَلَاثَتُهُمْ مِنْ أَقَارِبِهِ وَحَسَّانُ أَلْصَقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ ابْنِ عَمِّ أَبِيهِ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ لَهُ مِنْهُ بُنُوَّةُ عَمٍّ بَعِيدَةٍ وَلَكِنَّهُ ابْنُ عَمَّتِهِ أُخْتِ وَالِدِهِ كَذَلِكَ وَاعْتَبَرَ هَذِهِ الْقَرَابَةَ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ اعْتِبَارُ الْقَرَابَةِ الْبَعِيدَةِ
وَذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمَا لَوْ اسْتَوَيَا قُدِّمَ بِمَجْمُوعِهِمَا وَعَادَلَ بَيْنَ حَسَّانَ وَأُبَيٍّ بِتِلْكَ وَأَنَسٌ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ حَرَمَهُ.
هَذَا فِيمَا نَظُنُّهُ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ أَنَسًا لِبُعْدِهِ لَا يُقَالُ إنَّهُ مِنْ قَرَابَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ بِذَلِكَ، وَإِنْ جَمَعَتْهُمَا قَبِيلَةُ الْخَزْرَجِ، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَلْزَمُهُ تَعْمِيمُ الْأَقْرَبِينَ، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْأَقْرَبِينَ، بَلْ عَمَّمَ جَمِيعَ الْقَرَائِبِ جَوَازًا لَا وُجُوبًا وَلِذَلِكَ أَعْطَى حَسَّانَ وَأُبَيًّا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَوِيَا حَقِيقَةً فَلِذَلِكَ لَمْ نَجْعَلْهُ دَلِيلًا جَازِمًا بَلْ قُلْنَا: إنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ شَاهِدًا. وَمَا قَدَّمْنَا كَافٍ فِي الْفَتْوَى بِمَا قُلْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.
{فُتْيَا مِنْ حَمَاةَ} فِي وَقْفٍ وَقَفَهُ وَاقِفُهُ عَلَى الْأَسْرَى وَوَقَفَ آخَرُ وَقْفَهُ عَلَى الْأَسْرَى فَاحْتَاجَ أَحَدُ الْوَقْفَيْنِ إلَى الْعِمَارَةِ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ فِي عِمَارَتِهِ مِنْ الْوَقْفِ الْآخَرِ.
{الْجَوَابُ} لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَكِنْ إذَا كَانَ الْحَاكِمُ نَاظِرًا وَظَهَرَ لَهُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْ أَحَدِ الْوَقْفَيْنِ لِلْآخَرِ، وَلَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ إلَى اسْتِفْكَاكِ أَسْرَى ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَجُوزُ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْهُ مَا يَعْمُرُ بِهِ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ إذَا كَمُلَتْ الْعِمَارَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.
{مَسْأَلَةٌ} سُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رحمه الله مَا يَقُولُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَسْأَلَةٍ اخْتَلَفَ فِيهَا فَقِيهَانِ وَهِيَ أَنَّ الْمَسْجِدَ إذَا كَانَ لَهُ مَنْ يُؤَذِّنُ بِأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ وَمَنْ يُهَيِّئُ الْقَنَادِيلَ لِلِاسْتِصْبَاحِ وَيَكْنُسُ الْمَسْجِدَ مِنْ الْغُبَارِ وَلِكُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ عَلَى الْمَسْجِدِ جُعْلٌ فَعَجَزَ رِيعُ الْمَسْجِدِ فِي وَقْتٍ مَا عَنْ أَنْ يُوفِيَ بِجُعْلِهِمَا فَمَنْ يُقَدَّمُ مِنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ بِصَرْفِ جُعْلِهِ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمْ يُقَدَّمُ الْقَيِّمُ بِالْقَنَادِيلِ وَعَلَّلَ قَوْلَهُ بِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْمَسْجِدِ إذْ هُوَ أَشْبَهُ مِنْ الْمُؤَذِّنِ بِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ يُؤْذِنُ بِبَقَائِهِ وَتَرْكِ انْدِرَاسِهِ.
وَغَيْرُ ذَلِكَ يُؤْذِنُ بِانْقِطَاعِهِ وَخَرَابِهِ، وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ الَّذِي يُؤَذِّنُ بِأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ أَوْلَى بِالْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ مِمَّنْ يَقُومُ بِالْقَنَادِيلِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ إنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ الشَّرْعِ اقْتِضَاءُ الْأَذَانِ لِلصَّلَاةِ، وَيَكْفِي فِيهِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَمَا تَقَرَّرَ فِي أَذْهَانِ الْمُسْلِمِينَ حِينَ صَارَ مَعْلُومًا مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَلَا كَذَلِكَ فِي اسْتِصْبَاحِ الْمَسَاجِدِ وَكَنْسِهَا إذْ الِاتِّفَاقُ لَهُ، بَلْ وَرُبَّمَا عُدَّ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ.
وَحَاصِلُ مَا لَدَيْكَ أَنْ تَقُولَ: إنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُسْتَحْسَنَةِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يُعَارِضُ قَوْلُك مَا كَانَ مَشْرُوعًا فِي أَصْلِ الدِّينِ مُتَحَقِّقًا بِقَوْلِ أَهْلِ الْيَقِينِ إنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْته مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ تَشْرُفُ بِمُتَعَلِّقِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الدِّينِ أَشْرَفُ مِنْ مُتَعَلِّقِ الْوَقُودِ وَالْكَنْسِ إذْ هُوَ دَالٌّ عَلَى كِبْرِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ
أَمَّا كِبْرِيَاؤُهُ فَلِمَا هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَتَأْكِيدُهُ بِالتَّكْبِيرِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا رَحْمَتُهُ فَلِمَا يُدْرِكُهُ الْفَطِنُ اللَّوْذَعِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ مُخْرِجًا لَنَا عَنْ رِبْقَةِ الْكُفْرِ وَجَهَالَتِهِ مُدْخِلًا لَنَا فِي حَوْزَةِ الشَّرْعِ وَحِمَايَتِهِ.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ كَيْفَ بَسَطَ لَك مَوَائِدَ كَرَمِهِ فِي دُعَائِك إلَى خِدْمَتِهِ الَّتِي تَشْرُفُ بِهَا النُّفُوسُ الزَّكِيَّةُ وَتُنَوَّرُ بِهَا الْقُلُوبُ الْقُدْسِيَّةُ وَمِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ يُفْهِمُهُ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَمُتَعَلِّقُ هَذَا يَرْجِعُ فَهْمُهُ إلَى سَبَبِ إبْدَاعِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّمَا أَبْدَعَ ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يُهْجَمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي صَلَاتِهِمْ مَنْ يُؤْذِيهِمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ بِالْقَتْلِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ تَبَايُنِ هَذَيْنِ الْمُتَعَلِّقَيْنِ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ لِمَا يَنْشُلُهُ مِنْ حَضِيضِ طَبْعِهِ وَعُتُوِّهِ وَيُوصِلُهُ إلَى أَوَجِّ شَرْعِهِ وَسُمُوِّهِ؛ وَيَرْجِعُ هَذَا إلَى حِفْظِ بَقَاءِ أَجْسَادِهِمْ أَنْ يُصِيبَهَا مَا يَخْشَوْنَ فَمَاذَا يَكُونُ مِنْ قَضِيَّةِ هَذَيْنِ الْقَائِلَيْنِ وَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ أَوْلَى بِالنُّصْرَةِ وَالِاتِّبَاعِ حَتَّى يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحَقِّهِ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ رَحِمَكُمْ اللَّهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
{أَجَابَ} الشَّيْخُ الْإِمَامُ رضي الله عنه: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَتَى كَانَ فِي الْأَوْقَافِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي الْعِمَارَةُ مُقَدَّمَةٌ فِيهَا فَلَا يُصْرَفُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَدْرُ الْمَصْرُوفُ لَا تَدْعُو الْعِمَارَةُ إلَيْهِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عِمَارَةً إنْ كَانَ لِلْوَاقِفِ شَرْطٌ مَعْلُومٌ فِي تَقْدِيمٍ، أَوْ غَيْرِهِ اتَّبَعَ، وَإِنْ جُهِلَ الْحَالُ اتَّبَعْتَ الْعَادَةَ الْمُسْتَمِرَّةَ فِي التَّقْدِيمِ وَغَيْرِهِ.
وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالٍ مُرْصَدٍ لِلْمَصَالِحِ بِحَيْثُ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُ الْأَوْلَى، أَوْ كَانَ الْوَاقِفُ شَرَطَ ذَلِكَ، أَوْ قَالَ: إنَّ النَّاظِرَ يَصْرِفُهُ لِلْأَوْلَى، وَتَعَارَضَ الْمَذْكُورَانِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَرَصَدَ ذَلِكَ، أَوْ وَقَفَهُ قَالَ: إنَّهُ لِلْأَوْلَى مُطْلَقًا، أَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ
الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ
فَالْمُؤَذِّنُ أَوْلَى، أَمَّا كَوْنُ الْقَيِّمِ أَوْلَى فِي الْحَالَةِ الْأُولَى فَلِأَنَّهُ أَخَصُّ، وَهُوَ مِنْ بَابِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَالْمُؤَذِّنُ مِنْ بَابِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ؛ وَلِأَنَّهُ يُهَيِّئُ الْمَسْجِدَ لِجَمِيعِ مَا يُقْصَدُ مِنْهُ مِنْ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالتَّطَوُّعِ وَالذِّكْرِ وَالِاعْتِكَافِ وَمَنْفَعَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَافِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَبِفَقْدِهِ رُبَّمَا يَتَعَطَّلُ ذَلِكَ، أَوْ أَكْثَرُهُ وَيُهْجَرُ الْمَسْجِدُ، وَالْأَذَانُ، وَإِنْ كَانَ أَشْرَفَ وَأَعْلَى، فَلَيْسَ خَاصًّا بِالْمَسْجِدِ، بَلْ هُوَ لِأَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَالْبَلَدِ وَإِعْلَامُهُمْ بِدُخُولِ الْوَقْتِ يُؤَدِّي الْفَرْضَ وَالسُّنَّةَ بِإِقَامَتِهِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ.
وَهُوَ دُعَاءٌ إلَى الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فَقَطْ فِي أَوْقَاتِهَا الْخَمْسَةِ وَبِعَدَمِهِ لَا تَتَعَطَّلُ عِبَادَاتُ الْمَسْجِدِ عَنْ الْمَفْرُوضَةُ، وَلَا الْمَفْرُوضَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ
النَّاسِ الْمُجَاوِرِينَ لِلْمَسْجِدِ الْعَالِمِينَ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقَيِّمَ بِدْعَةٌ بَاطِلٌ أَمَّا الْكَنْسُ فَمَعْهُودٌ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَاتَ فَدُفِنَ لَيْلًا الْحَدِيثُ وَيُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ الْعَادَةُ أَنَّهُ لَوْلَا الْكَنْسُ لَحَصَلَ مِنْ الْأَوْسَاخِ وَالْقُمَامَاتِ وَالْغُبَارِ مَا يُهْجَرُ الْمَسْجِدُ وَيُفْضِي بِهِ إلَى تَعْطِيلِهِ مِمَّنْ يَأْوِي فِيهِ وَتَعَطُّلِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي بُنِيَ لَهَا هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ.
«وَقَدْ عُرِضَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْمَالُ أُمَّتِهِ حَتَّى الْقَذَاةِ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنْ الْمَسْجِدِ» فَلَا شَكَّ، وَلَا رَيْبَ فِي أَنَّ كَنْسَ الْمَسْجِدِ مِنْ الْقُرَبِ الْمَطْلُوبَةِ لِلشَّرْعِ الْمُثَابِ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا تَهْيِئَةُ الْقَنَادِيلِ لِلِاسْتِصْبَاحِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَرْوَحَ الْقَائِلَ إلَى أَنَّهُ بِدْعَةٌ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ فَإِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه نَوَّرَ الْمَسَاجِدَ وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ وَشَكَرَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى ذَلِكَ وَكُلُّ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ رضي الله عنه سُنَّةٌ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ، وَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْبِدْعَةِ عَلَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» .
اقْتَضَى هَذَا أَنَّ سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ لَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ وَعُمَرُ رضي الله عنه ثَانِي الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رضي الله عنهم، وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَلَا الْمُتَأَخِّرِينَ أَطْلَقَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا فَعَلَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بِدْعَةً مُطْلَقًا وَقَدْ وَقَعَ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي زَمَانِهِ أَبِي مُحَمَّدٍ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى التَّرَاوِيحِ أَنَّهَا بِدْعَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وَكَذَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْفَاضِلِ الْكَبِيرِ أَبِي بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيِّ الْمَالِكِيِّ فِي كَلَامِهِ عَلَى الْبِدَعِ وَالْحَوَادِثِ وَغَيْرِهِ عَدَا التَّرَاوِيحَ فِيهَا، وَاغْتَرَّ بِهَذَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَهَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ الْمُتَأَخِّرُونَ رضي الله عنهم لَمْ يُطْلِقُوا لَفْظَ الْبِدْعَةِ إطْلَاقًا.
وَإِنَّمَا قَيَّدُوهُ بِالْمُسْتَحَبَّةِ وَأَدْرَجُوهُ فِي جُمْلَةِ الْجَوَابِ وَكَانَ ذَلِكَ عُذْرًا مُبَيِّنًا مَا قَصَدُوهُ مِنْ كَوْنِهَا حَادِثَةً بِتِلْكَ الصِّفَةِ الْخَاصَّةِ، وَمَا أَحْسَنَ وَأَصْوَبَ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه حَيْثُ قَالَ: الْمُحْدَثَاتُ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا: مَا أُحْدِثَ مِمَّا يُخَالِفُ كِتَابًا، أَوْ سُنَّةً، أَوْ أَثَرًا، أَوْ إجْمَاعًا فَهَذِهِ الْبِدْعَةُ ضَلَالَةٌ.
وَالثَّانِي: مَا أُحْدِثَ مِنْ الْخَيْرِ لَا خِلَافَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْ هَذَا، وَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه فِي قِيَامِ رَمَضَانَ نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، تَعَيَّنَ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ لَمْ تَكُنْ، وَإِذَا كَانَتْ لَيْسَ فِيهَا رَدٌّ لِمَا مَضَى.
هَذَا كَلَامُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه فَانْظُرْ كَيْفَ تَحَرَّزَ فِي كَلَامِهِ عَنْ لَفْظِ الْبِدْعَةِ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَى لَفْظِ الْمُحْدَثَةِ وَتَأَوَّلْ قَوْلَ عُمَرَ رضي الله عنه -
عَلَى ذَلِكَ وَكَيْفَ وَهُوَ إمَامُ الْعُلَمَاءِ سَيِّدُ مَنْ بَعْدَهُ فَالْبِدْعَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ فِي الشَّرْعِ لِلْحَادِثِ الْمَذْمُومِ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِذَا قُيِّدَتْ الْبِدْعَةُ بِالْمُسْتَحَبَّةِ وَنَحْوِهِ فَيَجُوزُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ لِلْقَرِينَةِ، وَيَكُونُ مَجَازًا شَرْعِيًّا حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً.
فَقَدْ بَانَ بِهَذَا أَنَّ كَنْسَ الْمَسْجِدِ وَتَنْوِيرَهُ بِالْقَنَادِيلِ وَغَيْرِهَا لَيْسَ بِبِدْعَةٍ وَالتَّنْوِيرُ أَيْضًا خَاصٌّ بِالْمَسْجِدِ فِيهِ تَهَيُّؤُهُ لَيْلًا لِلْعِبَادَاتِ، فَهُوَ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْأَذَانِ بِذَلِكَ؛ وَبِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ فِي مُدَّةِ اللَّيْلِ وَهِيَ أَطْوَلُ مِنْ أَوْقَاتِ الْأَذَانِ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ مُدَّةِ مَنْفَعَةِ الْكَنْسِ فَإِنَّهَا لَيْلًا وَنَهَارًا.
وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ مِنْ مَالٍ خَاصٍّ بِالْمَسْجِدِ وَهِيَ الْحَالَةُ الْأُولَى، وَأَمَّا كَوْنُ الْمُؤَذِّنِ أَوْلَى فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ فَلِعَظَمِ مَوْقِعِهِ فِي الدِّينِ وَتَنْوِيرِهِ لِقُلُوبِ الْمُوَحِّدِينَ، وَالْأَذَانُ مَطْلُوبٌ لِلشَّرْعِ طَلَبًا مُؤَكَّدًا إمَّا وُجُوبًا عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَإِمَّا اسْتِحْبَابًا مُؤَكَّدًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَهُوَ شِعَارُ الْإِسْلَامِ وَعَلَامَةُ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَجْمَعْ ذِكْرٌ مِنْ الْأَذْكَارِ مَا جَمَعَهُ وَفَضَائِلُهُ وَمَنَاقِبُ أَهْلِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَى شُعَبِ الْإِيمَانِ وَكَنْسُ الْمَسْجِدِ مِنْ أَدْنَاهَا لِمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ «حَتَّى الْقَذَاةِ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنْ الْمَسْجِدِ» فَفِيهِ إشْعَارٌ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَدْنَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَكَيْفَ نُسَاوِي بَيْنَ أَعْلَى الْأَعْمَالِ مِنْ أَدْنَاهَا فَضْلًا مِنْ أَنَّ تَقَدُّمَ أَدْنَاهَا عَلَى أَعْلَاهَا وَالنَّظَرُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ إذَا تَعَارَضَتْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَنَصْبُ الْمُؤَذِّنِ فِي الْبَلَدِ فَالْمَحَلَّةِ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَكَنْسُ مَسْجِدٍ خَاصٍّ وَتَنْوِيرُهُ لَيْسَ مُهِمًّا فِي الدِّينِ فَلَا عَلَيْنَا إذَا عَلَّقَ لِيَحْصُلَ مَا هُوَ أَهَمُّ فِي الدِّينِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.
{مَسْأَلَةٌ} فِي نَاظِرِ مَدْرَسَةٍ عَمِلَ فِيهَا نَقِيبًا بِمَعْلُومٍ، وَمَاتَ فَوَلِيَ النَّظَرَ آخَرُ هَلْ لَهُ تَغْيِيرُهُ؟ .
{الْجَوَابُ} فِعْلُ الْأَوَّلِ فِي الْمَعْلُومِ إنْ عَارَضَ شَرْطَ الْوَاقِفِ بِغَيْرِ النَّقِيبِ لَمْ يَجُزْ وَإِلَّا فَيَجُوزُ، وَالثَّانِي لَهُ أَنْ يَتَّبِعَ مَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً، وَإِنْ خَالَفَ الْأَوَّلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَفَ دَارًا لِحَدِيثِ الْأَشْرَفِيِّةِ مُخْتَصَرًا: هَذَا مَا وَقَفَهُ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ أَبُو الْفُتُوحِ مُوسَى بْنُ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ شَاذِي جَمِيعُ مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ فَمِنْهُ الدَّارُ وَمِنْهُ جَمِيعُ الْحَانُوتَيْنِ مِنْ شَرْقِ بَابِهَا وَجَمِيعِ الْحَانُوتِ مِنْ غَرْبِ الشِّبَّاكِ وَجَمِيعِ الْحُجْرَةِ يَصْعَدُ إلَيْهَا مِنْ بَابٍ مُلْصَقٍ بِالْحَانُوتِ وَجَمِيعُ الْحُجْرَةِ مِنْ غَرْبِ مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ وَمِنْهُ جَمِيعُ الْقَيْسَارِيَّةِ السُّفْلِ وَالْعُلُوِّ وَجَمِيعُ السَّابَاطِ قُبَالَتُهَا وَدَارٌ، وَمِنْهُ ثُلُثُ حَزْرِ مَا وَقْفًا مُؤَبَّدًا فَالدَّارُ دَارُ حَدِيثٍ.
وَأَمَّا سَائِرُ الْعَقَارِ فَمَوْقُوفٌ عَلَى مَصَالِحِ هَذِهِ الدَّارِ وَعَلَى أَهْلِهَا، يَبْدَأُ النَّاظِرُ فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ بِعِمَارَةِ الدَّارِ وَعِمَارَةِ مَا هُوَ
مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا وَعَلَى أَهْلِهَا قَدْرَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ مِنْ زَيْتٍ وَشَمْعٍ وَقَنَادِيلَ وَمَصَابِيحَ وَتَعَالِيقَ وَحُصُرٍ وَبُسُطٍ بِرَسْمِ الْمَسْجِدِ وَسَائِرِ مَا لَا يَخْتَصُّ أَحَدٌ بِسُكْنَاهُ مِنْ سُفْلِ الدَّارِ، وَمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ آلَةِ تَنْظِيفٍ وَكَنْسٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَا لَعَلَّهُ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ مِنْ تَقْوِيَةِ فَلَّاحٍ وَإِقْرَاضِهِ وَشِرَاءِ دَوَابَّ وَآلَاتٍ، وَيَتَعَاهَدُ كُتُبَ الْوَقْفِ وَحُجَجَهُ بِالْإِثْبَاتِ وَيَصْرِفُ فِي ذَلِكَ مِنْ مُغَلِّ الْوَقْفِ مِقْدَارَ الْحَاجَةِ وَلَهُ أَنْ يَصْرِفَ مِنْ مُغَلِّ بَعْضِ الْأَمَاكِنِ الْمَوْقُوفَةِ فِي عِمَارَةِ مَكَان آخَرَ مِنْهَا مِمَّا وُقِفَ الْآنَ وَمِمَّا سَيُوقَفُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمَا فَضُلَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مَصْرُوفًا إلَى أَهْلِ الدَّارِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْمُشْتَغِلِينَ بِعِلْمِهِ وَالسَّامِعِينَ لَهُ وَالْقُرَّاءِ لِلسَّبْعِ وَالشَّيْخِ الْمُحَدِّثِ وَالْإِمَامِ وَسَائِرِ الْمُرَتَّبِينَ بِالْمَكَانِ الْمُتَعَلِّقِينَ بِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَمِنْهُ مَا هُوَ مَصْرُوفٌ إلَى الْإِمَامِ سِتُّونَ دِرْهَمًا عَنْ كُلِّ شَهْرٍ فِي السَّنَةِ سَبْعُمِائَةِ وَعِشْرُونَ وَعَلَيْهِ الْقِيَامُ بِوَظِيفَةِ الْإِمَامَةِ فِي الْخَمْسِ، وَفِي التَّرَاوِيحِ وَعَلَيْهِ عَقْدُ حَلْقَةِ الْأَقْرَاءِ وَالتَّلْقِينِ، وَشَرْطُهُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِلْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ عَارِفًا بِهَا؟ وَلِلشَّيْخِ النَّاظِرِ أَنْ يَجْعَلَ حَلْقَةَ الْأَقْرَاءِ إلَى شَخْصٍ غَيْرِ الْإِمَامِ وَيُوَزِّعَ الْمِقْدَارَ الْمَذْكُورَ عَلَيْهِمَا عَلَى حَسْبِ مَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ.
وَيُصْرَفُ إلَى الشَّيْخِ الْمُحَدِّثِ فِي كُلِّ شَهْرٍ تِسْعُونَ دِرْهَمًا، وَهُوَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ وَلِنَسْلِهِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا كُلَّ شَهْرٍ إلَى أَنْ يَنْقَرِضَ آخِرُهُمْ وَيُصْرَفُ إلَى أَوْلَادِ الشَّيْخِ أَبِي مُوسَى وَنَسْلِهِ كُلَّ شَهْرٍ سِتُّونَ دِرْهَمًا وَلَهُمْ، أَوْ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ سُكْنَى الْحُجْرَةِ الَّتِي مِنْ شِمَالِي الدَّارِ؛ وَيُصْرَفُ إلَى خَادِمِ الْأَثَرِ الشَّرِيفِ النَّبَوِيِّ، وَهُوَ الْحَاجُّ رَيْطَارٌ وَاسْمُهُ غُلَامُ اللَّهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَيَجْرِي بَعْدَهُ عَلَى نَسْلِهِ، فَإِذَا انْقَرَضُوا عَادَ ذَلِكَ إلَى مَصَارِفِ الْوَقْفِ وَجِهَاتِهِ، وَيَجْعَلُ شَيْخُ الْمَكَانِ بَعْدَ انْقِرَاضِهِمْ خِدْمَةَ الْأَثَرِ إلَى مَنْ يَشَاءُ وَيَجْعَلُ لَهُ مَا يَرَاهُ وَالْمَصْرُوفُ إلَى هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ وَهُمْ أَوْلَادُ أَبِي مُوسَى وَعُقْبَةَ وَعَقِبُ ابْنِ الصَّلَاحِ وَعَقِبُ رَيْطَارٍ مِنْ مُغَلِّ مَا سِوَى الثُّلُثِ الْمُعَيَّنِ مِنْ حَزْرَمٍ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا حَالَةَ إنْشَاءٍ، وَيَصْرِفُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ إلَى عَشْرَةٍ أَنْفُسٍ مِنْ قُرَّاءِ السَّبْعِ لِكُلِّ وَاحِدٍ عِلْمٌ وَيُصْرَفُ إلَى قَارِئٍ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا كُلَّ شَهْرٍ وَيَصْرِفُ إلَى خَازِنِ الْكُتُبِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ شَهْرٍ وَعَلَيْهِ الِاهْتِمَامُ بِتَرْمِيمِ الْكُتُبِ وَإِعْلَامُ النَّاظِرِ وَنَائِبِهِ لِيَصْرِفَ فِيهِ مِنْ مُغَلِّ الْوَقْفِ مَا يَفِي بِذَلِكَ.
وَكَذَا إذَا مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى تَصْحِيحِ كِتَابٍ وَمُقَابَلَتِهِ وَيَصْرِفُ إلَى شَخْصٍ يَكُونُ مُرَتَّبًا وَنَقِيبًا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَلِلشَّيْخِ أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِ فِي بَعْضِ ذَلِكَ شَخْصًا مِنْ الْجَمَاعَةِ
وَيَزِيدَهُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا عَلَى مَا يَرَاهُ، وَلِلْمُؤَذِّنِ فِي كُلِّ شَهْرٍ عِشْرُونَ دِرْهَمًا وَلِلْبَوَّابِ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَيَصْرِفُ إلَى قَيِّمِينَ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَلِلشَّيْخِ النَّاظِرِ أَنْ يُفَاوِتَ بَيْنَهُمَا عَلَى حَسَبِ عَمَلِهِمَا، وَإِنْ وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ بِوَاحِدٍ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَصَرَفَ إلَيْهِ بَعْضَ ذَلِكَ عَلَى مَا يَقْتَضِيه حَالُهُ، وَيَصْرِفُ كُلَّ سَنَةٍ أَلْفَا دِرْهَمٍ وَمِنْ مُغَلِّ ثُلُثِ حَزْرِ مَا فِي مَصَالِحِ النُّورِيَّةِ وَالْقَائِمِينَ بِمَصَالِحِهَا وَالْمُشْتَغِلِينَ بِالْحَدِيثِ مِنْ أَهْلِهَا عَلَى مَا يَقْتَضِيه رَأْيُ الْوَاقِفِ، أَوْ مَنْ يُفَوِّضُ ذَلِكَ إلَيْهِ وَيَصْرِفُ فِي شِرَاءِ وَرَقٍ وَآلَاتِ النَّسْخِ مِنْ مَرْكَبٍ وَأَقْلَامٍ وَدُوِيٍّ وَكَرَاسِيٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَا يَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ لِمَنْ يَنْسَخُ فِي الْإِيوَانِ الْكَبِيرِ، أَوْ قُبَالَتِهِ الْحَدِيثِ، أَوْ شَيْئًا مِنْ عُلُومِهِ، أَوْ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، أَوْ تَفْسِيرِهِ وَيَصْرِفُ إلَى مَنْ يَكْتُبُ فِي مَجَالِسِ الْإِمْلَاءِ وَإِلَى مَنْ يَتَّخِذُ لِنَفْسِهِ كُتُبًا، أَوْ اسْتِجَازَةً.
وَلَا يُعْطِي مِنْ ذَلِكَ إلَّا لِمَنْ يَنْسَخُ لِنَفْسِهِ لِغَرَضِ الِاسْتِفَادَةِ وَالتَّحْصِيلِ دُونَ التَّكَسُّبِ وَالِانْتِفَاعِ بِثَمَنِهِ، وَمَا فَضُلَ عَنْ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ وَالْجِهَاتِ الْمَذْكُورَةِ إلَى تَمَامِ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ يُصْرَفُ إلَى الْمُشْتَغِلِينَ بِالْحَدِيثِ وَالْمُشْتَغِلِينَ لَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ السُّبْكِيُّ الَّذِي تَرَجَّحَ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمَصْرُوفُ إلَى الْمُشْتَغِلِينَ بِالْحَدِيثِ وَالسَّامِعِينَ لَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَقَوْلُهُ تَمَامٌ مَقْصُودُهُ بِهِ إدْخَالُ الْمَعْنَى فِي الْغَايَةِ وَكَأَنَّهُ قَالَ مَا فَضَلَ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى تَمَامِ أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ، وَإِنَّمَا ذَهَبْنَا إلَى تَرْجِيحِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، وَلَمْ نَجْعَلْ الْمَعْنَى أَنَّ مَا فَضُلَ بَعْدَ تَكْمِلَةِ الْمَصَارِفِ إلَى أَنْ يَتَكَمَّلَ بِهَا أَلْفٌ وَمِائَتَانِ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا لَكِنَّا عَدَلْنَا عَنْهُ؛ لِأَنَّ مِنْ الْمَصَارِفِ الْمَذْكُورَةِ أَلْفَيْنِ لِلنُّورِيَّةِ، وَمِنْ الْمَصَارِفِ الْمَذْكُورَةِ أُمُورٌ مَجْهُولَةٌ كَقَرْضِ الْفَلَّاحِينَ وَتَقْوِيَتِهِمْ وَالْمُرَتَّبِ وَنَحْوِهِ وَأُمُورٍ كَثِيرَةٍ تَقَدَّمَتْ وَهِيَ مُحْتَمَلَةٌ؛ لَأَنْ يَزِيدَهُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعَ ذَلِكَ مَعَ الْمَصْرُوفِ إلَى الْمُشْتَغِلِينَ بِالْحَدِيثِ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ فَتَعَيَّنَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمَصَارِفُ الَّتِي عَيَّنَهَا فِي الدَّارِ وَجُمْلَتُهَا أَرْبَعُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ، وَيَكُونُ لِلْمُشْتَغِلِينَ وَالسَّامِعِينَ سَبْعُمِائَةِ وَخَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ، وَفِي ذَلِكَ تَخْصِيصٌ، وَلَا دَلِيلَ يُرْشِدُ إلَى غَيْرِ التَّخْصِيصِ.
وَالثَّانِي أَنْ يَبْقَى ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ، وَيَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ لَهُمْ كُلَّ مَا يَفْضُلُ مَا لَمْ يَزِدْ عَنْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ أَحَدُ احْتِمَالِ هَذَا اللَّفْظِ، وَلَيْسَ مَجَازًا حَتَّى يَتَعَارَضَ الْمَجَازُ وَالتَّخْصِيصُ فَكَانَ أَوْلَى فَلِذَلِكَ رَجَّحْنَاهُ عَلَى أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ.
وَمَا فَضُلَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مَصْرُوفًا إلَى أَهْلِ الدَّارِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْمُشْتَغِلِينَ بِعِلْمِهِ وَالسَّامِعِينَ لَهُ وَالْقُرَّاءِ لِلسَّبْعِ وَالشَّيْخِ الْمُحَدِّثِ وَالْإِمَامِ وَسَائِرِ الْمُرَتَّبِينَ بِالْمَكَانِ الْمُتَعَلِّقِينَ بِهِ فَلَمْ يَذْكُرْ النُّورِيَّةَ هَاهُنَا، وَلَا أَوْلَادَ الْحَافِظِ
فَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الْمَحْسُوبُونَ مِنْ الْأَلْفِ وَالْمِائَتَيْنِ، وَيَكُونُ لِلْمُشْتَغِلِينَ وَالسَّامِعِينَ بَقِيَّتُهَا.
وَجَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ التَّخْصِيصِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوَقْفَ إنْ وَفَّى بِذَلِكَ فَلِصَرْفِهَا مُخَلِّصٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْكِتَابِ: وَإِذَا رَأَى قَصْرَ الْفَاضِلِ عَلَى أَهْلِ الدَّارِ أَصْلَحَ كَانَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَفِ الْوَقْفُ فَالنَّقْصُ دَاخِلٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ الِاحْتِمَالَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ؛ لِأَنَّ " إلَى " لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَجْعَلُ بِهِ الِابْتِدَاءَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا مِنْ الْفَاضِلِ وَإِمَّا مِنْ الْأَصْلِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ كَامِلَةٍ لَا مَحْذُورَ فِيهِ زَادَ الْوَقْفُ، أَوْ نَقَصَ وَالْحَمْلُ عَلَى التَّتِمَّةِ فِيهِ مَحْذُورٌ بِتَقْدِيرِ زِيَادَةِ الْوَقْفِ، وَأَنْ لَا يَرَى النَّاظِرُ النَّقْصَ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونَ الْوَاقِفُ أَرَادَ خِلَافَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
عُدْنَا إلَى لَفْظِ كِتَابِ الْوَقْفِ قَالَ: فَيَجْعَلُ لِكُلٍّ مِنْ الْمُشْتَغِلِينَ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ وَمَنْ زَادَ اشْتِغَالُهُ زَادَهُ وَمَنْ نَقَصَ نَقَصَهُ وَيَجْعَلُ لِكُلٍّ مِنْ السَّامِعِينَ أَرْبَعَةً، أَوْ ثَلَاثَةً وَمَنْ تَرَجَّحَ مِنْهُمْ زَادَهُ وَمَنْ كَانَ فِيهِ نَبَاهَةٌ جَازَ إلْحَاقُهُ بِالثَّمَانِيَةِ وَمَنْ حَفِظَ مِنْهُمْ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ فَلِلشَّيْخِ أَنْ يَخُصَّهُ بِجَائِزَةٍ وَمَنْ انْقَطَعَ مِنْهُمْ إلَى الِاشْتِغَالِ بِالْحَدِيثِ وَكَانَ ذَا أَهْلِيَّةٍ يُرْجَى مَعَهَا أَنْ يَصِيرَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فَلِلشَّيْخِ أَنْ يُوَظِّفَ لَهُ تَمَامَ كِفَايَةِ أَمْثَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِذَا وَرَدَ شَيْخٌ لَهُ عُلُوُّ سَمَاعٍ يَرْحَلُ إلَى مِثْلِهِ فَلَهُ أَنْ يَنْزِلَ بِدَارِ الْحَدِيثِ وَيُعْطَى كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ، فَإِذَا فَرَغَ أُعْطِيَ ثَلَاثِينَ دِينَارًا كُلُّ دِينَارٍ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ، هَذَا إذَا وَرَدَ مِنْ غَيْرِ الشَّامِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ هُوَ مُقِيمٌ بِالشَّامِ كَانَ لَهُ دُونَ ذَلِكَ عَلَى مَا يَرَاهُ الشَّيْخُ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ مِنْ الْمُسْتَوْطِنِينَ بِدِمَشْقَ وَاقْتَضَتْ الْمَصْلَحَةُ اسْتِحْضَارَهُ فِي الدَّارِ لِاسْتِمَاعٍ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْعَالِي فَلِلنَّاظِرِ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ مِنْ عَشْرَةِ دَنَانِيرَ فَمَا دُونَ ذَلِكَ، وَإِذَا اقْتَضَتْ الْمَصْلَحَةُ أَمْرًا دِينِيًّا يُنَاسِبُ مَقَاصِدَ دَارِ الْحَدِيثِ زَائِدًا عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ فَلِلشَّيْخِ النَّاظِرِ أَنْ يَصْرِفَ ذَلِكَ مِنْ مُغَلِّ الْوَقْفِ مَا يَلِيقُ بِالْحَالَةِ، وَمَنْ قَامَ بِشَرْطِ جِهَتَيْنِ إتْيَانِهِ بِهِمَا فَلِلنَّاظِرِ ذَلِكَ.
وَلِلشَّيْخِ النَّاظِرِ أَنْ يَسْتَنْسِخَ لِلْوَقْفِ، أَوْ يَشْتَرِيَ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ وَالْأَجْزَاءِ ثُمَّ يَقِفَ ذَلِكَ أُسْوَةً مَا فِي الدَّارِ مِنْ كُتُبِهَا، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي خَمْسِ لَيَالٍ وَلَهُمْ أَنْ يَبْتَدِئُوا بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَلِلنَّاظِرِ أَنْ يَتَّخِذَ لَهُمْ طَعَامًا وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ بَدَلَ الطَّعَامِ كُلَّ لَيْلَةٍ مَا يَتِمُّ وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا يَلِيقُ مِنْ شَمْعٍ وَعُودٍ يُبَخَّرُ بِهِ وَكِيزَانٍ وَثَلْجٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يَتَّخِذَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ طَعَامًا، أَوْ يُفَرِّقَ عِوَضًا عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِالسَّوِيَّةِ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الدَّارِ مِنْ الْمُرَتَّبِينَ وَالسَّاكِنِينَ وَذَلِكَ إذَا رَأَى فِي مُغَلِّ الْوَقْفِ اتِّسَاعًا وَمَهْمَا كَانَ فِي مُغَلِّ الْوَقْفِ نَقْصٌ
بِحَيْثُ لَا يَفِي بِجَمِيعِ الْجِهَاتِ الْمَذْكُورَةِ فَلْيَجْعَلْ النَّقْصَ فِي الْأُمُورِ الزَّائِدَةِ دُونَ الْأَصْلِيَّةِ الْمُهِمَّةِ وَلْيُكْمِلْ لِلْمُؤَذِّنِ وَالْقَيِّمِ وَالْخَازِنِ وَالْبَوَّابِ وَالْقَارِئِ وَالشَّيْخِ وَقُرَّاءِ السَّبْعِ وَطَبَقَةِ الْمُشْتَغِلِينَ وَيُخَصُّ بِالنَّقْصِ وَالْحِرْمَانِ السَّامِعُونَ.
قَالَ عَلِيٌّ السُّبْكِيُّ ذَكَرَ أَنَّهُ يُكَمِّلُ لِهَؤُلَاءِ فَأَشْعَرَ أَنَّهُ لَا يُكَمِّلُ لِغَيْرِهِمْ وَذَكَرَ أَنَّهُ يُخَصُّ بِالنَّقْصِ السَّامِعُونَ فَاقْتَضَى أَنَّهُ لَا يُنْقَصُ غَيْرُهُمْ فَتَعَارَضَ هَذَانِ الْأَمْرَانِ فِي الْخَادِمِ لِلْأَثَرِ وَعَقَّبَ أَبِي مُوسَى وَالنُّورِيَّةُ هَلْ يُنْقِصُهُمْ بِمُقْتَضَى الْكَلَامِ الْأَوَّلِ أَوْ لَا بِمُقْتَضَى الْكَلَامِ الثَّانِي؟ لَا يَكَادُ يَتَرَجَّحُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ شَيْءٌ لَكِنَّ النَّفْسَ تَمِيلُ إلَى أَنَّ النُّورِيَّةَ لَا يُنْقَصُ مِنْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ ظَنَّ عَلَى أَدْنَى أَنَّ سَبَبَ هَذَا أَنَّهُ أَخَذَ لَهَا شَيْئًا بِعِوَضِهَا عِنْدَ هَذَيْنِ الْأَلْفَيْنِ وَأَيْضًا، فَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَصَارِفِ الدَّارِ الْأَشْرَفِيِّةِ وَخَادِمُ الْأَشْرَفِيِّةِ مُخْلِصٌ فَإِنَّهُ بَعْدَ انْقِرَاضِ نَسْلِ رَيْطَارٍ حَصَلَ الْأَمْرُ فِيهِ إلَى رَأْي النَّاظِرِ.
فَقَدْ سَهَّلَ وَأَوْلَادُ ابْنِ مُوسَى أَمْرُهُمْ مُشْكِلٌ وَيَسْهُلُ عَدَمُ التَّكَمُّلِ لَهُمْ أَنَّ الَّذِي لَهُمْ صِلَةٌ لَيْسَ عَنْ وَظِيفَةٍ وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ وَيُخَصُّ بِالنَّقْصِ وَالْحِرْمَانِ السَّامِعُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَظِيفَةُ الْمُشْتَغِلِينَ كَأَنَّهُ قَالَ: طَبَقَةُ الْمُشْتَغِلِينَ لَا طَبَقَةَ السَّامِعِينَ لَمْ يُرِدْ بِالنَّقْصِ وَالْحِرْمَانِ إلَّا هَذَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ إلَى رَبِّ الْجِهَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِي دَلَالَةِ قَوْلِهِ: وَلْيُكْمِلْ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَصْنَافِ الَّتِي قَالَ: إنَّهُ يُكْمِلُ لَهَا هِيَ الْأُمُورُ الْمُهِمَّةُ.
وَلَا شَكَّ أَنَّهَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا قِوَامُ دَارِ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا أَوْلَادُ رَيْطَارٍ وَذُرِّيَّةُ ابْنِ الصَّلَاحِ وَذُرِّيَّةُ أَبِي مُوسَى فَالْمَصْرُوفُ إلَيْهِمْ صِلَةٌ، فَلَيْسَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْهُمْ فِيمَنْ يُكْمِلُ لَهُمْ فَالْأَمْرُ فِيهِمْ إلَى خِيرَةِ النَّاظِرِ بَعْدَ التَّكْمِيلِ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهُ يُكْمِلُ لَهُ " وَمِمَّا يَجِبُ النَّظَرُ فِيهِ أَنَّ الْمُشْتَغِلِينَ وَإِنْ بَقِيَ ذُكِرَ أَنَّ لَهُمْ مِمَّا فَضُلَ وَقَدْ لَا يَفْضُلُ لَهُمْ شَيْءٌ، وَلَا يَفْضُلُ عَنْهُمْ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ، وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الصَّرْفِ إلَى الْمُشْتَغِلِينَ لِكَوْنِهِ نَصَّ عَلَيْهِمْ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِمْ، وَإِنْ أَدَّى إلَى مُحَاصَصَةِ غَيْرِهِمْ، لَكِنْ لَا يَجِبُ أَنْ يُصْرَفُ إلَيْهِمْ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ، أَمَّا الصَّرْفُ إلَيْهِمْ فَلِمَا قُلْنَاهُ.
وَلَا يُعَارِضُهُ كَوْنُهُ إنَّمَا جُعِلَ لَهُمْ مِنْ الْفَاضِلِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَوْ قَالَ: إنْ فَضُلَ فَلَهُمْ اقْتَضَى حِرْمَانَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْفَضْلِ لَكِنَّهُ قَالَ: فَمَا فَضُلَ فَفِي رَهْنِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَفْضُلَ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ وَاعْتِبَارُهُ نَصَّهُ عَلَى التَّكْمِيلِ لَهُمْ عِنْدَ الضِّيقِ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَسْتَوْعِبُوا عِنْدَ الضِّيقِ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ فَلِأَنَّا حَمَلْنَا كَلَامَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ فَلَمْ يَجْعَلْ الَّذِي لَهُمْ مُقَدَّرًا بِقَدْرٍ لَا يَزِيدُ، وَلَا يَنْقُصُ، بَلْ مَعْنَاهُ مَنْعُ زِيَادَتِهِمْ عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَأَيْضًا
مَنَعَ نُقْصَانَهُمْ مِنْهَا عِنْدَ السَّعَةِ، فَلَوْ فَضُلَ بَعْضُهَا مُعَطَّلًا زَادُوا عَلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ بِشَرْطِ أَنْ يَحْصُلَ عَدَدٌ يَقُومُ بِهِمْ شِعَارُ الدَّارِ وَتُصْرَفُ إلَيْهِمْ الْمَقَادِيرُ الَّتِي قَالَهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
عُدْنَا إلَى لَفْظِ كِتَابِ الْوَقْفِ قَالَ، وَإِنْ زَادَ النَّقْصُ وَتَنَاهَى إلَى الْأَهْلِيَّةِ وَالْقَائِمِينَ بِهَا وَزَّعَ عَلَيْهَا عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ النَّاظِرُ، وَإِذَا فَضُلَ مِنْ مُغَلِّ الْوَقْفِ فَاضِلٌ فَلِلنَّاظِرِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مِلْكًا يَقِفُهُ عَلَى الْجِهَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَهُ أَنْ يَسْتَفْضِلَ شَيْئًا مِنْ الْمُغَلِّ لِذَلِكَ، وَإِذَا رَأَى فَضَّ الْفَاضِلِ عَلَى أَهْلِ الدَّارِ أَصْلَحَ كَانَ لَهُ.
وَلِلنَّاظِرِ شِرَاءُ حُصُرٍ لِلْبُيُوتِ الْمَسْكُونَةِ فِي عُلُوِّ الدَّارِ وَسُفْلِهَا، وَقَبِلَهُ مِنْهُ قَابِلٌ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ 29 رَمَضَانَ سَنَة 132 هـ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ نَقَلْته فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ رَجَبِ الْفَرْدِ سَنَةَ 745 هـ.
قَالَ عَلِيٌّ السُّبْكِيُّ قَدْ وَقَعَ الْكَلَامُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِ الْوَقْفِ وَبَقِيَ مِمَّا لَمْ يَقَعْ الْكَلَامُ أَنَّ الْوَقْفَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَصْنَافِ وَالْجِهَاتِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَيْهِ صِنْفٌ يَسْتَحِقُّ مِنْ حِرْزٍ مَا فَقَطْ، وَهُوَ دَارُ الْحَدِيثِ النُّورِيَّةُ وَقِسْمٌ يَسْتَحِقُّ مِنْ غَيْرِهَا فَقَطْ، وَهُوَ ذُرِّيَّةُ ابْنِ الصَّلَاحِ وَذُرِّيَّةُ أَبِي مُوسَى وَذُرِّيَّةُ الْحَاجِّ رَيْطَارٍ خَادِمِ الْأَثَرِ فَأَمَّا ذُرِّيَّةُ ابْنِ الصَّلَاحِ وَذُرِّيَّةُ الْحَاجِّ رَيْطَارٍ فَقَدْ انْقَرَضُوا وَذُرِّيَّةُ أَبِي مُوسَى بَاقُونَ وَخَادِمُ الْأَثَرِ مِنْ غَيْرِ ذُرِّيَّةِ رَيْطَارٍ إلَى رَأْيِ النَّاظِرِ فَلَا يَخْتَصُّ فَلَمْ يَبْقَ الْآنَ مُخْتَصٌّ إلَّا ذُرِّيَّةُ أَبِي مُوسَى لَهُمْ مِمَّا سِوَى حَزْرَمٍ سِتُّونَ دِرْهَمًا فِي الشَّهْرِ.
فَأَنَا أَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنِّي لَا أَقْطَعُهَا عَنْهُمْ إلَّا أَنْ يَتَعَطَّلَ مَا سِوَى حَزْرَمٍ كُلِّهِ، أَوْ يُتَّفَقَ أَنْ يُعْمَرَ بِهِ كُلِّهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا دَعَتْ حَاجَةُ الدَّارِ، أَوْ وَقْفِهَا إلَى عِمَارَةٍ وَوَجَدْنَا مَا سِوَى حَزْرَمٍ رِيعًا فَلَنَا أَنْ نَصْرِفَهُ كُلَّهُ فِي الْعَمَارَةِ، وَإِذَا لَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ مِنْهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَوْلَادُ أَبِي مُوسَى شَيْئًا وَالنُّورِيَّةُ مِنْ حَزْرَمٍ كَذَلِكَ إذَا اتَّفَقَ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ أَنْ تَمَحَّلَ، أَوْ أَنْ تَعَمَّرَ بِهَا كُلِّهَا حَالَ الِاحْتِيَاجِ إلَى ذَلِكَ فَلَا تَسْتَحِقُّ النُّورِيَّةُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ شَيْئًا.
وَمَا سِوَى هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُقْطَعُ لَهَا شَيْءٌ، وَالنِّصْفُ الثَّالِثُ بَقِيَّةُ الْجِهَاتِ وَهِيَ مِنْ الْأَوْقَافِ كُلِّهَا وَقَدْ رَأَيْت تَرْتِيبَ النَّفَقَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْمُغَلَّ الْمَنْسُوبَ إلَى السَّنَةِ الْخَارِجَةِ وَهِيَ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ مَثَلًا وَسَطَ الْأَشْهُرِ الْمَاضِيَةِ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ مِنْ الْهِلَالِيِّ فَيَقْسِمُونَهُ وَقَالَ الْمُبَاشِرُونَ إنَّهُمْ وَجَدُوا الْعَادَةَ، وَفِي ذِهْنِهِمْ أَنَّهُمْ يَصْرِفُونَ عَنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ فَفَكَّرْتُ فَظَهَرَ أَنَّ إضَافَةَ رِيعِ الْأَشْهُرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ إلَى مُتَحَصِّلِ مُغَلِّ السَّنَةِ الْخَارِجَةِ صَوَابٌ، وَلَيْسَ هُوَ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، بَلْ عَنْ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ الَّتِي أَوَّلُهَا جُمَادَى مَثَلًا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَذَلِكَ أَنِّي رَأَيْت
الْوَقْفَ فِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ إلَى أَوَاخِرِ رَمَضَانَ هَذِهِ السَّنَةَ مِائَةً وَثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يَنْقُصُ مِنْهَا ثَلَاثَ سِنِينَ وَنِصْفَ نَقْصِ الْهِلَالِيَّةِ عَنْ الشَّمْسِيَّةِ تَقْرِيبًا وَآخِرُ رَمَضَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الشِّتَاءِ، فَيَكُونُ الْوَقْفُ فِي الصَّيْفِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ تَقْرِيبًا فَمِنْهُ إلَى مِثْلِهِ مِنْ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ وَتُقْسَمُ هِلَالِيَّةٌ وَخَرَاجِيَّةٌ وَنَحْوُ السَّنَةِ وَقَعَ الْقَسْمُ وَآخِرُ السَّنَةِ الْخَرَاجِيَّةِ فِي قَرِيبِ نِصْفِ الْهِلَالِيَّةِ فَالْوَاجِبُ قِسْمَةُ الْهِلَالِيِّ وَالْخَرَاجِيِّ الْمُتَحَصِّلِ فِي السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ كُلِّهَا وَكَانَ يَنْبَغِي حِفْظُ نِصْفِ السَّنَةِ الْهِلَالِيَّةِ الْخَارِجَةِ حَتَّى تُقْسَمَ مَعَ هَذِهِ لِيَكْتَمِلَ مَالُ السَّنَةِ هِلَالِيَّةٌ وَخَرَاجِيَّةٌ لَكِنْ الْمُبَاشِرُونَ لَمْ يَفْهَمُوا ذَلِكَ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُمْ تَمَحَّلُوا صَرْفَهُ، وَلَا يَضُرُّ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَأْتِيَ فِي الْبَيْدَرِ فِي آخِرِ السَّنَةِ الْخَرَاجِيَّةِ.
وَهُوَ آخِرُ الصَّيْفِ بِحَسَبِ مَا يَحْصُلُ مِنْ الْمُغَلِّ مِنْ حَزْرَمٍ وَنَضِيفُ إلَيْهِ الْهِلَالِيَّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ الْخَرَاجِيَّةِ كُلِّهَا عَنْ اثْنَيْ عَشْرَ شَهْرًا شَمْسِيَّةً وَهِيَ ثَلَثُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا وَرُبْعُ يَوْمٍ فَنُفَرِّقُهُ، وَلَا يَزَالُ الْحَالُ كَذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: مُتَحَصِّلُ السَّنَةِ الْخَرَاجِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ هِلَالِيَّةٍ مِنْهَا وَمُتَحَصِّلُ الْهِلَالِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَهِيَ سَنَةٌ هِلَالِيَّةٌ وَأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا وَكَسْرٌ فَذَلِكَ انْصَرَفَ مِنْهُ وَمِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ الْوَاقِفُ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُقَدِّرْهُ وَذَلِكَ فِي الْعِمَارَةِ فَالْحَاصِلُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ لِلْإِمَامِ وَالْمُقْرِئِ فِي السَّنَةِ سَبْعُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ وَلِلشَّيْخِ أَلْفٌ وَثَمَانُونَ وَلِقُرَّاءِ السَّبْعِ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ وَلِلْقَارِئِ مِائَتَانِ وَثَمَانِيَةٌ وَثَمَانُونَ وَلِلْخَازِنِ مِائَتَانِ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ وَلِلْقَيِّمِينَ ثَلَثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ وَلِلْبَوَّابِ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ وَلِلنُّورِيَّةِ أَلْفَا دِرْهَمٍ وَلِنَسْلِ أَبِي مُوسَى سَبْعُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ وَلِلنَّقِيبِ مِائَتَانِ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ خَمْسَةُ آلَافٍ وَتِسْعُمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسَبْعُونَ وَأَيْضًا لِإِحْيَاءِ اللَّيَالِيِ الْخَمْسِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَتَحَرَّرَتْ الْجُمْلَةُ سِتَّةُ آلَافٍ وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا وَأَيْضًا لِلنَّاظِرِ وَلِلْعَامِلِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ ذَلِكَ سَبْعَةَ آلَافٍ وَسِتَّمِائَةٍ وَسِتَّةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا وَالْفَاضِلُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَفِي بِمَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ لِلْمُشْتَغِلِينَ وَالسَّامِعِينَ، وَهُوَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةٍ فَنَفُضُّ عَلَيْهِمْ هَذَا الْقَدْرَ الْفَاضِلَ، وَهُوَ وَلَا أَرَى فِي هَذَا الْوَقْفِ أَنْ أَقْطَعَ مُسْتَحِقًّا، وَلَا أَنْ أَنْقُصَ اسْمَ أَحَدٍ فِي طَبَقَتِهِ، بَلْ أَفُضُّ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا أَرَاهُ بِاعْتِبَارِهِ السَّنَةَ بِحَيْثُ لَا يَزِيدُ عَنْ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ حَذَرًا مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى عِشْرِينَ فِي الشَّهْرِ، وَلَا يَنْقُصُ عَنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ لِئَلَّا يَنْقُصَ عَنْ ثَلَاثَةٍ فِي الشَّهْرِ إلَّا أَنْ
يَكُونَ بِسَبَبِ غَيْبَةٍ مِمَّنْ يُوجَدُ مِنْهُ غَيْبَةٌ، فَإِنَّ عِنْدِي أَيْضًا إذَا كَانَ مُشْتَغِلًا وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ لِغَيْرِ عُذْرٍ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُسَامِحَهُ بِالْغِيبَةِ.
وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِأَنَّ غَيْبَتَهُ لِعُذْرٍ بِغَيْرِ يَمِينٍ وَالْمَصْرُوفُ عَنْ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا هِلَالِيَّةً وَأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَآخِرُ الْمُدَّةِ حِينَ الْقَسْمِ أَعْنِي وَقْتَ اسْتِحْقَاقِ قَسْمِ الْمُغَلِّ وَأَوَّلُ الْمُدَّةِ مِثْلُ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْعَامِ الْمَاضِي وَضَبْطُ هَذَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَجْلِ الْغَيْبَةِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقَسْمُ مِنْ عَهْدِ الْوَاقِفِ إلَى الْيَوْمِ مِائَةٌ وَعَشْرَةٌ وَالسُّنُونَ الْهِلَالِيَّةُ مِائَةٌ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ وَدَخَلَتْ السُّنُونَ الثَّلَاثُ الْهِلَالِيَّةُ، وَمَا لَهَا فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ، وَلَا ظُلْمٍ وَيَجِبُ عَلَى الْمُبَاشِرِ تَحْرِيرُ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ، وَإِذَا اتَّسَعَ الْوَقْتُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى يَصْرِفُ بَقِيَّةَ الْمَصَارِفِ كَطَعَامِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ.
وَهَذَا مَا تَحَرَّرَ عِنْدِي فِي ذَلِكَ الْآنَ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذنِي.
انْتَهَى نَقْلًا مَنْ خَطِّ الشَّيْخِ الْإِمَامِ رحمه الله.
{مَسْأَلَةٌ} عُرْعُورٌ وَقَفَ مِنْهَا سُلَيْمَانُ الضَّامِنُ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ عِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ قِيرَاطًا وَرُبْعًا عَلَى أَوْلَادِهِ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ عَيَّنَهُمْ وَعَلَى مَنْ يُحْدِثُهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْأَوْلَادِ ثُمَّ عَلَى جِهَاتٍ مُتَّصِلَةٍ وَثَبَتَ ذَلِكَ عَلَى نَائِبِ الْحَنْبَلِيِّ فِي سَنَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَحَكَمَ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ وَنَفَّذَهُ مُسْتَنِيبُهُ ابْنُ مُسْلِمٍ ثُمَّ قَاضِي الْقُضَاةِ الدِّينِ بْنُ صَصْرَى ثُمَّ حَكَاهُ بَعْدَهُ إلَى الْيَوْمِ فَحَضَرَ وَلَدٌ لِسُلَيْمَانَ الضَّامِنِ يُسَمَّى خَضِرٌ.
حَدَثَ بَعْدَ الْوَقْفِ وَقَدْ مَاتَ الْأَرْبَعَةُ الْمُعَيَّنُونَ وَادَّعَى بِالْوَقْفِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ فِي يَدِ وَرَثَةِ الْجَبْغَا الْعَادِلِي وَأَظْهَرُوا مِنْ أَيْدِيهِمْ كِتَابًا فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ عَلَى نَائِبِ الْحَنْبَلِيِّ زَيْنِ الدِّينِ أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ وَقْفُ الْجَبْغَا لِاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ قِيرَاطًا مِنْ الضَّيْعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ وَحَكَمَ بِمُوجِبِهِ ثُمَّ قَامَتْ عِنْدَهُ بَيِّنَةٌ بِالْمِلْكِ وَالْحِيَازَةِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ فَحَكَمَ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ، وَهُوَ عَلَى خُبْزٍ يُفَرَّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لَيَالِيَ الْجُمَعِ بِتُرْبَتِهِ فَمَنْ يَقْدَمُ مِنْهَا وَقَدْ نَفَّذَهُ حُكَّامٌ أَيْضًا وَلَمْ يَحْضُرْ كِتَابُ مُشْتَرِي وَقِيلَ إنَّ سُلَيْمَانَ بَاعَ الْمَكَانَ فِي مُصَادَرَةٍ عَلَيْهِ وَوَصَلَ إلَى الْجَبْغَا فَوَقَفَهُ.
{الْجَوَابُ} أَمَّا أَنْ نَعْلَمَ تَرَتُّبَ يَدَ الْجَبْغَا عَلَى يَدِ سُلَيْمَانَ، أَوْ يَدَ مَنْ تَرَتَّبَ عَلَى يَدِ سُلَيْمَانَ أَوَّلًا فَهَذَانِ قِسْمَانِ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَنْ يَعْلَمَ تَرَتُّبَ يَدَ الْجَبْغَا عَلَى يَدِ سُلَيْمَانَ، أَوْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ فَالْبَيِّنَةُ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلْجَبْغَا لَا تُسْمَعُ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا لِعَدَمِ بَيَانِ السَّبَبِ وَالِانْتِقَالِ مِمَّنْ ثَبَتَ لَهُ الْمِلْكُ الْمُتَقَدِّمُ، وَهُوَ سُلَيْمَانُ، وَالثَّانِي الْوَقْفُ الثَّابِتُ الْمَحْكُومُ بِهِ وَيُعْتَرَضُ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنْ يُقَالَ بِأَنَّ تَبْيِينَ الِانْتِقَالِ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِ اشْتِرَاطِهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَالْحَاكِمُ الَّذِي حَكَمَ بِالْمِلْكِ لَا لِجَبْغَا قَدْ يَكُونُ
يَرَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فَيُحْمَلُ حُكْمُهُ لَهُ بِالْمِلْكِ، وَالْوَقْفِ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا إنَّمَا يَظْهَرُ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْحَاكِمِ قَدْ عَرَفَ مِلْكَ سُلَيْمَانَ وَيَظْهَرُ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا ذَلِكَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اكْتَفَى بِكَوْنِهِ فِي يَدِ الْجَبْغَا، أَوْ الشَّهَادَةُ لَهُ بِالْمُلْكِ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ فَحْصٍ عَنْ حَقِيقَةِ الْحَالِ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْحَاكِمِ الْمَذْكُورِ وَالْوَاقِعَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَقَدْ يُعْتَرَضُ عَلَى الثَّانِي بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ الْمَذْكُورُ بَيْعًا لِخَرَابٍ، أَوْ مُنَاقَلَةٍ كَمَا تَعْلَمُهُ الْحَنَابِلَةُ، أَوْ اسْتِبْدَالٌ كَمَا هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَصَارَ مِلْكًا فَتَصِحُّ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ وَتُحْمَلُ شَهَادَةُ الْبَيِّنَةِ وَإِطْلَاقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا يَنْدَفِعُ بِقِيَامِ بَيِّنَةٍ بِمَعْرِفَةِ الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ وَاسْتِمْرَارِهِ بِصِفَتِهِ مِنْ حِينِ وَقْفِ سُلَيْمَانُ لَهُ، أَوْ بَيِّنَةٍ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى وَقْفِيَّتِهِ إلَى الْآنَ، فَإِنْ انْدَفَعَتْ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتُ جَازَ انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ الْآنَ وَالْحُكْمُ بِهِ لِابْنِ سُلَيْمَانَ.
(الْقِسْمُ الثَّانِي) أَنْ لَا يَعْلَمَ تَرَتُّبَ يَدِ الْجَبْغَا عَلَى يَدِ سُلَيْمَانَ، وَلَا عَلَى يَدِ وَاحِدٍ بَعْدَهُ فَهُنَا بَيِّنَتَانِ إحْدَاهُمَا الَّتِي شَهِدَتْ لِسُلَيْمَانَ بِالْمِلْكِ وَحَكَمَ بِهَا فِي سَنَةِ عِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ وَالثَّانِيَةُ الَّتِي شَهِدَتْ لَا لِجَبْغَا فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ وَهَلْ هُمَا مُتَعَارِضَتَانِ، أَوْ لَا؟ وَكَيْفَ يَكُونُ تَعَارُضٌ مَعَ اخْتِلَافِ الْوَقْتِ وَمِنْ الْمُقَرَّرِ فِي الْمَعْقُولِ أَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّنَاقُضِ اتِّحَادَ الْوَقْتِ.
وَالْفُقَهَاءُ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ فَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَا يَقْتَضِيهِ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْجُرْجَانِيُّ فِي الشَّافِي يُقَالُ: وَإِنَّمَا تَتَعَارَضُ الْبَيِّنَتَانِ إذَا تَقَابَلَتَا حِينَ التَّنَازُعِ، فَلَوْ سَبَقَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِأَنْ يَدَّعِيَ زَيْدٌ عَبْدًا فِي يَدِ خَالِدٍ وَأَقَامَ زَيْدٌ الْبَيِّنَةَ وَقُضِيَ لَهُ بِهِ وَسُلِّمَ إلَيْهِ ثُمَّ حَضَرَ عَمْرٌو وَادَّعَاهُ وَأَقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ فَهَلْ تُعَارِضُ بَيِّنَةُ زَيْدٍ بَيِّنَةَ عَمْرٍو مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَيِّدَ بَيِّنَةَ زَيْدٍ؟
الشَّهَادَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا بِقَدِيمِ الْمِلْكِ وَحَدِيثِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: بَيِّنَةُ قَدِيمِ الْمِلْكِ أَوْلَى فَقَدْ تَعَارَضَتَا مِنْ غَيْرِ إعَادَةٍ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ زَيْدٍ قَائِمَةٌ حِينَ التَّنَازُعِ، وَإِنْ قُلْنَا: هُمَا سَوَاءٌ فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا بِلَا إعَادَةٍ فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ قَائِمَةٌ بِحَالِهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَتِهَا كَمَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِحَقٍّ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِهِ الْحَاكِمُ لِيَبْحَثَ، فَإِذَا بَحَثَ لَمْ يُعِدْ الشَّهَادَةَ كَذَلِكَ هَاهُنَا وَالثَّانِي لَا يَقَعُ التَّعَارُضُ إلَّا بِالْإِعَادَةِ؛ لِأَنَّهَا إذَا سَبَقَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى لَمْ تَقَعْ الْمُقَابَلَةُ حِينَ التَّنَازُعِ وَهَذَا الْفَرْعُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُرْجَانِيُّ ذَكَرَهُ ابْنُ شُرَيْحٍ وَالْأَصْحَابُ بَعْدَهُ، وَيَظْهَرُ مِنْ الْبِنَاءِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الصَّحِيحَ التَّعَارُضُ وَمُسْتَنَدُهُ اعْتِمَادُ الِاسْتِصْحَابِ وَأَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ فِي الْمَاضِي يُسْتَصْحَبُ حُكْمُهُ، وَلَا يُغَيَّرُ إلَّا بِدَلِيلٍ عَلَى التَّغْيِيرِ فَالْبَيِّنَةُ بِالْمِلْكِ
الْمُتَقَدِّمِ قَدْ ثَبَتَ حُكْمُهَا فَحُكْمُهَا مُسْتَصْحَبٌ، وَالْبَيِّنَةُ الثَّانِيَةُ لَمْ تَرْفَعْهُ، فَلَيْسَتْ دَلِيلًا خَاصًّا عَلَى تَغْيِيرِهِ وَقَدْ لَا تَكُونُ عِلَّتُهُ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَإِنَّمَا اقْتَضَتْ أَمْرًا يُعَارِضُهُ فَالْمُحَقَّقُ مِنْهُمَا الْمُعَارَضَةُ فَلَا نَقُولُ: زَائِدًا عَلَيْهَا عَمَلًا بِالْمُحَقَّقِ وَطَرْحًا لِلْمَشْكُوكِ فِيهِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَتَعَارَضَانِ، أَوْ يَتَعَارَضَانِ لَمْ يُبَيِّنْ الْأَصْحَابُ تَفْرِيعَهُ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّا إذَا قُلْنَا: يَتَعَارَضَانِ فَيَتَسَاقَطَانِ عَلَى الْأَصَحِّ وَيَصِيرَانِ كَمَنْ لَيْسَ لَهُمَا بَيِّنَةٌ وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَمْ تُعْرَفْ يَدٌ الْجَبْغَا فَتَبْقَ يَدُهُ.
وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَتَعَارَضَانِ فَيُعْمَلُ بِالثَّانِيَةِ فَتَبْقَى يَدُهُ أَيْضًا وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي كُلِّ مَسْلَكَيْنِ مُطْلَقَيْنِ شَهِدَتْ بِهِمَا بَيِّنَتَانِ فِي وَقْتَيْنِ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِالثَّانِيَةِ إذَا لَمْ يَقُلْ بِالتَّعَارُضِ، وَأَمَّا إذَا كَانَتَا فِي وَقْتَيْنِ عَلَى هَذَا النَّعْتِ فَيُعْمَلُ بِالْأُولَى إذَا لَمْ يَثْبُتْ انْحِلَالُ ذَلِكَ الْوَقْفِ بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ، وَقَدْ قَالَ الْبَغَوِيّ فِي الْفَتَاوَى فِيمَا إذَا ادَّعَى الْخَارِجُ وَقْفِيَّتَهَا وَذُو الْيَدِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا يُقَدَّمُ الْأَسْبَقُ تَارِيخًا، وَإِنَّ الْوَقْفَ لَمَّا ثَبَتَ بِتَارِيخٍ سَابِقٍ لَا حُكْمَ لِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ وَتَبْدِيلُهُ وَنَقْلُهُ، وَفِي فَتَاوَى النَّوَوِيِّ وَلَوْ كَانَتْ بَيِّنَةُ الْوَقْفِ أَقْدَمَ تَارِيخًا وَبَيِّنَةُ الْمِلْكِ مُتَأَخِّرَةً لَكِنَّهَا فِي يَدِ مُدَّعِي الْمِلْكِ حَكَمَ بِهَا لِمُدَّعِي الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ أَقْوَى مِنْ سَبْقِ التَّارِيخِ عَلَى الصَّحِيحِ هَذَا كَلَامُ النَّوَوِيِّ وَمَحَلُّهُ إذَا لَمْ يَحْكُمْ وَكَلَامُهُ عَلَى طُولِهِ وَمُعْتَقَدِهِ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ ذَا الْيَدِ اشْتَرَاهَا مِمَّنْ هِيَ مِلْكُهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ إذَا كَانَ الْبَيِّنَةُ الَّذِي بَعْدَ الْوَقْفِ تُضِيفُ الْمِلْكَ إلَى مَنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ وَكَلَامُنَا فِيمَا إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ تَرَتُّبُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الَبَعْدِيَّةُ، بَلْ هُمَا مُتَعَارِضَانِ فَمُقْتَضَى أَنَّ مَنْ شَهِدَ بِالْوَقْفِ يَقْتَضِي اسْتِمْرَارَ الْوَقْفِ مِنْ حِينِ تَارِيخِ الْوَقْفِ إلَى الْآنَ.
وَمَنْ شَهِدَ بِالْمِلْكِ إذَا لَمْ يَذْكُرْ تَارِيخَ ابْتِدَاءِ الْمِلْكِ تَقْتَضِي شَهَادَتُهُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ حِينَ شَهَادَتِهِ وَقَبْلَهُ إلَى زَمَنِ الْوَقْفِ وَتَعَارَضَا فَإِنَّا نَسْتَصْحِبُ الْمَاضِيَ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمُسْتَقْبَلَ إلَى الْمَاضِي وَلَوْ تَنَزَّلْنَا عَنْ ذَلِكَ لَقُلْنَا: إنَّ كَلَامَ الْبَغَوِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا قَالَتْ هِيَ مِلْكُهُ الْآنَ، وَلَمْ تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ رَأَيْنَا الشَّهَادَةَ بِالْمِلْكِ وَالْحِيَازَةِ مُخْتَلِفَةِ الصِّيغَةِ تَارَةً تَقُولُ الْبَيِّنَةُ هِيَ مِلْكُهُ حِينَ الْوَقْفِ وَتَارَةً تَقُولُ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ إلَى حِينِ الْوَقْفِ، وَكَذَا وَقَعَ فِي مَسْأَلَتِنَا فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ إذَا تَحَقَّقَتْ تَقْتَضِي اسْتِقْرَارَ الْمِلْكِ لِجَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ الْمُمْكِنَةِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا زَمَانُ الْوَقْفِ فَيَحْصُلُ التَّعَارُضُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَكَلَامُ الْبَغَوِيِّ إنْ اقْتَضَى الْحُكْمَ لِسُلَيْمَانَ فَكَلَامُ النَّوَوِيِّ يَقْتَضِي الْحُكْمَ لِذِي الْيَدِ بِالْمِلْكِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْ الْوَقْفِ فَيَقْتَضِي الْحُكْمَ لَا لِجَبْغَا فَكَلَامُ الْبَغَوِيِّ وَكَلَامُ النَّوَوِيِّ يَتَعَارَضَانِ إنْ لَمْ نُرَتِّبْ يَدَ الْجَبْغَا عَلَى يَدِ سُلَيْمَانَ، فَإِنْ تَرَتَّبَتْ تَعَيَّنَ الْحُكْمَ بِوَقْفِ سُلَيْمَانَ عَلَى قَوْلِ الْبَغَوِيِّ وَالنَّوَوِيِّ جَمِيعًا، وَحَيْثُ أَشْكَلَ الْحَالُ عَلَيْنَا
وَسُلَيْمَانُ ضَامِنٌ مَكَّاسٌ.
وَالْأَمْوَالُ الَّتِي فِي أَيْدِي الْمَكَّاسِينَ لَا يَخْفَى حَالُ مِلْكِهِمْ لَهَا وَوَقَفَهُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَهَذَا الْآنَ مِنْ جِهَةِ الْجَبْغَا وَقْفٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَهُوَ فِي يَدِهِمْ فَرَأْيِي أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ، وَلَا يَتَعَرَّضُ إلَيْهِ وَيَسْتَمِرُّ عَلَى التَّصَدُّقِ بِهِ، فَلَوْ أَخَذَ بَعْضَ أَمْوَالِ الْمَكَّاسِينَ الْمُشْتَبِهَةِ وَجُعِلَتْ صَدَقَةً كَانَ لَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مَسَاغٌ فَضْلًا عَنْ شَيْءٍ أُخِذَ بِمُسْتَنِدٍ وَبَعْدَ ذَلِكَ حَضَرَ كِتَابُ مُشْتَرِي سُلَيْمَانَ فَوَجَدْته قَدْ اشْتَرَى هُوَ وَجَمَاعَةٌ نَصَارَى حِينَ كَانَ نَصْرَانِيًّا عِدَّتُهُمْ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ نَفَرًا الصَّفْقَةَ الْمَذْكُورَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الدِّينِ بْنِ الْمَقْدِسِيِّ وَكِيلِ بَيْتِ الْمَالِ سَنَةَ ثَمَانِ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ فَلَهُ مِنْهَا بِذَلِكَ حِصَّةٌ يَسِيرَةٌ ثُمَّ اشْتَرَى مِنْ رُفْقَتِهِ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ الْبَقِيَّةَ.
فَاَلَّذِي اشْتَرَاهُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ لَا يَأْتِي فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَمْوَالِ الضَّمَانِ لَكِنْ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَبَيْعُ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَالِ فِيهِ مَا فِيهِ وَأَيْضًا الْبَائِعُ نَاصِرُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ الْوَكِيلُ وَكَانَ مِسْكِينَ الْحَالِ عَفَا اللَّهُ عَنَّا وَعَنْهُ، وَاَلَّذِي اشْتَرَاهُ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ اشْتَرَاهُ، وَهُوَ ضَامِنٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشِّرَاءَ فِي الذِّمَّةِ يَصِحُّ لَكِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ أَمْوَالِ الضَّمَانِ، وَيَتَلَخَّصُ مِنْ هَذَا أَنَّ بَيْعَهُ الْجَبْغَا، أَوْ لِمَنْ بَاعَ لَهُ وَوَقْفَ الْجَبْغَا الْمُرَتَّبَ عَلَيْهِ لَا تَطِيبُ نَفْسِي بِالْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ أَصْلًا بِالْجُمْلَةِ الْكَافِيَةِ.
وَالْحُكْمُ بِوَقْفِ سُلَيْمَانَ خَيْرٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى شِرَاءٍ فِي الذِّمَّةِ وَخَيْرٌ مِنْهُمَا أَنْ لَا يُحْكَمَ بِصِحَّةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَهُمْ يَسْتَحِقُّونَهُ لَكِنَّ ذَلِكَ صَعْبٌ فِي الْعَادَةِ، فَإِنْ جُعِلَ ذَلِكَ مُخَلِّصًا لِلْحَاكِمِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ بِحُجَّةِ وَقْفِ الْجَبْغَا فِي الظَّاهِرِ احْتَمَلَ وَعَضَّدَهُ يَدُ الْجَبْغَا الْمَوْجُودَةُ وَأَنَّنَا لَمْ نُقْدِمْ عَلَى أَمْرٍ، بَلْ سَكَتْنَا، وَلَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ.
هَذَا إنْ حَصَلَ الْوُقُوفُ مِنْ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ بِصَرْفِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ بِهِ لِسُلَيْمَانَ، فَهُوَ إخْرَاجٌ لَهُ عَنْ حُكْمِ أَمْلَاكِ بَيْتِ الْمَالِ وَتَخْصِيصٌ لِأَوْلَادِهِ فَلَمْ يَحْصُلْ فِيهِ هَذَا الْغَرَضُ وَلَهُ مُسْتَنَدٌ، وَهُوَ كِتَابُهُمْ.
وَفِيهِ شُبْهَةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ كِتَابَهُمْ إنَّمَا اتَّصَلَ بِالْخَطِّ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ خِلَافٌ فِي الثُّبُوتِ بِالْخَطِّ بِرَفْعِ الْيَدِ أَوَّلًا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثُّبُوتَ بِالْخَطِّ عِنْدَهُمْ ضَعِيفٌ وَاَلَّذِي أَفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَقَوَاعِدِهِمْ أَنَّ فِي مِثْلِ هَذَا تُرْفَعُ الْيَدُ بِهِ، وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى حَيْثُ لَا يَقْوَى لَا تُرْفَعُ الْيَدُ فِيهِ وَهُمْ مَعَاذِيرُ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ بِمَا مَارَسْنَاهُ مِنْ الْوَقَائِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.
{فَصْلٌ} قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُخْتَصِرُ كِتَابِ الشَّامِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ: هَذَا مَا وَقَفَهُ
فَخْرُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْأَنْصَارِيُّ مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ فَمِنْ ذَلِكَ جَمِيعُ الدَّارِ بِدِمَشْقَ وَمِنْهُ ظَاهِرُ دِمَشْقَ ضَيْعَةٌ تُعْرَفُ بِبِرْصَة وَحِصَّةٌ مَبْلَغُهَا أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا وَنِصْفُ سَهْمٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا مِنْ مَزْرَعَةٍ تُعْرَفُ بِجَرْمَانَا مِنْ بَيْتِ لَهْيَا وَمِنْهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَسُبْعُ سَهْمٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا مِنْ ضَيْعَةٍ تُعْرَفُ بِالْبَيِّنَةِ مِنْ حَبَّةِ عِصَالٍ وَمِنْهُ جَمِيعُ الضَّيْعَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِمُجَيْدَلِ الْقَرْيَةِ وَمِنْهُ نِصْفُ ضَيْعَةٍ تُعْرَفُ بِمُجَيْدَلِ السُّوَيْدَاءِ وَقْفًا عَلَى الْخَاتُونِ سِتِّ الشَّامِ بِنْتِ نَجْمِ الدِّينِ أَيُّوبَ بْنِ شَاذِي ثُمَّ عَلَى بِنْتِ ابْنِهَا زُمُرَّدَ خَاتُونَ بِنْتِ حُسَامِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ لَاجِينٍ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهَا الذَّكَرُ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ثُمَّ أَوْلَادِ أَوْلَادِهَا ثُمَّ أَنْسَالِهِمْ كَذَلِكَ، فَإِذَا انْقَرَضُوا، وَلَمْ يُوجَدُوا عَادَ عَلَى الْجِهَاتِ الَّتِي يَأْتِي ذِكْرُهَا.
فَالدَّارُ مَدْرَسَةٌ عَلَى الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ الشَّفْعَوِيَّةِ الْمُشْتَغِلِينَ بِهَا وَعَلَى الْمُدَرِّسِ بِهَا الشَّافِعِيِّ قَاضِي الْقُضَاةِ زَكِيِّ الدِّينِ أَبِي الْعَبَّاسِ الطَّاهِرُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ عَلِيٍّ الْقُرَشِيِّ إنْ كَانَ حَيًّا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا فَعَلَى وَلَدِهِ ثُمَّ وَلَدِ وَلَدِهِ ثُمَّ نَسْلِهِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِ مِمَّنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّدْرِيسِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِمْ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّدْرِيسِ فَعَلَى الْمُدَرِّسِ الشَّافِعِيِّ بِهَذِهِ الْمَدْرَسَةِ وَمِنْ شَرْطِهِمْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالْعَفَافِ وَالسُّنَّةِ غَيْرِ مُنْتَسِبِينَ إلَى شَرٍّ وَبِدْعَةٍ، وَالْبَاقِي مِنْ الْأَمْلَاكِ عَلَى مَصَالِحِ الْمَدْرَسَةِ وَعَلَى الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ الْمُشْتَغِلِينَ بِهَا وَعَلَى الْمُدَرِّسِ قَاضِي الْقُضَاةِ زَكِيِّ الدِّينِ، أَوْ مَنْ يُوجَدُ مِنْ نَسْلِهِ وَمَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّدْرِيسِ وَعَلَى الْإِمَامِ الْمُصَلِّي بِالْمِحْرَابِ بِهَا وَالْمُؤَذِّنِ بِهَا وَالْقَيِّمِ الْمُعِدِّ لِكَنْسِهَا وَرَشِّهَا وَفَرْشِهَا وَتَنْظِيفِهَا وَإِيقَادِ مَصَابِيحِهَا يَبْدَأُ مِنْ ذَلِكَ بِعِمَارَةِ الْمَدْرَسَةِ وَثَمَنِ زَيْتٍ وَمَصَابِيحَ وَحُصُرٍ وَبُسُطٍ وَقَنَادِيلَ وَشَمْعٍ، وَمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ، وَمَا فَضُلَ كَانَ مَعْرُوفًا إلَى الْمُدَرَّسِ الشَّافِعِيِّ وَإِلَى الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ وَإِلَى الْمُؤَذِّنِ وَالْقَيِّمِ فَاَلَّذِي هُوَ مَصْرُوفٌ إلَى الْمُدَرِّسِ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِنْ الْحِنْطَةِ غِرَارَةً وَمِنْ الشَّعِيرِ غِرَارَةً وَمِنْ الْفِضَّةِ فِضَّةً نَاصِرِيَّةً وَالْبَاقِي مَصْرُوفٌ إلَى الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُؤَذِّنِ وَالْقَيِّمِ عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ عَلَى مَا يَرَاهُ النَّاظِرُ فِي أَمْرِ هَذَا الْوَقْفِ مِنْ تَسْوِيَةٍ وَتَفْضِيلٍ وَزِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ وَعَطَاءٍ وَحِرْمَانٍ وَذَلِكَ بَعْدَ إخْرَاجِ الْعُشْرِ وَصَرْفِهِ إلَى النَّاظِرِ عَنْ تَعَبِهِ وَخِدْمَتِهِ وَمُشَارَفَتِهِ لِلْأَمْلَاكِ الْمَوْقُوفَةِ وَتَرَدُّدِهِ إلَيْهَا وَبَعْدَ إخْرَاجِ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فِضَّةً نَاصِرِيَّةً فِي كُلِّ سَنَةٍ تُصْرَفُ فِي ثَمَنِ مِشْمِشٍ وَبِطِّيخٍ وَحَلْوَى فِي لَيْلَةِ نِصْفِ شَعْبَانَ عَلَى مَا يَرَاهُ النَّاظِرُ وَمِنْ شَرْطِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُدَرِّسِ وَالْمُؤَذِّنِ وَالْقَيِّمِ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَالْعَفَافِ وَحُسْنِ الطَّرِيقَةِ وَسَلَامَةِ الِاعْتِقَادِ وَالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَنْ لَا يَزِيدَ عَدَدُ الْفُقَهَاءِ
وَالْمُتَفَقِّهَةِ الْمُشْتَغِلِينَ بِهَذِهِ الْمَدْرَسَةِ عَنْ عِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ جُمْلَتِهِمْ الْمُعِيدُ بِهَا وَالْإِمَامُ وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ الْمُدَرِّسِ وَالْمُؤَذِّنِ وَالْقَيِّمِ إلَّا أَنْ يُوجَدَ فِي ارْتِفَاعِ الْوَقْفِ نَمَاءٌ وَزِيَادَةٌ وَسَعَةٌ فَلِلنَّاظِرِ أَنْ يُقَيِّمَ بِقَدْرِ مَا زَادَ وَنَمَا، هَذَا صَرِيحٌ فِي جَوَازِ الزِّيَادَةِ عِنْدَ السَّعَةِ بِقَدْرِهَا وَمَعْرِفَةِ قَدْرِ الزِّيَادَةِ مَا عَلِمْنَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَأْيُوسٌ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَإِنَّهُ يَسْتَدْعِي مَعْرِفَةَ الْوَقْفِ حَالَ الْوَقْفِ، وَلَمْ نَجِدْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَقَدْ تَحَقَّقْنَا الزِّيَادَةَ دُونَ قَدْرِهَا أَمَّا تَحَقُّقُ أَصْلِ الزِّيَادَةِ فَلِأَنَّا رَأَيْنَا الْعَوَائِدَ الْقَدِيمَةَ الَّتِي لَمْ يُعْرَفْ ابْتِدَاؤُهَا بِزِيَادَةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ فِيهَا عَنْ عِشْرِينَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَحَقَّقَ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ عَرَفُوا أَصْلَ الزِّيَادَةِ.
وَأَمَّا الْجَهْلُ بِقَدْرِهَا فَلِمَا قَدَّمْنَاهُ لَكِنَّا نَعْرِفُ أَنَّ الْوَاقِفَ جَعَلَ لِلْمُدَرِّسِ غِرَارَةَ قَمْحٍ وَغِرَارَةَ شَعِيرٍ يُسَاوَيَانِ فِي السِّعْرِ، أَوْ نَحْوِهَا يَكُونُ الْمَجْمُوعُ مِائَتَيْنِ، أَوْ نَحْوِهَا.
وَهُوَ فِي السَّنَةِ نَحْوَ أَلْفَيْنِ وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَلَمْ يَجْعَلْ مَعَ الْمُدَرِّسِ إلَّا الْفُقَهَاءَ وَالْمُتَفَقِّهَةَ وَالْمُؤَذِّنَ وَالْقَيِّمَ وَالْعِمَارَةَ وَالْعُشْرَ الَّذِي لِلنَّاظِرِ، وَنَحْنُ نَجِدُ الْوَقْفَ فِي هَذَا الْوَقْتِ عَلَى مَا أَخْبَرَنِي بِهِ مَنْ يُبَاشِرُ الْمَدْرَسَةَ أَنَّ ارْتِفَاعَ الْوَقْفِ الْمَذْكُورِ عَنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ عَنْ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ بَعْدَ إخْرَاجِ الْعُشْرِ مِنْ الْمُغَلِّ لِلنَّاظِرِ وَالصَّرْفِ مِنْهُ عَلَى الْعِمَارَةِ وَالرُّتَبِ.
وَمَا أَشْبَهَهُمَا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَالزَّيْتُ وَالنَّظَرُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَالْخَاصُّ لِلْمُدَرِّسِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُؤَذِّنِ وَالْقَيِّمِ أَلْفَانِ تَقْرِيبًا مِنْهُ لِلْمُدَرِّسِ نَحْوُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ يَبْقَى تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا وَكُسُورٍ، فَلَوْ كَانَتْ كُلُّهَا لِعِشْرِينَ فَقِيهًا وَمُؤَذِّنًا وَقَيِّمًا لَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ قَرِيبُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ.
وَقَدْ رَأَيْنَاهَا تَثْبُتُ لِلْمُدَرِّسِ، وَهُوَ زِيَادَةٌ عَنْ أَلْفَيْنِ قَلِيلًا يَبْعُدُ أَنْ يُجْعَلَ الْفَقِيهُ، أَوْ الْمُتَفَقِّهُ قَدْرَ الْمُدَرِّسِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، بَلْ الْعَادَةُ فِي حَالِ الْمَدَارِسِ أَنْ يَكُونَ الْفَقِيهُ مُنْحَطًّا عَنْ الْمُدَرِّسِ بِكَثِيرٍ وَرَأَيْنَا غَالِبَ الْمَدَارِسِ فِي مِصْرَ وَالشَّامِ لَا يَزِيدُ الْفَقِيهُ عَنْ عُشْرِ الْمُدَرِّسِ إلَّا فِي قَلِيلٍ مِنْهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ لِلْعِشْرِينِ فَقِيهًا مِقْدَارُ خَمْسَةِ آلَافٍ فِي السَّنَةِ، فَيَكُونُ الْأَرْبَعُونَ، أَوْ مَا قَارَبَهَا تَكْفِي مِائَةً وَسِتِّينَ فَقِيهًا وَهَذَا أَمْرٌ تَقْرِيبِيٌّ يَظْهَرُ بِهِ أَنَّ الزِّيَادَةَ كَثِيرَةٌ جِدًّا تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِينَ فَقِيهًا الَّتِي قِيلَ: إنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا.
وَمُلَخَّصُ مَا أَقُولُهُ أَنَّ هَذِهِ الْمَدْرَسَةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى فُقَهَاءَ وَمُتَفَقِّهَةٍ وَمُدَرِّسٍ وَمُؤَذِّنٍ وَقَيِّمٍ، وَشَرْطُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ أَنْ لَا يَزِيدُوا عَلَى الْعِشْرِينَ رَجُلًا إلَّا إنْ زَادَ الْوَقْفُ فَلِلنَّاظِرِ أَنْ يَزِيدَ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ وَتَحَقَّقْنَا أَنَّ الْوَقْفَ زَادَ وَأَخْبَرَنِي نَاظِرُهَا بِجُمْلَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الزِّيَادَاتِ وَتَحَقَّقْنَا أَنَّ النُّظَّارَ الْمُتَقَدِّمِينَ زَادُوا فِي الْفُقَهَاءِ إلَى فَوْقِ الْمِائَتَيْنِ وَأَنَّ مُعَدَّلَ الْوَقْفِ بَعْدَ إخْرَاجِ الْكُلَفِ وَالْعِمَارَةِ وَالرُّتَبِ وَعُشْرِ النَّاظِرِ يَتَحَصَّلُ مِنْهُ كُلَّ شَهْرٍ قَرِيبَ ثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ
مِنْهَا لِلْمُدَرِّسِ:
تَقْدِيرُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لِلْمُؤَذِّنِ وَالْقَيِّمِ تَقْدِيرُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَلِلْعِشْرِينِ فَقِيهًا الَّذِينَ مِنْ أَصْلِ الْوَقْفِ تَقْدِيرُ أَرْبَعِمِائَةٍ، أَوْ خَمْسِمِائَةٍ، أَوْ سِتِّمِائَةٍ تَبْقَى الزِّيَادَةُ نَحْوُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ كُلَّ شَهْرٍ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا مَا شَاءَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ لَا يَنْحَصِرُ فِي عَدَدٍ وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَيُنَاسِبُ أَنْ يَكُونُوا مِائَةً، وَيَكُونُ مُعَدَّلُهُمْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا لِكُلِّ وَاحِدٍ وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ وَأَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ لِبَعْضِهِمْ وَيُرَتِّبَ الطَّبَقَاتِ عَلَى مَا يَشَاءُ مَا دَامَ الْمُعَدَّلُ عِشْرِينَ هَذَا بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَيُمَيِّزَ الْفُقَهَاءَ وَنَفَقَتَهُ عَلَيْهِمْ السَّنَةَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، وَإِنْ أَرَادَ تَنْقِيصَ الْمُعَدَّلِ عَنْ عِشْرِينَ وَعَشَرَةٍ فَلَهُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ فِي الْغَالِبِ وَالصُّورَةُ الظَّاهِرَةُ تُذْهِبُ بَهْجَةَ الْمَدْرَسَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَازُ فَلَا شَكَّ فِيهِ، بَلْ قَدْ بُحِثَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَمَا إذَا رَأَيْنَا فَقِيهًا فَاضِلًا لَا يَجِدُ قُوتًا وَأَمْكَنَ تَنْزِيلُهُ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ فِي الشَّهْرِ تَسُدُّ خَلَّتَهُ، أَوْ بَعْضَ خَلَّتِهِ وَالْمَنَاظِرُ الْجُزْئِيَّةُ وَالْمَصَالِحُ الْكُلِّيَّةُ لَا يَخْفَى عَنْهُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَأْذُونٌ عَلَى تَعَاضُدِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَجِبُ التَّقْيِيدُ فِي الطَّبَقَاتِ بِسَنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَعِشْرِينَ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُفَاوِتَ بَيْنَهَا بِمَا شَاءَ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُرَتِّبَهَا كَذَلِكَ وَنَقَصَ الْمُغَلُّ لَا يَجِبُ أَنْ يُصْرَفَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ كَامِلًا، بَلْ يُنْقِصُهُ بَيْنَهُمْ عَلَى نِسْبَةِ الَّذِي لَهُمْ سَوَاءٌ أَحَسَبُوهُ عَلَى تِلْكَ الطَّبَقَاتِ وَجَعَلُوهُ عَلَى بَعْضِ أَشْهُرِ السَّنَةِ أَمْ حَسَبُوهُ عَلَى كُلِّ السَّنَةِ وَقَدَّرُوا نُقْصَانَ كُلِّ وَاحِدٍ عَمَّا اسْتَقَرَّ مِنْ طَبَقَتِهِ كِلَا الطَّرِيقَيْنِ سَائِغٌ، وَالثَّانِي أَحْسَنُ، وَمَنْ حَاوَلَ أَنْ تَسْتَقِرَّ لَهُ تِلْكَ الطَّبَقَةُ وَيَأْخُذَهَا سَنَةً كَامِلَةً فَقَدْ حَاوَلَ مُحَالًا وَمَنْ طَلَبَ أَنْ يُقَلِّلَ مِنْ عِدَّةِ الْفُقَهَاءِ حَتَّى يَسْتَمِرَّ لَهُ ذَلِكَ دَائِمًا لَمْ يُسَاعِدْهُ الشَّرْعُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا الْمَصْلَحَةُ، بَلْ هُوَ رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ حَظِّ نَفْسِهِ وَمَنْ طَلَبَ التَّوَسُّطَ حَتَّى يَسْتَمِرَّ ذَلِكَ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ أَنَّ النَّاظِرَ هُوَ يَحْسِبُ مُعَدَّلَ الْوَقْفِ فِي الْغَالِبِ وَيُرَتِّبُ عَلَيْهِ بِقَدْرِهِ وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَعَ ذَلِكَ لِفَقِيهٍ خَمْسَةً وَلِفَقِيهٍ خَمْسِينَ وَأَكْثَرَ وَأَقَلَّ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَلَا يَنْحَصِرُ فِي عَدِّهِ هَذَا أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ.
فَإِنْ قُلْت: الْوَاقِفُ قَدْ شَرَطَ أَنْ لَا يَزِيدُوا عَلَى عِشْرِينَ. قُلْت: قَدْ اسْتَثْنَى فَقَالَ: إلَّا إنْ نَمَا الْوَقْفُ وَزَادَ تَحَقَّقْنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ فَتَحَقَّقْنَا أَنَّ الِانْحِصَارَ فِي عِشْرِينَ غَيْرُ وَاجِبٍ. فَإِنْ قُلْت: لَمْ يَسْتَثْنِ مُطْلَقًا بَلْ قَالَ: فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَزِيدَ بِقَدْرِهَا قُلْت قَدْ جَعَلْنَا الزِّيَادَةَ بِقَدْرِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ وَلَنَا فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ ثَلَاثُ طُرُقٍ أَحَدُهَا هَذَا، وَالثَّانِي أَنْ نَقُولَ يَزِيدُ بِقَدْرِهَا مِنْ الْعَدَدِ مَا شَاءَ وَلَوْ لِكُلِّ فَقِيهٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَإِنَّهُ يَجِدُ بِهَا رِفْقًا وَلَهُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُبْقِيَ الْعِشْرِينَ الْأُصُولَ بِمَعَالِمِهِمْ الْأَصْلِيَّةِ وَيَخُصَّ الزَّائِدِينَ بِالْمَعْلُومِ الْقَلِيلِ، وَهُوَ أَحْسَنُ وَلَهُ أَنْ يُعَمِّمَ النَّقْصَ فِي
الْجَمِيعِ، وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ مِنْ حَيْثُ الْفِقْهُ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْوَاقِفَ.
لَمْ يُقَيِّدْ الِاسْتِثْنَاءَ بَلْ أَطْلَقَهُ وَعَلَّلَهُ، وَإِنْ شِئْت قُلْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ لَهُ الزِّيَادَةَ لَا يُشْتَرَطُ الِانْحِصَارُ فِي عِشْرِينَ وَلَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى كَأَنْ يَأْتِيَ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُلْت: إذَا احْتَمَلَ الْمُرَادُ وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ تَحْتَمِلُ الْعَدَدَ أَوْ لَا هَلْ تَمْتَنِعُ الزِّيَادَةُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْمُبِيحُ لَهَا، أَوْ يَجُوزُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْمَانِعَ لَهَا؟ .
قُلْت: الْأَوْلَى الثَّانِي لِأَنَّ الْوَاقِفَ فِي الْأَوَّلِ أَطْلَقَ الْوَقْفَ عَلَى الْفُقَهَاءِ ثُمَّ شَرَطَ الْعَدَدَ ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَرْفَعُ الشَّرْطَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَإِذَا احْتَمَلَ وَتَعَارَضَ الْمُبِيحُ وَالْمَانِعُ رَجَعْنَا إلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ إطْلَاقُ الْفُقَهَاءِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ فِي الْأَوَّلِ عَلَى عِشْرِينَ فَقِيهًا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الزَّائِدُ عَلَى الْعِشْرِينَ الْأَصْلُ فِيهِ عَدَمُ الدُّخُولِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا بِالْعَكْسِ الْأَصْلُ فِي الزَّائِدِ الدُّخُولُ بِالْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الشَّرْطُ الرَّافِعُ لَهُ وَعِنْدَ التَّعَارُضِ لَمْ يَتَحَقَّقْ فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ الْجَوَازُ.
فَإِنْ قُلْت قَدْ اسْتَقَرَّ الْحَالُ فِي زَمَانِ تنكز بِحُضُورِ الْقُضَاةِ عَلَى سِتِّينَ فَقِيهًا عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ سِتِّينَ وَأَرْبَعِينَ وَعِشْرِينَ.
قُلْت لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْقُضَاةِ قَالَ: لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ، وَلَا أَنَّ الْعَدَدَ مَحْصُورٌ فِي ذَلِكَ، وَلَا أَنَّهُ رَسْمٌ بِهِ، وَلَا أَنْ تَنْكُزَ رَسَمَ، بَلْ قَدْ زَادَ تَنْكُزُ فِي زَمَانِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ عَلَى السِّتِّينَ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرُوا عَلَى السِّتِّينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا الْمَصْلَحَةَ حِينَئِذٍ وَالْمَصْلَحَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَلَوْ كَانَ فِعْلُهُمْ فِي ذَلِكَ حُجَّةً فِي أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الْعَدَدِ عَلَى السِّتِّينَ لَكَانَ فِعْلُ مَنْ قَبْلَهُمْ حُجَّةً فِي جَوَازِ الزِّيَادَةِ فَإِنَّهُمْ زَادُوا عَلَى الْمِائَتَيْنِ وَرُبَّمَا يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ وَأَفْضَلُ، بَلْ لَا نَعْرِفُ ابْتِدَاءً ذَلِكَ وَمِنْ الْمَعْلُومِ فِي الْفِقْهِ أَنَّا نَتَمَسَّكُ بِالْعَادَةِ إذَا لَمْ نَعْرِفْ لَهَا ابْتِدَاءً فَالتَّمَسُّكُ بِذَلِكَ أَوْلَى وَأَيْضًا فَنَحْنُ نُحْسِنُ الظَّنَّ بِالْكُلِّ وَالزِّيَادَةُ تَسْتَدْعِي جَوَازَهَا وَتَرْكُ الزِّيَادَةِ لَا يَقْتَضِي الْمَنْعَ، وَلَمْ يَحْتَجَّ بِمَا فُعِلَ قَبْلَهُ عَلَى الْجَوَازِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُرَاجِعَ حِسَّهُ وَيُنْصِفَ مِنْ نَفْسِهِ.
فَإِنْ قُلْت: قَدْ أَفْتَى جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِالْمَنْعِ.
قُلْت: رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْعُلَمَاءِ هُمْ مَأْجُورُونَ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ وَقَصْدِهِمْ الْحَقَّ وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ الْعُلَمَاءَ الْكَامِلِينَ الْمُبَرَّزِينَ يَجِيئُونَ مِنْ الْفِقْهِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ:
(إحْدَاهَا) مَعْرِفَةُ الْفِقْهِ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ أَمْرٌ كُلِّيٌّ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَنْظُرُ فِي أُمُورٍ كُلِّيَّةٍ وَأَحْكَامِهَا كَمَا هُوَ دَأْبُ الْمُصَنِّفِينَ وَالْمُعَلَّمِينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ الْأَصْلُ.
(الثَّانِيَةُ) مَرْتَبَةُ الْمُفْتِي وَهِيَ النَّظَرُ فِي صُورَةٍ جُزْئِيَّةٍ وَتَنْزِيلُ مَا تَقَرَّرَ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى فَعَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَعْتَبِرَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ وَأَحْوَالُ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَيَكُونُ جَوَابُهُ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يُخْبِرُ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ كَذَا بِخِلَافِ الْفَقِيهِ الْمُطْلَقِ الْمُصَنِّفِ الْمُعَلِّمِ لَا يَقُولُ فِي هَذِهِ
الْوَاقِعَةِ، بَلْ فِي الْوَاقِعَةِ الْفُلَانِيَّةِ وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ فَرْقٌ وَلِهَذَا نَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يَعْرِفُونَ أَنْ يُفْتُوا، وَأَنَّ خَاصِّيَّةَ الْمُفْتِي تَنْزِيلُ الْفِقْهِ الْكُلِّيِّ عَلَى الْمَوْضِعِ الْجُزْئِيِّ وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى تَبَصُّرٍ زَائِدٍ عَلَى حِفْظِ الْفِقْهِ وَأَدِلَّتِهِ وَلِهَذَا نَجِدُ فِي فَتَاوَى بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مَا يَنْبَغِي التَّوَقُّفُ فِي التَّمَسُّكِ بِهِ فِي الْفِقْهِ لَيْسَ لِقُصُورِ ذَلِكَ الْمُفْتِي مَعَاذَ اللَّهِ بَلْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْوَاقِعَةِ الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْجَوَابَ الْخَاصَّ فَلَا يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهَا وَهَذَا قَدْ يَأْتِي فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَوَجَدْنَاهُ بِالِامْتِحَانِ وَالتَّجْرِبَةِ فِي بَعْضِهَا لَيْسَ بِالْكَثِيرِ وَالْكَثِيرُ أَنَّهُ مِمَّا يَتَمَسَّكُ بِهِ فَلْيُتَنَبَّهْ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَلَا نُلْحِقُ تِلْكَ الْفَتْوَى بِالْمَذْهَبِ إلَّا بَعْدَ هَذَا التَّبَصُّرِ.
(الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ) مَرْتَبَةُ الْقَاضِي وَهِيَ أَخَصُّ مِنْ رُتْبَةِ الْمُفْتِي؛ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ فِيمَا يَنْظُرُ فِيهِ الْمُفْتِي مِنْ الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ وَزِيَادَةِ ثُبُوتِ أَسْبَابِهَا وَنَفْيِ مُعَارِضَتِهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَتَظْهَرُ لِلْقَاضِي أُمُورٌ لَا تَظْهَرُ لِلْمُفْتِي فَنَظَرُ الْقَاضِي أَوْسَعُ مِنْ نَظَرِ الْمُفْتِي وَنَظَرُ الْمُفْتِي أَوْسَعُ مِنْ نَظَرِ الْفَقِيهِ، وَإِنْ كَانَ نَظَرُ الْفَقِيهِ أَشْرَفَ وَأَعَمَّ نَفْعًا.
إذَا عَلِمْت هَذَا فَالْفِقْهُ عُمُومٌ شَرِيفٌ نَافِعٌ نَفْعًا كُلِّيًّا، وَهُوَ قِوَامُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْفَتْوَى خُصُوصٌ فِيهَا ذَلِكَ وَتَنْزِيلُ الْكُلِّيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ مِنْ غَيْرِ إلْزَامٍ وَالْحُكْمُ خُصُوصُ الْخُصُوصِ فِيهَا ذَلِكَ وَزِيَادَاتٌ: إحْدَاهَا الْحُجَجُ وَالْأُخْرَى الْإِلْزَامُ وَمِنْ أَيِّ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ كُنْت أَقْصِدُ وَجْهَ اللَّهِ وَحْدَهُ وَمَنْ خَالَفَك فَانْظُرْ فِي كَلَامِهِ وَتَطْلُبُ لَهُ وَجْهًا، فَإِنْ وَجَدْتَهُ أَصْوَبَ فَارْجِعْ إلَيْهِ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَاسْتَغْفِرْ لَهُ وَاعْلَمْ قَدْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْك إذْ هَدَاك لِمَا لَمْ يَهْدِهِ لَهُ فَاشْكُرْ رَبَّك، وَلَا تَنْقُصْ أَخَاكَ.
وَلَمْ أَقِفْ إلَى الْآنَ عَلَى الْفَتَاوَى الْمَذْكُورَةِ ثُمَّ طَلَبْتهَا وَأُقَدِّمُ مُقَدِّمَةً قَبْلَ أَنْ أَقِفَ عَلَيْهَا أَنَّ هَذَا الْوَقْفَ لَيْسَ كُلُّهُ فِضَّةً بَلْ أَكْثَرُهُ مُغَلٌّ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَاقِفُ عَلَيْهِ أَنَّ لِلنَّاظِرِ تَنْصِيصَهُ، بَلْ جَعَلَهُ يُخْرِجُ مِنْهُ لِلْمُدَرِّسِ غِرَارَةَ قَمْحٍ وَغِرَارَةَ شَعِيرٍ وَالْبَاقِي لِلْفُقَهَاءِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُؤَذِّنِ وَالْقَيِّمِ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ مِنْهُ مُغَلٌّ يَمْلِكُونَهُ، وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ إلَّا بِإِذْنِهِمْ لَفْظًا، أَوْ عُرْفًا، فَالتَّقْدِيرُ فَإِنَّ لِكُلِّ فَقِيهٍ سِتِّينَ، أَوْ أَرْبَعِينَ، أَوْ عِشْرِينَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْأَسْعَارَ لَا تَسْتَقِرُّ عَلَى سِعْرٍ وَاحِدٍ تُفْضِي إلَى أُمُورٍ مِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَفْضُلُ مِنْ الْوَقْفِ شَيْءٌ وَالْوَاقِفُ قَدْ جَعَلَ جَمِيعَهُ لَهُمْ فَتَأْخِيرُهُ عَنْهُمْ ظُلْمٌ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمْ يَفِ الْوَقْفُ بِتِلْكَ الْمَعَالِمِ لِلسَّنَةِ بِكَمَالِهَا فَطَلَبُهُمْ لَهَا ظُلْمٌ.
وَكُلُّ ذَلِكَ إنَّمَا أَوْجَبَهُ التَّقْدِيرُ بِدَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ كُلَّمَا فَضُلَ مِنْ الْمُغَلِّ عَنْ مَعْلُومِ الْمُدَرِّسِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا يَرَاهُ النَّاظِرُ فَفِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ عَلَى عِشْرِينَ وَمُؤَذِّنٍ وَقَيِّمٍ وَبَعْدَ الزِّيَادَةِ بِحَسَبِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ تَعْدِيلُ ثَلَاثٍ سِنِينَ آخِرُهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ يَكُونُ عَلَى مِائَةٍ وَمُؤَذِّنٍ وَقَيِّمٍ وَيُقَسِّمُهُ النَّاظِرُ بَيْنَهُمْ قَلِيلًا كَانَ، أَوْ كَثِيرًا عَلَى مَا يَرَاهُ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ لَا يَنْقُصُ مَجْمُوعُ الْمَصْرُوفِ إلَيْهِمْ عَنْ خَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فِي السَّنَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مُعَدَّلُ كُلٍّ مِنْهُمْ عِشْرُونَ فِي الشَّهْرِ، وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مِنَّا ازْدِرَاءً عَلَى مَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْحُكْمِ وَحَمْلُ ذَلِكَ التَّقْدِيرِ وَالتَّقْدِيرُ عَلَى أَنَّهُ مَرَدٌّ يَرْجِعُ إلَيْهِ وَيَقْسِمُ مَا تَجِبُ قِسْمَتُهُ عَلَى نِسْبَتِهِ، فَإِنْ فَهِمَ أَحَدٌ خِلَافَ ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ فَإِنَّهُ خِلَافُ شَرْطِ الْوَاقِفِ.
وَنَحْنُ لَيْسَ لَنَا فِي الْأَوْقَافِ إلَّا سُلُوكُ الطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ فِي قِسْمَتِهَا عَلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ الْمُمَلَّكِ مَا لَنَا فِيهَا إعْطَاءٌ، وَلَا حِرْمَانٌ، وَلَا تَقْدِيرٌ إلَّا تَنْفِيذُ مَا فَعَلَهُ الْوَاقِفُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ الْإِعْطَاءُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْوَاقِفُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِإِذْنِهِ وَنَحْنُ قُسَّامٌ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم «إنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَالْمُعْطِي اللَّهُ» .
وَمِنْ تَمَامِ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ عِشْرُونَ يُحَافَظُ عَلَى إيصَالِهِمْ مَا كَانَ لَهُمْ فِي زَمَانِ الْوَاقِفِ أَوَّلًا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَدْ أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ أَوْلَادَ عَمِّهِمْ وَجَعَلَ الْبَاقِيَ كُلَّهُ لَهُمْ وَلِلْمُؤَذِّنِ وَالْقَيِّمِ ثُمَّ شَرَطَ فِيهِمْ أَنْ يَكُونُوا عِشْرِينَ إلَّا أَنْ يَزِيدَ الْوَقْفُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَبْلَ الزِّيَادَةِ فِي الْوَقْفِ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الْعَدَدِ، وَيَكُونُ الْحَاصِلُ الْبَاقِي كُلُّهُ لَهُمْ.
وَأَمَّا بَعْدَ زِيَادَةِ الْوَقْفِ فَقَدْ تَحَقَّقْنَا عَدَمَ اشْتِرَاطِ الْعِشْرِينَ فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ بَعْدَ زِيَادَةِ الْوَقْفِ ثُمَّ إنَّهُ أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ فَلِلنَّاظِرِ أَنْ يَزِيدَ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا تَعْلِيلًا، أَوْ بَيَانًا، فَإِنْ كَانَ تَعْلِيلًا بِمَعْنَى أَنَّهُ عَلَّلَ اسْتِثْنَاءَهُ بِذَلِكَ فَمَفْهُومُ هَذِهِ الْعِلَّةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَزِيدُ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الزِّيَادَةِ فَيَنْبَنِي عَلَى أَنَّهُ إذَا عَلَّلَ الْعَامَّ بِعِلَّةٍ لَا تُوجَدُ إلَّا فِي بَعْضِهِ هَلْ يَخُصُّ بِذَلِكَ، أَوْ لَا الْمُخْتَارُ لَا، وَإِنْ كَانَ بَيَانًا فَالْبَيَانُ إنَّمَا يَكُونُ لِأَمْرٍ مُجْمَلٍ وَالِاسْتِثْنَاءُ لَا احْتِمَالَ فِيهِ.
وَإِنَّمَا الِاحْتِمَالُ لِمَا يَكُونُ الْحُكْمُ بَعْدَهُ فَكَأَنَّهُ لَمَّا دَفَعَ الشَّرْطَ بِالزِّيَادَةِ ذَكَرَ أَنَّ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَزِيدَ بِقَدْرِهَا وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ إلَّا بِالْمَفْهُومِ إنْ سَلَّمَ وَمَنْطُوقُ كَلَامِهِ الَّذِي قَبْلَ الشَّرْطِ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ فَلَا يُعَارِضُهُ هَذَا الْمَفْهُومُ؛ وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا: فِي الْأَوَّلِ إنَّ الْمَفْهُومَ يُخَصِّصُ الْعُمُومَ فَذَلِكَ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ أَمَّا فِي كُتُبِ الْأَوْقَافِ فَلَا، وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَاعِدَةِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَوْقَافِ إنَّمَا يَعْتَبِرُ الْأَلْفَاظَ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ فِي حَصْرِ الزِّيَادَةِ فِي الْمِقْدَارِ نَظَرًا ثُمَّ لَوْ سَلَّمَ انْحِصَارَهَا فَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعِشْرُونَ يُخَصُّونَ بِالْأَصْلِ وَالزَّائِدُونَ بِالزِّيَادَةِ، أَوْ يَشْتَرِكُ الْكُلُّ فِي الْجَمِيعِ؟ الْأَقْرَبُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَفَعَ الِاشْتِرَاطَ بِالِاسْتِثْنَاءِ لَمْ يَبْقَ إلَّا الصَّرْفُ لِلْعُمُومِ فَكُلُّ مَنْ قَرَّرَ سَوَاءٌ، وَيَكُونُ الْحَصْرُ فِي الْمِقْدَارِ حَتَّى لَا يَكْثُرَ
النَّقْصُ فَهَذَا الَّذِي اسْتَقَرَّ رَأْيِي عَلَيْهِ أَنْ يَزِيدَ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ وَيَشْتَرِكَ الْأَصْلِيُّونَ.
وَالزِّيَادَةُ فِي الْجَمِيعِ عَلَى مَا يَرَاهُ النَّاظِرُ كَمَا شَرَطَ الْوَاقِفُ وَأَرَى أَنَّهُ لَا يَزِيدُ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ بِالْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يُفْهَمُ فِي الْعُرْفِ فَكَأَنَّ اللَّفْظَ وُضِعَ لَهُ عُرْفًا وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالتَّحْرِيرِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالتَّقْرِيبِ وَالْإِلْحَاقِ بِأَشْبَاهِهَا مِنْ الْمَدَارِسِ وَأَقْرَبُ شَيْءٍ تَلْحَقُ بِهِ الشَّامِيَّةُ الْبَرَّانِيَّةِ فَإِنَّهُمَا جَمِيعًا لِسِتِّ الشَّامِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَقْصُودَهَا فِيهِمَا وَاحِدٌ وَالْعُرْفُ وَاحِدٌ وَالشَّامِيَّةُ الْبَرَّانِيَّةُ أَكْبَرُ، فَإِذَا جَعَلْت هَذِهِ مِثْلَهَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَيْفٌ، وَالْمُسْتَقِرُّ بِالْبَرَّانِيَّةِ لِلْمُبْتَدِئِ وَلِلْمُتَوَسِّطِ اثْنَا عَشَرَ وَلِلْمُنْتَهِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا مَعَ مَا يَتَّبِعُ ذَلِكَ مِنْ خُبْزٍ وَغَيْرِهِ يُقَارِبُهُ فَأَرَى أَنْ يَتَقَرَّرَ فِي الشَّامِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ لِلْمُنْتَهِي ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَلِلْمُتَوَسِّطِ عِشْرُونَ وَلِلْمُبْتَدِئِ عَشَرَةٌ وَأَرَى أَيْضًا أَنْ لَا تَنْحَصِرَ الْحَالُ فِي ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ، بَلْ يُفَاوِتُ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ؛ لِأَنَّ دَرَجَاتِ الْمُنْتَهِينَ وَالْمُتَوَسِّطِينَ مُخْتَلِفَةٌ فَتُجْعَلُ طَبَقَةُ الْمُنْتَهِينَ مِنْ عِشْرِينَ إلَى ثَلَاثِينَ وَطَبَقَةُ الْمُتَوَسِّطِينَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ إلَى عِشْرِينَ وَطَبَقَةُ الْمُبْتَدَئِينَ مِنْ عَشَرَةٍ إلَى خَمْسَةَ عَشْرَةَ.
وَلَا حَرَجَ فِي أَنْ يَنْقُصَ عَنْ الْعَشَرَةِ، أَوْ يَزِيدَ عَلَى الثَّلَاثِينَ بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ
الْمَصْلَحَةُ
، أَوْ يُبْقِيَ الطَّبَقَاتِ عَلَى حَالِهَا ثَلَاثَةً وَتَكُونُ الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا مِنْ سِتِّينَ إلَى أَرْبَعِينَ وَالْوُسْطَى مِنْ الْأَرْبَعِينَ إلَى الْعِشْرِينَ وَالسُّفْلَى مِنْ الْعِشْرِينَ إلَى خَمْسَةٍ، وَفِي هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ مَا قُلْنَاهُ، وَمَا قَرَّرَهُ مِنْ جَعْلِ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثَةِ وَتَقَادِيرِهِمْ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ؛ لِأَنَّا لَوْ الْتَزَمْنَا بِهَذِهِ الْمَقَادِيرِ وَفَضُلَ دِرْهَمٌ مَثَلًا، فَإِنْ بَقَّيْنَاهُ حَاصِلًا، وَلَمْ نَصْرِفْهُ لَهُمْ خَالَفْنَا قَوْلَ الْوَاقِفِ إنَّهُ لَهُمْ، وَإِنْ صَرَفْنَاهُ إلَيْهِمْ، أَوْ إلَى بَعْضِهِمْ خَالَفْنَا التَّقْدِيرَ بِسِتِّينَ وَأَرْبَعِينَ وَعِشْرِينَ، وَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ حَقٌّ وَتِلْكَ الْمُخَالَفَةُ بَاطِلٌ، وَيُمْكِنُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثَةِ وَيُجْعَلُ فِيهَا سِتُّونَ مِنْ طَبَقَةِ عِشْرِينَ بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ، وَعِشْرُونَ فِي طَبَقَةِ أَرْبَعِينَ بِثَمَانِمِائَةٍ دِرْهَمٍ، وَثَمَانِيَةٌ فِي طَبَقَةِ سِتِّينَ بِأَرْبَعِمِائَةٍ وَثَمَانِينَ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ دُونَ الثَّلَاثِينَ أَلْفًا بَقِيَ أَنْ يَكُونَ مَا يُقْسَمُ عَلَى الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ وَمِنْهُمْ الْمُعِيدُ وَالْإِمَامُ غَيْرُ مَحْصُورٍ، بَلْ كُلُّ مَا يَفْضُلُ وَمِنْهُمْ أَيْضًا نَائِبُهُمْ الَّذِي يَرْضَوْنَ بِهِ لَا تُجْعَلُ لَهُ جَامَكِيَّةٌ مِنْ أَصْلِ الْوَقْفِ، وَوَظِيفَتُهُ مُحَاقَقَةُ النَّاظِرِ.
فَإِنْ انْفَرَدَ بِالْكَلَامِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِعَجْزِ النَّاظِرِ، أَوْ خِيَانَتِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ النَّاظِرُ الْعُشْرَ وَاسْتَحَقَّ هَذَا أُجْرَةَ عَمَلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مَنْعُ النَّاظِرِ مِنْ الْكَلَامِ اسْتَحَقَّ النَّاظِرُ الْعُشْرَ، وَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا شَيْءٌ إلَّا مِنْ مَالِ الْفُقَهَاءِ إذَا رَضُوا بِهِ، وَلَا يُوَلَّى عَامِلٌ إلَّا إذَا كَانَ النَّاظِرُ يُوَلِّيهِ مِنْ جَامِكِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ شَرَطَ كُلَّ الْحَاصِلِ لِلْفُقَهَاءِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُؤَذِّنِ وَالْقَيِّمِ فَلَا يُشْرِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.
مَسْأَلَةٌ} فِي وَقْفِ الْمَدْرَسَةِ الصَّلَاحِيَّةِ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ وَهَذَا صُورَةُ كِتَابِ وَقْفِهَا مِثَالُ صُورَةِ الْعَلَّامَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَبِهِ تَوْفِيقِي صُورَةُ خَطِّ الْحَاكِمِ ثَبَتَ عِنْدِي مَضْمُونُ الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ وَحَكَمْت بِهَا وَكَتَبَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَبَّارِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ أَشْهَدَ عَلَيْهِ مَوْلَانَا الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ أَنَّهُ فَوَّضَ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ خَضِرٍ الْقُرَشِيِّ مَعَ الْأَمْلَاكِ الْمُخْتَصَّةِ بِبَيْتِ الْمَالِ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ عَامِرِهَا وَغَامِرِهَا وَمُعَطِّلِهَا وَمُزْرَعِهَا وَمَوَاتِهَا بِثَمَنِ مِثْلِهَا وَوَلَّاهُ هَذِهِ الْوِلَايَةَ، ثُمَّ إنَّ عِزَّ الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الْمَذْكُورَ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ بَاعَ مِنْ مَوْلَانَا الْمَلِكِ النَّاصِرِ جَمِيعَ مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ مِنْ الْأَمْلَاكِ الْجَارِيَةِ فِي مِلْكِ بَيْتِ الْمَالِ بِالْقُدْسِ فَمِنْ ذَلِكَ الْأَرْضُ الْمَعْرُوفَةُ بالحسمانية وَمِنْهُ الْأَرْضُ وَالْجِنَانُ الْمَعْرُوفَةُ بِعَيْنِ سُلْوَانَ وَمِنْهُ حَمَّامُ صُهْيُونَ وَحَمَّامُ بَابِ الْأَسْبَاطِ وَفُرْنٌ وَحَاكُورَةٌ وَالضَّيْعَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِصَيْدِ حَنَّا وَالدَّارُ الَّتِي قِبْلِيَّهَا وَالدَّارُ الْمُجَاوِرَةُ لَهَا وَالطَّاحُونُ الْمُقَابِلَةُ لَهَا وَالْجِنَانُ وَجَمِيعُ الْعُيُونِ وَالْكَنِيسَةُ الصَّغِيرَةُ الْمَعْرُوفَةُ بالبربابكن الَّتِي تَحْتَهَا الْعَيْنُ وَالْحَوَانِيتُ بِالسُّوقِ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ مَعْلُومٍ مُبَيَّنٍ مَوْزُونٍ هُوَ ثَمَنُ الْمِثْلِ قَبَضَهُ الْبَائِعُ وَصَرَفَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَقَبَضَ مَوْلَانَا الْمَلِكُ النَّاصِرُ الْمَوَاضِعَ الْمَبِيعَةَ فَمَتَى أَدْرَكَ الْمُشْتَرِي الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْمَبِيعِ، أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ دَرَكًا فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ الْمُطَهَّرِ، وَوَقَعَ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِمَا فِي الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ وَلَمَّا حَصَلَتْ هَذِهِ الْمَوَاضِعُ فِي مِلْكِ مَوْلَانَا الْمَلِكِ النَّاصِرِ أَشْهَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَقَفَ جَمِيعَ الدَّارِ وَالْكَنِيسَةَ الْمُلَاصِقَةَ لَهَا الْمَعْرُوفَةَ بِصَيْدِ حَنَّا الْمَذْكُورَةَ مَدْرَسَةً عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْفُقَهَاءِ الْمُقِيمِينَ بِهَا وَالْمُنْقَطِعِينَ إلَى الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ الْمَعْرُوفِينَ بِالصَّلَاحِ عَلَى أَنَّ الْمُدَرِّسَ فِي كُلِّ يَوْمٍ يُبَاكِرُ فِي الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ إلَى الْحُضُورِ وَجَمِيعِ الْجَمَاعَةِ لَهُ وَيَبْدَءُوا بِقِرَاءَةِ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ يَشْفَعُونَهُ بِالدُّعَاءِ ثُمَّ يَشْرَعُ بِالدَّرْسِ مَذْهَبًا وَخِلَافًا، وَأُصُولًا، وَمَا شَاءَ مِنْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ ثُمَّ يَنْهَضُ كُلُّ مُعِيدٍ مَعَ أَصْحَابِهِ فَيُعِيدُ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ بِصَدَدِهِ مِنْ الْمَذْهَبِ إنْ كَانَ مَذْهَبًا وَالْخِلَافِ إنْ كَانَ خِلَافِيًّا وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَعَلَيْهِمْ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ جَمَاعَةً إلَّا مَنْ أَخَّرَ لِعُذْرٍ شَرْعِيٍّ وَعَلَيْهِمْ مُلَازَمَةُ الْمَدْرَسَةِ وَالْمَبِيتُ بِهَا إلَّا مِنْ عُذْرٍ مُعْتَادٍ بِإِذْنِ الْمُدَرِّسِ إلَّا مَنْ يَكُونُ مُتَأَهِّلًا فَعَلَيْهِ الْحُضُورُ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَعَلَيْهِمْ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ لِإِعَادَةِ الدُّرُوسِ وَعَلَى الْمُدَرِّسِ تَفَقُّدُ أَحْوَالِ الْفُقَهَاءِ
فَمَنْ رَآهُ مُشْتَغِلًا أَكْرَمَهُ وَشَكَرَهُ وَمَنْ رَآهُ مُقَصِّرًا وَعَظَهُ مِرَارًا، فَإِنْ لَمْ يَنْصَلِحْ أَخْرَجَهُ وَقَطَعَ جَارِيَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ رَآهُ عَلَى غَيْرِ مَا يَجِبُ يَعِظُهُ وَيَنْهَاهُ، فَإِنْ اسْتَمَرَّ أَخْرَجَهُ.
وَقَدْ فَوَّضَ مَوْلَانَا الْمَلِكُ النَّاصِرُ التَّدْرِيسَ إلَى الْقَاضِي بَهَاءِ الدِّينِ قَاضِي الْقُضَاةِ بِالْقُدْسِ وَالْعَسْكَرِ الْمَنْصُورِ، وَمَا جَمَعَ إلَيْهِ يُوسُفُ بْنُ رَافِعِ بْنِ تَمِيمٍ وَجَعَلَ النَّظَرَ فِيهَا، وَفِي أَوْقَافِهَا إلَيْهِ وَجَعَلَ مَا يُصْرَفُ مِنْهَا فِي مُقَابَلَةِ نَظَرِهِ فَلَهُ أَنْ يُدَرِّسَ بِنَفْسِهِ وَبِنَائِبِهِ، فَإِذَا مَاتَ فَإِلَى مَنْ يُوصِي إلَيْهِ وَيَنُصُّ عَلَيْهِ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، فَيَكُونُ التَّدْرِيسُ لَهُ وَالنَّظَرُ، وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ الْآخَرُ لَا يَزَالُ ذَلِكَ كَذَلِكَ كُلَّمَا انْقَضَى مُدَرِّسٌ فَإِنَّ النَّظَرَ وَالتَّدْرِيسَ إلَى مَنْ يَنُصُّ عَلَيْهِ، أَوْ يُوصَى بِذَلِكَ إلَيْهِ، فَإِنْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى أَحَدٍ كَانَ تَعْيِينُ الْمُدَرِّسِ إلَى الْحَاكِمِ الْأَصْلِيِّ فِي مَدِينَةِ الْقُدْسِ الشَّرِيفِ، فَإِذَا عَيَّنَ مُدَرِّسًا صَارَ النَّظَرُ إلَى الْمُدَرِّسِ لِلْعَيْنِ لَا يَزَالَ ذَلِكَ كَذَلِكَ أَبَدًا سَرْمَدًا وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِ أَنْ يُلَازِمَ الدَّرْسَ بِنَفْسِهِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ وَمُلَازَمَةُ الْمُدَرِّسِ فِي الْمَكَانِ إلَّا لِحَاجَةٍ جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْغَيْبَةِ لَهَا بَعْدَ اسْتِئْذَانِ النَّاظِرِ وَإِذْنِهِ.
وَعَلَيْهِ تَفَقُّدُ حَالِ الْمَدْرَسَةِ فَمَا رَأَى مِنْ نَقْصٍ تَقَدَّمَ بِإِزَالَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَهَيَّأْ انْتَهَى ذَلِكَ إلَى النَّاظِرِ وَقَدْ رَتَّبَ لَهُ كُلَّ شَهْرٍ خَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا وَغِرَارَتَيْنِ قَمْحًا، وَعَدَدُ الْفُقَهَاءِ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ، بَلْ مَا وَسِعَهُ الْوَقْفُ مِنْ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَبِذَلِكَ أَشْهَدَ عَلَيْهِ فِي ثَالِثَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ وَثَبَتَ ذَلِكَ عَلَى جَلَالِ الدِّينِ أَبِي عَلِيٍّ حَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَبَّارِ الْحَاكِمِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي تَاسِعَ عَشَرَ رَجَبَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ وَحَكَمَ بِصِحَّةِ التَّفْوِيضِ وَالْبَيْعِ، وَالْوَقْفِ وَأَلْزَمَ حُكْمَهُ مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ إلْزَامُهُ، وَأَنْفَذَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سُلْطَانَ بْنِ يَحْيَى الْقُرَشِيُّ نَائِبُ الْحَكَمِ بِدِمَشْقَ فِي ثَانِي رَجَبَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ شَرَفُ الدِّينِ، وَنَفَّذَهُ زَكِيُّ الدَّيْنِ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى قَاضِي دِمَشْقَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّمِائَةٍ، وَنَفَّذَهُ شَمْسُ الدِّينِ سَالِمُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ صَاعِدِ بْنِ الدَّيْلَمِ قَاضِي الْقُدْسِ فِي تَاسِعَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ عِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَنَفَّذَهُ عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدِ بْنِ السَّلَمِ قَاضِي نَابُلُسَ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَنَفَّذَهُ صَفِيُّ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ بْنُ مَكْتُومٍ الْعَسِّيُّ قَاضِي الْقُدْسِ فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعِ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَنَفَّذَهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ عَيَّاشٍ نَائِبِ قَاضِي غَزَّةَ فِي خَامِسِ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَنَفَّذَ أَسْجَالُ صَفِّي الدِّينِ أَيْضًا بَدْرَ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ اللَّهِ بْنِ جَمَاعَةَ قَاضِي الْقُدْسِ نِيَابَةً عَنْ ابْنِ الصَّائِغِ فِي الثَّالِثَ
عَشَرَ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ؛ وَنَفَّذَ أَسْجَالُ بَدْرِ الدِّينِ هَذَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمُحْسِنِ بْنِ حَسَنٍ قَاضِي الْقُدْسِ فِي ثَامِنَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَنَفَّذَ أَسْجَالُ بَدْرِ الدِّينِ هَذَا أَيْضًا شَرَفُ الدِّينِ مُنَيْفُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ كَامِلِ بْنِ مَنْصُورٍ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ سَابِعَ شَعْبَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِمِائَةٍ وَلَكِنَّ الشُّهُودَ إنَّمَا شَهِدُوا عَلَيْهِ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسَبْعِمِائَةٍ.
وَنَفَّذَ أَسْجَالُ شَرَفُ الدِّينِ مُنَيْفُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَحْمَدَ نَائِبُ الْحَكَمِ بِالْقُدْسِ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ الْجَلَالِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَنَفَّذَهُ شَمْسُ الدِّينِ سَالِمٌ فِي ثَالِثَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ عِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ وَنَفَّذَهُ عِمَادُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ يَحْيَى قَاضِي الْقُدْسِ، وَنَفَّذَ أَسْجَالُ ابْنُ سَالِمٍ أَيْضًا شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ كَامِلِ بْنِ تَمَّامٍ فِي يَوْمِ السَّبْتِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَنَفَّذَهُ ابْنُ الْمَجْدِ، وَنَفَّذْته أَنَا فِي شَهْرِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ.
وَفِي ظَاهِرِ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ لِمَا كَانَ بِتَارِيخِ تَاسِعَ عَشَرَ مِنْ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ حَضَرَ بِدِمَشْقَ الْقُضَاةُ الشَّافِعِيُّ وَالْمَالِكِيُّ وَالْحَنْبَلِيُّ وَبَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْأُسْتَاذِ، وَمَا بِيَدِهِ مِنْ التَّفْوِيضِ الَّذِي فَوَّضَهُ إلَيْهِ عَلَاءُ الدِّينِ سُنْقُرٌ الزَّيْنِيُّ الْمُبَلِّغِي ذَلِكَ عَنْ أَخِيهِ سَيْفِ الدِّينِ قُطْلُبٍ الزَّيْنِيِّ الْمَحْكِيِّ فِيهِ اتِّصَالُ ذَلِكَ بِالْقَاضِي الدِّينِ بْنِ تَمِيمٍ الَّذِي فَوَّضَ إلَيْهِ الْوَاقِفُ فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ التَّدْرِيسِ وَأَنَّ شَرْطَ مَنْ يُفَوَّضُ إلَيْهِ النَّظَرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَبَعًا لِتَدْرِيسِ الْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَيَكُونَ الْمُفَوَّضُ إلَيْهِ أَهْلًا لِإِلْقَاءِ الدُّرُوسِ مِنْ الْعُلُومِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْوَاقِفُ وَحَكَمَ الشَّيْخُ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى بَدْرِ الدِّينِ الْمَذْكُورِ بِاسْتِحْقَاقِ النَّظَرِ وَحَكَمَ بِصِحَّةِ وِلَايَةِ التَّدْرِيسِ وَالنَّظَرِ وَحَكَمَ عَلَى بَدْرِ الدِّينِ بِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ لِلنَّظَرِ بِحُكْمِ شَرْطِ الْوَاقِفِ وَالْحَاكِمِ شِهَابُ الدِّينِ ثُمَّ نَفَّذَهُ الْمَالِكِيُّ ثُمَّ نَفَّذَ الْحَنْبَلِيُّ حُكْمَ الْمَالِكِيِّ.
قَالَ عَلِيٌّ السُّبْكِيُّ أَمَّا بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ شَدَّادٍ الَّذِي تَلَقَّى عَنْ الْوَاقِفِ أَنْ يَعْزِلَهُ وَلَوْ عَزَلَ هُوَ نَفْسَهُ عَنْ الْوَظِيفَتَيْنِ، أَوْ عَنْ النَّظَرِ وَحْدَهُ، أَوْ عَنْ التَّدْرِيسِ وَحْدَهُ لَمْ يَنْعَزِلْ وَلَوْ خَرَجَ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ غَيْرُهُ أَقَامَ الْحَاكِمُ غَيْرَهُ مَقَامَهُ إلَى أَنْ تَرْجِعَ الْأَهْلِيَّةُ إلَيْهِ فَيَعُودُ.
أَمَّا النَّظَرُ فَلِمَا قَرَّرْنَا فِي تَصْنِيفٍ مُفْرَدٍ مِنْ أَنَّ النَّاظِرَ الْمَشْرُوطَ لَهُ النَّظَرُ لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ نَفْسَهُ وَتُجْعَلُ هَذِهِ الصِّيغَةُ وَهِيَ قَوْلُ الْوَاقِفِ وَقَدْ فَوَّضَ وَكَوْنُهَا فِي صُلْبِ الْوَقْفِ مُنَزَّلَةٌ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ فِي ذَلِكَ التَّصْنِيفِ، وَأَمَّا التَّدْرِيسُ فَلِمَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرْنَاهُ فِي النَّظَرِ وَالثَّانِي كَوْنُ الْوَاقِفِ جُعِلَ لِبَهَاءِ الدِّينِ الْمَذْكُورِ أَنْ يُدَرِّسَ بِنَفْسِهِ وَبِنَائِبِهِ، وَلَمْ
يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ شَرْطًا مَا دَامَ يُدَرِّسُ بِنَفْسِهِ وَبِنَائِبِهِ فَذَلِكَ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يُحَصِّلْ التَّدْرِيسَ بِنَفْسِهِ وَبِنَائِبِهِ هَذَا حُكْمُ بَهَاءِ الدِّينِ رحمه الله.
وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُ فَهُمْ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا مَنْ أَوْصَى إلَيْهِ وَهُمْ الَّذِينَ ابْتَدَأَ بِهِمْ فَحُكْمُهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّدْرِيسِ وَالنَّظَرِ حُكْمُهُ وَلَمْ يَنُصَّ الْوَاقِفُ عَلَى أَنَّ لَهُمْ أَنْ يَسْتَنِيبُوا فِي التَّدْرِيسِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُدَرِّسُوا بِأَنْفُسِهِمْ إلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَا إلَّا بَهَاءُ الدِّينِ وَحْدَهُ، فَهُوَ الَّذِي خَصَّهُ بِأَنَّ لَهُ أَنْ يُدَرِّسَ بِنَفْسِهِ وَنَائِبِهِ إكْرَامًا لَهُ، وَلَمْ يُصَرِّحْ الْوَاقِفُ بِأَنَّ لِبَهَاءِ الدِّينِ، أَوْ لِمَنْ بَعْدَهُ أَنْ يُوصِيَ، أَوْ يُسْنِدَ، وَإِنَّمَا قَالَ: فَإِذَا مَاتَ فَإِلَى مَنْ يُوصِي إلَيْهِ وَيَنُصُّ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ إذَا أَوْصَى وَنَصَّ ثُمَّ مَاتَ كَانَ التَّدْرِيسُ وَالنَّظَرُ لِمَنْ أَوْصَى إلَيْهِ وَنَصَّ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ مِنْ جِهَةِ الْوَاقِفِ بِحُكْمِ شَرْطِهِ لَا مِنْ جِهَةِ الْمُوصَى بِحُكْمِ إيصَائِهِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْبَطْنِ الثَّانِي يَتَلَقَّوْنَ عَنْ الْوَاقِفِ عَلَى الصَّحِيحِ لَا عَنْ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا فِي أُمُورٍ مِنْهَا إذَا أَوْصَى بَهَاءُ الدِّينِ مَثَلًا، أَوْ غَيْرُهُ فِي حَيَاتِهِ لَا نَحْكُمُ بِأَنَّ وَصِيَّتَهُ هَذِهِ صَحِيحَةٌ، بَلْ نَنْتَظِرُ، فَإِنْ مَاتَ حَكَمْنَا لِلْمُوصَى إلَيْهِ، وَلَوْ أَرَادَ بَهَاءُ الدِّينِ أَنْ يُفَوِّضَ النَّظَرَ فِي حَيَاتِهِ إلَى غَيْرِهِ.
فَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيلِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْلِيَةِ الْمُسْتَقِلَّةِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُفَوِّضَ التَّدْرِيسَ، فَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِنَابَةِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ جَازَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ نَاظِرٌ وَلَهُ تَرْكُ التَّدْرِيسِ بِنَفْسِهِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِنَابَةُ.
وَقَدْ قُلْنَا: إذَا تَعَطَّلَ أُقِيمَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، وَهُوَ نَاظِرٌ فَلَهُ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ مَقَامَهُ فِي حَيَاتِهِ وَلَهُ عَزْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَالرُّجُوعُ إلَى التَّدْرِيسِ بِنَفْسِهِ، وَاَلَّذِي يُوَلِّيه لَيْسَ لَهُ مِنْ الْمَعْلُومِ الْمُشْتَرَطِ لِبَهَاءِ الدِّينِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ لَهُ عَنْ نَظَرِهِ لَا عَنْ تَدْرِيسِهِ، وَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ يُدَرِّسَ ذَلِكَ الْمُفَوَّضُ إلَيْهِ تَبَرُّعًا كَمَا كَانَ بَهَاءُ الدِّينِ.
وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ الْوَقْفِ، أَمَّا مِنْ الْوَقْفِ فَلَمْ يَنُصَّ الْوَاقِفُ لَهُ عَلَى شَيْءٍ.
هَذَا حُكْمُ تَفْوِيضِ بَهَاءِ الدِّينِ، وَأَمَّا تَفْوِيضُ مَنْ بَعْدَهُ مِمَّنْ أَوْصَى إلَيْهِ فَكَذَلِكَ لِكَوْنِهِ لَا يَحْكُمُ بِصِحَّتِهِ، بَلْ إذَا مَاتَ عَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُفَوِّضَ التَّدْرِيسَ إلَى غَيْرِهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِنَابَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِ التَّدْرِيسَ بِنَفْسِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يَسْتَنِيبَ بِغَيْرِ عُذْرٍ لِذَلِكَ بِخِلَافِ بَهَاءِ الدِّينِ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يُفَوِّضَهُ اسْتِقْلَالًا وَيَنْفَرِدَ بِالنَّظَرِ؟ هَذَا فِيهِ احْتِمَالٌ أَنْ يُقَالَ بِهِ كَمَا فِي بَهَاءِ الدِّينِ، وَيُحْتَمَلُ، وَهُوَ الْأَقْوَى أَنْ يَمْتَنِعَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ " وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُدَرِّسَ بِنَفْسِهِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ " وَهَذَا الشَّرْطُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي التَّدْرِيسِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ، وَفِي النَّظَرِ مَعًا، فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِمَا مَعًا فَامْتَنَعَ مِنْ التَّدْرِيسِ بِنَفْسِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ النَّظَرَ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ النَّظَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُفَوِّضَ التَّدْرِيسَ؛ لِأَنَّ قُوَّةَ كَلَامِ الْوَاقِفِ تَقْتَضِي جَعْلَ النَّظَرِ مَانِعًا لِلتَّدْرِيسِ فَلَا يَسْتَقِلُّ إلَّا فِي حَقِّ بَهَاءِ الدِّينِ خَاصَّةً لِنَصِّهِ عَلَيْهِ.
بَقِيَ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ فِي حَقِّ بَهَاءِ الدِّينِ، وَفِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْمُوصَى إلَيْهِمْ إذَا فَوَّضُوا التَّدْرِيسَ وَالنَّظَرَ مَعًا لِوَاحِدٍ فَالْحُكْمُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ لَا إشْكَالَ فِيهِ وَلِذَلِكَ إذَا فَوَّضَ التَّدْرِيسَ إلَى وَاحِدٍ مَنَعَهُ النَّظَرُ لِمَا ذَكَرَهُ الْوَاقِفُ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ وَوَرَاءَ هَذَا مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا إذَا أَوْصَى بِالنَّظَرِ وَحْدَهُ لِوَاحِدٍ، وَالثَّانِيَةُ إذَا أَوْصَى بِالنَّظَرِ لِوَاحِدٍ وَالتَّدْرِيسِ لِآخَرَ وَأَوْصَى بِكُلٍّ مِنْهُمَا لِاثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ.
(أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) ، فَإِذَا أَوْصَى لِوَاحِدٍ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِلتَّدْرِيسِ وَالنَّظَرِ مَعًا كَانَ النَّظَرُ وَالتَّدْرِيسُ لَهُ سَوَاءٌ أَوْصَى لَهُ بِهِمَا أَمْ بِأَحَدِهِمَا لِقَوْلِ الْوَاقِفِ " فَإِلَى مَنْ يُفَوِّضُ إلَيْهِ وَيَنُصُّ عَلَيْهِ " وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يُوصِيَ بِهِمَا، أَوْ بِأَحَدِهِمَا كَقَوْلِهِ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَظَاهِرُهُ اشْتِرَاطُ الصَّلَاحِيَّةِ لِلْمَجْمُوعِ وَكَقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ التَّدْرِيسُ لَهُ وَالنَّظَرُ أَمَّا إذَا أَوْصَى لِمَنْ يَصْلُحُ لِلتَّدْرِيسِ فَقَطْ، أَوْ النَّظَرِ فَقَطْ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا لَهُ وَهَلْ يَكُونُ لَهُ مَا يَصْلُحُ لَهُ لَفْظُ الْوَاقِفِ سَاكِتٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِصِحَّتِهِ لِكَوْنِ الْوَاقِفِ لَمْ يَشْتَرِطْهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْبُطْلَانِ لِعَدَمِ اقْتِضَاءِ شَرْطِ الْوَاقِفِ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا نَحْكُمُ بِالْبُطْلَانِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ لَمْ يَشْتَرِطْ عَدَمَهُ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْبُطْلَانُ إلَّا فِيمَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْعَمَلَ بِوَصِيَّتِهِ فِي الْمَجْمُوعِ مَدْلُولٌ عَلَى صِحَّتِهَا وَالْعَمَلَ بِوَصِيَّتِهِ فِي أَحَدِهِمَا، وَهُوَ النَّظَرُ لَيْسَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى عَدَمِهِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْعَمَلِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِوَصِيَّتِهِ فِي التَّدْرِيسِ بِتَتَبُّعِ النَّظَرِ فَقَدْ اُسْتُفِيدَ مِمَّا بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِيصَاءِ.
وَهَذَا كُلُّهُ بِحَسَبِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي كَوْنِهِ إذَا أَوْصَى لَهُ فِي شَيْءٍ
لَا يَصِيرُ وَصِيًّا فِي غَيْرِهِ أَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فَمَنْ أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ صَارَ وَصِيًّا فِي غَيْرِهِ فَلِبَهَاءِ الدِّينِ وَلِمَنْ بَعْدَهُ أَنْ يُوصِيَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ بِلَا إشْكَالٍ.
وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْبَحْثَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ عَائِدٌ إلَى الْمَجْمُوعِ لَا إلَى الْوَاحِدِ وَلَوْلَاهُ لَكَانَ إذَا أَوْصَى لِمَنْ يَصْلُحُ لِأَحَدِهِمَا، أَوْ لَا يَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْهُمَا يَكُونُ الشَّرْطُ لَهُ فِيهِمَا وَحَيْثُ لَا يَصْلُحُ يُقَامُ غَيْرُهُ وَحَيْثُ يَصْلُحُ إمَّا ابْتِدَاءً وَإِمَّا دَوَامًا يُبَاشِرُ مَا يَصْلُحُ لَهُ كَمَا لَوْ شَرَطَ النَّظَرَ لِأَوْلَادِهِ، أَوْ لِزَيْدٍ، وَهُوَ لَا يَصْلُحُ عِنْدَ الْمَوْتِ ثُمَّ صَلَحَ بَعْدَ ذَلِكَ هَذَا كُلُّهُ مَا دَامَ إذَا مَاتَ وَاحِدٌ كَانَ هُنَاكَ مَنْ نَصَّ عَلَيْهِ، فَإِنْ نَصَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَأَوْصَى ثُمَّ انْعَزَلَ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْمُوصَى إلَيْهِ كَمَا لَوْ مَاتَ أَوَّلًا؟ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِالِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ كُلَّمَا انْقَضَى مُدَرِّسٌ يَشْمَلُ انْقِضَاؤُهُ بِالْمَوْتِ وَبِالْعَزْلِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِعَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ لِقَوْلِهِ أَوَّلًا، فَإِذَا مَاتَ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَزَالُ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَذَلِكَ هُوَ الْحُكْمُ بِالتَّدْرِيسِ وَالنَّظَرِ لَهُ وَقَوْلُهُ كَذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ حَالَةُ الْمَوْتِ فَهَذِهِ قَرِينَةٌ تَصْرِفُ الِانْقِضَاءَ الْمَذْكُورَ بَعْدَهَا إلَى الْمَوْتِ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ قَوِيٌّ إنْ لَمْ يَكُنْ أَرْجَحَ فَلَا يَكُونُ مَرْجُوحًا، وَفِي حَقِّ بِهَاءِ الدِّينِ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ انْعِزَالُهُ فَلَا انْقِضَاءَ لَهُ إلَّا بِالْمَوْتِ، أَوْ لِخُرُوجِهِ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ بِخُرُوجِهِ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ أَقْرَبُ إلَى غَرَضِ الْوَاقِفِ مِنْ غَيْرِهِ، فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُقَامَ مَقَامَهُ فِي مُدَّةِ خُرُوجِهِ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ، وَالْآنُ فِي هَذَا مُحْتَمَلٌ، وَإِنَّمَا الْمُنَازَعَةُ فِي كَوْنِهِ يَسْتَحِقُّ اسْتِقْلَالًا، وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُ، فَإِذَا لَمْ يُلَازِمْ الدَّرْسَ لَمْ يَسْتَحِقَّ فَهُنَا نَقُولُ: إنَّهُ كَالْمَشْرُوطِ لَهُ إذَا خَرَجَ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ يَبْقَى أَمْرُهُ مُرَاعًى، أَوْ نَقُولُ: إنَّ شَرْطَ النَّظَرِ لَهُ إنَّمَا هُوَ بِوَصْفِ كَوْنِهِ مُلَازِمًا لِلدَّرْسِ وَقَدْ فَاتَ فَلَا يَكُونُ نَاظِرًا فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُدَرِّسَ النَّاظِرَ الْأَهْلَ لِلْوَظِيفَتَيْنِ غَيْرُ بَهَاءِ الدِّينِ إذَا عَزَلَ نَفْسَهُ لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ نَفْسَهُ لِمَا قَرَّرْنَاهُ فِي حَقِّ بَهَاءِ الدِّينِ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ إذَا رَجَعَ إلَى التَّدْرِيسِ لَهُ ذَلِكَ وَيَسْتَمِرُّ تَدْرِيسُهُ وَنَظَرُهُ، وَإِنْ اسْتَمَرَّ عَلَى عَدَمِ التَّدْرِيسِ فَإِنَّ الشَّرْطَ الَّذِي شُرِطَ عَلَيْهِ، وَهُوَ شَرْطٌ فِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلنَّظَرِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ فَلَا يَكُونُ نَاظِرًا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَ غَيْرَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَإِنْ جَعَلْنَا نَظَرَهُ بَاقِيًا أَنْ يُوَلِّيَ كَابْنِ شَدَّادٍ، وَإِنْ جَعَلْنَا نَظَرَهُ زَائِلًا وَكَانَ قَدْ أَوْصَى إلَى شَخْصٍ هَلْ يَتَعَيَّنُ كَمَا
فِي حَالَةِ الْمَوْتِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ مَسْكُوتٌ عَنْهَا؟ الْأَقْرَبُ الِاحْتِمَالُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ إلْحَاقَ غَيْرِ الْمَوْتِ بِالْمَوْتِ إنَّمَا هُوَ بِالْقِيَاسِ وَالْقِيَاسُ لَا يُعْمَلُ بِهِ فِي الْأَوْقَافِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ ابْنِ شَدَّادٍ وَغَيْرِهِ قَصْدُ الْوَاقِفِ عَيْنَهُ، فَهُوَ مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ وَغَيْرُهُ إنَّمَا هُوَ مَقْصُودٌ بِوَصْفِ كَوْنِهِ مُدَرِّسًا وَهِيَ صِفَةٌ تَقْبَلُ الزَّوَالَ بِامْتِنَاعِهِ مِنْ التَّدْرِيسِ.
هَذَا كُلُّهُ فِي الْمُوصَى إلَيْهِمْ أَمَّا إذَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنْ غَيْرِ إيصَاءٍ فَقَدْ قَالَ الْوَاقِفُ إنَّ قَاضِيَ الْقُدْسِ الْأَصْلِيِّ يُعَيِّنُ مُدَرِّسًا، فَإِذَا عَيَّنَّ يَصِيرُ مُدَرِّسًا نَاظِرًا، وَهُوَ صَحِيحٌ إذَا كَانَ صَالِحًا لَهُمَا، فَإِنْ عَيَّنَ مُدَرِّسًا يَصْلُحُ لِلتَّدْرِيسِ دُونَ النَّظَرِ هَلْ يَمْتَنِعُ، أَوْ يَجُوزُ وَيُقَامُ نَاظِرٌ كَمَا يُقَامُ غَيْرُ الَّذِي شَرَطَ لَهُ النَّظَرَ؟ الْأَقْرَبُ الثَّانِي، بَلْ يَتَعَيَّنُ الْقَوْلُ بِهِ وَلِهَذَا مَا ذَكَرَ الْوَاقِفُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَيَصِيرُ الَّذِي عَيَّنَهُ قَاضِي الْقُدْسِ مَشْرُوطًا لَهُ التَّدْرِيسُ وَالنَّظَرُ مِنْ جِهَةِ الْوَاقِفِ كَمَا يَتَلَقَّى النَّظَرَ الثَّانِي عَنْ الْوَاقِفِ عَلَى الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْوَاقِفُ، فَإِذَا مَاتَ هَذَا الْمُدَرِّسُ وَقَدْ قَضَى وَأَوْصَى إلَى مَنْ يَصْلُحُ لِلتَّدْرِيسِ وَالنَّظَرِ اسْتَحَقَّهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي ابْنِ شَدَّادٍ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْوَاقِفِ، هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ عِنْدِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُنَازِعَ فِيهِ غَيْرِي وَيَسْتَنْكِرَهُ، وَهُوَ بَعِيدٌ مَتْرُوكٌ أَمَّا إذَا لَمْ يَمُتْ هَذَا الْمُدَرِّسُ وَلَكِنْ عَزَلَ نَفْسَهُ، أَوْ عَزَلَهُ غَيْرُهُ فَقَدْ قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ، وَلَكِنْ بِامْتِنَاعِهِ عَنْ التَّدْرِيسِ يُقَامُ غَيْرُهُ مَقَامُهُ، وَهَلْ يَخْرُجُ عَنْ النَّظَرِ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَخْرُجُ كَانَ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَ غَيْرَهُ لِيَقُومَ مَقَامَهُ فِي مُدَّةِ امْتِنَاعِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَخْرُجُ فَهَلْ يَكُونُ النَّظَرُ لِحَاكِمِ الْقُدْسِ الْأَصْلِيِّ حَتَّى يَجُوزَ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَ غَيْرَهُ؟ أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْوَاقِفِ بِالشَّرْطِ الَّذِي يَشْتَرِطُهُ فَلَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا شَرَطَهُ فِي الْمَوْتِ، وَإِلْحَاقُ هَذِهِ الصُّورَةِ بِهِ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ فِي الْأَوْقَافِ.
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ الْعَامِّ مِنْ كَوْنِهِ قَاضِي الْقُدْسِ فَنَعَمْ وَيُشَارِكُهُ فِيهِ كُلُّ مَنْ لَهُ النَّظَرُ الْعَامُّ مِنْ الْقَاضِي الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ مُتَوَلِّي الشَّامِ وَنَائِبِ الشَّامِ وَالسُّلْطَانِ فَمَنْ سَبَقَتْ تَوْلِيَتُهُ مِنْهُمْ نَفَذَتْ، وَقَدْ قِيلَ إنَّ بَهَاءَ الدِّينِ بْنَ شَدَّادٍ فَوَّضَ النَّظَرَ وَحْدَهُ إلَى شَخْصٍ وَاتَّصَلَ ذَلِكَ إلَى شَخْصٍ يُسَمَّى بَدْرَ الدِّينِ بْنَ الِاسْتِدَارِ، وَنَازَعَ الشَّيْخُ صَلَاحُ الدِّينِ الْمُدَرِّسَ فِي النَّظَرِ