المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَلَا صَحَّ عَنْهُ وَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَيُثَابُ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَلَى - فتاوى السبكي - جـ ٢

[تقي الدين السبكي]

فهرس الكتاب

- ‌[وَاقِفٍ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى الْجِهَاتِ وَالْوُجُوهِ وَالْمَصَالِحِ]

- ‌[خَاتِمَةٌ فِي نَقْضِ الْقَضَاءِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَقْفٌ شَرَطَ وَاقِفُهُ النَّظَرَ لِلْأَرْشَدِ فَالْأَرْشَدِ مِنْ نَسْلِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فُرُوعٌ مُهِمَّةٌ مِنْ كِتَابِ الْوَقْفِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ]

- ‌[فَرَعٌ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْوَقْفِ الْقَبُولُ]

- ‌[فَرْعٌ الْوَقْفُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ قَطْعًا وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ الْقَبُولُ]

- ‌[فَرْعٌ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ]

- ‌[فَرْعٌ وَقَفَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ]

- ‌[فَرْعٌ مَنْ قَالَ وَقَفْت دَارِي هَذِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ بَعْدَ مَوْتِي]

- ‌[فَرْعٌ التَّرْتِيبُ فِي الْمَصَارِفِ لَا فِي أَصْلِ الْوَقْفِ]

- ‌[فَرْعٌ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْأَكْلِ مِنْ الْأَوْقَافِ هَذَا الزَّمَانِ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْ فَوَّضَ الْوَاقِفُ النَّظَرَ إلَيْهِ فِي وَقْفٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ هَلْ تَوْلِيَةُ التَّدْرِيسِ وَمَا أَشْبَهَهُ لِلنَّاظِرِ الْخَاصِّ أَوْ لِلْحَاكِمِ]

- ‌[فَصْل الْفَرْقِ بَيْنَ أَوْقَافِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ الَّتِي تَحْتَ نَظَرِ الْحُكْمِ]

- ‌[فَصْلٌ مَوْقِفَ الرُّمَاةِ فِي وَقْفِ حَمَاةَ]

- ‌[بَابُ الْهِبَة]

- ‌[كِتَابُ الْفَرَائِضِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي عِتْق السَّائِبَةِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ الْوَلَاء لَا يُوَرَّثُ بِهِ]

- ‌[الْفَصْلُ الرَّابِع وَالْخَامِس ابْن الْمُعْتِقِ يَرِثُ بِالْوَلَاءِ فَإِن كَانَ للمعتق أب وإبن]

- ‌[الْفَصْلُ السَّادِسُ خَلَّفَ الْعَتِيقُ بِنْتَ الْمُعْتِقِ وَعَصَبَةَ الْمُعْتِقِ]

- ‌[كِتَابُ الْوَصَايَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَوْصَى إذَا هُوَ مَاتَ فَالدَّارُ الَّتِي يَسْكُنُهَا تُكْرَى بِسِتَّةَ عَشَرَ كُلِّ شَهْرٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَوْصَى أَنْ تُكَمَّلَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ عِمَارَةُ مَسْجِدٍ وَصِهْرِيجٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَوْصَى إلَى شَخْصٍ عَلَى أَوْلَادِهِ]

- ‌[فَصْلٌ أَوْصَتْ إلَى فُلَانٍ أَنْ يَحْتَاطَ عَلَى تَرِكَتِهَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَوْصَى بِمَالِهِ كُلِّهِ]

- ‌[بَابُ الْوَدِيعَةِ]

- ‌[بَابُ قَسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ وَالصَّدَقَاتِ]

- ‌[كِتَابُ النِّكَاحِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَسْلَمَ الْحُرُّ عَلَى أَرْبَعِ إمَاءٍ وَأَسْلَمَ مَعَهُ ثِنْتَانِ وَتَخَلَّفَ ثِنْتَانِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التَّسَرِّي بِالْجَوَارِي]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَالَ وَالِد الطِّفْلَة لِوَالِدِ الطِّفْل زَوَّجْت ابْنَتِي مِنْ ابْنِك قَالَ قَبِلْت]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَزَالَ بَكَارَةَ زَوْجَتِهِ بِأُصْبُعِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّدَاقِ]

- ‌[مَسْأَلَةُ أَعْسَرَ بِبَعْضِ الصَّدَاقِ وَلَمْ تَقْبِضْ مِنْهُ شَيْئًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَقْوِيم الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهِمَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمَنْكُوحَة إنْ كَانَ الْعَيْبُ بِهَا وَفَسَخَ الزَّوْجُ قَبْلَ الْمَسِيسِ]

- ‌[بَابُ الْقَسَمِ وَالنُّشُوزِ]

- ‌[بَابُ الْخُلْعِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أُكْرِهْت عَلَى سُؤَالِهَا الطَّلَاقَ بِعِوَضٍ فَطَلَّقَهَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْخُلْعُ إذَا جَرَى بِلَفْظِ الْخُلْعِ مَعَ ذِكْرِ الْعِوَضِ]

- ‌[كِتَابُ الطَّلَاقِ]

- ‌[فَصْلٌ الِاجْتِمَاع وَالِافْتِرَاق فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ وَالطَّلَاقِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْحَلِف بِالطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَالَ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي ثَلَاثًا مَا بَقِيَ بَيْنِي وَبَيْنَك مُعَامَلَةٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَالَ لِزَوْجَتِهِ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي مَا بَقِيَّتِي تَكُونِي لِي بِامْرَأَةٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَالَتْ لَهُ تَزَوَّجْت عَلَى بِنْتِي فَقَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي غَيْرَ بِنْتِك طَالِقٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُول بِهَا إنْ انْقَضَتْ مُدَّةُ كَذَا وَلَمْ أَدْخُلْ بِهَا فَهِيَ طَالِقٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ يُعْطِي فُلَانًا كُلَّ يَوْمِ نِصْفَ دِرْهَمٍ]

- ‌[الطَّلَاقُ الْمُنَجِّزِ]

- ‌[بَابُ الْعِدَّةِ]

- ‌[بَابُ الرِّدَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ السَّاحِر وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ]

- ‌[كِتَابُ قَطْعِ السَّرِقَةِ]

- ‌[بَابُ التَّعْزِيرِ]

- ‌[كِتَابُ الْجِهَادِ]

- ‌[بَابُ عَقْدِ الذِّمَّةِ]

- ‌[تَرْمِيم الْكَنَائِسِ]

- ‌[بَابٌ فِي شُرُوط عُمَرَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ التَّرْمِيمِ وَالْإِعَادَةِ]

- ‌[بَابُ الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاصَلَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْأَيْمَانِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَالَ وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَكَلَّمَ أَحَدَهُمَا]

- ‌[كِتَابُ الْأَقْضِيَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْكِتَابَة عَلَى الْمَكَاتِيبِ الَّتِي يَظْهَرُ بُطْلَانُهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْحَاكِمَ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ حُكْمٌ لَا يَرَاهُ]

- ‌[بَابُ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ادَّعَى وَكِيلٌ عَنْ غَائِبٍ عَلَى حَاضِرٍ فَقَالَ أَبْرَأَنِي مِنْ ذَلِكَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ادَّعَى قَيِّمُ صَبِيٍّ عَلَى حَاضِرٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ كَانَ الْحَقُّ الْمُدَّعَى بِهِ لِصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ ادَّعَاهُ وَلِيُّهُ عَلَى غَائِبٍ]

- ‌[كِتَابُ الْقِسْمَةِ]

- ‌[كِتَابُ الشَّهَادَاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ عَقْد نِكَاحٍ يُخَالِفُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَيُوَافِقُ غَيْرَهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْعَدَاوَة الَّتِي تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَقَرَّ أَنَّ فِي ذِمَّتِهِ لِشَخْصٍ أَلْف دِرْهَمٍ وَعَشَرَة دَرَاهِمَ]

- ‌[كِتَابُ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى عَيْنًا فَادَّعَتْ زَوْجَةُ الْبَائِعِ أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَهَا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اشْتَرَى دَارًا وَصَدَّقَ الْبَائِعَ أَخُوهُ عَلَى صِحَّةِ مِلْكِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً بَائِنًا خُلْعًا فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ إنَّهَا ثَالِثَةٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ شُرُوطُ الْحُكْمِ فِي الدَّعْوَى]

- ‌[مَسْأَلَةٌ عَيْنٌ فِي يَدِ شَخْصٍ فَادَّعَاهَا آخِر وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهَا مِلْكُهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَرْضٌ بَيْنَ أَخَوَيْنِ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَخَلَفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَبِنْتًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَاتَ وَتَرَكَ أَيْتَامًا وَتَرَكَ مَوْجُودًا كَثِيرًا فَوْقَ حَاجَتِهِمْ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ أَرْضٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَقَرَّ أَنَّهُمَا اقْتَسَمَاهَا قِسْمَةً صَحِيحَةً شَرْعِيَّةً]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَاتَ وَخَلَفَ ابْنًا وَابْنَتَيْنِ وَخَلَفَ لَهُمْ فَدَّانًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَاتَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ إلَّا بَيْتُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ]

- ‌[كِتَابُ الْعِتْقِ]

- ‌[مَسْأَلَة كَاتَبَ اثْنَانِ عَبْدًا ثُمَّ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ]

- ‌[مَسْأَلَة كَاتَبَ عَبْدًا وَمَاتَ عَنْ اثْنَيْنِ]

- ‌[بَابٌ جَامِعٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حَدّ الْخَمْر بَعْد التَّوْبَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جَرَيَانُ مَاءِ دَارٍ إلَى أُخْرَى]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَتَعَلَّق بِالْوَقْفِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ عَيْنًا فِي يَدِهِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مِلْك اُحْتِيجَ إلَى بَيْعِهِ عَلَى يَتِيمٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَبِهِ رَهْنٌ فَطَالَبَ الْمُرْتَهِنُ بِبَيْعِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِإِقْرَارِهِ وَرَهَنَ بِهِ عِنْدَ صَاحِبَةِ الدَّيْنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِيمَنْ قَالَ الْقَاضِي يُفْتِي وَالْمُفْتِي يَهْذِي]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حَدِيث مَا أَقَلَّتْ الْغَبْرَاءُ وَلَا أَظَلَّتْ الْخَضْرَاءُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ حَدِيث طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ]

- ‌[فَائِدَةٌ حَدِيثِيَّةٌ]

- ‌[فَائِدَةٌ نَفْي الْحَصْرِ فِي آيَة وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]

- ‌[مَسْأَلَة الْفُتُوَّة وشد الوسط مِنْ البدع]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْخَيْل هَلْ كَانَتْ قَبْلَ آدَمَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَسَبَ إلَى غَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ مَا لِي رَأْيٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَنْ عَبَدَ اللَّه تَعَالَى بِالْخَوْفِ فَهُوَ حَرُورِيٌّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ دُخُولُ الْجَنَّةِ أَفْضَلُ أُمّ الْعِبَادَة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ آخِرُ مِنْ يَدْخُل الْجَنَّة]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَضْعُ الْقَدَمِ عَلَى بِسَاطٍ فِيهِ أَشْكَالُ حُرُوفٍ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ]

- ‌[قَوْله تَعَالَى وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُد وتفسيرها]

- ‌[فَصْلٌ تَكْفِير الصَّحَابَة]

- ‌[فَصْلٌ سَبُّ النَّبِيِّ]

- ‌[الدَّلَالَةُ عَلَى عُمُومِ الرِّسَالَةِ]

- ‌[مُسْلِم اسْتَأْجَرَ ذِمِّيًّا شَهْرًا فَهَلْ تُسْتَثْنَى السُّبُوتِ]

- ‌[هَلْ تَدْخُلُ الذِّمِّيَّةُ فِي حَدِيثِ لَا تَحُدُّ الْمَرْأَةُ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لُغَوِيَّة فِي يُهَرِيق الْمَاءَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَعِب الشَّافِعِيّ الشِّطْرَنْجَ مَعَ الْحَنَفِيِّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْأَرْوَاحِ هَلْ تَفْنَى كَمَا تَفْنَى الْأَجْسَامُ]

- ‌[فَصْلٌ الْقَاضِي إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ هَلْ لِنُوَّابِهِ أَنْ يَعْقِدُوا النِّكَاح]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَحْوِيَّةٌ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ أَوْ لَا]

- ‌[فَائِدَةٌ فِي الطَّلَاق]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الِاشْتِغَال بِالْمَنْطِقِ]

الفصل: وَلَا صَحَّ عَنْهُ وَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَيُثَابُ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَلَى

وَلَا صَحَّ عَنْهُ وَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَيُثَابُ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.

(الْجَوَابُ) الْحَمْدُ لِلَّهِ هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَصِحَّ وَلَا هُوَ وَارِدٌ فِي الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَنْ أَوْرَدَهُ مِنْ الْعَوَامّ فَإِنْ كَانَ مَعَ عِلْمِهِ بِعَدَمِ وُرُودِهِ أَثِمَ وَإِنْ اعْتَقَدَ وُرُودَهُ لَمْ يَأْثَمْ وَعُذِرَ لِجَهْلِهِ وَلَا يُؤَدَّبُ أَدَبًا مُوجِعًا وَلَا غَيْرَ مُوجِعٍ إلَّا إذَا عَلِمَ عَدَمَ وُرُودِهِ وَأَصَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى إيرَادِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمُجَرَّدُ قَوْلِهِ عَنْهُ لَيْسَ إيرَادًا جَازِمًا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ إذَا كَانَ جَاهِلًا بَلْ يُعَلَّمُ فَإِنْ عَادَ وَعَانَدَ أُدِّبَ بِحَسْبِ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - انْتَهَى.

(فَائِدَةٌ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رحمه الله يَنْبَغِي أَنْ تُتَّخَذَ كِتَابَةُ الْعِلْمِ عِبَادَةٌ سَوَاءٌ تَوَقَّعَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا فَائِدَةٌ أَمْ لَا وَأَنَا بِمَا أَكْتُبهُ بِهَذَا الْقَصْدِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

[تَرْمِيم الْكَنَائِسِ]

(مَسْأَلَةٌ) فِي مَنْعِ تَرْمِيمِ الْكَنَائِسِ لِلشَّيْخِ الْإِمَامِ رحمه الله مُصَنَّفَاتٌ فِيهَا هَذَا: أَحَدُهَا فَنَذْكُرُهُ بِنَصِّهِ قَالَ رضي الله عنه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَيْقَظَنَا مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ وَجَعَلَنَا مِنْ أَشْرَفِ مِلَّةٍ وَهَدَى إلَى أَشْرَفِ قِبْلَةٍ وَأَعْظَمِ نِحْلَةٍ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الَّذِي نَسَخَ بِشَرِيعَتِهِ كُلَّ شَرِيعَةٍ قَبْلَهُ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا لَا يَبْلُغُ الْوَاصِفُونَ فَضْلَهُ.

أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ سُئِلْتُ عَنْ تَرْمِيمِ الْكَنَائِسِ أَوْ إعَادَةِ الْكَنِيسَةِ الْمُضْمَحِلَّةِ فَأَرَدْت أَنْ أَنْظُرَ مَا فِيهَا مِنْ الْأَدِلَّةِ وَأُزِيلَ مَا حَصَلَ فِيهَا مِنْ الْعِلَّةِ وَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ وَيُرْشِدنِي سُبُلَهُ وَتَوَسَّلْت بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَا أَعْدَمَنِي اللَّهُ فَضْلَهُ وَظِلَّهُ وَقَفَوْتُ أَثَرَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَدْلِهِ وَشُرُوطِهِ الَّتِي أَخَذَهَا لَمَّا فَتَحَ الْبِلَادَ وَشَيَّدَ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَهَذَا التَّرْمِيمُ يَقَعُ السُّؤَالُ عَنْهُ كَثِيرًا وَلَا سِيَّمَا فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَيُفْتِي كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِجَوَازِهِ وَتَخْرُجُ بِهِ مَرَاسِيمُ مِنْ الْمُلُوكِ وَالْقُضَاةِ بِلَا إذْنٍ فِيهِ وَذَلِكَ خَطَأٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ بِنَاءَ الْكَنِيسَةِ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا تَرْمِيمُهَا وَكَذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ: لَوْ وَصَّى بِبِنَاءِ كَنِيسَةٍ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ الْكَنِيسَةِ مَعْصِيَةٌ وَكَذَا تَرْمِيمُهَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُوَصِّي مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، وَكَذَا لَوْ وَقَفَ عَلَى كَنِيسَةٍ كَانَ الْوَقْفُ بَاطِلًا مُسْلِمًا كَانَ الْوَاقِفُ أَوْ كَافِرًا فَبِنَاؤُهَا وَإِعَادَتُهَا وَتَرْمِيمُهَا مَعْصِيَةٌ مُسْلِمًا كَانَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ أَوْ كَافِرًا هَذَا شَرْعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

ص: 369

وَهُوَ لَازِمٌ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ، وَأَمَّا أُصُولُهُ فَبِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا فُرُوعُهُ فَمَنْ قَالَ إنَّ الْكُفَّارَ مُكَلَّفُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فَكَذَلِكَ وَكُلُّ مَا هُوَ حَرَامٌ عَلَيْنَا حَرَامٌ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ قَالَ لَيْسُوا مُكَلَّفِينَ بِالْفُرُوعِ وَإِنَّمَا مُكَلَّفُونَ بِالْإِسْلَامِ فَقَدْ يَقُولُ إنَّ تَحْرِيمَ هَذَا كَتَحْرِيمِ الْكُفْرِ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِمْ وَقَدْ يَقُولُ: إنَّهُ كَسَائِرِ الْفُرُوعِ فَلَا يُقَالُ فِيهِ فِي حَقِّهِمْ لَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، أَمَّا إنَّهُ جَائِزٌ أَوْ حَلَالٌ أَوْ مَأْذُونٌ فِيهِ لَهُمْ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ وَلَا يَأْتِي عَلَى مَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ.

وَجَمِيعُ الشَّرَائِعِ نُسِخَتْ بِشَرِيعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا يُشْرَعُ الْيَوْمَ إلَّا شَرْعُهُ، بَلْ: أَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ شَرْعٌ يُسَوَّغُ فِيهِ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْنِيَ مَكَانًا يَكْفُرُ فِيهِ بِاَللَّهِ فَالشَّرَائِعُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْكُفْرِ وَيَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْكُفْرِ تَحْرِيمُ إنْشَاءِ الْمَكَانِ الْمُتَّخَذِ لَهُ وَالْكَنِيسَةُ الْيَوْمَ لَا تُتَّخَذُ إلَّا لِذَلِكَ وَكَانَتْ مُحَرَّمَةً مَعْدُودَةً مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَإِعَادَةُ الْكَنِيسَةِ الْقَدِيمَةِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا إنْشَاءُ بِنَاءٍ لَهَا وَتَرْمِيمُهَا أَيْضًا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْحَرَامِ وَلِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْحَرَامِ فَمَنْ أَذِنَ فِي حَرَامٍ وَمَنْ أَحَلَّهُ فَقَدْ أَحَلَّ حَرَامًا، مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الشَّرْعِ رُدَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنِّي لَا أُحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَلَا أُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ» وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِهِمْ يُمْنَعُونَ مِنْ التَّرْمِيمِ وَالْإِعَادَةِ أَوْ لَا يُمْنَعُونَ فَاَلَّذِي يَقُولُ لَا يُمْنَعُونَ لَا يَقُولُ بِأَنَّهُمْ مَأْذُونٌ لَهُمْ وَلَا أَنَّهُ حَلَالٌ لَهُمْ جَائِزٌ، وَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُصَنِّفِينَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى إطْلَاقِ الْعِبَارَةِ وَالْإِحَالَةِ عَلَى فَهْمِ الْفَقِيهِ لِمَا عَرَفَ قَوَاعِدَ الْفِقْهِ فَلَا يَغْتَرُّ جَاهِلٌ بِذَلِكَ، وَالْفَقِيهُ الْمُصَنِّفُ قَدْ يَسْتَعْمِلُ مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا فِيهِ مَجَازٌ لِمَعْرِفَتِهِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَعْرِفُونَ مُرَادُهُ وَمُخَاطَبَتُهُ لِلْفُقَهَاءِ.

وَأَمَّا الْمُفْتِي فَغَالِبُ مُخَاطَبَتِهِ لِلْعَوَامِّ فَلَا يُعْذَرُ فِي ذَلِكَ وَعَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِالْمَجَازِ وَلَا بِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ غَيْرُ ظَاهِرِهِ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ بِأَصْلِ الشَّرْعِ بَلْ إذَا اُشْتُرِطَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ فَهَذَا هُوَ الَّذِي نَقُولُ الْفُقَهَاءُ إنَّهُمْ يُقِرُّونَ عَلَيْهَا وَيَخْتَلِفُونَ فِي تَرْمِيمِهَا وَإِعَادَتِهَا وَأَمَّا بِغَيْرِ شَرْطٍ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى إبْقَاءٍ، وَلَا يُمَكِّنُونَ مِنْ تَرْمِيمٍ أَوْ إعَادَةٍ فَلْيُتَنَبَّهْ لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ عَدَمَ الْمَنْعِ أَعَمُّ

ص: 370

مِنْ الْإِذْنِ، وَالْإِذْنُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ.

وَالثَّانِي أَنَّ عَدَمَ الْمَنْعِ إنَّمَا هُوَ إذَا شُرِطَ أَمَّا إذَا لَمْ يُشْرَطْ فَيُمْنَعُ وَلَا يَبْقَى وَهَذَا أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوَاعِدَ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا لَا نَحْتَاجُ فِيهِ إلَى أَدِلَّةٍ خَاصَّةٍ فَكُلُّ مَا نَذْكُرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَشَرْطِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ تَأْكِيدٌ لِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ إسْنَادِهَا وَهْنٌ فَلَا يَضُرُّنَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي قَصَدْنَاهُ ثَابِتٌ بِدُونِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَهَذَا كَمَا أَنَّا نُقِرُّهُمْ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ حَلَالٌ لَهُمْ وَلَا أَنَّا نَأْذَنُ لَهُمْ فِيهِ وَلَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ لَفْظُ الْكَنِيسَةِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40] فَالصَّوَامِعُ لِلرُّهْبَانِ وَالصَّلَوَاتُ قِيلَ إنَّهَا لِلْيَهُودِ وَاسْمُهَا بِلِسَانِهِمْ صِلْوَتَا، وَالْبِيَعُ جَمْعُ بِيعَةٍ بِكَسْرِ الْبَاءِ قِيلَ لِلْيَهُودِ وَالْكَنَائِسُ لِلنَّصَارَى وَقِيلَ الْبِيَعُ لِلنَّصَارَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اسْمَ الْكَنَائِسِ مَأْخُوذٌ مِنْ كَنَاسِ الظَّبْيِ الَّذِي تَأْوِي إلَيْهِ فَالنَّصَارَى وَالْيَهُودُ يَأْوُونَ إلَى كَنَائِسِهِمْ فِي خِفْيَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِعِبَادَتِهِمْ الْبَاطِلَةِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي اللُّغَاتِ: الْكَنِيسَةُ الْمَعْبَدُ لِلْكُفَّارِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ هِيَ لِلنَّصَارَى. وَكُلُّ مَا أُحْدِثَ مِنْهَا بَعْدَ الْفَتْحِ فَهُوَ مُنْهَدِمٌ بِالْإِجْمَاعِ فِي الْأَمْصَارِ، وَكَذَا فِي غَيْرِ الْأَمْصَارِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَكُلُّ مَا كَانَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَبَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْرِيرِهِ إذَا شُرِطَ يَجُوزُ الشَّرْطُ وَكُلُّ مَا كَانَ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ لَمْ أَرَ لِلْفُقَهَاءِ فِيهِ كَلَامًا، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَسَاجِدِ يُوَحِّدُ مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ يُوَحَّدُ فِيهِ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ بُنِيَ لِذَلِكَ حَيْثُ كَانُوا عَلَى إسْلَامٍ، فَشَرِيعَةُ مُوسَى وَعِيسَى عليهما السلام الْإِسْلَامُ كَشَرِيعَتِنَا فَلَا يُمَكَّنُ النَّصَارَى أَوْ الْيَهُودُ مِنْهُ. وَقَدْ قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْبِلَادَ إلَى مَا فُتِحَ عَنْوَةً وَصُلْحًا وَمَا أَنْشَأَهُ الْمُسْلِمُونَ وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ وَلَكِنْ كُلُّهُ لَا شَيْءَ مِنْهُ تَبْقَى فِيهِ كَنِيسَةٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، سَوَاءٌ فُتِحَ عَنْوَةً أَمْ صُلْحًا وَإِذَا حَصَلَ الشَّكُّ فِيمَا فُتِحَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا لَمْ يَضُرَّ لِمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ شَرْطَ التَّبْقِيَةِ الشَّرْطُ فِيهِمَا وَإِذَا حَصَلَ الشَّكُّ فِي الشَّرْطِ فَهَذَا مَوْضِعُ عُمْرِهِ فِي الْفِقْهِ هَلْ يُقَالُ: الْأَصْلُ عَدَمُ الشَّرْطِ فَنَهْدِمُهَا مَا لَمْ يَثْبُتْ شَرْطُ إبْقَائِهَا أَوْ يُقَالُ: إنَّهَا الْآنَ مَوْجُودَةٌ فَلَا نَهْدِمُهَا بِالشَّكِّ، وَهَذَا إذَا تَحَقَّقْنَا وُجُودَهَا عِنْدَ الْفَتْحِ وَشَكَكْنَا فِي شَرْطِ الْإِبْقَاءِ فَقَطْ فَإِنْ شَكَّكْنَا فِي وُجُودِهَا عِنْدَ الْفَتْحِ انْضَافَ شَكٌّ

ص: 371

إلَى شَكٍّ فَكَانَ جَانِبُ التَّبْقِيَةِ أَضْعَفَ وَيَقَعُ النَّظَرُ فِي أَنَّهُمْ هَلْ لَهُمْ يَدٌ عَلَيْهَا أَوْ نَقُولُ إنَّ بِلَادَنَا عَلَيْهَا وَعَلَى كَنَائِسِهَا وَهَلْ إذَا هَدَمَهَا هَادِمٌ وَلَوْ قُلْنَا بِتَبْقِيَتِهَا لَا يَضْمَنُ صُورَةَ التَّأْلِيفِ كَمَا لَا يَضْمَنُ إذَا فُصِلَ الصَّلِيبُ وَالْمِزْمَارُ وَهَلْ يَضْمَنُ الْحِجَارَةَ وَنَحْوَهَا رَابِلُهُ التَّأْلِيفُ هَذَا يَنْبَغِي فِيهِ تَفْصِيلٌ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ أَنَّهَا أُخِذَتْ مِنْ مَوَاتٍ كَنَقْرٍ فِي حَجَرٍ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ فَلَا ضَمَانَ أَصْلًا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي مِلْكِ مَنْ اتَّخَذَهَا لِذَلِكَ لِهَذَا الْقَصْدِ كَالْمَسْجِدِ الَّذِي يُبْنَى فِي الْمَوَاتِ بِغَيْرِ تَشْبِيهٍ وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ ذَلِكَ بَلْ كَانَتْ مِمَّا جَرَى عَلَيْهِ مِلْكٌ وَوُقِفَتْ لِذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ وَاقِفُهَا هَذِهِ الْكَنَائِسَ الْمَوْجُودَةَ فَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنَّهَا لَا يَضْمَنُ وَإِنْ كَانَ الْهَادِمُ ارْتَكَبَ حَرَامًا.

وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآثَارِ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَفِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ مَا يَقْتَضِي هَدْمَ الْكَنَائِسِ وَمَا يَقْتَضِي إبْقَاءَهَا وَلَا تَنَاقُضَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحَالِّهَا وَصِفَتِهَا كَمَا سَتَرَى ذَلِكَ مُبَيَّنًا - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَا تَغْتَرُّ سَادَةُ الْفُقَهَاءِ بِمَا تَجِدُهُ مِنْ بَعْضِ كَلَامٍ فِي ذَلِكَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا فِيهِ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ وَتُحِيطُ عِلْمًا بِأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ. وَلْنَشْرَعْ فِيمَا تَيَسَّرَ ذِكْرُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَكَلَامِ الْفُقَهَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى طَالِبًا مِنْ اللَّهِ الْعَوْنَ وَالْعِصْمَةَ وَالتَّوْفِيقَ:

(بَابُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ) أَنْبَأَ أَبُو مُحَمَّدٍ الدِّمْيَاطِيُّ قَالَ أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ الْمُقِيرُ أَنْبَأَ الْحَافِظُ ابْنُ نَاصِرٍ قَالَ أَنَا الشَّيْخَانِ أَبُو رَجَاءٍ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَدَّادُ الْأَصْبَهَانِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو عُثْمَانَ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُلَّةَ الْأَصْبَهَانِيُّ قَالَا أَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْكَاتِبُ الْأَصْبَهَانِيُّ أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَيَّانَ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي الشَّيْخِ فِي كِتَابِ شُرُوطِ الذِّمَّةِ ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد أَبُو أَيُّوبَ ثنا سَعِيدُ بْنُ الْحُبَابِ ثنا عُبَيْدُ بْنُ بَشَّارٍ عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تُحْدِثُوا كَنِيسَةً فِي الْإِسْلَامِ وَلَا تُجَدِّدُوا مَا ذَهَبَ مِنْهَا» هَكَذَا فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ عُبَيْدُ بْنُ بَشَّارٍ وَأَظُنُّهُ تَصْحِيفًا فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ الْحَافِظُ الْجُرْجَانِيُّ

ص: 372

فِي كِتَابِهِ الْكَامِلِ فِي تَرْجَمَةِ سَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَلَا يَمِينَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» .

قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا» سَعِيدُ بْنُ سِنَانٍ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُونَ وَوَثَّقَهُ بَعْضُهُمْ وَكَانَ مِنْ صَالِحِي أَهْلِ الشَّامِ وَأَفْضَلِهِمْ وَهُوَ مِنْ رِجَالِ ابْنِ مَاجَهْ كُنْيَتُهُ أَبُو الْمَهْدِيِّ. وَذَكَرَهُ عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْأَحْكَامِ.

وَقَوْلُهُ لَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا عَامٌّ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ إذَا كَانَ صِلَةً لِمَوْصُولٍ احْتَمَلَ الْمُضِيَّ وَالِاسْتِقْبَالَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِمَا لِلْعُمُومِ وَيَعُمُّ أَيْضًا التَّرْمِيمَ وَالْإِعَادَةَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " مَا " يَعُمُّ خَرَابَ كُلِّهَا وَخَرَابَ بَعْضِهَا، وَقَوْلُهُ " لَا تُبْنَى " يَعُمُّ الْأَمْصَارَ وَالْقُرَى، وَقَوْلُهُ " مَا خَرِبَ يَعُمُّ الْكَنَائِسَ الْقَدِيمَةَ وَالْمُرَادُ فِي الْإِسْلَامِ كَالْبِنَاءِ فَكُلُّ مَا بَنَوْهُ أَوْ رَمَّمُوهُ أَوْ أَعَادُوهُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي بِلَادٍ عَلَيْهَا حُكْمُ الْإِسْلَامِ فَمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُسْلِمٌ إذَا صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنَّ الْبَلَدَ لَنَا وَهَذَا بِلَا شَكٍّ.

وَقَدْ يُقَالُ إنَّمَا صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنَّ الْبَلَدَ لَهُمْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ وَيُمْنَعُ مِنْهُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا فُتِحَ صُلْحًا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ لَهُمْ فِي إحْدَاثِ كَنَائِسَ فِيهَا فَعَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ مَنَعَهُ عَلَى مُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ.

وَقَالَ الرَّافِعِيُّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مَنْعَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِي مِلْكِهِمْ وَالدَّارُ لَهُمْ وَأَمَّا مَا بَنَوْهُ فِي مُدَّةِ الْإِسْلَامِ فِي بِلَادِهِمْ قَبْلَ الْفَتْحِ وَهُمْ مُحَارَبُونَ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ لَكِنَّهُ لَوْ صَالَحُونَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ جَازَ لِأَنَّا لَا نَنْظُرُ إلَى مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَنَبْتَدِئُ مِنْ حِينِ الصُّلْحِ حُكْمًا جَدِيدًا.

وَبِالْإِسْنَادِ إلَى أَبِي الشَّيْخِ ابْنِ حِبَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي خَالِي ثنا مِقْدَامُ بْنُ دَاوُد بْنِ عِيسَى بِمِصْرَ ثنا النَّضْرُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ ثنا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا بُنْيَانَ كَنِيسَةٍ» . إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ

وَبُنْيَانُ كَنِيسَةٍ يَشْمَلُ الِابْتِدَاءَ وَالْإِعَادَةَ الْمُرَادُ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا فَسَّرْنَاهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَبِالْإِسْنَادِ إلَى ابْنِ حِبَّانَ ثنا ابْنُ رَسْتَةَ وَثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ قَالَا ثنا أَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد

ص: 373

ثنا مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ ثنا أَبَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اهْدِمُوا الصَّوَامِعَ وَاهْدِمُوا الْبِيَعَ» إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِعُمُومِهِ فِيمَا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ وَفِيمَا قَدِمَ.

وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ ثنا حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ الْخَيَّاطُ ثنا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ تَوْبَةَ عَنْ نَمِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ» وَرَوَيْنَا فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ لِأَبِي عُبَيْدٍ قَالَ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي تَوْبَةُ بْنُ النَّمِرِ الْحَضْرَمِيُّ قَاضِي مِصْرَ عَمَّنْ أَخْبَرَهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ» اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى عَدَمِ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ وَلَوْ قِيلَ إنَّهُ شَامِلٌ لِلْأَحْدَاثِ وَالْإِبْقَاءِ لَمْ يَبْعُدْ، يَخُصُّ مِنْهُ مَا كَانَ بِالشَّرْطِ بِدَلِيلٍ وَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى مُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَتَقْدِيرُهُ لَا كَنِيسَةَ مَوْجُودَةً شَرْعًا.

وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مُطْلَقَةٌ لَمْ يُعَيَّنْ فِيهَا بِلَادُ صُلْحٍ وَلَا عَنْوَةٍ وَلَا غَيْرَهَا فَهِيَ تَشْمَلُ جَمِيعَ بِلَادِ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ الْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ النَّفْيِ.

وَمِنْ الْأَحَادِيثِ الْعَامَّةِ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْعَتَكِيُّ ثنا جَرِيرٌ، ح وَقَرَأْتُ عَلَى الصَّنْهَاجِيِّ أَنْبَأَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْقَسْطَلَّانِيِّ أَنَا ابْنُ الْبَنَّاءِ أَنَا الْكَرُوخِيُّ أَنْبَأَ الْأَزْدِيُّ وَالْعَوْرَجِيُّ قَالَا أَنْبَأَ الْجَرَّاحِيُّ أَنَا الْمَحْيَوِيُّ ثنا التِّرْمِذِيُّ ثنا يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ ثنا جَرِيرٌ عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَكُونُ قِبْلَتَانِ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ» هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد فِي بَابِ إخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ «لَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جِزْيَةٌ» أَخْرَجَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.

قَالَ وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ثنا جَرِيرٌ عَنْ قَابُوسَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي إسْنَادِهِ وَإِرْسَالِهِ فَرَوَاهُ الْعَتَكِيُّ وَأَبُو كُرَيْبٍ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ قَابُوسَ كَمَا رَأَيْت وَرَوَيْنَاهُ مُقْتَصَرًا عَلَى الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ يَمِينِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ «لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ» . فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ لِأَبِي عُبَيْدِ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ الَّذِي سَمِعْنَاهُ عَلَى شَيْخِنَا الدِّمْيَاطِيِّ بِسَمَاعِهِ مِنْ ابْنِ الْجُمَّيْزِيِّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ ثنا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ عَنْ

ص: 374

سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ قَابُوسَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا وَجَرِيرٌ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً لَكِنَّ سُفْيَانَ أَجَلُّ مِنْهُ فَعَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَدِّثِينَ الْمُرْسَلُ أَصَحُّ، وَعَلَى طَرِيقَةِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فِي الْمُسْنَدِ زِيَادَةٌ، وَقَدْ ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ الْخِلَافَ فِي إسْنَادِهِ وَإِرْسَالِهِ وَقَابُوسُ فِيهِ لِينٌ مَعَ تَوْثِيقِ بَعْضِهِمْ لَهُ، وَكَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يُحَدِّثُ عَنْهُ وَيَحْيَى لَا يُحَدِّثُ إلَّا عَنْ ثِقَةٍ، وَفِي الْقَلْبِ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَتَبَيَّنُ لِي قِيَامُ الْحُجَّةِ بِهِ وَحْدَهُ، وَعُدْت الشَّيْخَ نُورَ الدِّينِ الْبَكْرِيَّ فِي مَرَضِهِ فَسَأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ مَا بَقِيَ إلَّا تَصْحِيحُهُ وَأَفْتَى بِهَدْمِ الْكَنَائِسِ وَبِإِجْلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَقَدْ رَأَيْت فِي كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّ حُكْمَ جَمِيعِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ حُكْمُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ثُمَّ رَأَيْت أَنَا فِي كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ بَعْدَ ذَلِكَ وَسَأَذْكُرُهُ فِي فَصْلٍ مُفْرَدٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ.

وَفِي الْأَمْوَالِ لِأَبِي عُبَيْدٍ حَدَّثَنِي نُعَيْمٌ عَنْ شِبْلِ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ سَمِعْتُ طَاوُسًا يَقُولُ لَا يَنْبَغِي لِبَيْتِ رَحْمَةٍ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَيْتِ عَذَابٍ.

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَرَاهُ يَعْنِي الْكَنَائِسَ وَالْبِيَعَ وَبُيُوتَ النِّيرَانِ يَقُولُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَعَ الْمَسَاجِدِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد أَيْضًا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد بْنِ سُفْيَانَ ثنا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى أَبُو دَاوُد ثنا جَعْفَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ أَمَّا بَعْدُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ» لَمْ يَرْوِهِ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ إلَّا أَبُو دَاوُد وَبَوَّبَ لَهُ بَابَ الْإِقَامَةِ فِي أَرْضِ الْمُشْرِكِ، وَلَيْسَ فِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ فَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَبِإِسْنَادِنَا الْمُتَقَدِّمِ إلَى أَبِي الشَّيْخِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ بَيَانٍ الْوَاسِطِيُّ ثنا فَضْلُ بْنُ سَهْلٍ ثنا مُضَرُ بْنُ عَطَاءٍ الْوَاسِطِيُّ ثنا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تُسَاكِنُوا الْمُشْرِكِينَ وَلَا تُجَامِعُوهُمْ فَمَنْ سَاكَنَهُمْ أَوْ جَامَعَهُمْ فَهُوَ مِثْلُهُمْ» . هَذَا هُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ.

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَسْمِيَةِ الْكِتَابِيِّ مُشْرِكًا، فَالْحَدِيثُ يَشْمَلُهُ عِنْدَهُ فَيُسْتَدَلُّ عَلَى تَحْرِيمِ مُسَاكَنَتِهِ، وَالْمُسَاكَنَةُ إنْ أُخِذَتْ مُطْلَقَةً فِي الْبَلَدِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْبَلَدِ كَنِيسَةٌ لِأَنَّ الْكَنِيسَةَ إنَّمَا تَبْقَى لَهُمْ بِالشَّرْطِ إذَا كَانُوا فِيهَا. وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ وَقَبْلَهُمْ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ إلَى قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ

ص: 375

فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالنَّسَائِيُّ وَبَعْضُ طُرُقِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَمِنْهُمْ مَنْ أَسْنَدَهُ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ إنَّ الْمُرْسَلَ أَصَحُّ. وَلَفْظُ الْحَدِيثِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ سَرِيَّةً إلَى خَثْعَمَ فَاعْتَصَمَ نَاسٌ بِالسُّجُودِ فَأَسْرَعَ فِيهِمْ الْقَتْلَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ وَقَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِمَ قَالَ لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا»

فَسَّرَ أَهْلُ الْغَرِيبِ هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَاعِدَ مَنْزِلَهُ عَنْ مَنْزِلِ الْمُشْرِكِ وَلَا يَنْزِلَ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي إذَا أُوقِدَتْ فِيهِ نَارُهُ تَلُوحُ وَتُظْهِرُ لَنَا الْمُشْرِكَ إذَا أَوْقَدَهَا فِي مَنْزِلِهِ.

وَلَكِنَّهُ يَنْزِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِهِمْ وَإِنَّمَا كَرِهَ مُجَاوَرَةَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ لَا عَهْدَ لَهُمْ وَلَا أَمَانَ وَحَثَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْهِجْرَةِ. وَالتَّرَائِي تَفَاعُلٌ مِنْ الرُّؤْيَةِ يُقَالُ تَرَاءَى الْقَوْمُ إذَا رَأَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَتَرَاءَى لِي الشَّيْءُ إذَا ظَهَرَ حَتَّى رَأَيْتُهُ، وَإِسْنَادُ التَّرَائِي إلَى النَّارَيْنِ مَجَازٌ مِنْ قَوْلِهِمْ دَارِي تَنْظُرُ إلَى دَارِ فُلَانٍ أَيْ تُقَابِلُهَا. يَقُولُ نَارَاهُمَا مُخْتَلِفَتَانِ هَذِهِ تَدْعُو إلَى اللَّهِ وَهَذِهِ تَدْعُو إلَى الشَّيْطَانِ فَكَيْفَ يَتَّفِقَانِ.

وَالْأَصْلُ فِي تَرَاءَى تَتَرَاءَى حُذِفَتْ إحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ ظَاهِرٌ مُشْرِكًا أَوْ كِتَابِيًّا، وَالْكِتَابِيُّ الَّذِي لَا عَهْدَ لَهُ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ إمَّا بِالنَّصِّ إنْ جَعَلْنَا مُشْرِكًا، وَإِمَّا بِالْمَعْنَى أَمَّا مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ أَوْ ذِمَّةَ فَالْمَعْنَى لَا يَقْتَضِيهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِهِ.

وَإِذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى مُسَاكَنَتِهِ فِي بَلَدٍ يُفْرَدُ لَهُ مَكَانٌ لَا يُجَاوِرُ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَقْرَبُ مِنْهُمْ تَبْعُدُ نَارُهُ.

وَفِي الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ إخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ انْطَلِقُوا فَخَرَجْنَا حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمَدَارِسِ فَقَالَ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي

ص: 376

أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ فَمَنْ يَجِدْ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْصَى بِثَلَاثَةٍ وَقَالَ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» وَفِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لَا أَتْرُكُ فِيهَا إلَّا مُسْلِمًا» .

وَقَالَ مَالِكٌ أَجْلَى عُمَرُ يَهُودَ نَجْرَانَ وَلَمْ يَحِلَّ مَنْ فِيهَا مِنْ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْوِهَا.

وَقَالَ مَالِكٌ أَجْلَى عُمَرُ يَهُودَ نَجْرَانَ وَفَدَكَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ.

«وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ أَرَادَ إخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا وَكَانَتْ الْأَرْضُ لِلَّهِ عَلَيْهَا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَأَرَادَ إخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا فَسَأَلَتْ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُقِرَّهُمْ بِهَا أَنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرَةِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا فَقَرُّوا بِهَا حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ إلَى تَيْمَاءَ وَأَرْيِحَاءَ» .

فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا بِبَلَدٍ مُعَيَّنٍ إلَّا مَا فِي الْأَخِيرِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِي كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ.

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ مُصَرِّفِ بْنِ عَمْرٍو الْيَامِيِّ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيِّ الْكَبِيرِ وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ النِّصْفِ فِي صَفَرٍ وَالنِّصْفِ فِي رَجَبٍ يُؤَدُّونَهَا إلَى الْمُسْلِمِينَ وَعَارِيَّةٍ ثَلَاثِينَ دِرْعًا وَثَلَاثِينَ فَرَسًا وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ السِّلَاحِ يَغْزُونَ بِهَا وَالْمُسْلِمُونَ ضَامِنُونَ لَهَا حَتَّى يَرُدُّوهَا عَلَيْهِمْ إنْ كَانَ بِالْيَمِينِ عَلَى أَنْ لَا يُهْدَمَ لَهُمْ بِيعَةٌ وَلَا يُخْرَجَ لَهُمْ قَسٌّ وَلَا يُفْتَنُونَ عَنْ دِينِهِمْ مَا لَمْ يُحْدِثُوا حَدَثًا أَوْ يَأْكُلُوا الرِّبَا» . قَالَ إسْمَاعِيلُ: فَقَدْ أَكَلُوا الرِّبَا.

قَالَ أَبُو دَاوُد: وَنَقَضُوا بَعْضَ مَا اُشْتُرِطَ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي صُلْحِ أَهْلِ نَجْرَانَ حَسَنٌ جِدًّا عُمْدَةٌ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الصُّلْحِ وَتَسْوِيغِ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُمْ فِي مِثْلِهِ عَدَمَ هَدْمِ بِيَعِهِمْ وَانْظُرْ كَوْنَهُ لَمْ يَشْتَرِطْ إلَّا عَدَمَ

ص: 377

الْهَدْمِ مَا قَالَ التَّبْقِيَةُ فَإِنَّ التَّبْقِيَةَ تَسْتَلْزِمُ فِعْلَ مَا يَقْتَضِي الْبَقَاءَ كَمَا فِي الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ الَّذِي يَجِبُ إبْقَاؤُهُمَا فَلَمْ يُرِدْ فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ مِثْلَ ذَلِكَ لِأَنَّا إنَّمَا نَعْتَمِدُ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ.

وَالدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ فِي هَذَا النَّوْعِ هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَلَا يَتَعَدَّى، وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَى أَهْلِ نَجْرَانَ فَخَرَجَ وَفْدُهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ نَصَارَى مِنْهُمْ الْعَاقِبُ أَمِيرُهُمْ وَأَبُو الْحَارِثِ أُسْقُفُهُمْ وَالسَّيِّدُ صَاحِبُ رَحْلِهِمْ فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَعَلَيْهِمْ ثِيَابُ الْحَبِرَةِ وَأَرْدِيَةٌ مَكْفُوفَةٌ بِالْحَرِيرِ فَقَامُوا يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعُوهُمْ ثُمَّ أَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ فَقَالَ لَهُمْ عُثْمَانُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ زِيِّكُمْ هَذَا فَانْصَرَفُوا ثُمَّ غَدَوْا عَلَيْهِ بِزِيِّ الرُّهْبَانِ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ وَدَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَبَوْا وَأَكْثَرُوا الْكَلَامَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنْ أَنْكَرْتُمْ مَا أَقُولُ فَهَلُمَّ أُبَاهِلْكُمْ فَامْتَنَعُوا مِنْ الْمُبَاهَلَةِ وَطَلَبُوا الصُّلْحَ فَصَالَحَهُمْ عَلَى هَذَا. وَقَالَ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَأَرْضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَغَائِبِهِمْ وَشَاهِدِهِمْ وَبِيَعِهِمْ لَا يُغَيَّرُ أُسْقُفٌ مِنْ سَقِيفَاهُ وَلَا رَاهِبٌ مِنْ رَهْبَانِيِّتِهِ فَرَجَعُوا إلَى بِلَادِهِمْ فَلَمْ يَلْبَثْ السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى رَجَعَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَا فَأَنْزَلَهُمَا دَارَ أَبِي أَيُّوبَ وَأَقَامَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى مَا كَتَبَ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ ثُمَّ وُلِّيَ أَبُو بَكْرٍ فَكَتَبَ بِالْوَصَاةِ بِهِمْ عِنْدَ وَفَاتِهِ ثُمَّ أَصَابُوا رِبًا فَأَخْرَجَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مِنْ أَرْضِهِمْ وَكَتَبَ لَهُمْ مَنْ سَارَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ آمِنٌ بِأَمَانِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَفَاءً لَهُمْ بِمَا كَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ. فَمَنْ وَقَعُوا بِهِ مِنْ أُمَرَاءِ الشَّامِ وَأُمَرَاءِ الْعِرَاقِ فَلْيُوَسِّقْهُمْ مِنْ جَرِيبِ الْأَرْضِ فَمَا اعْتَمَلُوا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ لَهُمْ صَدَقَةٌ بِمَكَانِ أَرْضِهِمْ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ فِيهِ لِأَحَدٍ وَلَا مَغْرَمَ فَمَنْ حَضَرَهُمْ فَلْيَنْصُرْهُمْ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ فَإِنَّهُمْ أَقْوَامُ أَهْلُ ذِمَّةٍ وَجِزْيَتُهُمْ عَنْهُمْ مَتْرُوكَةٌ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَهْرًا بَعْدَ أَنْ يَقْدَمُوا فَوَقَعَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالْعِرَاقِ فَنَزَلُوا النَّجْرَانِيَّةَ الَّتِي بِنَاحِيَةِ الْكُوفَةِ» .

فَانْظُرْ كَمْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ فَائِدَةٍ وَتَرْكُهُمْ لَمَّا وَصَلُوا إلَى الْمَشْرِقِ لَيْسَ إحْدَاثُ فِعْلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَأْنِيسٌ لَهُمْ رَجَاءَ إسْلَامِهِمْ

ص: 378

وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ وَعَدَمُ كَلَامِهِمْ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الزِّيِّ وَالْحَرِيرِ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِي نُقِرُّهُمْ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنَّا، وَعَقْدُهُ الصُّلْحَ مَعَ كِبَارِهِمْ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَهُمْ رَاضُونَ بِهِ، وَالْمُصَالَحَةُ عَلَى الْحُلَلِ وَغَيْرِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْجِزْيَةِ الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ أَوْ قِيمَتُهَا أَوَاقِي.

فَأَمَّا الْحُلَلُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا مَعْلُومَةٌ وَأَمَّا التَّرَدُّدُ بَيْنَهَا بَيْنَ قِيمَتِهَا فَإِنْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ دَلَّ عَلَى اغْتِفَارِ هَذِهِ الْجَهَالَةِ عَلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الدُّرُوعِ وَالسِّلَاحِ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَيُوَافِقُهُ مَا يُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ مِنْ الضِّيَافَةِ، وَالْأَصْحَابُ اجْتَهَدُوا فِي بَيَانِ إعْلَامِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُشْتَرَطِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَرْضَ نَجْرَانَ بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِمْ فَهِيَ الصُّورَةُ الَّتِي ذَكَرَ الْأَصْحَابُ فِيهَا الْفَتْحَ صُلْحًا عَلَى أَنْ تَكُونَ رَقَبَةُ الْبَلَدِ لَهُمْ وَيُؤَدُّونَ الْخَرَاجَ عَنْهَا وَإِلَّا مُنِعَ مِنْ بَقَاءِ الْكَنَائِسِ فِيهَا.

وَهَذِهِ الْقِصَّةُ حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ وَمُفَسِّرَةٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِبْقَاءِ عَدَمُ الْهَدْمِ ثُمَّ هُوَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ أَعْنِي شَرْطَ كَوْنِ الْبَلَدِ لَهُمْ أَوْ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِأَمِيرٍ فَقَطْ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مِلْكِهِمْ، وَمَعْنَى بَقَاءِ الْأَرْضِ لَهُمْ أَنَّهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فَمَنْ لَهُ مِنْهَا فِيهَا مِلْكٌ مُخْتَصٌّ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي نَجْرَانَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى، وَقَوْلُ الرَّافِعِيِّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنْهُ. وَيَدُورُ فِي خَلَدِي أَنَّ نَجْرَانَ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ دَوْمَةَ وَنَحْوِهَا لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ وَلَا طَرَقُوهُ وَإِنَّمَا جَاءَ أَهْلُ نَجْرَانَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا وَصَفْنَا وَجَاءَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إلَى أُكَيْدِرِ دُومَةَ وَكَذَا إلَى جِهَاتٍ أُخْرَى وَكُلُّهُمْ أَطَاعُوا لِلْجِزْيَةِ وَاسْتَقَرُّوا فِي بِلَادِهِمْ، وَقَدْ يَكُونُ بَلَدًا وَجَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ وَلَمْ يُتَّفَقْ أَخْذُهَا عَنْوَةً وَلَا صُلْحًا عَلَى أَنْ يَكُونَ مِلْكَنَا بَلْ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِلْكَهُمْ بِخَرَاجٍ فَهَلْ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ خَاصٌّ بِالثَّانِي أَوْ عَامٌّ فِي الْقِسْمَيْنِ؟ وَالْأَقْرَبُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْفَتْحِ وَيُعَدُّ مِمَّا هُوَ تَحْتَ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ.

وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذَا الَّذِي دَارَ فِي خَلَدِي إذَا انْجَلَوْا عَنْهُ كَمَا اتَّفَقَ لِأَهْلِ نَجْرَانَ هَلْ نَقُولُ أَرَاضِيهُمْ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِمْ وَلِذَلِكَ عَوَّضَهُمْ عُمَرُ عَنْهَا وَبَعْضُهُمْ قَالَ: إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي ارْتِفَاعِ عَقْدِ الذِّمَّةِ لَا فِي رُجُوعِ الْأَرَاضِيِ إلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَعْرِضُوا عَنْهَا فَيَكُونَ فَيْئًا أَوْ يُوجَفَ عَلَيْهَا فَيَكُونَ غَنِيمَةً وَاَلَّتِي أَوْجَفَ

ص: 379

الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا وَتَمَكَّنُوا مِنْهَا ثُمَّ صَالَحُوا عَلَى جِزْيَةٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ أَرَاضِيهَا بَاقِيَةً لِأَهْلِهَا تَكُونُ الْأَرْضُ فِي مُقَابَلَةِ الْعَقْدِ فَإِذَا نَقَضُوهُ رَجَعَتْ لِلْمُسْلِمِينَ. هَذَا شَيْءٌ دَارَ فِي خَلَدِي وَلَمْ أُمْعِنْ الْفِكْرَ فِيهِ وَلَا وَقَفْتُ عَلَى شَيْءٍ فِيهِ لِأَحَدٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا فِي الْقِسْمَيْنِ تَكُونُ فَيْئًا كَمَا فِي قُرَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَيَكُونُ تَعْوِيضُ عُمَرَ رضي الله عنه تَكَرُّمًا عَلَيْهِمْ وَجَبْرًا لَهُمْ لِضَعْفِ حَالِهِمْ وَرِعَايَةً لِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْعَقْدِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، وَأَمَّا خَيْبَرُ فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتَحَهَا عَنْوَةً وَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا حَقَّ لِلْيَهُودِ فِي أَرْضِهَا. وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ كَانَ بِهَا كَنَائِسُ وَإِنْ كَانَ بِهَا كَنَائِسُ فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا شَيْءٌ فَهِيَ مِمَّا يَجِبُ هَدْمُهُ وَكَذَا إنْ كَانَ لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَبِإِجْلَائِهِمْ يَزُولُ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ لَهُمْ بَيْتُ مَدَارِسَ كَمَا تَقَدَّمَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْكَنِيسَةُ فَهِيَ مُنْهَدِمَةٌ. وَبَلَغَنِي أَنَّ بِالْمَدِينَةِ الْيَوْمَ آثَارَ كَنَائِسَ مُنْهَدِمَةٍ كَأَنَّهَا كَانَتْ لِلْيَهُودِ لَمَّا كَانُوا بِهَا وَحُكْمُهَا وَحُكْمُ أَمَاكِنِهَا أَنَّهَا لِأَهْلِ الْفَيْءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَخَيْبَرُ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ أَهْلَهَا عُمَّالًا لِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ لِعِمَارَتِهَا فَلَمَّا اسْتَغْنَى عَنْهُمْ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه وَعَادَتْ كَسَائِرِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ.

وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ حَمَّادٌ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» .

وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم «لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لَا أَدَعُ فِيهَا إلَّا مُسْلِمًا» قَالَ فَأَخْرَجَهُمْ عُمَرُ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا مِنْ فَارِسَ فِي أَرْضِهِمْ وَبِلَادِهِمْ وَقَدْ أَذَلَّهُمْ الْإِسْلَامُ وَغَلَبَهُمْ أَهْلُهُ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا ظُنَّ. وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يُقِرَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي أَرْضٍ قَدْ قَهَرَ مَنْ فِيهَا الْإِسْلَامُ وَغَلَبَهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَ قَهْرِهِ إيَّاهُمْ مُبَدِّلُهُ أَوْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عَقْدُ صُلْحٍ عَلَى التَّرْكِ فِيهَا إلَّا عَلَى النَّظَرِ فِيهِ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ لِضَرُورَةِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَى إقْرَارِهِمْ فِيهَا وَذَلِكَ كَإِقْرَارِهِ مَنْ أَقَرَّ مِنْ نَصَارَى نَبْطٍ سَوَادِ الْعِرَاقِ فِي السَّوَادِ بَعْدَ غَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ كَإِقْرَارِهِ مَنْ أَقَرَّ مِنْ نَصَارَى الشَّامِ فِيهَا بَعْدَ غَلَبِهِمْ عَلَى أَرْضِهَا دُونَ حُصُونِهَا فَإِنَّهُ أَقَرَّهُمْ فِيهَا لِضَرُورَةٍ كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ

ص: 380

إلَيْهِمْ لِلْفِلَاحَةِ وَالْإِكَارَةِ وَعِمَارَةِ الْبِلَادِ إذْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ كَانُوا بِالْحَرْبِ مَشَاغِيلَ وَلَوْ كَانُوا أَجْلَوْا عَنْهَا خَرِبَتْ الْأَرَضُونَ وَبَقِيَتْ غَيْرَ عَامِرَةٍ لَا تُوَاكَرُ فَكَانَ فِعْلُهُ ذَلِكَ نَظِيرَ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِعْلِ وَزِيرِهِ الصِّدِّيقِ فِي يَهُودِ خَيْبَرَ وَنَصَارَى نَجْرَانَ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ يَهُودَ خَيْبَرَ بَعْدَ قَهْرِ الْإِسْلَامِ لَهُمْ وَغَلَبَةِ أَهْلِهِ عَلَيْهِمْ وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى بِلَادِهِمْ فِيهَا عُمَّالًا لِلْمُسْلِمِينَ وَعُمَّارًا لِأَرْضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إذْ كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ ضَرُورَةُ حَاجَةٍ إلَيْهِمْ لِعِمَارَةِ أَرْضِهِمْ وَشَغْلِهِمْ بِالْحَرْبِ وَمُنَاوَأَةِ الْأَعْدَاءِ ثُمَّ أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِإِجْلَائِهِمْ عِنْدَ اسْتِغْنَائِهِمْ عَنْهُمْ وَقَدْ كَانُوا سَأَلُوهُ عِنْدَ قَهْرِهِ إيَّاهُمْ إقْرَارَهُمْ فِي الْأَرْضِ عُمَّارًا لِأَهْلِهَا فَأَجَابَهُمْ إلَى إقْرَارِهِمْ فِيهَا مَا أَقَرَّهُمْ اللَّهُ، وَأَمَّا إقْرَارُهُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي مِصْرَ لَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ فِي تَرْكِهِمْ وَالْإِقْرَارُ قَبْلَ غَلَبَةِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ أَوْ ظُهُورِهِ فِيهِ عَقْدُ صُلْحٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَمَا لَا نَعْلَمُهُ صَحَّ بِهِ عَنْهُ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى خَبَرٌ وَلَا قَامَتْ بِجَوَازِ ذَلِكَ حُجَّةٌ بَلْ الْحُجَّةُ الثَّابِتَةُ وَالْأَخْبَارُ عَنْ الْأَئِمَّةِ بِمَا قُلْنَاهُ فِي ذَلِكَ دُونَ مَا خَالَفَهُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: كَانَ مُنَادِي عَلِيٍّ يُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ لَا يَبِيتَنَّ بِالْكُوفَةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ وَلَا مَجُوسِيٌّ الْحَقُوا بِالْحِيرَةِ أَوْ بِزُرَارَةَ.

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الرِّفَاعِيُّ ثنا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَا يُسَاكِنُكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي أَمْصَارِكُمْ فَمَنْ ارْتَدَّ مِنْهُمْ فَلَا تَقْبَلُوا إلَّا عُنُقَهُ.

قَالَ أَبُو هِشَامٍ وَسَمِعْت يَحْيَى بْنَ آدَمَ يَقُولُ هَذَا عِنْدَنَا عَلَى كُلِّ مِصْرٍ اخْتَطَّهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ فَنَزَلَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو هِشَامٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ مِصْرٍ اخْتَطَّهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ كِتَابٍ قَوْلٌ لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يُخَصِّصْ بِقَوْلِهِ لَا يُسَاكِنُكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي أَمْصَارِكُمْ مِصْرًا سَاكِنُهُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ دُونَ مِصْرٍ بَلْ عَمَّ بِذَلِكَ جَمِيعَ أَمْصَارِهِمْ وَأَنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَخْرِجُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» .

يُوَضِّحُ عَنْ صِحَّةِ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيَدُلُّ عَلَى حَقِيقَةِ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ إخْرَاجُهُمْ

ص: 381

مِنْ كُلِّ مِصْرٍ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِهِ الْإِسْلَامَ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ ضَرُورَةُ حَاجَةٍ وَكَانَتْ مِنْ بِلَادِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الَّتِي صَالَحُوا عَلَى إقْرَارِهِمْ فِيهَا إلْحَاقًا لِحُكْمِهِ حُكْمِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَذَلِكَ أَنَّ خَيْبَرَ لَا شَكَّ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ الْأَمْصَارِ الَّتِي كَانَ الْمُسْلِمُونَ اخْتَطُّوهَا وَلَا كَانَتْ نَجْرَانُ مِنْ الْمَدَائِنِ الَّتِي كَانَ الْمُسْلِمُونَ نَزَلُوهَا بَلْ كَانَتْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ قُرًى وَمَدَائِنُ وَهُمْ كَانُوا عُمَّارَهَا وَسُكَّانَهَا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا إذْ غَلَبَهَا وَأَهْلَهَا الْإِسْلَامُ وَسُكَّانَهَا مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَلَمْ يَكُنْ بِهِمْ إلَيْهِمْ ضَرُورَةُ حَاجَةٍ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ الَّذِي قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي إسْنَادِهِ بَعْضُ النَّظَرِ وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ الْخَطَّابِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْحَرَّانِيُّ ثنا يَعْقُوبُ بْنُ جَعْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا يَنْزِلُ بِأَرْضٍ دِينٌ مَعَ الْإِسْلَامِ» حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَابْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالُوا ثنا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ فِي أَرْضٍ» حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ شُعَيْبٍ السِّمْسَارُ ثنا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ ثنا جَعْفَرٌ الْأَحْمَرُ عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهُ.

حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو السَّكُونِيُّ ثنا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ الزُّبَيْدِيِّ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ قَالَ فَإِذَا كَانَ صَحِيحًا مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ بِاَلَّذِي بِهِ اسْتَشْهَدْنَا فَالْوَاجِبُ عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ إذَا أَقَرَّ بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ فِي بَعْضِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ لِحَاجَةٍ بِأَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ إلَيْهِمْ إمَّا لِعِمَارَةِ أَرْضِهِمْ وَفِلَاحَتِهَا وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا غِنَى بِهِمْ عَنْهُمْ أَلَّا يَدَعَهُمْ فِي مِصْرِهِمْ مَعَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثٍ عَلَى مَا قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنْ يُسْكِنَهُمْ خَارِجًا مِنْ مِصْرِهِمْ مَا دَامَتْ بِهِمْ إلَيْهِمْ ضَرُورَةُ حَاجَةٍ كَاَلَّذِي فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ وَعَلِيٌّ وَأَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ اتِّخَاذِ الدُّورِ وَالْمَسَاكِنِ فِي أَمْصَارِهِمْ فَإِنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ مَنْ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ دَارًا أَوْ ابْتَنَى بِهِ مَسْكَنًا فَالْوَاجِبُ عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَخْذُهُ يَبِيعُهَا كَمَا يَجِبُ

ص: 382

عَلَيْهِ لَوْ اشْتَرَى مَمْلُوكًا مُسْلِمًا مِنْ مَمَالِيكِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذَهُ يَبِيعَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ إقْرَارُ مُسْلِمٍ فِي مِلْكِ كَافِرٍ فَكَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ إقْرَارُ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ فِي مِلْكِهِ.

هَذَا كَلَامُ ابْنِ جَرِيرٍ رحمه الله. فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي خَيْبَرَ فَصَحِيحٌ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي نَجْرَانَ فَعَجَبٌ وَنَجْرَانُ قَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فَلَمْ يَكُنْ حَالُهَا يُشْبِهُ حَالَ خَيْبَرَ وَلَا أَهْلُهَا عُمَّالًا لِلْمُسْلِمِينَ بَلْ لِأَنْفُسِهِمْ وَعَلَيْهِمْ شَيْءٌ مَعْلُومٌ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

وَأَمَّا تَعْدِيَتُهُ حُكْمَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ إلَى سَائِرِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَالْمَعْرُوفُ مِنْ كَلَامِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ إجْلَاؤُهُمْ فِي أَنَّ غَيْرَ الْحِجَازِ مِنْ الْجَزِيرَةِ هَلْ يَثْبُتُ لَهُ هَذَا الْحُكْمُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ وَمِنْ جُمْلَةِ أَدِلَّتِهِمْ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُمْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ مِنْ الْيَمَنِ وَهِيَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لَكِنَّ كَلَامَ ابْنِ جَرِيرٍ فِيهِ رُوحٌ وَلَا مَدْفَعَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْبَحْثِ وَالنَّصِّ وَالْقِيَاسُ وَالْعَمَلُ قَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ دَافِعٌ لِكَلَامِهِ لَكِنْ لَهُ أَنْ يَقُولَ: كُلُّ مَوْضِعٍ وَجَدْنَا فِيهِ نَصَارَى غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِمْ وَتَحَقَّقْنَا مِنْ الْأَئِمَّةِ إقْرَارَهُمْ يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ لَهُمْ صُلْحٌ وَإِنَّمَا نَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي بَلَدٍ نَفْتَحُهَا الْيَوْمَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ لَهُ دَافِعٌ كَذَلِكَ إذَا وَرَدَ نَصْرَانِيٌّ غَرِيبٌ إلَى بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَقَدَّمَ لَهُ أَوْ لِأَسْلَافِهِ صُلْحٌ فَعَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ جَرِيرٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكَّنَ مِنْ الْإِقَامَةِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ كَذَلِكَ إذَا كَانَتْ بَلْدَةٌ قَرِيبَةُ الْفَتْحِ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ حَالِهَا وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى عَقْدِ الصُّلْحِ فِيهَا وَأَرَادَ سُكْنَاهَا مَنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ عَقْدُ صُلْحٍ وَلَا دُخُولَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَيَمْتَنِعُ حَتَّى يُثْبِتَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي الْبِلَادِ الْقَدِيمَةِ كَدِمَشْقَ وَبَعْلَبَكّ وَحِمْصَ وَمِصْرَ وَمَا أَشْبَهَهَا فِيهَا نَصَارَى لَا حَاجَةَ بِالْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ.

وَلَا نَعْلَمُ هَلْ تَقَدَّمَ لَهُمْ عَقْدُ صُلْحٍ يَقْتَضِي إقَامَتَهُمْ فِيهَا أَوْ لَا فَهَلْ نَقُولُ الْأَصْلُ عَدَمُهُ فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْإِقَامَةِ حَتَّى يَثْبُتَ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْإِقَامَةِ تَمَسُّكًا بِالْأَصْلِ، أَوْ نَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّ إقَامَتَهُمْ بِحَقٍّ فَلَا يُزْعَجُونَ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ، هَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ وَيَشْهَدُ لِكُلٍّ مِنْ الِاحْتِمَالَيْنِ شَوَاهِدُ فِي الْفِقْهِ يَصْلُحُ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ وَجْهَانِ وَالْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْحُكْمِ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ غَيْرِ الْأَصْلِ بَعِيدٌ مَعَ تَطَابُقِ الْأَعْصَارِ عَلَى وُجُودِهِمْ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ أَوْ بَقَائِهِمْ وَإِنْ

ص: 383

كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَمَادِي الْأَوْقَاتِ وَإِهْمَالِ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ وَاخْتِلَاطِ مَنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ بِمَنْ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ.

وَكَلَامُ ابْنِ جَرِيرٍ أَوَّلُ مَا يُسْمَعُ يُسْتَنْكَرُ وَإِذَا نُظِرَ فِيهِ لَمْ نَجِدْ عَنْهُ مَدْفَعٌ شَرْعِيٌّ وَيُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فِيمَا يَحْدُثُ وَمَنْعُهُ مِنْ تَمَلُّكِ دَارٍ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ غَرِيبٌ مَعَ اقْتِصَارِ الْبَحْثِ لَهُ.

وَهَذَا طَرِيقٌ إلَى نَقْصِ كَثِيرٍ مِنْ أَمْلَاكِهِمْ وَيَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِي صِحَّةِ شِرَائِهِ خِلَافٌ كَنَظِيرِهِ فِي شِرَاءِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ. وَمِمَّا يُوقَفُ عَنْ قَبُولِ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْيَهُودَ الْمُوَادِعِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إلَيْهِمْ وَلَمْ يُخْرِجْهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَوَّلِ مُدَّةً طَوِيلَةً اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ مَا كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ شُرِعَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَوْ قَالَ إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَا وَاجِبٌ أَوْ أَنَّ وُجُوبَهُ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنْ إجْلَائِهِمْ وَإِبْقَائِهِمْ كَانَ جَيِّدًا وَكُنَّا نَحْمِلُ مَا نُشَاهِدُهُ مِنْ إبْقَائِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مَا رَأَى الْمَاضُونَ الْمَصْلَحَةَ فِي إجْلَائِهِمْ.

وَاَلَّذِي يَشْهَدُ الْخَاطِرُ أَنَّ سَبَبَهُ إهْمَالُ الْمُلُوكِ ذَلِكَ وَعَدَمُ نَظَرِهِمْ وَلَيْسُوا أَهْلَ قُدْوَةٍ وَأَعْمَالُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهِمَمُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالِاسْتِيلَاءُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْعُلَمَاءُ وَالصَّالِحُونَ مَشْغُولُونَ بِعِلْمِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ عَنْ مُقَابَلَةِ ذَلِكَ وَتَضْيِيعِ زَمَانِهِمْ فِيهِ مَعَ صُعُوبَتِهِ كَمَا نَحْنُ نُشَاهِدُ، وَلَقَدْ كَانَ الْبَكْرِيُّ شَاهَدَ مِنْ عُلُوِّهِمْ وَاسْتِيلَائِهِمْ مَا أَوْجَبَ تَأَثُّرَ قَلْبِهِ وَانْفِعَالِهِ لِقَبُولِ كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِهِمْ مِنْ الْإِقَامَةِ فِي الْأَمْصَارِ إذَا كَانَ إلَيْهِمْ حَاجَةٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ لَهُ غُلَامٌ نَصْرَانِيٌّ اسْمُهُ أَشَقُّ كَانَ يَقُولُ لَهُ أَسْلِمْ حَتَّى أَسْتَعْمِلَك فَإِنِّي لَا أَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا مُسْلِمًا فَيَأْبَى فَأَعْتَقَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَأَبُو لُؤْلُؤَةَ كَانَ مَجُوسِيًّا لَكِنْ مَا جَاءَ مِنْهُ خَيْرٌ.

وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى الْعَبْدِيِّ مَهْمَا تَنْصَحْ فَلَنْ نَعْزِلَك عَنْ عَمَلِك وَمَنْ أَقَامَ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ أَوْ مَجُوسِيَّتِهِ فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ. وَكَانَ الْمُنْذِرُ كَتَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِسْلَامِهِ وَتَصْدِيقِهِ وَإِنِّي قَرَأْت كِتَابَك عَلَى أَهْلِ هَجَرَ فَمِنْهُمْ مَنْ أَحَبَّ الْإِسْلَامَ وَأَعْجَبَهُ وَدَخَلَ فِيهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ وَبِأَرْضِي مَجُوسٌ وَيَهُودُ فَأَحْدِثْ إلَيَّ فِي ذَلِكَ أَمْرَك فَانْظُرْ مَا كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَيْهِ وَلَمْ يَقُلْ لَهُ أَخْرِجْهُمْ مِنْ بِلَادِك وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَصَالِحِ تَأَلُّفُهُمْ رَجَاءَ إسْلَامِهِمْ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ

ص: 384

يَكُونُوا تَحْتَ الذِّلَّةِ، وَكَانَتْ كِتَابَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى بَعْدَ إجْلَاءِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ بِمَكَّةَ وَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى النَّجَاشِيِّ فَأَسْلَمَ عِنْدَهُ الْحَبَشَةُ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِخْرَاجِهِمْ وَكَتَبَ إلَى عَبَدَةَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا الصَّدَقَةَ وَالْجِزْيَةَ فَيَدْفَعُوهَا إلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِخْرَاجِ أَهْلِ الْجِزْيَةِ وَلَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِمْ وَغَيْرِهِمْ.

وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ فِي آخِرِ عُمُرِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَهُ فِي الْجِزْيَةِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إلَيْهِمْ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فَلَمْ يَحْدُثْ بَعْدَهَا أَحْكَامٌ وَلَمْ يُخْرِجُوا أَهْلَ الْيَمَنِ بَعْدَهُ فَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ إخْرَاجَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إنَّمَا هُوَ مِنْ الْحِجَازِ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَرَى الْإِمَامُ

الْمَصْلَحَةَ

فِي إجْلَاءِ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مِنْ مِصْرٍ أَوْ مَدِينَةٍ إلَى مَكَان آخَرَ يَرَاهُ فَلَهُ ذَلِكَ إلَى حَسَبِ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ.

وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إلَّا إذَا كَانَ الْإِمَامُ مِثْلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَإِلَّا فَيَخْشَى أَنْ يُخْرِجَ مَنْ شَاءَ وَيُبْقِيَ مَنْ شَاءَ بِحَسَبِ هَوَى نَفْسِهِ وَغَرَضِهِ «قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَخْرِجُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى» وَهُوَ وَصِيَّةٌ لِأُمَّتِهِ بِمَا يَفْعَلُونَهُ بَعْدَهُ مِنْ ذَلِكَ وَجَوَازُهُ مُتَقَرِّرٌ قَبْلَ ذَلِكَ أَلَا تَرَى قَوْله تَعَالَى {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ} [الحشر: 3] وَذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم بِسَنَتَيْنِ فَلَا يَرِدُ عَلَى قَوْلِنَا أَنَّ الدِّينَ كَمُلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَإِنَّمَا هُوَ تَنْفِيذُ مَا تَقَرَّرَ جَوَازُهُ وَتَحَتُّمُهُ بِحَسَبِ مَا عَلِمَهُ صلى الله عليه وسلم وَعَمِلَ بِهِ عُمَرُ بَعْدَهُ فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ مِنْ الْحِجَازِ.

وَأَمَّا غَيْرُ الْحِجَازِ فَيَكُونُ النَّظَرُ فِيهِ لِلْإِمَامِ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ وَاجِبٌ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فَيَضِيقُ الْأَمْرُ وَلَا يَمْتَنِعُ بَلْ بِحَسَبِ

الْمَصْلَحَةِ

مَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ أَوْ صُلْحٌ وَمَتَى شَكَّ فِي صُلْحٍ مُتَقَدِّمٍ فَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ إنْ اُدُّعِيَ صُلْحٌ قَرِيبٌ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ إمَامٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَإِنْ بَعُدَ الْعَهْدُ وَاحْتَمَلَ الصُّلْحَ مِنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَوْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَجَبَ إبْقَاءُ مَنْ احْتَمَلَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَلَا يُكَلَّفُ بِبَيِّنَةٍ عَمَلًا بِالِاسْتِصْحَابِ كَالْيَدِ، وَلِهَذَا نَظِيرٌ وَهُوَ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ يَقُولُ إنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ شَخْصٍ لَمْ يُعَيِّنْهُ

ص: 385

الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيهِ.

وَلَوْ قَالَ إنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ زَيْدٍ وَأَنْكَرَ زَيْدٌ أَوْ وَارِثُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ زَيْدٍ أَوْ وَارِثِهِ كَمَا لَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ: كُنْت زَوْجَةً لِزَيْدٍ فَطَلَّقَنِي يَحْتَاجُ إلَى إقْرَارِ زَيْدٍ أَوْ بَيِّنَةٍ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَتْ كُنْت زَوْجَةً لِرَجُلٍ وَطَلَّقَنِي قُبِلَ قَوْلُهَا. وَبِهَذَا يُجَابُ عَمَّا أَجَابَهُ شَيْخُنَا ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالنَّفَائِسِ فِي أَدِلَّةِ هَدْمِ الْكَنَائِسِ وَحَاوَلَ أَنَّ النَّصَارَى وَالْيَهُودَ يُكَلَّفُونَ الْبَيِّنَةَ عَلَى قِدَمِ الْكَنَائِسِ وَأَنَّهُمْ مُدَّعُونَ وَلَا مُدَّعًى عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا إلَى زَمَانٍ تَحَقَّقْنَا وُجُودَهَا فِيهِ. وَالتَّمَسُّكُ بِهَذَا الْأَصْلِ مَعَ الْيَدِ ضَعِيفٌ.

وَأَنَا أَقُولُ لَا يَدَ لَهُمْ عَلَى الْكَنَائِسِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا الْيَدُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالِاسْتِصْحَابُ حُجَّةٌ لِمَا تَحَقَّقَ وُجُودُهُ فِي الْمَاضِي. وَادَّعَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ حُجَّةٌ أَيْضًا لِمَا وُجِدَ الْآنَ وَشَكَكْنَا فِيهِ فِي الْمَاضِي، وَمُقْتَضَى كَلَامِ أَكْثَرِ الْمُتَقَدِّمِينَ خِلَافُهُ لَكِنَّ التَّمَسُّكَ فِيهِ بِصُورَةِ الْيَدِ قَوِيٌّ فَإِذَا اُحْتُمِلَ وَلَمْ يَكُنْ مُدَّعٍ مُعَيَّنٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُغَيَّرَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ كَمَسْأَلَةِ الزَّوْجَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَإِنَّا لَوْ كَلَّفْنَا أَرْبَابَ الْأَيْدِي إلَى بَيِّنَةٍ مَعَ جَهَالَةِ مَنْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ مِنْهُ إلَيْهِمْ لَكَانَ فِي ذَلِكَ تَسْلِيطٌ لِلظَّلَمَةِ عَلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَلَوْ جَوَّزْنَا الْحُكْمَ بِرَفْعِ الْمَوْجُودِ الْمُحَقَّقِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ بَلْ بِمُجَرَّدِ أَصْلٍ مُسْتَصْحَبٍ لَزِمَ أَيْضًا ذَلِكَ، وَالْحُكْمُ بِالشَّكِّ فِي قِدَمِهِ مِنْ الْكَنَائِسِ الْمَوْجُودَةِ الْمُحْتَمِلَةِ الْقِدَمِ مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ مِنِّي بِإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِإِبْقَائِهَا لَكِنَّ تَوَقُّفِي فِيهَا لَا فِي الْحُكْمِ بِمُجَرَّدِ الْأَصْلِ بَلْ بِبَيِّنَةٍ تَنْضَمُّ إلَيْهِ وَالْبِلَادُ بِحَسَبِ غَرَضِنَا هَذَا ثَلَاثَةٌ:

(أَحَدُهَا) بَلَدٌ يَفْتَحُهَا الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ وَلَا يَشْتَرِطُونَ لِأَهْلِهَا شَيْئًا فَلِلْإِمَامِ إخْرَاجُ الْكُفَّارِ مِنْهَا وَمَنْعُهُمْ مُسَاكَنَةِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا جَوَازًا قَطْعًا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ بِوُجُوبِهِ إذَا رَأَى

مَصْلَحَةَ

الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ أَوْ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَيْهِمْ كَمَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

(الْبَلَدُ الثَّانِي) بَلَدٌ يَفْتَحُهَا الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْكُفَّارُ كَسَوَاحِلِ الشَّامِ فَهَلْ نَقُولُ الِاعْتِبَارُ بِهَذَا الْفَتْحِ فَيَكُونُ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَوْ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهَا حُكْمُ فُتُوحِ عُمَرَ؟ فِيهِ نَظَرٌ وَالْأَقْرَبُ الثَّانِي لِأَنَّ اسْتِيلَاءَ الْكُفَّارِ لَا أَثَرَ لَهُ.

(الْبَلَدُ الثَّالِثُ) مَا فُتِحَ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُغَيَّرَ فِيهِ شَيْءٌ إلَّا بِمُسْتَنَدٍ عَمَلًا بِالْيَدِ أَوْ شِبْهِ الْيَدِ لِتَعَذُّرِ ثُبُوتِ خِلَافِهِ.

وَإِذَا أَبْقَيْنَا كَنِيسَةً فَإِنَّا نَقُولُ بِأَنْ لَا نَهْدِمَهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي لَفْظِ

ص: 386

الْحَدِيثِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْإِذْنُ فِيهَا وَلَا الْتِزَامٌ بِذَلِكَ وَلَا التَّمْكِينُ مِنْ تَرْمِيمِهَا إذَا شُعِّثَتْ وَلَا إعَادَتُهَا إذَا خَرِبَتْ، كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَرِدْ بِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ مَعَ أَنَّهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَلَا يُمْكِنُ مِنْهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ أَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْهَا مِثْلَنَا حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ عَلَى التَّقْدِيرِ فِيهِ وَالتَّمْكِينِ مِنْهُ أَعْنِي التَّرْمِيمَ وَالْإِعَادَةَ فَكَانَ مَمْنُوعًا فَصَارَ الْإِذْنُ بِالتَّرْمِيمِ أَوْ بِالْإِعَادَةِ مُمْتَنِعًا بِشَيْئَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّهُ حُكْمٌ فِي مَحَلِّ شَكٍّ فَيَكُونُ مُمْتَنِعًا وَكَمَا أَنَّا لَا نَهْدِمُهَا بِالشَّكِّ فَلَا نُرَمِّمُهَا أَوْ نُعِيدُهَا بِالشَّكِّ.

وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ دَلِيلٌ بِالتَّقْرِيرِ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْمَنْعِ لِتَحَقُّقِ تَحْرِيمِهِ فِي الشَّرْعِ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَعْلَمُ فَكَذَلِكَ أَقُولُ بِالْمَنْعِ مِنْ التَّرْمِيمِ وَالْإِعَادَةِ مَعَ عَدَمِ الْهَدْمِ فِي الْأَصْلِ وَلَا تَنَاقُضَ فِي ذَلِكَ كَمَا يَظُنُّ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا احْتِيَاجَ فِي ذَلِكَ إلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ حَتَّى يَتَوَقَّفَ عَلَى تَصْحِيحِ شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَا إلَى شَرْطٍ حَتَّى يَتَوَقَّفَ عَلَى صِحَّةِ شُرُوطِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ لَوْ كَانَ أَصْلُهَا عَلَى الْإِذْنِ. وَقَدْ عَرَّفْتُكَ أَنَّ أَصْلَ الْكَنَائِسِ عَلَى الْمَنْعِ لِأَنَّهَا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ فَمَنْ ادَّعَى جَوَازَ التَّقْرِيرِ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ، وَنَحْنُ إنَّمَا نَذْكُرُ مَا نَذْكُرُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَالشُّرُوطِ تَأْكِيدًا، وَالْأَصْحَابُ اسْتَدَلُّوا عَلَى مَنْعِ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ فِي الْإِسْلَامِ بِقَوْلِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَجَيِّدٌ هُوَ وَهُوَ تَأْكِيدٌ وَلَوْ لَمْ يَقُولَاهُ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمَا ذَلِكَ كُنَّا قَائِلِينَ بِهِ.

وَرَأَيْت فِي كِتَابِ الْجَوَاهِرِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ إذَا اتَّجَرَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالْخَمْرِ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ: إذَا جَلَبُوهُ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا إلَى أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لَا ذِمَّةَ فِيهَا فَاسْتَشْعَرْت مِنْهَا أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَمْ يَكُونُوا فِي الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا كَانُوا فِي الْقُرَى وَلَعَلَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ ثُمَّ حَدَثَ سُكْنَاهُمْ الْأَمْصَارَ بَعْدَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ لِفَسَادِ الزَّمَانِ، وَلَعَلَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا قَالَ بِإِحْدَاثِهَا فِي الْقُرَى الَّتِي يَتَفَرَّدُونَ بِالسُّكْنَى فِيهَا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِمَنْعِهَا لِأَنَّهَا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَقَبْضَتِهِمْ وَإِنْ انْفَرَدُوا فِيهَا فَهُمْ تَحْتَ يَدِهِمْ فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ لِأَنَّهَا دَارُ الْإِسْلَامِ وَلَا يُرِيدُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ قَرْيَةً فِيهَا مُسْلِمُونَ

ص: 387

فَيُمَكَّنُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ بِنَاءِ كَنِيسَةٍ فِيهَا. فَإِنَّ هَذِهِ فِي مَعْنَى الْأَمْصَارِ فَتَكُونُ مَحَلَّ إجْمَاعٍ وَتَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْقُرَى الَّتِي جَرَتْ عَادَتُهَا بِسَكَنِهِمْ فِيهَا لِاشْتِغَالِهِمْ بِأَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْفِلَاحَةِ وَغَيْرِهَا. أَوْ لِمَا يُرْجَى مِنْ إسْلَامِهِمْ صَاغِرِينَ بَاذِلِينَ لِلْجِزْيَةِ، فَإِنَّا لَوْ لَمْ نُبْقِهِمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَسْمَعُوا مَحَاسِنَهُ فَلَمْ يَسْلَمُوا وَلَوْ بَقِينَاهُمْ بِلَا جِزْيَةٍ وَلَا صَغَارٍ غَرُّوا وَأَنِفُوا فَبَقِينَاهُمْ بِالْجِزْيَةِ لَا قَصْدًا فِيهَا بَلْ فِي إسْلَامِهِمْ. وَلِهَذَا إذَا نَزَلَ عِيسَى عليه السلام لَا يَقْبَلُهَا لِأَنَّ مُدَّةَ الدُّنْيَا الَّتِي يُرْجَى إسْلَامُهُمْ فِيهَا فَرَغَتْ. وَالْحُكْمُ يَزُولُ بِزَوَالِ عِلَّتِهِ فَزَالَ حُكْمُ قَبُولِ الْجِزْيَةِ بِزَوَالِ عِلَّتِهِ وَهُوَ اقْتِصَارُ إسْلَامِهِمْ وَذَلِكَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ حُكْمًا جَدِيدًا فَإِنَّ عِيسَى عليه السلام إنَّمَا يَنْزِلُ حَاكِمًا بِشَرِيعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَبَعْدَ أَنْ كَتَبْتُ هَذَا وَقَفْتُ عَلَى شَرْحِ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ لِابْنِ السَّاعَاتِيِّ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ: وَهَذَا الْمَذْكُورُ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى لِأَنَّ الْأَمْصَارَ مَحَلُّ إقَامَةِ الشَّعَائِرِ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَالْمَرْوِيُّ فِي دِيَارِنَا يَمْنَعُونَ عَنْ إظْهَارِ ذَلِكَ فِي الْقُرَى أَيْضًا لِأَنَّ لَهَا بَعْضَ الشَّعَائِرِ. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ رحمه الله فِي قُرَى الْكُوفَةِ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ وَفِي أَرْضِ الْعَرَبِ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِهِمْ وَقُرَاهُمْ. وَفِي الْكَافِي مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ لِحَافِظِ الدِّينِ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ.

(بَابُ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ) أَمَّا عُمَرُ رضي الله عنه فَسَنُفْرِدُ لِشُرُوطِهِ بَابًا. وَرَوَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ أَمَرَ بِهَدْمِ كُلِّ كَنِيسَةٍ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَأَمَرَ أَنْ لَا يَظْهَرَ صَلِيبٌ إلَّا كُسِرَ عَلَى ظَهْرِ صَاحِبِهِ. وَهَذَا الْأَثَرُ فِي تَارِيخِ دِمَشْقَ لِابْنِ عَسَاكِرَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَطَّافٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ. وَمَعْنَاهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَالَهُ الطُّرْطُوشِيُّ فِي سِرَاجِ الْمُلُوكِ فَإِنَّ الْكَنَائِسَ الْحَادِثَةَ فِي الْإِسْلَامِ لَا تَبْقَى فِي الْأَمْصَارِ إجْمَاعًا وَلَا فِي الْقُرَى عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ بِإِبْقَائِهَا فِي الْقُرَى بَعِيدٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي سَنَحْكِيهِ فِي الْمِصْرِ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّمَا نَعْنِي بِالْمِصْرِ أَيَّ مَوْضِعٍ كَانَ مَدِينَةً أَوْ قَرْيَةً.

ص: 388

وَفِي كِتَابِ مَا يَلْزَمُ أَهْلَ الذِّمَّةِ فِعْلُهُ لِأَبِي يَعْلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْفَرَّاءِ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ رِسَالَةً إلَى الْوَزِيرِ أَبِي أَحْمَدَ الْعَبَّاسِ بْنِ الْحَسَنِ فِي الشُّرُوطِ الَّتِي صُولِحَ عَلَيْهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَذَكَرَهَا وَأَطَالَ ثُمَّ قَالَ وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ يَعْنِي هَذِهِ الْمُحَدِّثَةَ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ أَثَرَ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمَ: وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ يَهْدِمُهَا بِصَنْعَاءَ هَذَا مَذْهَبُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ.

وَاَلَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ يَعْنِي فِي الْمُحَدِّثَةِ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ: وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَمَرَ أَنْ لَا يُتْرَكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِيعَةٌ وَلَا كَنِيسَةٌ بِحَالٍ قَدِيمَةً وَلَا حَدِيثَةً وَهَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تُهْدَمَ الْكَنَائِسُ الَّتِي فِي الْأَمْصَارِ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ عُمَرَ وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ تُتْرَكَ الْبِيعَةُ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ. وَفِيهِ أَيْضًا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ عَوْفٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ صُولِحُوا عَلَى أَنْ يُخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النِّيرَانِ وَالْأَوْثَانِ فِي غَيْرِ الْأَمْصَارِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْحَسَنُ مِنْ بَقَاءِ الْأَوْثَانِ بَعِيدٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَلَا يَجُوزُ مُصَالَحَتُهُمْ عَلَيْهِ، فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لَا تَدَعْ قَبْرًا نَاتِئًا عَنْ الْأَرْضِ إلَّا سَوَّيْتَهُ وَلَا صَنَمًا إلَّا كَسَّرْتَهُ وَلَا صُورَةً إلَّا مَحَوْتَهَا» . رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ بِإِسْنَادِهِ الْمُتَقَدِّمِ إلَيْهِ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عِصْمَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَصَحُّ مِنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ حَسَنٌ «عَنْ أَبِي الْهَيَاجِ حَيَّانَ بْنِ حُصَيْنٍ الْأَسَدِيِّ قَالَ طَلَبَنِي عَلِيٌّ فَقَالَ: أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَدَعْ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ» .

وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا عُمُومِهِ. وَالثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَلِيٍّ كَانَ فِي الْكُوفَةِ وَتِلْكَ الْبِلَادُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُشْرِكُونَ فَقَطْ بَلْ فِيهَا جَمَاعَةٌ يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ، أَمَّا النِّيرَانُ فَقَرِيبٌ وَهِيَ إنَّمَا هِيَ لِلْمَجُوسِ فَتَقْرِيرُهُمْ عَلَيْهَا كَتَقْرِيرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ فَإِذَا اشْتَرَطُوا ذَلِكَ لَمْ نَمْنَعْ مِنْهُ. وَهُنَا لَطِيفَةٌ فَارِقَةٌ بَيْنَ النِّيرَانِ وَالْأَوْثَانِ فَإِنَّ الْأَوْثَانَ مِنْ قِسْمِ الْأُصُولِ وَالنِّيرَانِ مِنْ قِسْمِ الْفُرُوعِ وَنَجِدُ أَكْثَرَ مَا أَقْرَرْنَاهُمْ عَلَيْهِ مِنْ شُرْبِ

ص: 389

الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَنِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ قِسْمِ الْفُرُوعِ وَاحْتِمَالُهَا رَجَاءَ الْإِسْلَامِ سَهْلٌ، وَأَمَّا الْأَوْثَانُ فَشِرْكٌ ظَاهِرٌ فَلَا يُحْتَمَلُ. وَقَوْلِي " ظَاهِرٌ " احْتِرَازٌ مِمَّا نَحْنُ جَازِمُونَ بِأَنَّهُ يَصْدُرُ مِنْهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ كَنَائِسِهِمْ مِنْ الْكُفْرِ لِأَنَّهُ خَفِيٌّ فَلَوْ أَظْهَرُوهُ لَمْ نَحْتَمِلْهُ وَلِذَلِكَ تُقْسَمُ الشُّرُوطُ الْمَأْخُوذَةُ عَلَيْهِمْ إلَى مَا مُخَالَفَتُهُ نَاقِضَةٌ لِلذِّمَّةِ بِلَا خِلَافٍ وَهُوَ مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَشِرْكٌ ظَاهِرٌ عَلَى تَفْصِيلٍ وَتَحْرِيرٍ مَذْكُورٍ فِي بَابِهِ فَهَذَا لَا يُحْتَمَلُ وَمَا سِوَاهُ قَدْ يُحْتَمَلُ.

وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ ثنا أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ ثنا يُوسُفُ بْنُ عَطِيَّةَ قَالَ جَاءَ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ أَنْ يَمْحُوَ التَّمَاثِيلَ الْمُصَوَّرَةَ.

وَأَمَّا كَرَاهِيَةُ الْحَسَنِ لِتَرْكِ الْبِيَعِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَبِعُمُومِهِ يَشْمَلُ الْحَادِثَةَ وَالْقَدِيمَةَ كَمَا نَقَلَهُ الطُّرْطُوشِيُّ عَنْهُ وَأَنَّهُ قَالَ أَنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ وَمَا نَقَلَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مُوَافِقٌ لَهُ وَزَائِدٌ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمِصْرَ فِي كَلَامِ الْحَسَنِ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ مَوْضِعٍ وَمُحْتَمِلٌ لِلْمُدُنِ، وَكَلَامُ ابْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه الله عَامٌّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَنْ تُهْدَمَ مِنْ جَمِيعِهَا الْكَنَائِسُ الْقَدِيمَةُ وَالْحَدِيثَةُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَرِيبُ الْعَهْدِ بِالْفَتْحِ فَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُ الصُّلْحِ وَهُوَ إمَامُ هُدًى مُطَاعٌ صَاحِبُ الْأَمْرِ فَأَمْرُهُ بِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي زَمَانِهِ كَنِيسَةٌ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا هُوَ بِهَا الْيَوْمَ مِنْ الْكَنَائِسِ حَدَثَ بَعْدَهُ أَوْ كَانَ وَلَمْ يَطَّلِعْ هُوَ عَلَى تَرْكِهِ فَلَا يَحْتَجُّ فِي إبْقَاءِ مَا نَجِدُهُ مِنْهَا. وَإِنَّمَا قُلْت ذَلِكَ لِأَنَّهُ بَلَغَنِي عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّهُ تَوَقَّفَ عَنْ هَدْمِهَا لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمْ يَهْدِمْهَا فَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، هَذَا إنْ صَحَّ السَّنَدُ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِمَا ذَكَرَهُ الطُّرْطُوشِيُّ وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَا تَهْدِمُوا بِيعَةً وَلَا كَنِيسَةً وَلَا بَيْتَ نَارٍ وَجَعَلُوا ذَلِكَ عُمْدَةً فِي الْإِبْقَاءِ. وَهَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّخَعِيِّ قَالَ: جَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَا تَهْدِمْ بِيعَةً وَلَا كَنِيسَةً وَلَا بَيْتَ نَارٍ صُولِحُوا عَلَيْهِ. فَقَوْلُهُ " صُولِحُوا عَلَيْهِ " قَيْدٌ وَلَا بُدَّ مِنْهُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ كَمَا قُلْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِإِبْقَائِهَا مِنْ غَيْرِ صُلْحٍ، وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ عَامٌّ.

ص: 390

وَاَلَّذِي تَقَدَّمَ عَلَيْهِ خَاصٌّ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَيَكُونُ هَذَا فِي بِلَادِ الْمَجُوسِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ فِيهِ بَيْتَ النَّارِ أَوْ فِي بِلَادِهِمْ وَبِلَادِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّتِي صَالَحُوا عَلَيْهَا كَانُوا مُنْفَرِدِينَ فِيهَا تَنَافِي بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ نُقِلَتَا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنه وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ إذَا صَحَّتْ الرِّوَايَةُ الْأُولَى أَنَّهُ يَعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ لَا صُلْحَ لَهُمْ عَلَى إبْقَائِهَا فِي فَتْحِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ حُكْمِهِ وَأَقْرَبُهَا الشَّامُ لِأَنَّهَا سَكَنُهُ وَمِصْرُ وَالْعِرَاقُ يَكْتَنِفَانِهَا.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كِتَابٌ إلَى قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ فَكَيْفَ يَحْتَجُّ بِهَا فِي غَيْرِهِمْ، وَالْغُرُّ يَسْمَعُ لَا تَهْدِمُوا فَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ فِي بِلَادٍ مَخْصُوصَةٍ وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى لَفْظٌ عَامٌّ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ خَاصَّةٌ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عَامَّةٌ فِي الْأَحْكَامِ.

وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَاشْتُهِرَ اشْتِهَارًا كَثِيرًا سَنَذْكُرُهُ وَهُوَ مَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ قَالَ ثنا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَنَشٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَلِلْعَجَمِ أَنْ يُحْدِثُوا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ بِنَاءً وَبِيعَةً. فَقَالَ أَمَّا مِصْرٌ مَصَّرَتْهُ الْعَرَبُ فَلَيْسَ لِلْعَجَمِ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ بِنَاءً أَوْ قَالَ بِيعَةً وَلَا يَضْرِبُوا فِيهِ نَاقُوسًا وَلَا يَشْرَبُوا فِيهِ خَمْرًا وَلَا يَتَّخِذُوا فِيهِ خِنْزِيرًا أَوْ يَدْخُلُوا فِيهِ. وَأَمَّا مِصْرٌ مَصَّرَتْهُ الْعَجَمُ فَفَتَحَهُ اللَّهُ عَلَى الْعَرَبِ فَنَزَلُوا يَعْنِي عَلَيْهِمْ فَلِلْعَجَمِ مَا فِي عَهْدِهِمْ وَلِلْعَجَمِ عَلَى الْعَرَبِ أَنْ يُوفُوا بِعَهْدِهِمْ وَلَا يُكَلِّفُوهُمْ فَوْقَ طَاقَتِهِمْ.

وَقَدْ أَخَذَ الْعُلَمَاءُ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا وَجَعَلُوهُ مَعَ قَوْلِ عُمَرَ وَسُكُوتُ بَقِيَّةِ الصَّحَابَةِ إجْمَاعًا. وَقَدْ رَوَيْنَا أَثَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ لِأَبِي عُبَيْدٍ.

وَقَدْ ذَكَرْنَا سَنَدًا إلَيْهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ عَاصِمٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الرَّحَبِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ التَّمْصِيرُ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا الْبِلَادُ يُسْلِمُ عَلَيْهَا أَهْلُهَا كَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ وَالْيَمَنِ أَوْ بَعْضُهَا وَكُلُّ أَرْضٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَهْلٌ فَاخْتَطَّهَا الْمُسْلِمُونَ كَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالثُّغُورِ وَكُلُّ قَرْيَةٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَلَمْ يَرَ الْإِمَامُ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى الَّذِي أُخِذَتْ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُ قَسَمَهَا بَيْنَ الَّذِينَ فَتَحُوهَا كَفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَرَ. فَهَذِهِ أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ وَأَشْبَاهُهَا لَا سَبِيلَ لِأَهْلِ الذَّمَّةِ فِيهَا إلَى

ص: 391

إظْهَارِ شَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِهِمْ.

وَأَمَّا الْبِلَادُ الَّتِي لَهُمْ فِيهَا السَّبِيلُ إلَى ذَلِكَ فَمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ فَلَمْ يُنْزَعْ مِنْهُمْ وَهُوَ تَأْوِيلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَمِنْ بِلَادِ الصُّلْحِ أَرْضُ هَجَرَ وَالْبَحْرَيْنِ وَأَيْلَةَ وَدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَأَذْرُحَ أَدَّتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجِزْيَةَ وَمِنْ الصُّلْحِ بَعْدَهُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَدِمَشْقُ وَمُدُنُ الشَّامِ دُونَ أَرَاضِيهَا وَكَذَلِكَ بِلَادُ الْجَزِيرَةِ وَقِبْطُ مِصْرَ وَبِلَادُ خُرَاسَانَ وَكَذَلِكَ كُلُّ بِلَادٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَرَأَى الْإِمَامُ رَدَّهَا إلَى أَهْلِهَا وَإِقْرَارَهَا فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى دِينِهِمْ وَذِمَّتِهِمْ كَفِعْلِ عُمَرَ بِالسَّوَادِ وَكَذَلِكَ بِلَادُ الشَّامِ كُلُّهَا عَنْوَةً خَلَا مُدُنَهَا وَكَذَلِكَ الْجَبَلُ وَالْأَهْوَازُ وَفَارِسُ وَالْمَغْرِبُ وَالثُّغُورُ، فَهَذِهِ بِلَادُ الْعَنْوَةِ.

وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ بَلَغَ عُمَرُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ أَثْرَى فِي تِجَارَةِ الْخَمْرِ فَكَتَبَ أَنْ اكْسَرُوا كُلَّ شَيْءٍ قَدِيمٍ عَلَيْهِ وَوُجِدَ فِي بَيْتِ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ يُقَالُ لَهُ رُوَيْشِدٌ فَقَالَ أَنْتَ فُوَيْسِقٌ وَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِبَ وَنَظَرَ إلَى غُرَارَةَ فَقَالَ مَا هَذِهِ قَالُوا قَرْيَةً تُدْعَى غُرَارَةُ يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ فَأَحْرَقَهَا.

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَجْهُهُ أَنَّ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ لَمْ تَكُنْ فَمَا شَرَطَ لَهُمْ وَإِنَّمَا شَرَطَ لَهُمْ شُرْبَهَا

وَلِهَذَا كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَا يُحْمَلُ الْخَمْرُ مِنْ رُسْتَاقٍ إلَى رُسْتَاقٍ. وَقَالَ لِعَامِلِهِ عَلَى الْكُوفَةِ: مَا وَجَدْت مِنْهَا فِي السُّفُنِ فَصَيِّرْهُ خَلًّا فَكَتَبَ عَامِلُهُ وَهُوَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إلَى عَامِلِهِ بِوَاسِطَ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَنِيرِ بِذَلِكَ فَأَتَى السُّفُنَ فَصَبَّ فِي كُلِّ رَاقُودٍ مَاءً وَمِلْحًا فَصَيَّرَهُ خَلًّا.

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فَلَمْ يُحِلْ عُمَرُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شُرْبِهَا لِأَنَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ صُولِحُوا وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ حَمْلِهَا وَالتِّجَارَةِ فِيهَا وَإِنَّمَا نَرَاهُ أَمَرَ بِتَصْيِيرِهَا خَلًّا وَتَرْكِهَا أَنْ يَصُبَّهَا فِي الْأَرْض لِأَنَّهَا مَالٌ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَوْ كَانَتْ لِمُسْلِمٍ مَا جَازَ إلَّا إهْرَاقُهَا.

وَكَذَلِكَ فَعَلَ عُمَرُ بِمَالِ رُوَيْشِدٍ حِينَ أَحْرَقَ عَلَيْهِ مَنْزِلَهُ فَلَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَجْعَلَهَا خَلًّا وَكَانَ رُوَيْشِدٍ مُسْلِمًا وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا رَخَّصَ فِي تَخْلِيلِ خَمْرِ الْمُسْلِمِ إلَّا الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ.

وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَقُولُ خَلُّ الْعِنَبِ وَلَا يَقُولُ خَلُّ الْخَمْرِ.

وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيّ يَأْمُرُهُمْ بِالثَّغْرِ إذَا أَرَادُوا اتِّخَاذَ الْخَلِّ مِنْ الْعَصِيرِ أَنْ يُلْقُوا فِيهِ شَيْئًا مِنْ خَلٍّ سَاعَةَ يُعْصَرُ فَتَدْخُلُ حُمُوضَةُ الْخَلِّ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ فَلَا يَعُودُ خَمْرًا أَبَدًا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ إنَّمَا فَعَلَ الصَّالِحُونَ هَذَا تَنَزُّهًا عَنْ الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَلِّ

ص: 392

بَعْدَ أَنْ يَسْتَحْكِمَ مَرَّةً خَمْرًا وَإِنْ آلَتْ إلَى الْخَلِّ وَقَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي الْمُرَى تَحْتَهُ الشَّمْسُ وَالْمِلْحُ وَالْحِيتَانُ فَالْمُرَى شَيْءٌ يَتَّخِذُهُ أَهْلُ الشَّامِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ فَيَبْتَاعُهُ الْمُسْلِمُونَ مُرًّا لَا يَدْرُونَ كَيْفَ كَانَ، وَهَذَا كَقَوْلِ عُمَرَ وَلَا بَأْسَ عَلَى امْرِئٍ أَصَابَ خَلًّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ يَبْتَاعَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا إفْسَادَهَا أَلَا تَرَاهُ إنَّمَا رَخَّصَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ.

كَذَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ أَلْقَى فِي خَمْرِ أَهْلِ السَّوَادِ مَاءً أَمَّا فِعْلُهُ بِخَمْرِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا يَجُوزُ فِي خَمْرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ. انْتَهَى مَا أَرَدْت نَقْلَهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدٍ. وَلَمْ يَزَلْ الْإِشْكَالُ فِي تَخْلِيلِنَا خَمْرِ الذِّمِّيِّ مَعَ أَنَّهُ لَا يُرَخِّصُ لَهُ فِي تَخْلِيلِهَا وَكَانَ الْمَقْصُودُ ذِكْرَ أَثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاَلَّذِي اقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ يَبْقَى مِنْ الْكَنَائِسِ إلَّا بِعَهْدٍ حَيْثُ يَجُوزُ الْعَهْدُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ فِي بِلَادٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَرَأَى الْإِمَامُ رَدَّهَا إلَى أَهْلِهَا وَإِقْرَارَهَا فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى دِينِهِمْ وَذِمَّتِهِمْ كَفِعْلِ عُمَرَ فِي السَّوَادِ وَهَذَا مَذْهَبٌ لَا هُوَ يَقُولُ بِهِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ أَنَّهُ فُتِحَ عَنْوَةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ: هُوَ الْآنَ مِلْكٌ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ بِالشِّرَاءِ.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَالصَّحِيحُ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ وَقْفٌ حَقِيقِيٌّ يَمْتَنِعُ بَيْعُهُ وَعَلَى هَذَا هَلْ كَانَ بِإِنْشَاءِ وَقْفٍ مِنْ عُمَرَ بَعْدَ اسْتِرْضَائِهِ الْغَانِمِينَ أَوْ أَنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ لِلْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْغَانِمِينَ فَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ بِالْأَوَّلِ وَيَسْتَدِلُّ بِقَوْلِ جَرِيرٍ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه عَوَّضَهُ مِنْ حَقِّهِ نَيِّفًا وَثَمَانِينَ دِينَارًا وَعَوَّضَ امْرَأَةً مَعَهُ يُقَالُ لَهَا أُمُّ كُرْزٍ حَتَّى تَرَكَتْ حَقَّهَا.

وَقَالَ جَمَاعَةٌ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدٍ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا عُمَرُ كَانَ نَقَلَ جَرِيرًا وَقَوْمَهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ إلَى الْعِرَاقِ قَالَ لَهُ هَلْ لَك فِي الْكُوفَةِ وَأَنْفِلُكَ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ قَالَ: نَعَمْ، فَبَعَثَهُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فَنَرَى أَنَّ عُمَرَ إنَّمَا خَصَّ جَرِيرًا وَقَوْمَهُ بِالنَّفْلِ الْمُتَقَدِّمِ دُونَ النَّاسِ لِأَنَّهُمْ أَحْرَزُوهُ وَمَلَكُوهُ بِالنَّفْلِ وَإِنَّمَا الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فِي أَرْضِهَا إنْ شَاءَ قَسَمَهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ بَيْنَ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ بَعْدَ الْخُمُسِ كَمَا بُيِّنَ فِي بَابِهِ فِي

ص: 393

قَوْله تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الْآيَةَ وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهَا وَقْفًا عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 7] إلَى قَوْلِهِ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] وَرَأَى عُمَرُ هَذَا وَوَافَقَهُ عَلِيٌّ وَمُعَاذٌ وَرَأَى بِلَالٌ وَابْنُ الزُّبَيْرِ الْأَوَّلَ فَهِيَ بَاقِيَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ فِيهَا وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إبْقَاؤُهَا فِيهَا عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ الْكَنَائِسِ تُهْدَمُ قَالَ لَا إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا فِي الْحَرَمِ. وَهَذَا مِنْ عَطَاءٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا حَصَلَ صُلْحٌ عَلَيْهَا أَوْ احْتَمَلَ ذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا: ثنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ حَدَّثَنِي ابْنُ سُرَاقَةَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ كَتَبَ لِأَهْلِ دَيْرِ طَابَا أَنِّي أَمَّنْتُكُمْ عَلَى دِمَائِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَكَنَائِسِكُمْ أَنْ تُهْدَمَ وَأَبُو عُبَيْدَةَ كَانَ أَمِيرًا فَإِذَا رَأَى

الْمَصْلَحَةَ

فِي الْمُصَالَحَةِ عَلَى أَنْ لَا تُهْدَمَ الْكَنَائِسُ جَازَ إنْ كَانَ مَوْضِعُهَا لَمْ يُؤْخَذْ عَنْوَةً وَكَذَا إذَا أُخِذَ عَنْوَةً عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَقَدْ يَكُونُ رَأَى وَالشَّامُ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ وَإِنَّ قُرَاهُ وَأَرَاضِيَهُ عَنْوَةً وَمُدُنَهُ صُلْحٌ.

وَفِي دِمَشْقَ خِلَافٌ كَثِيرٌ هَلْ هِيَ صُلْحٌ أَوْ عَنْوَةٌ بَيْنَ الْمُؤَرِّخِينَ وَالْفُقَهَاءِ فَالْجُورِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا يَقُولُ إنَّهَا صُلْحٌ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ يَقُولُ إنَّهَا عَنْوَةٌ وَسَبَبُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ اخْتِلَافُ الْمُؤَرِّخِينَ حَتَّى قِيلَ إنَّ أَمْرَهَا أُشْكِلَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَجَعَلَهَا وَكَذَلِكَ أُشْكِلَ أَمْرُهَا عَلَى الْحَاضِرِينَ لِفَتْحِهِمَا فَجَعَلُوهَا صُلْحًا تَوَرُّعًا لَيْسَ أَنَّهُمْ جَازِمُونَ فَإِنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَانَ عَلَى بَابِ الصَّغِيرِ وَخَالِدًا عَلَى بَابٍ شَرْقِيٍّ وَهُوَ كَانَ الْأَمِيرُ مِنْ جِهَةِ أَبِي بَكْرٍ وَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ وَاسْتُخْلِفَ عُمَرُ فَوَلَّى أَبَا عُبَيْدَةَ فَأَخْفَى أَبُو عُبَيْدٍ الْكِتَابَ وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى بَابِ الْجَابِيَةِ فَانْتَهَزَ يَزِيدُ فُرْصَةً فَدَخَلَ عَنْوَةً مِنْ بَابِ الصَّغِيرِ فَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ ذَهَبَ رَاهِبُ دِمَشْقَ إلَى خَالِدٍ خَدَعَهُ وَصَالَحَهُ وَدَخَلَ فَوَجَدَ يَزِيدَ قَدْ دَخَلَ وَخَالِدٌ لَا يَشْعُرُ حَتَّى الْتَقَيَا عِنْدَ سُوقِ الزَّيْتِ. وَأَنَا عِنْدِي فِي صِحَّةِ هَذَا الصُّلْحِ نَظَرٌ وَقِيلَ إنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ دَخَلَ عَنْوَةً وَخَالِدٌ صُلْحًا وَقِيلَ عَكْسُهُ وَمِصْرُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فِيهَا أَنَّهَا عَنْوَةٌ وَقِيلَ صُلْحًا.

وَمِمَّا أُنَبِّهُ عَلَيْهِ هُنَا أَنَّ الصُّلْحَ تَارَةً يَكُونُ عَلَى الْأَنْفُسِ وَتَقْرِيرِهَا بِالْجِزْيَةِ

ص: 394

فَقَطْ دُونَ التَّعَرُّضِ لِلْعَقَارِ وَالْأَرَاضِي وَتَارَةً يَكُونُ عَلَى الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَالٍ مَمْلُوكٍ لِلْكُفَّارِ عَلَى حَسَبِ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ وَذَلِكَ فِي كُلِّ عَقَارٍ وَأَرْضٍ خَاصَّةٍ بِقَوْمٍ أَمَّا الْأَرَاضِي الْعَامَّةُ الَّتِي تَحْتَ يَدِهِمْ بِالْمَمْلَكَةِ الْعَامَّةِ دُونَ أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ فَهَذِهِ فِي فَتْحِ الْعَنْوَةِ لَا شَكَّ أَنَّهَا غَنِيمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ فَيْءٌ لَهُمْ وَلَا حَقَّ لِلْكُفَّارِ فِيهَا. وَأَمَّا فِي فَتْحِ الصُّلْحِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْحَالُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَرَاضِيَ ثَلَاثٌ:(إحْدَاهَا) مَا هُوَ مِلْكُ كَافِرٍ خَاصٌّ فَهُوَ غَنِيمَةٌ أَوْ فَيْءٌ.

(الثَّانِيَةُ) مَوَاتٌ فَقَدْ قَالُوا إنَّهَا لَا تَكُونُ غَنِيمَةً وَلَا فَيْئًا بَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى حُكْمِ الْمَوَاتِ.

(الثَّالِثَةُ) مَا لَيْسَ بِمَوَاتٍ وَلَا مِلْكٍ خَاصٍّ مِثْلَ أَرَاضِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الَّتِي هِيَ لِلْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ مِثْلُهَا فِي بِلَادِ الْكُفَّارِ هَلْ نَقُولُ هِيَ مِلْكٌ لَهُمْ أَوْ لَا لِأَنَّ جِهَةَ الْإِسْلَامِ تَمْلِكُ كَمَا تَمْلِكُ بِالْإِرْثِ بِخِلَافِ جِهَةِ الْكُفْرِ وَالْأَرْضُ لِلَّهِ فَيَمْلِكُهَا الْمُسْلِمُونَ، وَاَلَّذِي ظَهَرَ لِي فِي ذَلِكَ إنْ جَرَى الصُّلْحُ عَلَى أَنَّهَا لَنَا فَلَا إشْكَالَ وَهِيَ لِلْمُسْلِمِينَ مِلْكٌ وَإِنْ جَرَى صُلْحٌ عَلَى أَنَّهَا لَهُمْ فَلَمْ تَدْخُلْ فِي أَيْدِينَا وَلَا يَحْصُلُ لَنَا فِيهَا مِلْكٌ وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي أَيْدِيهِمْ وَلَا نَقُولُ إنَّهَا مِلْكُهُمْ وَبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ عَنْ أُرَاضِي نَجْرَانَ لَمَّا انْجَلَى أَهْلُهَا فَإِنَّهَا بِجَلَائِهَا دَخَلَتْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَمَلَكُوهَا بِدُخُولِهَا فِي يَدِهِمْ كَمَا يَمْلِكُونَ سَائِرَ الْمُبَاحَاتِ بِذَلِكَ.

وَالْوَاقِعُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الشَّامِ وَمِصْرَ أَنَّهَا فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَهُمْ إمَّا وَقْفًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ عُمَرَ، وَإِمَّا مِلْكًا وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَنْ انْتَقَلَ مِنْهُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِيمَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ لَمْ نَعْرِفْ مَنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْهُ فَيَبْقَى فِي يَدِهِ وَلَا يُكَلَّفُ بَيِّنَةً.

وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ مُطْلَقًا مِنْ تَعَيُّنِ الْأَرَاضِي هَلْ هِيَ لَنَا أَوْ لَهُمْ فَإِنْ كَانُوا مُنْفَرِدِينَ بِالْبَلَدِ لَمْ يَدْخُلْ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُمْ فِيهِ دُخُولَ اسْتِيلَاءٍ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ كَنَجْرَانَ وَدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَنَحْوِهِمَا وَإِنْ دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ وَسَكَنُوهَا وَصَارُوا غَالِبِينَ عَلَيْهَا فَهَذَا قَهْرٌ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْعَنْوَةِ فَيَمْلِكُونَ الْأَرَاضِيَ وَيَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى الرُّءُوسِ فَقَطْ وَهَذَا الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مِصْرَ لَمَّا صَالَحَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ الْقِبْطَ عَلَى الْجِزْيَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ دِينَارَيْنِ وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ آلَافِ رَأْسٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ الصُّلْحَ لَمْ يَحْصُلْ إلَّا بِأَمَانٍ وَعَقْدِ ذِمَّةٍ وَجِزْيَةٍ

ص: 395

لَا يَسْرِي حُكْمُهُ إلَى الْأَرَاضِي.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْوَالَ الْمَنْقُولَةَ تَابِعَةٌ لِلرُّءُوسِ لِأَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ لَا لِلْأَرَاضِيِ لِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، وَمَا يَكُونُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ لِجَمَاعَةٍ مِنْ مِلْكٍ خَاصٍّ فِي يَدِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَنْقُولِ يَكُونُ عَلَى مِلْكِهِ.

وَأَمَّا الْكَنَائِسُ فَهَلْ نَقُولُ حُكْمُهَا حُكْمُ الْأَرَاضِي لَا تَبْقَى إلَّا إذَا شُرِطَ إبْقَاؤُهَا وَيَجُوزُ تَبْقِيَتُهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ يَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ كَالصُّورَةِ الَّتِي نَقُولُ فِيهَا فِي الْعَنْوَةِ إنَّهَا تَبْقَى عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الْأُولَى حَتَّى إذَا كَانَتْ بِغَيْرِ شَرْطٍ لَا تَبْقَى قَطْعًا. وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِيهَا الثَّانِي فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ وَصَحَّ إلْحَاقُ هَذِهِ الصُّورَةِ بِهَا كَانَتْ كَنِيسَةً مُبْقَاةً بِغَيْرِ شَرْطٍ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ادَّعَيْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِنَا فَلْيَعْلَمْ ذَلِكَ وَلْيَلْحَقْ بِهِ.

وَكُنَّا نُخَالِفُ مَا قُلْنَا إنْ أُخِذَ بِظَاهِرِ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الصُّورَةُ فَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ إنْكَارِ الْخِلَافِ يَحْتَمِلُ أَنْ تَسْتَمِرَّ عَلَيْهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُخَالِفَهُ بَعْضُهُمْ فِي صُورَةِ الْغَنِيمَةِ فَقَطْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ نُخَالِفَهُ فِي صُورَتَيْ الْغَنِيمَةِ وَالصُّلْحِ.

وَاعْلَمْ أَنَّا إذَا شَكَكْنَا أَنَّ الْبَلَدَ فُتِحَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا وَالْبِلَادُ فِي أَيْدِينَا كَمَا فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لَمْ يَضُرَّنَا ذَلِكَ فِي اسْتِمْرَارِ يَدِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَيْهَا وَالْأَصْلُ عَدَمُ الصُّلْحِ فَيَنْبَغِي أَنْ نَجْرِيَ عَلَيْهَا حُكْمَ الْعَنْوَةِ ثُمَّ نَقُولَ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ انْتَقَلَتْ إلَى بَيْتِ الْمَالِ عَنْهُمْ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ وَالْأَصْلُ خِلَافُهُ فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْوَقْفِ أَخْذًا بِالْمُحَقِّقِ وَهُوَ وَضْعُ يَدِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَدَمِ الِانْتِقَالِ مِنْ غَيْرِهِمْ إلَيْهِمْ وَعَدَمِ الْقِسْمَةِ.

فَهَذِهِ طَرِيقٌ فِقْهِيٌّ مَعَ الْمَنْقُولِ أَنَّهَا كَسَوَادِ الْعِرَاقِ فَقَدْ تَعَاضَدَ النَّقْلُ وَالْفِقْهُ مَا يَبْقَى إلَّا أَنْ يُقَالَ الْأَصْلُ عَدَمُ وَقَفِيَّةِ عُمَرَ رضي الله عنه لَهَا فَتَبْقَى مَمْلُوكَةً لِبَيْتِ الْمَالِ وَنُجِيبُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمِلْكَ لِكُلِّ أُمَّةٍ تَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهَا مُخْرِجٌ لَهَا عَنْ ذَلِكَ فَنَحْنُ نَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] قَدْ جَعَلَهَا سبحانه وتعالى لَهُمْ فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِبَيْعٍ وَلَا غَيْرِهِ مِمَّا يُخْرِجُهَا عَنْ ذَلِكَ إذَا أَبْقَاهَا الْإِمَامُ، وَلَمْ يَقْسِمْهَا وَإِنَّمَا تَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إذَا اخْتَارَ الْإِمَامُ قِسْمَتَهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ.

وَقَدْ رَأَيْتُ فِي وَصِيَّةِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَانَ لَهُ فِي مِصْرَ أَرْضٌ وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِيمَا قُلْنَاهُ فَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْأَرْضُ

ص: 396