الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نَهَى عَنْ جَلْدِ الْحَدِّ فِي الْمَسَاجِدِ» مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ. هَذَا مَا حَضَرَنِي الْآنَ مِنْ الْآثَارِ وَقَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، وَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ الْكَرَاهَةُ الشَّدِيدَةُ كُرْهٌ لَهُ يُكْرَهُ وَقَدْ شَهِدَتْ لَهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ إنَّمَا بُنِيَتْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَهَذَا أَثَرٌ مِنْهَا لَا الْحَدُّ وَلَا التَّعْزِيرُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - انْتَهَى.
[كِتَابُ الْجِهَادِ]
(كِتَابُ الْجِهَادِ)(مَسْأَلَةٌ) فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ هَلْ يَجُوزُ النَّظَرُ فِيهِمَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ مَا مَعْنَاهُ: لَا يَحِلُّ إمْسَاكُهَا بَلْ إنْ كَانَتْ عَلَى جِدَارٍ وَنَحْوِهِ غُسِلَتْ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى كَاغَدٍ رَقِيقٍ حُرِقَ وَلَا يُحْرَقُ لِيَبْقَى الْمُحْرَقُ غَنِيمَةً، وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْفُورَانِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ.
وَلَوْ وَصَّى الذِّمِّيُّ أَوْ غَيْرُهُ فَقَالَ اُكْتُبُوا بِثُلُثِي التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا مُغَيَّرَةٌ مُبَدَّلَةٌ صَرَّحَ بِهَا الْأَصْحَابُ وَالشَّافِعِيُّ فِي آخِرِ بَابِ الْجِزْيَةِ.
(سُؤَالٌ) مِنْ الشَّيْخِ الصَّالِحِ فَرَجٍ الْمُقِيمِ بِقَرْيَةِ السَّاهِلِيَّةِ مِنْ الْغَوْرِ أَرْسَلَهُ إلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ فِي سَنَةِ الطَّاعُونِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ يَشْتَمِلُ عَلَى أَسْئِلَةٍ: السُّؤَالُ فِي الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا حَقِيقَتُهَا.
(أَجَابَ) رحمه الله مَا نَصُّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْجَوَابُ أَنَّهَا حَالَةٌ شَرِيفَةٌ تَحْصُلُ لِلْعَبْدِ عِنْدَ الْمَوْتِ لَهَا سَبَبٌ وَشَرْطٌ وَنَتِيجَةٌ عُرِفَتْ مِنْ نَصِّ الشَّارِعِ عَلَى مَحَالِّهَا وَآثَارِهَا وَاسْتُنْبِطَ مِنْ ذَلِكَ عِلَلَهَا الْمُوجِبَةِ لِضَبْطِهَا وَأَسْبَابَهَا وَشُرُوطَهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ بِصُوَرٍ:
(الصُّورَةُ الْأُولَى) وَهِيَ أَعْلَاهَا الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74] وَقَالَ تَعَالَى فِي قَتْلَى بَدْرٍ {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154] وَقَالَ تَعَالَى فِي قَتْلَى أُحُدٍ {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170] وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111] وَقَالَ تَعَالَى {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] وَقَالَ تَعَالَى {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب: 23]
وَقَالَ تَعَالَى {وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «مَا عَبْدٌ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى» وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَطِيبُ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْت أَنْ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ» .
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - بِمِنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى اللَّوْنُ دَمٌ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ» ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «مَا أَحَدٌ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَيَّ مِنْ شَيْءٍ إلَّا الشَّهِيدَ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ» وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ فِي قُبَّةِ خَضْرَاءَ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا» أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ.
وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَذَكَرْنَا فِي ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ لَمَّا وَجَّهَهُ إلَى خَيْبَرَ «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ مِنْ حُمُرِ النَّعَمِ» فَرَأَيْنَا قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِتَالِ إنَّمَا هُوَ الْهِدَايَةُ وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هِدَايَةُ الْخَلْقِ وَدُعَاؤُهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَتَحْصِيلُ ذَلِكَ لَهُمْ وَلِأَعْقَابِهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يَعْدِلُهُ شَيْءٌ فَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِالْعِلْمِ وَالْمُنَاظَرَةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ.
وَمِنْ هُنَا نَأْخُذُ أَنَّ مِدَادَ الْعُلَمَاءِ أَفْضَلُ مِنْ دَمِ الشُّهَدَاءِ.
وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِالْقِتَالِ قَاتَلْنَا إلَى إحْدَى ثَلَاثِ غَايَاتٍ إمَّا هِدَايَتُهُمْ وَهِيَ الرُّتْبَةُ الْعُلْيَا وَإِمَّا أَنْ نُسْتَشْهَدَ دُونَهُمْ وَهِيَ رُتْبَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ فِي الْمَقْصُودِ وَلَكِنَّهَا شَرِيفَةٌ لِبَذْلِ النَّفْسِ فَهِيَ مِنْ حَيْثُ بَذْلُ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا وَسِيلَةٌ لَا مَقْصُودٌ مَفْضُولَةٌ وَالْمَقْصُودُ إنَّمَا هُوَ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِمَّا قَتْلُ الْكَافِرِ وَهِيَ الرُّتْبَةُ الثَّالِثَةُ وَلَيْسَتْ مَقْصُودَةً؛ لِأَنَّهَا تَفْوِيتُ
نَفْسٍ يُتَرَجَّى أَنْ تُؤْمِنَ وَأَنْ تُخْرِجَ مِنْ صُلْبِهَا مَنْ يُؤْمِنُ وَلَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ بِإِصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ فَلَمَّا بَذَلَ الشَّهِيدُ نَفْسَهُ الَّتِي هِيَ أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ وَبَاعَهَا لِلَّهِ تَعَالَى طَلَبًا لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ فَاقْتَطَعَ دُونَهَا وَيُعِينُهُ تَعَالَى مَا يَتَحَمَّلُ الْمُتَحَمِّلُونَ مِنْ أَجْلِهِ وَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِمَّا يَتَحَمَّلُهُ الشَّهِيدُ جَازَاهُ سبحانه وتعالى وَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ بِمَا تَقْصُرُ عُقُولُ الْبَشَرِ عَنْهُ.
وَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى أَشْهَدَهُ مَا لَهُ مِنْ الْكَرَامَةِ جُمْلَةً وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ الْعَقْلُ وَالطَّرْفُ تَفْصِيلَهَا فَيَرَى بِعَيْنِهِ مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْكَرَامَةِ وَالْخَيْرِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ شَهِيدًا وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٌ وَقِيلَ: إنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ أَوْ أَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَشْهَدُهُ وَتُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَشْهُرُ وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَهِيَ حَالَةٌ تَحْصُلُ لَهُ شَرِيفَةٌ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي حَدِّ حَقِيقَتِهَا: إنَّهَا حَالَةٌ شَرِيفَةٌ تَحْصُلُ لِلْعَبْدِ وَلَوْ جَزَمْنَا بِأَنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، قُلْنَا فِي الْعَبْدِ بِأَنَّ شُهُودَهُ لِلْكَرَامَةِ حَالَةٌ تَحْصُلُ مِنْهُ فِي بَصَرِهِ وَقَلْبِهِ، وَلَكِنَّا قُلْنَا لَهُ يَصِحُّ عَلَى كَلَا الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ شُهُودَ مَلَائِكَةِ الرِّضَا لَهُ حَالَةٌ حَاصِلَةٌ لِأَجْلِهِ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَعْلَى وَأَكْمَلُ وَأَعْظَمُ لِمَا فِيهِ مِمَّا يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ مِنْ الْمَعَارِفِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالْبَهْجَةِ النُّورَانِيَّةِ وَفِي الْبَصَرِ مِنْ رُؤْيَةِ الْجَنَّةِ وَكَأَنَّهُ أَوَّلُ قَبْضِ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَ الشَّهِيدُ بِهِ نَفْسَهُ وَحَصَلَ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ يُشَجِّعُ غَيْرَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مِثْلِهِ وَيَخْذُلُ الْكُفَّارُ وَيُضْعِفُ نُفُوسَهُمْ وَرُبَّمَا يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ.
وَالثَّانِي مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَلَمِ الَّذِي لَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ مِنْ فَوَاتِ نَفْسِهِ وَتَحَقُّقِهِ لِذَلِكَ قَبْلَ خُرُوجِهَا فَإِنَّ حَتْفَ أَنْفِهِ لَا يَيْأَسُ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ إمَّا يَأْتِيهِ الْمَوْتُ فَجْأَةً أَوْ بِأَمْرَاضٍ يُتَرَجَّى مَعَهَا الْعَافِيَةُ أَوْ يَغِيبُ عَقْلُهُ حَتَّى تَخْرُجَ رُوحُهُ، وَالشَّهِيدُ قَدْ تَذَرَّعَ أَسْبَابَ الْمَوْتِ فِي حَالِ حُضُورِ عَقْلِهِ وَأَعْرَضَ عَنْ نَفْسِهِ فِي رِضَا اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ فَضْلُ هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى مَا بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الشُّهَدَاءِ قَدْ لَا يُشَارِكُهُ إلَّا فِي الْأَلَمِ فَأَنَّى يَكُونُ مِثْلَهُ وَإِنْ سَاوَاهُ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي وَصَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّهِيدِ وَالِاسْمُ يَشْتَرِكُ فِيهِ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ وَأَدْنَاهَا فَالنَّاسُ أَلْفٌ مِنْهُمْ كَوَاحِدٍ وَوَاحِدٌ كَالْأَلْفِ:
أَكُلُّ امْرِئٍ تَحْسِبِينَ امْرَأً
…
وَنَارٍ تُوقِدُ بِاللَّيْلِ نَارًا
وَلَكِنَّ فَضْلَ اللَّهِ وَاسِعٌ قَدْ يَرْفَعُ الصَّغِيرَ إلَى دَرَجَةِ الْكَبِيرِ أَوْ يُدْنِيهِ مِنْهُ تَفَضُّلًا فَالشُّهَدَاءُ كُلُّهُمْ هَذَا وَاَلَّذِينَ يَأْتِي ذِكْرُهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي رُؤْيَةِ كَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي حُضُورِ مَلَائِكَةِ الرِّضَا لَهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَسْبَابُ لِاشْتِرَاكِ الْكُلِّ فِي الْأَلَمِ وَالْيَأْسِ مِنْ الْحَيَاةِ لَوَارِدٍ عَلَى النَّفْسِ مُمَلَّكٌ لَهَا فَلِذَلِكَ ذَكَرْنَا الْحَدَّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي حَقِيقَتِهَا لِيَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْجَمِيعِ فَالْحَقِيقَةُ وَاحِدَةٌ وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ وَاحِدٌ وَالصُّورَةُ مُخْتَلِفَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ تَفَاوُتًا كَثِيرًا أَعْلَى وَأَدْنَى وَأَوْسَطَ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 100] الْآيَةَ. فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ ذَلِكَ فِي الْهِجْرَةِ لَا فِي الْجِهَادِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ فِيهِ وُقُوعُ الْأَجْرِ لَا الِاسْمِ. وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ شَخْصًا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لِقَصْدِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْقِتَالِ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ كَمَا فِي الْمُهَاجِرِ وَهَلْ هُوَ كَالْمُجَاهِدِ حَقِيقَةً أَوْ دُونَهُ؟ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْكَلَامِ فِيهِ، وَلَكِنْ نَقُولُ فِيهِ إنَّهُ لَا يُسَمَّى شَهِيدًا وَلَا أَنَّهُ تَحْصُلُ لَهُ هَذِهِ الْحَالَةُ الَّتِي تَحْصُلُ لِلشَّهِيدِ مِنْ شُهُودِهِ الْكَرَامَةَ قَبْلَ مَوْتِهِ وَنَحْوَهَا؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَمْ تَرِدْ فِيهِ أَوْ تُسَمَّى سَنَذْكُرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّهَا لِلْمَقْتُولِ ظُلْمًا وَالْمَطْعُونِ وَالْمَبْطُونِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَأْتِي ذِكْرُهُ وَلِوُرُودِ النَّصِّ بِإِطْلَاقِ الِاسْمِ، وَدَعْ يَكُونُ الْمَيِّتُ فِي طَرِيقِ الْجِهَادِ أَكْثَرَ أَجْرًا إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَخَوَاصُّ الشَّهِيدِ لَا نُثْبِتُهَا إلَّا لِمَنْ وَرَدَ النَّصُّ بِإِطْلَاقِهَا عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَ أَكْثَرَ أَجْرًا أَمْ لَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَسَائِلَ لَهَا حُكْمُ الْمَقَاصِدِ وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ فِي رُتْبَتِهَا فَالْمُجَاهِدُ الَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ اسْمُ الشَّهِيدِ وَالْخَاصَّةُ الْحَاصِلَةُ لَهُ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ الشَّرِيفَةِ وَالْأَجْرُ الْحَاصِلُ فِي الْآخِرَةِ، وَاَلَّذِي خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ وَمَاتَ قَبْلَ بُلُوغِهَا يُشَارِكُهُ فِي أَصْلِ أَجْرِ الْجِهَادِ وَفَضْلِ الشَّهَادَةِ بِلَا شَكٍّ بِالْقِيَاسِ وَبِالْأَوَّلِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الْعَامَّةِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا مُسَاوَاتُهُ لَهُ فِي الْأَجْرِ فَفِيهِ نَظَرٌ قَدْ يُقَالُ: وَقَدْ يُتَوَقَّفُ فِيهِ وَلَا نَجْزِمُ بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّ فَضْلَ اللَّهِ وَاسِعٌ، وَأَمَّا وُقُوعُ اسْمِ الشَّهِيدِ عَلَيْهِ فَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ لَا تُؤْخَذُ بِالْقِيَاسِ وَأَمَّا ثُبُوتُ تِلْكَ الْحَالَةِ لَهُ فَالْأَمْرُ فِيهَا مُحْتَمَلٌ مِنْ بَابِ الْأَجْرِ الْمُرَتَّبِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ اسْمُ سَبَبِهَا. وَالْكَلَامُ فِيمَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ مِنْ قَلْبِهِ صَادِقًا
كَالْكَلَامِ فِي ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ سَأَلَ وَتَعَاطَى بَعْضَ السَّبَبِ أَعْلَى مِمَّنْ سَأَلَ فَقَطْ وَعُمَرُ حَصَلَ لَهُ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا سُؤَالُهُ الشَّهَادَةِ الْعُلْيَا وَالثَّانِي حُصُولُ الشَّهَادَةِ بِالْقَتْلِ حَقِيقَةً فَلَهُ أَجْرُ الثَّانِيَةِ حَقِيقَةً عَلَيْهَا وَلَهُ أَجْرُ الْأُولَى بِالْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ وَالسُّؤَالِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ سَأَلَ الشَّهَادَةَ الْعُلْيَا لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَإِنَّمَا يَقْصِدُ الْأَكْمَلَ لَكِنْ اكْتَفَى فِي اسْتِجَابَةِ دُعَائِهِ بِحُصُولِ الِاسْمِ وَسَأَلَ الْمَوْتَ فِي بَلَدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ شَيْءٌ ثَالِثٌ لِيَكُونَ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا، وَفِيهِ أَمْرٌ رَابِعٌ وَهُوَ أَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ لَمْ يَقْتُلْهُ لِأَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ بَلْ عَلَى الدِّينِ فَهُوَ كَقَتْلِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَيْسَ كَمَنْ قَتَلَهُ عَدُوٌّ لَهُ ظُلْمًا عَلَى عَدَاوَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ بَيْنَهُمَا وَإِنْ صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّهَادَةِ فَإِنَّ الشَّهِيدَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَعُمَرَ رضي الله عنه اشْتَرَكَا فِي أَنَّهُمَا إنَّمَا قُتِلَا لِقَصْدِهِمَا إعْلَاءَ كَلِمَةِ الدِّينِ وَإِظْهَارَ الدِّينِ وَقَاتِلُهُمَا قَصَدَ ضِدَّ ذَلِكَ وَإِخْفَاءَ دِينِ اللَّهِ فَهُوَ صَادٌّ عَلَى اللَّهِ.
وَهَذَا مَعْنَى آخَرُ لَمْ نَذْكُرْهُ فِيمَا تَقَدَّمَ فَيُتَنَبَّهُ لَهُ فِي الشَّهِيدِ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعْنَاهُ فِي طَرِيقٍ اسْتَعْمَلَهُ اللَّهُ فِيهَا نُصْرَةً لِدِينِهِ فَهُوَ عَبْدٌ سَارَ فِي طَرِيقِ سَيِّدِهِ لِتَنْفِيذِ أَمْرِهِ حَتَّى غَلَبَهُ عَدُوُّ سَيِّدِهِ لَا لِدَخَلٍ بَيْنَهُمَا بَلْ عَدَاوَةٌ لِلسَّيِّدِ أَلَيْسَ السَّيِّدُ يَغَارُ لَهُ وَاَللَّهُ أَشَدُّ غَيْرَةً وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِهِ صَادِقًا، ثُمَّ مَاتَ أَعْطَاهُ اللَّهُ أَجْرَ شَهِيدٍ» وَقَالَ أَيْضًا «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» .
إذَا عَرَفْت حَقِيقَةَ الشَّهَادَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ لَهَا أَسْبَابًا أَحَدُهَا: الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، الثَّانِي - أَسْبَابٌ أُخَرُ وَرَدَتْ فِي الْحَدِيثِ سَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَوَجَدْنَا فِي السَّبَبِ الْأَوَّلِ أُمُورًا لَيْسَتْ فِيهَا فَلَمَّا رَأَيْنَا الشَّارِعَ أَثْبَتَ اسْمَ الشَّهَادَةِ لِلْكُلِّ وَجَبَ عَلَيْنَا اسْتِنْبَاطُ أَمْرٍ عَامٍّ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْجَمِيعِ وَهُوَ الْأَلَمُ بِتَحَقُّقِ الْمَوْتِ بِسَبَبٍ خَارِجٍ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْمَرَاتِبُ وَانْضَمَّ إلَى بَعْضِهَا أُمُورٌ أُخَرُ.
وَأَمَّا الشُّرُوطُ فَأُمُورٌ: أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ قِتَالُهُ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِهِ يَتَحَقَّقُ الْمَعْنَى الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. وَاَلَّذِي قَاتَلَ شَجَاعَةً أَوْ رِيَاءً أَوْ حَمِيَّةً لَيْسَ قِتَالُهُ لِلَّهِ فَلَيْسَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَهَذَا مَقْطُوعٌ بِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى شَهِيدًا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ ذُكِرَا فِي مَعْنَى اسْمِ الشَّهِيدِ لَيْسَا فِيهِ وَالنَّصُّ لَمْ يَرِدْ بِتَسْمِيَتِهِ وَإِنَّمَا نَحْنُ نَظُنُّهُ فِي الظَّاهِرِ شَهِيدًا لِعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى فَسَادِ نِيَّتِهِ فَحِينَئِذٍ الشَّهِيدُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه: أَسْأَلُكَ شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ.
لَا يَكُونُ قَوْلُهُ فِي سَبِيلِكَ تَقْيِيدًا بَلْ إيضَاحًا وَيُحْتَمَلُ عَلَى بُعْدٍ أَنَّ كُلَّ قَتِيلٍ يُسَمَّى شَهِيدًا وَحِينَئِذٍ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ وَيَكُونُ ذِكْرُ السَّبِيلِ تَقْيِيدًا لَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا، وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ الشُّهَدَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: شَهِيدٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَشَهِيدٌ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ وَعَكْسُهُ، وَذَكَرُوا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي الْمُقَاتِلَ رِيَاءً وَالْمُدْبِرَ وَالْغَالَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَأَمَّا الْمُقَاتِلُ رِيَاءً فَلَيْسَ قِتَالُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِشَهِيدٍ وَإِنْ حَكَمْنَا لَهُ فِي الدُّنْيَا بِأَحْكَامِ الشَّهِيدِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ شَهِيدٌ وَلَا أَجْرَ لَهُ.
وَأَمَّا الْمُدْبِرُ وَالْغَالُّ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَحِبَ نِيَّتَهُمَا فِي طَلَبِ إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ عَرَضَ لَهُمَا الْإِدْبَارُ وَالْغُلُولُ وَهُمَا مِنْ الْمَعَاصِي فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُمَا أَجْرُ الشَّهِيدِ وَعَلَيْهِمَا وِزْرُ الْإِدْبَارِ وَالْغُلُولِ وَسَنُعِيدُ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالشَّهِيدُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَقُتِلَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا غَيْرَ غَالٍّ فَحُكْمُهُ فِي الدُّنْيَا أَحْكَامُ الشُّهَدَاءِ لَا يُغَسَّلُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَفِي الْآخِرَةِ لَهُ أَجْرُ الشُّهَدَاءِ، وَالشَّهِيدُ فِي الْآخِرَةِ لَا فِي الدُّنْيَا: الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَغَيْرُهُمَا مِمَّا سَيَأْتِي يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الشُّهَدَاءِ فِي الدُّنْيَا لَكِنَّ فِي الْآخِرَةِ لَهُمْ أَجْرَ الشُّهَدَاءِ، الشَّرْطُ الثَّانِي عَدَمُ الْغُلُولِ قَدْ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَأَشَرْنَا إلَى التَّوَقُّفِ فِي أَنَّهُ شَرْطٌ لِلشَّهَادَةِ أَوْ لِحُصُولِ الْأَجْرِ عَلَيْهِمَا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ الْكَامِلِ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] قِيلَ: فِي التَّفْسِيرِ حَامِلًا لَهُ عَلَى ظَهْرِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 162] قِيلَ: فِي التَّفْسِيرِ أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ مِنْ تَرْكِ الْغُلُولِ وَبِالصَّبْرِ عَلَى الْجِهَادِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ بِالْكُفْرِ أَوْ
بِالْغُلُولِ أَوْ بِالتَّوَلِّي عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ وَفِرَارِهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْحَرْبِ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ رحمه الله مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ» الْحَدِيثَ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما وَهُوَ ابْنُ الْعَاصِ قَالَ «كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: كِرْكِرَةُ فَمَاتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ فِي النَّارِ فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا» . وَعَنْهُ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَصَابَ غَنِيمَةً أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ فَيُخَمِّسُهُ فَيَقْسِمُهُ فَجَاءَ رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِزِمَامٍ مِنْ شَعْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا فِيمَا كُنَّا أَصَبْنَاهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ قَالَ أَسَمِعْتَ بِلَالًا قَالَ نَعَمْ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاعْتَذَرَ، فَقَالَ كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَنْ أَقْبَلَهُ عَنْك» . صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
وَخَبَرُ مِدْعَمٍ فِي خَيْبَرَ مَشْهُورٌ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ الْغَنَائِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا» . وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ «رَجُلًا تُوُفِّيَ يَوْمَ خَيْبَرَ فَذَكَرُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ صَلُّوا عَلَيْهِ فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ النَّاسِ لِذَلِكَ فَقَالَ: إنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا خَرَزًا مِنْ خَرَزِ الْيَهُودِ لَا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ» ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إذَا وَجَدْتُمْ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ» فَوُجِدَ فِي مَتَاعِ غَالٍّ مُصْحَفٌ فَقَالَ سَالِمٌ بِعْهُ وَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ، وَقِيلَ: إنَّ الْخُلَفَاءَ مَنَعُوا الْغَالَّ سَهْمَهُ مِنْ الْمَغْنَمِ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْغُلُولُ عَظِيمٌ؛ لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ لِلَّهِ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْنَا مِنْ عِنْدَهُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] فَمَنْ غَلَّ فَقَدْ عَانَدَ اللَّهَ، وَإِنَّ الْمُجَاهِدِينَ تَقْوَى نُفُوسُهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَالثَّبَاتِ فِي مَوَاقِفِهِمْ عِلْمًا مِنْهُمْ أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُقَسَّمُ عَلَيْهِمْ فَإِذَا غُلَّ مِنْهَا خَافُوا أَنْ لَا يَبْقَى مِنْهَا نَصِيبُهُمْ فَيَفِرُّونَ إلَيْهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ تَخْذِيلًا لِلْمُسْلِمِينَ وَسَبَبًا لِانْهِزَامِهِمْ كَمَا جَرَى لَمَّا ظَنُّوا يَوْمَ أُحُدٍ فَلِذَلِكَ عَظُمَ قَدْرُ الْغُلُولِ، وَلَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْخِيَانَةِ وَالسَّرِقَةِ وَسُمِّيَ غُلُولًا؛ لِأَنَّ الْأَيْدِيَ فِيهِ مَغْلُولَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ يُؤْخَذُ فِي خِفْيَةٍ وَأَصْلُهُ الْغَلَلُ وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي تَحْتَ الشَّجَرِ لِخَفَائِهِ وَمِنْهُ غِلُّ الصَّدْرِ. انْتَهَى مَا قَالَهُ
الْعُلَمَاءُ.
وَلَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِحْبَاطِهِ جِهَادَهُ وَمَنْعِهِ مِنْ دَرَجَةِ الشَّهَادَةِ لَكِنْ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْكَمَ لَهُ بِدَرَجَةِ الشَّهَادَةِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَالْفُقَهَاءُ جَعَلُوهُ شَهِيدًا فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا مَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ مِنْ حَالِهِ وَكَانَ خَفِيًّا فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ مَا قَالُوهُ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ بِشَهِيدٍ فِي الْآخِرَةِ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَا يُعْصَمُ مِنْ النَّارِ فَصَحِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ لِتَصْرِيحِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِهِ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ثَوَابِ الشُّهَدَاءِ بَعْدَ أَخْذِهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْعَذَابِ فَفِيهِ نَظَرٌ إذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ صَادِقَةً إلَّا أَنْ يَرِدَ نَصٌّ مِنْ الشَّارِعِ يَقْتَضِي إخْرَاجَهُ، وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» نَصًّا ضَابِطًا فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصِدُهُ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ لَا فَلَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصِدُهُ غَيْرَ إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ شَهِيدًا غَلَّ أَوْ لَمْ يَغُلَّ صَبَرَ أَوْ لَمْ يَصْبِرْ احْتَسَبَ أَوْ لَمْ يَحْتَسِبْ. هَذَا الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَإِنْ كَانَ الصَّابِرُ الْمُحْتَسِبُ غَيْرُ الْغَالِّ أَكْمَلَ وَأَعْظَمَ أَجْرًا. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَةٍ خَطَبَهَا: تَقُولُونَ فِي مَغَازِيكُمْ فُلَانٌ قُتِلَ شَهِيدًا وَلَعَلَّهُ قَدْ أَوْقَرَ دَابَّتَهُ غُلُولًا لَا تَقُولُوا ذَلِكَ وَلَكِنْ قُولُوا مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ عُمَرَ مُحْتَمِلٌ لَأَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ لَا يُبَالِغُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: إنَّمَا الشَّهِيدُ الَّذِي لَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ يَعْنِي الَّذِي يَمُوتُ عَلَى فِرَاشِهِ مَغْفُورًا لَهُ. وَهَذَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه شَدِيدٌ.
وَأَمَّا الَّذِي قِيلَ فِيهِ: مَا أَجْزَأَ أَحَدٌ مِنَّا الْيَوْمَ مَا أَجْزَأَ فُلَانٌ قَوْلَ فُلَانٍ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ «أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» وَقَتَلَ نَفْسَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اطَّلَعَ عَلَى حَالِهِ بِنِفَاقٍ أَوْ سُوءِ خَاتِمَةٍ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلِذَلِكَ قَالَ إنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّهُ يَشْعُرُ بِالْخُلُودِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي مِدْعَمٍ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا لَمَّا كَانَتْ مَعْصِيَةٌ اخْتَصَّ عَذَابُهَا بِسَائِرِ الْبَدَنِ.
(الشَّرْطُ الثَّانِي) الصَّبْرُ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنِّي خَطَايَايَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعَمْ
فَلَمَّا أَدْبَرَ الرَّجُلُ نَادَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ كَيْفَ قُلْتَ فَأَعَادَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَعَمْ إلَّا الدَّيْنَ كَذَلِكَ قَالَ لِي جِبْرِيلُ عليه السلام» . هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فَقَالَ فِيهِ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ قُتِلْتُ كَفَّرَ اللَّهُ عز وجل بِهِ خَطَايَايَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ كَفَّرَ اللَّهُ عز وجل خَطَايَاكَ إلَّا الدَّيْنَ كَذَلِكَ قَالَ لِي جِبْرِيلُ» وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَهُوَ يَدُلُّ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ يَنْتَفِي الْحُكْمُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ بِخِلَافِ رِوَايَةِ مَالِكٍ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي الِاشْتِرَاطِ حَيْثُ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الصَّحَابِيِّ لَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِرِوَايَةِ مَالِكٍ فَلَا إشْكَالَ.
وَإِنْ أَخَذْنَا بِرِوَايَةِ اللَّيْثِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» مَنْطُوقٌ وَالْمَنْطُوقُ يُقَدَّمُ عَلَى الْمَفْهُومِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَوْعُودَ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَكْفِيرُ الْخَطَايَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ كَوْنِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَهَذَا أَصَحُّ الْأَجْوِبَةِ وَبِهِ يُعْرَفُ أَنَّ دَرَجَاتِ الشُّهَدَاءِ مُتَفَاوِتَةٌ فَاَلَّذِي يُقْطَعُ بِتَكْفِيرِ الْخَطَايَا لَهُ غَيْرُ الدَّيْنِ هُوَ الَّذِي جَمَعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَدْ يُغْفَرُ لَهُ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: جَوَابٌ ثَالِثٌ أَنَّ الْمَفْهُومَ يُخَصِّصُ الْعُمُومَ وَلَكِنْ لَا ضَرُورَةَ إلَى هَذَا، وَقَوْلُهُ مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُقْبِلُ فِي وَقْتٍ وَيُدْبِرُ فِي وَقْتٍ فَهَذَا الْحُكْمُ إنَّمَا يَثْبُتُ لِمَنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ إدْبَارٌ أَصْلًا. نَعَمْ قَدْ يُقَالُ إنَّ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ مَنْصُوبَتَانِ عَلَى الْحَالِ فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ كَوْنُهُ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ حَالَ الْقَتْلِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرُ الْإِقْبَالُ وَالْإِدْبَارُ بِمَا لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا إمَّا بِأَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يُقْبِلُ بِقَلْبِهِ وَبَدَنِهِ وَنِيَّتِهِ لَا يَكُونُ لَهُ الْتِفَاتٌ إلَى مَا سِوَى ذَلِكَ لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَآلِ أَوْ يَكُونُ تَأْكِيدًا وَهَكَذَا ذَكَرَ الصَّبْرَ مَعَهُمَا.
الظَّاهِرُ أَنَّهُ لِبَيَانِ مَا قُلْنَاهُ مِنْ الْإِقْبَالِ بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَإِنَّ الشَّخْصَ قَدْ يَكُونُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَدُوِّ بِصُورَتِهِ وَفِي قَصْدِهِ أَنْ يَنْهَزِمَ فَلَا يَكُونُ صَابِرًا وَلَوْ قُتِلَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا يَكُونُ شَهِيدًا وَلَا يَكُونُ قَتْلُهُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَمَتَى كَانَ مُقْبِلًا بِصُورَتِهِ وَقَلْبِهِ فَهُوَ صَابِرٌ وَلَا يَضُرُّهُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَجِدَ أَلَمًا فِي قَلْبِهِ أَوْ كَرَاهِيَةً لِلْمَوْتِ وَفِرَاقِ الْأَهْلِ لَا يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي اشْتِرَاطِ الصَّبْرِ فِي الثَّوَابِ عَلَى الْمَصَائِبِ وَلَهُ هُنَاكَ وَجْهٌ وَأَمَّا هُنَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ فَالصَّبْرُ عَلَى فِعْلِهَا بِشُرُوطِهَا كَالصَّبْرِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا وَحَسُنَ ذِكْرُهُ فِي الْجِهَادِ لِمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ أَنَّ الشَّخْصَ قَدْ يَحْضُرُ الصَّفَّ وَفِي قَصْدِهِ الْفِرَارُ فَلَيْسَ صَابِرًا نَفْسَهُ فَالصَّبْرُ بِهَذَا الْمَعْنَى شَرْطٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ وَبِغَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُشْتَرَطُ.
(الشَّرْطُ الثَّالِثُ) الِاحْتِسَابُ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَنْوِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَيَعْتَدّهُ وَسِيلَةً لِثَوَابِ اللَّهِ وَهَذَا حَاصِلٌ بِقَوْلِهِ «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ هُنَا وَلَمْ يَذْكُرْهُ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَلَامُهُ صلى الله عليه وسلم مُرَادٌ بِهِ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فَالْمُرَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا صُورَةً وَمَعْنًى وَهُنَا مِنْ كَلَامِ السَّائِلِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ يَقْصِدُ بِهِ صُورَةَ السَّبِيلِ، وَكُلُّ مَنْ قَاتَلَ الْكُفَّارَ فِي صَفِّ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فِي الصُّورَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَجَابَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِاشْتِرَاطِ الصَّبْرِ وَالِاحْتِسَابِ لِيَكُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صُورَةٌ وَمَعْنًى.
(الشَّرْطُ الرَّابِعُ) أَنْ يَكُونَ مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الشُّرُوطَ وَلِنُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ هُنَا مَقَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا كَوْنُ الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ دَائِرٌ مَعَ كَوْنِ الْقِتَالِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وُجُودًا وَعَدَمًا سَوَاءٌ رَجَعَ الْمُقَاتِلُ إلَى بَيْتِهِ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ سَالِمًا أَمْ لَا سَوَاءٌ اُسْتُشْهِدَ أَوْ لَا دَامَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ أَمْ لَا فَقَدْ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ ثُمَّ يَتَغَيَّرُ حَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ.
وَهَلْ يَخْرُجُ قِتَالُهُ الْمَاضِي عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ يَنْبَنِي عَلَى إحْبَاطِ الْعَمَلِ وَالْكَلَامُ فِيهِ مُبَيَّنٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ لِحُكْمِ الْقِتَالِ.
الْمَقَامُ الثَّانِي كَوْنُ الْمَقْتُولِ شَهِيدًا تُكَفَّرُ خَطَايَاهُ، وَقَدْ تَعَرَّضَ الْحَدِيثُ الثَّانِي الَّذِي فِيهِ تَكْفِيرُ الْخَطَايَا لِذَلِكَ فَأَفْهَمَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ عَلَيْكَ، وَقَدْ يَنْتَهِي الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَى الْقَتْلِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَقَدْ لَا يَنْتَهِي إلَى ذَلِكَ بِأَسْبَابٍ
كَثِيرَةٍ. وَقَدْ تَلَخَّصَ أَنَّ كُلَّ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْقِتَالِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ فَهُوَ شَهِيدٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ فَهُوَ شَهِيدٌ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا.
وَقَدْ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ قِتَالٌ بَلْ يَكُونُ مُتَهَيِّئًا لَهُ فَكَثِيرًا مَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ لِمَنْ يَكُونُ فِي الصَّفِّ فَهَذَا شَهِيدٌ مَحْمُودٌ وَإِنْ لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَاتَلَ بِالْفِعْلِ بَلْ بِالْقُوَّةِ وَالشَّهَادَةُ بِالْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ فِي هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي شَرَحْنَاهُ وَفِي الْمَعْنَى الْبَاطِنِ هِيَ شَهَادَتُهُ بِقَلْبِهِ وَبَصَرِهِ كَرَامَةُ اللَّهِ لَهُ وَشَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ بِحُضُورِهِمْ عِنْدَهُ عَلَى هَيْئَةِ الْإِكْرَامِ وَشَهَادَتِهِ لَهُ بِالْخَيْرِ وَإِكْرَامِهِ لَهُ كَمَا حَصَلَ لِبَعْضِ الشُّهَدَاءِ مِنْ تَظْلِيلِهِ بِأَجْنِحَتِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى رُفِعَ وَشَهَادَةُ الدَّمِ عَلَيْهِ وَتَأَهَّلَ لِهَذِهِ الْكَرَامَةِ بِأَنَّهُ بَذَلَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ وَوَلَدَهُ وَكُلَّ مَنْ يُحِبُّهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِنُصْرَةِ دِينِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَإِعْزَازِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَخِذْلَانِ الْكُفْرِ وَأَهْلِهِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَتَجَرُّؤُ عَدُوِّ اللَّهِ عَلَيْهِ تَجَرُّؤٌ عَلَى اللَّهِ وَصَدًّا لَهُ عَنْ إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَقَطْعًا لِسَبِيلِهِ، وَالْجِنَايَةِ عَلَى عَبِيدِهِ فَجَازَاهُ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْمِيتَةِ بِحَيَاةِ الْأَبَدِ وَجَعَلَهُ حَيًّا بَاقِيًا مَرْزُوقًا فَرِحًا مُسْتَبْشِرًا آمِنًا.
وَاخْتِصَارُ هَذَا الَّذِي يُكْتَبُ فِي الْفَتْوَى أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَقِيقَتُهَا مَوْتُ الْمُسْلِمِ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ قِتَالِهِمْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، وَيُغْنِي عَنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْأَرْبَعَةِ قَاصِدًا إعْلَاءَ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَرَفَهَا لِبَذْلِ نَفْسِهِ لِلَّهِ فِي إعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَقَتْلِ عَدُوٍّ لِلَّهِ لَهُ دُونَ الْوُصُولِ دُونَ ذَلِكَ؛ وَأَمَّا بَقِيَّةُ الصُّوَرِ فَشَارَكَتْ هَذِهِ الصُّوَرَ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَعَانِي كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
وَأَمَّا النَّتِيجَةُ فَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَهَا فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إلَّا الدَّيْنَ» وَفِيهِ أَيْضًا «الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الدَّيْنَ» وَفِيهِ «أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَ، ثُمَّ تَأْوِي إلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ» وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَأَمَّا الدَّيْنُ فَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " إلَّا الدَّيْنَ " فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى جَمِيعِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَإِنَّمَا تُكَفَّرُ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " نَعَمْ "، ثُمَّ قَالَ " إلَّا الدَّيْنَ " فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أُوحِيَ بِهِ إلَيْهِ فِي الْحَالِ
هَذَا كَلَامُ النَّوَوِيِّ رحمه الله.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِذْكَارِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: إنَّ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ لَا يُكَفِّرُ تَبَاعَاتِ الْآدَمِيِّينَ وَإِنَّمَا يُكَفِّرُ مَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ مِنْ كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِ إلَّا الدَّيْنَ الَّذِي هُوَ مِنْ حُقُوقِ بَنَى آدَمَ وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَتْبَعُهُ بِمَظْلِمَةٍ» وَذَكَرَ أَحَادِيثًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ قَالَ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْفِقْهِ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَهُ فِي الدُّنْيَا يَنْفَعُهُ فِي آخِرَتِهِ.
ثُمَّ قَالَ: هَذَا كُلُّهُ كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الدَّيْنِ قَبْلَ أَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَاتِ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى سُورَةَ {بَرَاءَةٌ} [التوبة: 1] وَفِيهَا الزَّكَاةُ قَالَ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ عِيَالًا فَعَلَيَّ» فَكُلُّ مَنْ مَاتَ وَقَدْ أُدَانَ دَيْنًا فِي مُبَاحٍ وَلَمْ يَقْدِرْ إلَى أَدَائِهِ فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ أَوْ مِنْ الصَّدَقَاتِ كُلِّهَا إنْ جَوَّزَ وَضْعَهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ، وَمِنْ الْفَيْءِ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «وَعَلَيَّ قَضَاؤُهَا» يُحْتَمَلُ إذَا لَمْ يَتْرُكْ مَالًا وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ عُمُومُهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمَيِّتَ الْمُسْلِمَ كَانَ قَدْ وَجَبَتْ لَهُ حُقُوقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْفَيْءِ وَغَيْرِهِ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ دَيْنَهُ وَيُخْلِصَ مَالَهُ لِوَرَثَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ الْغَرِيمُ أَوْ السُّلْطَانُ وَقَعَ الْقِصَاصُ بَيْنَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ يُحْبَسْ عَنْ الْجَنَّةِ بِدَيْنٍ لَهُ مِثْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ أَوْ عَلَى غَرِيمٍ جَحَدَ وَلَمْ يَثْبُتْ مَا عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ أَكْثَرَ مِمَّا لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ أَوْ عَلَى الْغَرِيمِ وَلَمْ تَفِ بِذَلِكَ حَسَنَاتُهُ فَيُحْبَسُ عَنْ الدَّيْنِ بِسَبَبِهِ وَمُحَالٌ أَنْ يُحْبَسَ عَنْ الْجَنَّةِ مَنْ لَهُ مَالٌ يَفِي بِمَا عَلَيْهِ عِنْدَ سُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ حَسَنٌ فِيمَنْ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ نَظِيرُ الَّذِي عَلَيْهِ وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ كَذَلِكَ وَفِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حُكْمٌ مُبْتَدَأٌ، وَاَلَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ تَنْبِيهٌ حَسَنٌ فِيمَنْ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَنَبَّهَ الْأَئِمَّةُ الْعَادِلُونَ لِذَلِكَ بَلْ وَالْقُضَاةُ الَّذِينَ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ الزَّكَاةُ وَمِنْهَا سَهْمُ الْغَارِمِينَ.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هَذَا فِيمَنْ لَهُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ وَأَتْلَفَهُ عَلَى رَبِّهِ عَنْ عِلْمٍ أَوْ ذِمَّةٍ وَمَلَّاهُ وَاسْتَدَانَهُ
فِي غَيْرِ وَاجِبٍ وَتَحْذِيرٍ أَوْ فَسَدَ بِهِ الْمَرْءُ فَسَارِعْ فِي إتْلَافِ مَالٍ بِهَذَا الْوَجْهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ قَوْلِهِ «مَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ» .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَذِكْرُهُ الدَّيْنَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْغَصْبِ وَأَخْذِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَقَتْلِ الْعَمْدِ وَجِرَاحَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّبَاعَاتِ لَكِنْ هَذَا إذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ مَعَ تَمَكُّنِهِ أَمَّا إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ سَبِيلًا فَالْمَرْجُوُّ مِنْ كَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى إذَا صَدَقَ فِي قَصْدِهِ وَصَحَّتْ نِيَّتُهُ أَنْ يُرْضِيَ اللَّهُ تَعَالَى خُصُومَهُ عَنْهُ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَنْ أَشَارَ إلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الدُّنْيَوِيَّةَ هِيَ الَّتِي تُنْسَخُ وَالْحَدِيثُ إنَّمَا تَعَرَّضَ لِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ.
وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ قَضَى دَيْنَ مَنْ مَاتَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَانَ خَاصًّا بِهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي النَّوَادِرِ أَنَّ التَّشْدِيدَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الدَّيْنِ كُلَّهَا مَنْسُوخَةٌ إلَّا مَنْ أَدَانَ فِي سَرَفٍ أَوْ فَسَادٍ، وَذُكِرَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَاسْتُدِلَّ بِأَنَّهُ «قِيلَ: لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فَمَنْ لَنَا بَعْدَك قَالَ يَأْخُذُ اللَّهُ الْوُلَاةَ لَكُمْ بِمِثْلِ مَا يَأْخُذُكُمْ بِهِ» . هَذَا كَلَامُ الْمَالِكِيَّةِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابُنَا قَضَاءَ دَيْنِ مَنْ مَاتَ قَادِرًا وَإِنَّمَا ذَكَرُوا قَضَاءَ دَيْنِ الْمَيِّتِ الْمُعْسِرِ وَأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقِيلَ: كَانَ يَقْضِيهِ تَكَرُّمًا لَا وُجُوبًا، وَهَلْ عَلَى الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ قَضَاءُ دَيْنِ الْمُعْسِرِينَ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُسَاعِدُ الْمَالِكِيَّةَ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْإِرْضَاءُ بِالْحَسَنَاتِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ فَيَقْتَضِي تَارَةً تَأَخُّرَ دُخُولِ الشَّهِيدِ الْجَنَّةَ حَتَّى يَرْضَى خَصْمُهُ وَلَا يَمْتَنِعُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَنْعَمَ رُوحُهُ فِي غَيْرِ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، نَعَمْ إذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ خَصْمِهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ وَاقْتَضَى ذَلِكَ دُخُولَ النَّارِ، هَلْ نَقُولُ إنَّهُ يَدْخُلُ وَإِنْ كَانَ شَهِيدًا وَإِذَا دَخَلَ وَلَمْ يَرْضَ صَاحِبُهُ إلَّا بِالدَّيْنِ كَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ؟ اللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَعَلَّ اللَّهَ يُرْضِي خَصْمَهُ بِمَا شَاءَ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ هَكَذَا حُكْمُ تَبِعَاتِ الْآدَمِيِّينَ.
أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهَا تُغْفَرُ كُلُّهَا بِالشَّهَادَةِ وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ فَالْمُعْتَقَدُ ذَلِكَ لَكِنَّا لَانْقَطَعَ بِعَدَمِ دُخُولِهِ النَّارَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ دَلَالَةَ الْعُمُومِ ظَنِّيَّةٌ عِنْدَ
أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الشَّهَادَةَ سَبَبٌ قَوِيٌّ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ النَّارِ كَقَوْلِهِ «مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» وَنَحْوُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَمَعْنَاهُ مَا لَمْ يُعَارِضْ مُعَارِضٌ فَقَدْ تُعَارِضُ كَبَائِرُ أُخْرَى عَظِيمَةٌ تَمْنَعُ الْبِدَارَ إلَى ذَلِكَ هَذَا بِدُونِ مَظَالِمِ الْعِبَادِ أَمَّا مَعَ مَظَالِمِ الْعِبَادِ فَظَنُّ النَّجَاةِ مِنْ النَّارِ أَضْعَفُ وَإِنْ كَانَ يَقْوَى فِيهِ أَيْضًا بَعْدَ إرْضَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ خُصُومَ الشَّهِيدِ وَنَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَعِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِآدَمِيٍّ.
(فَرْعٌ) جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «مَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ تَمَنِّي هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا أُعْطِيَهَا وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ» وَفِيهِ أَيْضًا «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» وَاَلَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّ اللَّهَ يُعْطِيهِ مَرْتَبَةَ الشُّهَدَاءِ لِقَصْدِهِ وَسُؤَالِهِ وَعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْوُصُولِ إلَيْهَا وَلِلْمَرْءِ فِيمَا يَنْوِيهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا أَنْ يُمْكِنَهُ الْفِعْلُ فَيُؤْجَرُ عَلَى نِيَّتِهِ أَجْرًا دُونَ أَجْرِ الْفِعْلِ. الثَّانِيَةُ أَنْ يَتَقَدَّمَ لَهُ عَادَةٌ بِهِ فَكُتِبَ لَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا» وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَرَضِ أَوْ السَّفَرِ هُوَ الَّذِي مَنَعَهُ. الثَّالِثَةُ أَنْ لَا تَصِلَ قُدْرَتُهُ إلَيْهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّ طَالِبَ الشَّهَادَةِ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهَا فَقَدْ فَعَلَ مَا فِي وُسْعِهِ فَإِذَا قُطِعَ عَنْهُ أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ سِعَةِ فَضْلِهِ ذَلِكَ لَكِنَّهُ لَا يُسَمَّى شَهِيدًا فِي الْعُرْفِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُسَمَّى حَتَّى لَوْ حَلَفَ حَالِفٌ لَيُصَلِّيَنَّ عَلَى شَهِيدٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ بَرَّ.
وَالْكَلَامُ فِي هَذَا كَالْكَلَامِ فِي «أَنَّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ لَمْ يَحْصُلْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَعَانِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَإِلْحَاقُهَا بِهَا إنَّمَا هُوَ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ وَلَا بِمَعْنًى جَامِعٍ غَيْرِ الِاشْتِرَاكِ النِّيَّةِ، وَنِيَّةُ الْمَرْءِ أَبْلَغُ مِنْ عَمَلِهِ. وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ وَوَفَاةً بِبَلَدِ رَسُولِكَ صلى الله عليه وسلم. كَذَا رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَهِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ فِي مَدِينَةِ رَسُولِكَ صلى الله عليه وسلم -
وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الشَّهَادَةُ فِي الْمَدِينَةِ كَمَا وَقَعَ وَالْأَوَّلُ لَا يَقْتَضِي فِي الْمَدِينَةِ إلَّا الْوَفَاةَ وَقَدْ تَتَقَدَّم الشَّهَادَةُ فِي غَيْرِهَا وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُولُ الشَّهَادَةَ فِي الْجِهَادِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ طَعْنَ أَبِي لُؤْلُؤَةَ قَائِمًا مَقَامَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَأَلَ مُطْلَقَ الشَّهَادَةِ فَحَصَلَ مَا سَأَلَهُ بِحَقِيقَتِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ شَهِيدٌ حَقِيقَةً فَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم «فَمَا عَلَيْكَ إلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ» وَالْمُرَادُ بِالشَّهِيدِ عُمَرُ رضي الله عنه وَفِي رِوَايَةٍ شَهِيدَانِ وَالْمُرَادُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ فَشَهَادَتُهُ رضي الله عنه حَقِيقِيَّةٌ بِطَعْنِ أَبِي لُؤْلُؤَةَ لَهُ وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الشَّهَادَاتِ تَالِيَةً لِشَهَادَةِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَاهَا فَإِنَّ أَبَا لُؤْلُؤَةَ كَافِرٌ مَجُوسِيٌّ إنَّمَا قَتَلَ عُمَرًا لِقِيَامِ عُمَرَ فِي دِينِ اللَّهِ أَعْظَمَ مِنْ قِيَامِ الْمُجَاهِدِينَ فَكَانَ فِي مَعْنَى الصُّورَةِ الْأُولَى سَوَاءٌ وَيَحْصُلُ لَهُ مَعَ ذَلِكَ أَجْرُ سُؤَالِهِ الشَّهَادَةِ وَمَعَ ذَلِكَ غُسِّلَ وَصُلِّي عَلَيْهِ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الشُّهَدَاءِ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّمَا هُوَ شَهِيدٌ فِي الْآخِرَةِ. وَبَقِيَ هُنَا بَحْثَانِ (أَحَدُهُمَا) اسْتَشْكَلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ سُؤَالَ الشَّهَادَةِ وَهِيَ قَتْلُ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ وَقَتْلُ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ مَعْصِيَةٌ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ قَدْ تَحْصُلُ فِي الْحَرْبِ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْقِتَالِ غَيْرِ تَعَمُّدِ الْكَافِرِ أَوْ قَتْلِهِ.
وَالثَّانِي أَنَّ الشَّهَادَةَ لَهَا جِهَتَانِ: إحْدَاهُمَا حُصُولُ تِلْكَ الْحَالَةِ الشَّرِيفَةِ فِي رِضَا اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ الْمَسْئُولَةُ وَالثَّانِيَةُ قَتْلُ الْكَافِرِ وَهُوَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَقْتُولٌ مِنْهُ فِي حِينِ جَاءَ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ. (الْبَحْثُ الثَّانِي) التَّمَنِّي بِمِثْلِ ذَلِكَ جَائِزٌ بَلْ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى قَدَّمْنَا تَمَنِّي الشَّهِيدِ فِي الْآخِرَةِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا وَهُوَ دَلِيلٌ لِجَوَازِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِيلًا وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ التَّمَنِّي فِي مِثْلِ قَوْلِهِ {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32] وَفِي الْأَحْكَامِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَلَوْلَا أَنَّ التَّمَنِّي حَرَامٌ لَتَمَنَّيْنَا هَذَا هَكَذَا يَعْنِي فِي أَنَّ الْعَرَبَ يَسْتَرِقُونَ فَلَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَمَنَّى أَنَّ الْخَمْرَ لَمْ يُحَرَّمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ. (الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ) الطَّاعُونُ نَسْأَلُ اللَّهُ الْعَافِيَةَ وَالسَّلَامَةَ. رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ»