الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. انْتَهَى.
[الدَّلَالَةُ عَلَى عُمُومِ الرِّسَالَةِ]
(هَذِهِ أَسْئِلَةٌ مِنْ طَرَابُلُس الشَّامِ)
وَرَدَتْ عَلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ رحمه الله وَهُوَ بِالْقَاهِرَةِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةِ (الدَّلَالَةُ عَلَى عُمُومِ الرِّسَالَةِ)
(السُّؤَالُ الْأَوَّلُ) فِيمَنْ ذَهَبَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ إلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِكَوْنِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم مَبْعُوثًا إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كَافَّةً وَأَنَّ رِسَالَتَهُ شَامِلَةٌ لِلثَّقَلَيْنِ.
وَهُوَ سُؤَالٌ مَبْسُوطٌ قَالَ رحمه الله: أَرَى أَنْ أَذْكُرَ السُّؤَالَ كُلَّهُ مُسْتَوْفًى لَكِنْ أُقَطِّعُهُ فَأَذْكُرُ كُلَّ قِطْعَةٍ مِنْهُ وَجَوَابَهَا لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ اسْتِيعَابُ كَلَامِ السَّائِلِ وَجَوَابِهِ.
فَأَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: كَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم مَبْعُوثًا إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كَافَّةً وَأَنَّ رِسَالَتَهُ شَامِلَةٌ لِلثَّقَلَيْنِ فَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَنَقَلَ جَمَاعَةٌ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ.
وَكَوْنُ ذَلِكَ مِمَّا يَثْبُتُ بِالْإِجْمَاعِ وَكَوْنُهُ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا سَيَأْتِي عِنْدَ ذِكْرِ السَّائِلِ لَهُ.
وَأَدِلَّةُ ذَلِكَ تَأْتِي قَرِيبًا عِنْدَ طَلَبِ السَّائِلِ الدَّلِيلَ، وَأَمَّا وُجُوبُ الْإِيمَانِ بِذَلِكَ فَصَحِيحٌ بِمَعْنَى تَصْدِيقِ مَا جَاءَ بِالْأَخْبَارِ عَنْهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ بَعْدَ الْإِحَاطَةِ بِهَا، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَجِبُ وَيُشْتَرَطُ فِي الْإِيمَانِ اعْتِقَادُ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إلَّا بِهِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ سَبَبِهِ فَإِنَّ الْعَامِّيَّ لَوْ أَقَامَ دَهْرَهُ لَا يَعْتَقِدُ ذَلِكَ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ وَلَا عَرَفَ شَيْئًا مِنْ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ كَانَ مُؤْمِنًا وَلَيْسَ بِعَاصٍ بِتَأْخِيرِ تَعَلُّمِهِ لِذَلِكَ أَوْ تَرْكِهِ إذَا قَامَ غَيْرُهُ بِهِ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ بِوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قُلْنَاهُ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ كُلَّهَا وَجَمِيعَ مَا وَرَدَ فِيهَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ إجْمَالًا وَأَمَّا تَفْصِيلًا فَمِنْهُ مَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَهُوَ مَا لَا يَصِيرُ الْعَبْدُ مُؤْمِنًا إلَّا بِهِ وَمَا يَعُمُّ وُجُوبُهُ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ كَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ احْتَاجَ إلَيْهِ أَوْ مَنْ عَلِمَ بِدَلِيلِهِ وَهَذَا مِنْهُ، وَسَتَأْتِي زِيَادَةُ بَيَانٍ فِي ذَلِكَ.
قَالَ السَّائِلُ أَكْرَمَهُ اللَّهُ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ؟ أَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ: أَمَّا الْكِتَابُ فَآيَاتٌ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى دُخُولِ الْجِنِّ فِي ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ مَدْلُولُ لَفْظِهَا فَلَا يُخْرَجُ عَنْهُ إلَّا
بِدَلِيلٍ، وَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْمَلَائِكَةَ خَارِجُونَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ حُجَّةٌ فِي الْبَاقِي وَالنَّذِيرُ هُوَ الْمُخْبِرُ بِمَا يَقْتَضِي الْخَوْفَ وَإِخْبَارُهُ إنَّمَا هُوَ عَنْ اللَّهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ رَسُولًا إلَيْهِمْ عَنْهُ، وَكَوْنُ الضَّمِيرِ فِي (لِيَكُونَ) لِلْفُرْقَانِ بَعِيدٌ بَلْ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِعَبْدِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَقْرَبُ وَالضَّمِيرُ لَا يَكُونُ لِغَيْرِ الْأَقْرَبِ إلَّا بِدَلِيلٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ وَصْفَهُ بِالنَّذِيرِ حَقِيقَةٌ وَوَصْفُ الْفُرْقَانِ بِهِ مَجَازٌ فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ.
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29] وَالْمُنْذِرُونَ هُمْ الْمُخَوِّفُونَ مِمَّا يَلْحَقُ بِمُخَالَفَتِهِ لَوْمٌ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَيْهِمْ لِمَا كَانَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَتَى بِهِ لَازِمًا لَهُمْ وَلَا خَوَّفُوا بِهِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ فِيهَا {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 31] فَأَمْرُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِإِجَابَتِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ دَاعٍ لَهُمْ وَهُوَ مَعْنَى بَعْثِهِ إلَيْهِمْ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ {وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ} [الأحقاف: 31]- الْآيَةَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَرْتِيبَ الْمَغْفِرَةِ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ شَرْطٌ فِيهَا وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا تَعَلَّقَ حُكْمُ رِسَالَتِهِ بِهِمْ وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ مَبْعُوثًا إلَيْهِمْ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 32]- الْآيَةَ فَعَدَمُ إعْجَازِهِمْ وَأَوْلِيَائِهِمْ وَكَوْنُهُمْ فِي ضَلَالٍ مُرَتَّبٌ عَلَى عَدَمِ إجَابَتِهِ وَذَلِكَ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى بَعْثَتِهِ إلَيْهِمْ.
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ} [الرحمن: 31] فَهَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَامِلٌ لَهُمْ وَارِدٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللَّهِ، وَهُوَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُرْسَلًا إلَيْهِمْ وَأَيُّ مَعْنًى لِلرِّسَالَةِ غَيْرُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ مُخَاطَبَتُهُمْ فِي بَقِيَّةِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ السُّورَةُ.
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجِنِّ {فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 2] فَإِنَّ قُوَّةَ هَذَا الْكَلَامِ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ انْقَادُوا لَهُ وَآمَنُوا بَعْدَ شِرْكِهِمْ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِهِ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي خَاطَبُوا بِهَا قَوْمَهُمْ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ فِيهَا {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ} [الجن: 13] وَكَذَا قَوْلُهُمْ {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14] إلَى آخَرِ الْآيَاتِ.
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] فَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُنْذِرٌ بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ جِنِّيًّا كَانَ
أَوْ إنْسِيًّا، وَهِيَ فِي الدَّلَالَةِ كَآيَةِ الْفُرْقَانِ أَوْ أَصْرَحُ فَإِنَّ احْتِمَالَ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى الْفُرْقَانِ غَيْرُ وَارِدٍ هُنَا، فَهَذِهِ مَوَاضِعُ فِي الْفُرْقَانِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً قَوِيَّةً أَقْوَاهَا آيَةُ الْأَنْعَامِ هَذِهِ وَتَلِيهَا آيَةُ الْفُرْقَانِ وَتَلِيهَا آيَاتُ الْأَحْقَافِ وَتَلِيهَا آيَاتُ الرَّحْمَنِ وَخِطَابُهَا فِي عِدَّةِ الْآيَاتِ {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] وَتَلِيهَا سُورَةُ الْجِنِّ فَقَدْ جَاءَ تَرْتِيبُهَا فِي الدَّلَالَةِ وَالْقُوَّةِ كَتَرْتِيبِهَا فِي الْمُصْحَفِ.
وَفِي الْقُرْآنِ أَيْضًا مَا يَدُلُّ لِذَلِكَ، وَلَكِنَّ دَلَالَةَ الْإِطْلَاقِ اعْتَمَدَهَا كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي مَبَاحِثَ، وَهُوَ اعْتِمَادٌ جَيِّدٌ وَهُوَ هُنَا أَجْوَدُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِنْذَارِ، الْمُطْلَقِ إذَا لَمْ يَتَقَيَّدْ بِقَيْدٍ يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الْمَأْمُورِ فِي الْإِتْيَانِ بِهِ فِي أَيِّ فَرْدٍ شَاءَ مِنْ أَفْرَادِهِ وَفِي كُلِّهَا وَهُوَ صلى الله عليه وسلم كَامِلُ الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ وَالنَّصِيحَةِ لَهُمْ وَالدُّعَاءِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَمَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ ذَلِكَ لَا يَتْرُكُهُ فِي شَخْصٍ مِنْ الْأَشْخَاصِ وَلَا فِي زَمَنٍ مِنْ الْأَزْمَانِ وَلَا فِي مَكَان مِنْ الْأَمْكِنَةِ، وَهَكَذَا كَانَتْ حَالَتُهُ صلى الله عليه وسلم وَيُعْلَمُ أَيْضًا مِنْ الشَّرِيعَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ مِنْ قَوْلِهِ {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2] مُطْلَقَ الْإِنْذَارِ حَتَّى يُكْتَفَى بِإِنْذَارٍ وَاحِدٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ بَلْ أَرَادَ التَّشْمِيرَ وَالِاجْتِهَادَ فِي ذَلِكَ.
فَهَذِهِ الْقَرَائِنُ تُفِيدُ الْأَمْرَ بِالْإِنْذَارِ لِكُلِّ مَنْ يُفِيدُ فِيهِ الْإِنْذَارُ، وَالْجِنُّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ سُفَهَاءُ وَقَاسِطُونَ وَهُمْ مُكَلَّفُونَ فَإِذَا أُنْذِرُوا رَجَعُوا عَنْ ضَلَالِهِمْ فَلَا يَتْرُكُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دُعَاءَهُمْ.
وَالْآيَةُ بِالْقَرَائِنِ الْمَذْكُورَةِ مُفِيدَةٌ لِلْأَمْرِ بِذَلِكَ فَتَثْبُتُ الْبَعْثَةُ إلَيْهِمْ بِذَلِكَ.
وَمِنْهَا كُلُّ آيَةٍ فِيهَا لَفْظُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَفْظُ الْكَافِرِينَ مِمَّا فِيهِ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ صِفَتَانِ لِمَحْذُوفٍ وَالْمَوْصُوفُ الْمَحْذُوفُ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ بَلْ الْمُكَلَّفِينَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا إنْسًا أَوْ جِنًّا.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا أَمْكَنَ الِاسْتِدْلَال بِمَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى مِنْ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] فَالْجِنُّ الَّذِينَ لَمْ يَتَّبِعُوهُ لَيْسُوا مُفْلِحِينَ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَإِذَا ثَبَتَتْ رِسَالَتُهُ فِي حَقِّهِمْ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الأحقاف: 12] وَكَقَوْلِهِ {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس: 11] وَمِنْ الْجِنِّ
كَذَلِكَ.
وَلَوْ تَتَبَّعْنَا الْآيَاتِ الَّتِي مِنْ هَذَا الْجِنْسِ جَاءَتْ كَثِيرَةً فَنَكْتَفِي بِالْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ عَاضِدَةً لَهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَكْثِيرِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ وَالْآيَتَيْنِ قَدْ يُمْكِنُ تَأْوِيلُهَا وَيَتَطَرَّقُ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ فَإِذَا كَثُرَتْ قَدْ تَتَرَقَّى إلَى حَدٍّ يَقْطَعُ بِإِرَادَةِ ظَاهِرِهَا وَبَقِيَ الِاحْتِمَالُ وَالتَّأْوِيلُ عَنْهَا.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «فُضِّلْت عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ أُعْطِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَنُصِرْت بِالرُّعْبِ وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا وَأُرْسِلْت إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخُتِمَ بِي النَّبِيُّونَ» وَهَذَا الْحَدِيثُ انْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ الْبُخَارِيِّ. وَجَاءَنِي سُؤَالٌ مِنْ جِهَةِ هَذَا السَّائِلِ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِيهِ نِسْبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ إلَى الْبُخَارِيِّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَمَحِلُّ الِاسْتِدْلَالِ قَوْلُهُ «وَأُرْسِلْت إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً» فَإِنَّهُ يَشْمَلُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَحَمْلُهُ عَلَى الْإِنْسِ خَاصَّةً تَخْصِيصٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَلَا يَجُوزُ وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي قَوْله تَعَالَى {لِلْعَالَمِينَ} [الفرقان: 1] فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلْقِ النَّاسُ
رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي فَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا وَأُرْسِلْت إلَى النَّاسِ كَافَّةً» . قُلْنَا: لَوْ كَانَ هَذَا حَدِيثًا وَاحِدًا كُنَّا نَقُولُ: لَعَلَّ هَذَا اخْتِلَافٌ مِنْ الرُّوَاةِ وَلَكِنَّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إنَّهُمَا حَدِيثَانِ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ سِتُّ خِصَالٍ، وَحَدِيثُ الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ وَفِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُمَا فِي وَقْتَيْنِ. وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ زِيَادَةٌ فِي عِدَّةِ الْخِصَالِ وَفِي سُنَنِ الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ فَيَجِبُ إثْبَاتُهَا زِيَادَةً عَلَى عَدَدِ الْخِصَالِ وَفِي سُنَنِ الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ فَيَجِبُ إثْبَاتُهَا زِيَادَةً عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ، وَلَيْسَ بِنَا ضَرُورَةٌ إلَى حَمْلِ أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، بَلْ هُمَا حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَا الْمَخْرَجِ، وَالْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكٌ فِي أَكْثَرِ الْأَشْيَاءِ، وَخَرَّجَ كُلٌّ مِنْ صَاحِبَيْ الصَّحِيحَيْنِ وَاحِدًا مِنْهُمَا وَلَمْ يَذْكُرْ الْآخَرَ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيّ الْمَقْدِسِيُّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي الْعُمْدَةِ وَفِي لَفْظِهِ إلَى النَّاسِ، وَقَدْ اشْتَرَطَ فِيهَا أَنْ يَكُونَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْإِمَامَانِ. وَهَذَا اللَّفْظُ فِي الْبُخَارِيِّ خَاصَّةً دُونَ
مُسْلِمٍ وَإِنَّمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «إلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» وَعَبْدُ الْغَنِيِّ كَانَ حَافِظًا يَذْكُرُ الْمُتُونَ مِنْ حِفْظِهِ فَوَقَعَ لَهُ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُنْتَقَدُ عَلَيْهِ وَالْحَامِلُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ بِأَكْثَرِ أَلْفَاظِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا انْفَرَدَ الْبُخَارِيُّ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ الْوَاحِدَةِ وَهِيَ أَشْهُرُ فَجَرَتْ عَلَى لِسَانِ عَبْدِ الْغَنِيِّ وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ تَحْرِيرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُصَنَّفٌ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ وَمَقْصُودُهُ مِنْهُ حَاصِلٌ بِغَيْرِهَا. فَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ مُسْلِمٍ وَاسْتَدْلَلْنَا بِهِ أَصْرَحُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى شُمُولِ الرِّسَالَةِ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ.
وَرَوَى وَثِيمَةُ بْنُ مُوسَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أُرْسِلْت إلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَإِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَطَهُورًا» وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ فِي خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ بَعْضُ طُولٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْرَحُ مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمٍ لَكِنَّهُ لَيْسَ فِي الصِّحَّةِ مِثْلَهُ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ طَيِّبَةً طَهُورًا وَمَسْجِدًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ صَلَّى حَيْثُ كَانَ وَنُصِرْت بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَأُعْطِيت الشَّفَاعَةَ» وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْغَرِيبِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ " أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ " فَقِيلَ: الْعَجَمُ وَالْعَرَبُ، وَقِيلَ: الْجِنُّ وَالْإِنْسُ فَعَلَى هَذَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْمَقْصُودِ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إلَى سُوقِ عِكَاظٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ قَالُوا: مَا ذَاكَ إلَّا مِنْ شَيْءٍ حَدَثَ فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَانْطَلَقُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَمَرَّ النَّفَرُ الَّذِينَ أَخَذُوا نَحْوَ تِهَامَةَ وَهُوَ بِجَبَلٍ عَامِدِينَ إلَى سُوقِ عِكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ وَقَالُوا: هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَرَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عز وجل عَلَى نَبِيِّهِ
مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1] » . زَادَ مُسْلِمٌ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْجِنِّ وَمَا رَآهُمْ ثُمَّ اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ عِنْدِ قَوْلِهِ: انْطَلَقَ، وَلَيْسَتْ الزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبُخَارِيِّ
وَلَيْسَ مُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَا إنْكَارَ قِرَاءَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْجِنِّ أَوْ رُؤْيَتِهِ لَهُمْ مُطْلَقًا بَلْ فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ الَّتِي حَكَاهَا فِي آخِرِ كَلَامِهِ، وَلَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَعَارَضَهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ، وَيُقَدَّمُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ نَفْيٌ وَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ لَا سِيَّمَا وَقِصَّةُ الْجِنِّ كَانَتْ بِمَكَّةَ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذْ ذَاكَ طِفْلًا أَوْ لَمْ يُولَدْ بِالْكُلِّيَّةِ فَهُوَ إنَّمَا يَرْوِيهَا عَنْ غَيْرِهِ وَابْنِ مَسْعُودٍ يَرْوِيهَا مُبَاشَرَةً عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ كَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرَ مُعَارِضٍ لِكَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَنْ يَكُونَا مَرَّتَيْنِ.
إحْدَاهُمَا الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا الْقُرْآنُ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ وَفِي سُورَةِ الْجِنِّ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَصَدَهُمْ وَلَا شَعَرَ بِهِمْ وَلَا رَآهُمْ وَلَا قَرَأَ عَلَيْهِمْ قَصْدًا بَلْ سَمِعُوا قِرَاءَتَهُ وَآمَنُوا بِهِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ. وَثُبُوتُهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ قَطْعِيٌّ.
وَأَهْلُ السِّيَرِ يَقُولُونَ: إنَّ ذَلِكَ «لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ وَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى الطَّائِفِ وَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَذَلِكَ سَنَةَ عَشْرٍ مِنْ الْبَعْثَةِ فَأَقَامَ بِالطَّائِفِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ فَلَمَّا نَزَلَ نَخْلَةً قَامَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَصُرِفَ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ وَهُوَ يَقْرَأُ» فِي هَذَا السِّيَاقِ مَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فَلَعَلَّ اسْتِمَاعَهُمْ فِي الصَّلَاةِ حَصَلَ مَرَّتَيْنِ وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ لَا غَرَضَ فِيهِ، وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ قَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَهُوَ اسْتِمَاعُهُمْ لِقِرَاءَتِهِ وَإِيمَانُهُمْ بِهِ.
وَفِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ رُجُوعُهُمْ إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ وَقَوْلُهُمْ لَهُمْ، وَهُوَ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ فِي تَعَلُّقِ الشَّرِيعَةِ بِهِمْ فَلِذَلِكَ ذَكَرْنَا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَتَعَلُّقُ السَّائِلِ بِهِ فِي ضِدِّ ذَلِكَ سَنُجِيبُ عَنْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ فِي قِصَّةِ الْجِنِّ إلَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَكَفَى لِإِسْمَاعِهِمْ الْقُرْآنَ كَافٍ فِي وُصُولِ الشَّرِيعَةِ إلَيْهِمْ، وَقَدْ قَامَتْ الْأَدِلَّةُ عَلَى عُمُومِهَا مِنْ غَيْرِهِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَاصِدٌ التَّبْلِيغَ لِكُلِّ
مَنْ أُرْسِلَ إلَيْهِ فَمُجَرَّدُ وُصُولِ ذَلِكَ الْبَلَاغِ إلَيْهِ كَانَ شَعَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمْ لَمْ يَشْعُرْ وَقَدْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي كِتَابِهِ فَعُلِمَ حُصُولُ الْبَلَاغِ لَهُمْ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِئَلَّا يَقُولَ قَائِلٌ: لَوْ كَانَ رَسُولًا إلَيْهِمْ لَقَصَدَ إبْلَاغَهُمْ.
فَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَأَنَّ الْبَلَاغَ قَدْ حَصَلَ بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ وَهُوَ كَافٍ كَمَا يَحْصُلُ لِمَنْ فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ مِنْ الْإِنْسِ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ دَاوُد عَنْ عَامِرٍ قَالَ: «سَأَلْت عَلْقَمَةَ هَلْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَفَقَدْنَاهُ فَالْتَمَسْنَاهُ بِالْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ فَقُلْنَا: اُسْتُطِيرَ أَوْ اُغْتِيلَ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إذَا هُوَ جَاءَ مِنْ قِبَلِ حِرَاءَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَلَبْنَاك فَفَقَدْنَاك فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ، فَقَالَ أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ قَالَ: فَانْطَلَقَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ وَسَأَلُوهُ الزَّادَ فَقَالَ لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إخْوَانِكُمْ» . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَكَانَ مِنْ جِنِّ الْجَزِيرَةِ إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ مُفَصَّلًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمْ أَكُنْ لَيْلَةَ الْجِنِّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوَدِدْت أَنَّى كُنْت مَعَهُ
، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ وَدَّ لَوْ كَانَ مَعَهُ عِنْدَ ذَهَابِهِ إلَيْهِمْ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مُطْلَقًا تِلْكَ اللَّيْلَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَالصَّحَابَةُ مَعَهُ.
وَجَمِيعُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ دَاعِيَهُمْ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَهَبَ إلَيْهِمْ قَاصِدًا وَاجْتَمَعَ بِهِمْ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ، وَهِيَ وَاقِعَةٌ أُخْرَى بِلَا شَكٍّ غَيْرُ الْوَاقِعَةِ الَّتِي رَوَاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ.
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد «عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ لَيْلَةُ الْجِنِّ مَا فِي إدَاوَتِك قَالَ نَبِيذٌ قَالَ تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ» .
وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُهُ وَبَيَّنُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَهُوَ كَمَا قَالُوهُ فَلَا يُعَارِضُ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ «عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّهُ أَذِنَتْهُ» يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِهِمْ شَجَرَةٌ، وَهَذَا كَأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى الْقِصَّةِ الَّتِي رَوَاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يُخْرِجْ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قِصَّةِ الْجِنِّ إلَّا هَذِهِ الْقِطْعَةَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَحْدَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«وَأَنَّهُ أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ وَنِعْمَ الْجِنُّ فَسَأَلُونِي الزَّادَ فَدَعَوْت اللَّهَ لَهُمْ أَنْ لَا يَمُرُّوا بِعَظْمٍ وَلَا رَوْثَةٍ إلَّا وَجَدُوا عَلَيْهَا طُعْمًا» .
وَهَذَا الْحَدِيثُ وَحْدَهُ لَا يَدُلُّ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قِرَاءَتُهُ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ لِلِاتِّعَاظِ بِهِ وَسُؤَالُهُ لَهُمْ الزَّادَ، وَجَوَابُهُمْ قَدْ بَيَّنَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بِالدُّعَاءِ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مُبَاحًا لَهُمْ بِالْأَصْلِ أَوْ بِشَرِيعَةٍ أُخْرَى أَوْ لَا يَكُونُوا مُكَلَّفِينَ بِذَلِكَ الْفَرْعِ الْخَاصِّ فَدَعَا لَهُمْ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الزَّادُ لَهُمْ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَعَلُّقُ حُكْمٍ لَهُمْ لَكِنَّ الْأَدِلَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ تَكْفِي فِي تَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهِمْ فَيَحْتَمِلُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَإِطْلَاقُ الزَّادِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْأَدِلَّةِ لَا يَدُلُّ بِمُفْرَدِهِ فَإِذَا انْضَمَّ إلَى غَيْرِهِ بَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ وَحَصَلَتْ الدَّلَالَةُ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةَ الرَّحْمَنِ أَوْ قُرِئَتْ عِنْدَهُ فَقَالَ: مَا لِي أَسْمَعُ الْجِنَّ أَحْسَنَ جَوَابًا مِنْكُمْ؛ قَالُوا: وَمَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِ اللَّهِ {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] إلَّا قَالَتْ الْجِنُّ: لَا بِشَيْءٍ مِنْ نِعْمَةِ رَبِّنَا نُكَذِّبُ» . كَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَرَوَاهُ غَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.
وَهَذَا الْجَوَابُ مِنْ الْجِنِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْجِنِّ أَوْ غَيْرِهَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا حَاضِرِينَ عِنْدَهُ فِي مَجْلِسِهِ مَعَ الصَّحَابَةِ وَالصَّحَابَةُ لَا يَرَوْنَهُمْ فَإِنَّ فِي اللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ مَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَظَاهِرُهُ أَنَّ الْخِطَابَ لَهُمْ وَلِلْإِنْسِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُبَلِّغٌ لَهُمْ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ مَعْنَى الرِّسَالَةِ، وَقَوْلُ الْفَرَّاءِ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ إنَّ قَوْلَهُ (تُكَذِّبَانِ) مِنْ خِطَابِ الْوَاحِدِ بِخِطَابِ الِاثْنَيْنِ بَعِيدٌ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنَّهُ خِطَابٌ لِلثَّقَلَيْنِ.
فَهَذَا مَا حَضَرَنِي مِنْ الْأَدِلَّةِ لِذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَوْ تَتَبَّعْت رُبَّمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْ الْأَدِلَّةِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَشَرِيعَتَهُ آخِرُ الشَّرَائِعِ وَنَاسِخَةٌ لِكُلِّ شَرِيعَةٍ قَبْلَهَا
وَلَا شَرِيعَةَ بَاقِيَةً الْآنَ غَيْرَ شَرِيعَتِهِ وَلِذَلِكَ إذَا نَزَلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْجِنُّ مُكَلَّفِينَ بِهَا لَكَانُوا إمَّا مُكَلَّفِينَ بِشَرِيعَةٍ غَيْرِهَا وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَرَّرَ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونُوا مُكَلَّفِينَ أَصْلًا، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ طَافِحٌ بِتَكْلِيفِهِمْ.
قَالَ تَعَالَى {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] وَقَالَ تَعَالَى {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ} [الأعراف: 38] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ، وَدُخُولُهُمْ النَّارَ دَلِيلُ تَكْلِيفِهِمْ، وَهَذَا أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَإِنَّ تَكْلِيفَهُمْ مَعْلُومٌ مِنْ الشَّرْعِ بِالضَّرُورَةِ وَتَكْلِيفُهُمْ بِغَيْرِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ يَسْتَلْزِمُ بَقَاءَ شَرِيعَةٍ مَعَهَا فَثَبَتَ أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ كَالْإِنْسِ.
(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ: فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي اخْتِصَاصِ رِسَالَتِهِ صلى الله عليه وسلم بِالْإِنْسِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً» وَاحْتِمَالُ غَيْرِ ذَلِكَ عُدُولٌ عَنْ الظَّاهِرِ.
أَقُولُ: دَعْوَى أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ ظَاهِرَةٌ فِي اخْتِصَاصِ رِسَالَتِهِ إلَى الْإِنْسِ مَمْنُوعَةٌ، وَعَجَبٌ مِنْ السَّائِلِ الْفَاضِلِ دَعْوَاهُ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يُمْكِنُ تَمْشِيَتُهُ عَلَى مَذْهَبِ الدَّقَّاقِ الْقَائِلِ بِأَنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ حُجَّةٌ، وَالنَّاسُ مِنْ قَبِيلِ اللَّقَبِ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ الْمُتَرْجَمَةَ فِي الْأُصُولِ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ لَا تَخْتَصُّ بِاللَّقَبِ بَلْ الْأَعْلَامُ كُلُّهَا وَأَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ كُلُّهَا كَذَلِكَ مَا لَمْ تَكُنْ صِفَةً، وَالنَّاسُ اسْمُ جِنْسٍ غَيْرُ صِفَةٍ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ فَقَوْلُهُ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] لَيْسَ فِيهِ أَصْلًا مَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ رَسُولًا إلَى غَيْرِهِمْ إلَّا عَلَى مَذْهَبِ الدَّقَّاقِ بَلْ أَقُولُ: عَلَى مَذْهَبِ الدَّقَّاقِ لَا يَتِمُّ التَّمَسُّكُ بِهَذَا الْمَفْهُومِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الدَّقَّاقَ إنَّمَا يَقُولُ بِهِ حَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ غَرَضٌ آخَرُ سِوَاهُ فِي تَخْصِيصِ ذَلِكَ الِاسْمِ بِالذِّكْرِ وَحَيْثُ ظَهَرَ غَرَضٌ لَا يُقَالُ بِالْمَفْهُومِ بَلْ يُحْمَلُ التَّخْصِيصُ عَلَى ذَلِكَ الْغَرَضِ، وَالْغَرَضُ فِي الْآيَةِ التَّعْمِيمُ فِي جَمِيعِ النَّاسِ وَعَدَمِ اخْتِصَاصِ الرِّسَالَةِ بِبَعْضِهِمْ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الرِّسَالَةِ عَنْ غَيْرِهِمْ لَا عَلَى مَذْهَبِ الدَّقَّاقِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ وَإِنَّمَا خَاطَبَ النَّاسَ؛ لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ تَغْلِبُ رُؤْيَتُهُمْ وَالْخِطَابُ مَعَهُمْ وَمُجَادَلَتُهُمْ.
فَمَقْصُودُ الْآيَةِ خِطَابُ النَّاسِ وَالتَّعْمِيمُ فِيهِمْ لَا النَّفْيُ عَنْ
غَيْرِهِمْ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُنَا: اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، إنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى الْمَعْدُومِ وَالْمُمْكِنِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِقَوْلِنَا: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، التَّعْمِيمُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُمْكِنَةِ لَا قَصْرَ الْحُكْمِ.
وقَوْله تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] كَذَلِكَ وَفِيهِ زِيَادَةٌ أُخْرَى وَهِيَ تَقْدِيمُ قَوْلِهِ " كَافَّةً " عَلَى قَوْلِهِ " لِلنَّاسِ " فَإِنَّ ذَلِكَ أَفَادَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ حَصْرَ الرِّسَالَةِ فِي النَّاسِ حَتَّى يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَمَا أَرْسَلْنَاك إلَى أَحَدٍ إلَّا لِلنَّاسِ.
هَذَا لَمْ تَنْطِقْ بِهِ الْآيَةُ وَلَا أَفْهَمَتْهُ بَلْ أَشَارَتْ إلَى خِلَافِهِ بِتَقْدِيمِ " كَافَّةً " وَبِالْعُدُولِ فِي " النَّاسِ " عَنْ " إلَى " إلَى اللَّامِ فَصَارَ مَقْصُودُ الْآيَةِ إثْبَاتَ عُمُومِ الرِّسَالَةِ وَنَفْيَ خُصُوصِهَا فَإِنَّ الرِّسَالَةَ أَنْوَاعٌ مِنْهَا خَاصٌّ وَمِنْهَا عَامٌّ فَصَارَ التَّقْدِيرُ: وَمَا أَرْسَلْنَاك مِنْ الرِّسَالَاتِ إلَّا رِسَالَةً عَامَّةً كَافَّةً لِجَمِيعِ النَّاسِ فَلَا يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِبَعْضِ النَّاسِ، وَحِينَئِذٍ لَا تَعَرُّضَ فِيهَا لِلْجِنِّ أَلْبَتَّةَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً. وَالْكَلَامُ فِيهِ كَمَا سَبَقَ حَرْفًا بِحَرْفٍ.
وَقَوْلُ السَّائِلِ: إنَّ احْتِمَالَ غَيْرِ ذَلِكَ عُدُولٌ عَنْ الظَّاهِرِ غَيْرُ الْعُدُولِ عَنْ الظَّاهِرِ.
هَذَا كُلُّهُ إذَا قُلْنَا: إنَّ النَّاسَ لَا يَشْمَلُ الْجِنَّ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ اسْمَ النَّاسِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْجِنِّ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْأَدِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ لَنَا لَا لِلسَّائِلِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ صَحَّ فِيهِ لَفْظَةُ الْخَلْقِ مَوْضِعَ النَّاسِ وَهِيَ أَعَمُّ وَأَنَّ الْحَدِيثَيْنِ مَخْرَجُهُمَا مُخْتَلِفٌ وَأَحَدُهُمَا خَاصٌّ وَالْأُخَرُ عَامٌّ وَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ إذَا كَانَا اثْنَيْنِ لَا يُقْضَى بِالْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ بَلْ يُقْضَى بِالْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَيَكُونُ الْآخَرُ ذَكَرَ بَعْضَ أَفْرَادِ الْعُمُومِ وَذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعُمُومِ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَنْصُورِ فِي الْأُصُولِ الَّذِي لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إلَّا الشُّذُوذُ.
(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْجِنَّ وَلَا تَلَا عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ. أَقُولُ لَيْسَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ مَعْنَاهُ وَمُسْلِمٌ رَوَاهُ صَدْرَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ عَقِيبِهِ قِصَّةَ الْجِنِّ وَاسْتِمَاعَهُمْ الْقُرْآنَ
فَأَشْعَرَ بِمُرَادِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّفْيَ الْمُرَادَ بِهِ فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ فَاقْتِطَاعُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَرِوَايَتُهَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ حَتَّى تُوهِمَ انْتِفَاءَ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -
لِلْجِنِّ مُطْلَقًا وَقِرَاءَتِهِ عَلَيْهِمْ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، وَرُبَّمَا يُوهِمُ بَعْضُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَجْتَمِعْ بِهِمْ أَصْلًا وَقَدْ ثَبَتَ اجْتِمَاعُهُ بِهِمْ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي لَا مَطْعَنَ فِيهِ وَثَبَتَ بُلُوغُ الْقُرْآنِ لَهُمْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُوَافِقِ لِنَصِّ الْقُرْآنِ.
فَأَجَابَنِي السَّائِلُ مِنْ أَيْنَ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْكَلَامِ وَقِصَّةُ الْجِنِّ أَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُحَدِّثُونَ وَأَهْلُ السِّيَرِ فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِخْبَارِ إلَّا رَوَاهَا وَلَا مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إلَّا ذَكَرَهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا كَانَتْ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَأَنَا لَا أَشُكُّ فِي أَنَّهَا كَانَتْ مَرَّتَيْنِ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنَّمَا أَشُكُّ فِي أَنَّهَا هَلْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ مَرَّتَيْنِ خَاصَّةً.
(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ: فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ادَّعَى الرِّسَالَةَ إلَيْهِمْ زَالَ الْإِشْكَالُ وَوَجَبَ الْإِيمَانُ.
أَقُولُ: قَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ الَّذِي قَالَ فِيهِ «بُعِثْت إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً» وَالْعَامُّ حُجَّةٌ وَلَيْسَ مِنْ الثُّبُوتِ أَنْ يَكُونَ بِالصَّرِيحِ بَلْ قَدْ يَكُونُ بِالْعُمُومِ، وَهُوَ حَاصِلٌ هُنَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا هُوَ صَرِيحٌ مِنْ طَرِيقِ وَثِيمَةَ بْنِ مُوسَى وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ ثُبُوتَهُ وَذَكَرْنَا قَوْلَهُ " الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ " وَاخْتِلَافَ النَّاسِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَالْعُمْدَةُ حَدِيثُ مُسْلِمٍ.
(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ: إذْ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ. أَقُولُ: كُلُّ خَيْرٍ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ صلى الله عليه وسلم إمَّا أَنْ يَكُونَ نَاصًّا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَارِدًا عَلَى لِسَانِهِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَنْبَطًا مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَ السَّائِلُ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَى ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ بِإِحْدَى هَذِهِ الطُّرُقِ فَنَقُولُ: هُوَ حَاصِلٌ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْآيَاتِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَالْحَدِيثِ الْعَامِّ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَتِهِ نَصًّا صَرِيحًا عَلَى عَدَمِ دَعْوَاهُ الرِّسَالَةَ إلَيْهِمْ فَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا صَرِيحًا وَيَثْبُتُ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِحَدِيثٍ عَامٍّ أَوْ بِاسْتِنْبَاطٍ مِنْ قَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ جِهَتِهِ صلى الله عليه وسلم.
(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ وَإِلَّا فَهَلْ يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي ذَلِكَ أَمْ يَكْفِي الْإِيمَانُ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ مَا الْمَطْلُوبُ فِيهِ الْإِيمَانُ الْإِجْمَالِيُّ لَا التَّفْصِيلِيُّ.
أَقُولُ: قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِي وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِذَلِكَ، وَنَقُولُ هُنَا: إنَّ النَّاسَ عَلَى أَقْسَامٍ مِنْهُمْ
عَامِّيٌّ لَمْ تَخْطُرْ بِبَالِهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَوْ خَطَرَتْ بِبَالِهِ وَمَا اعْتَقَدَ فِيهَا شَيْئًا لِجَهْلِهِ فَهَذَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ بِذَلِكَ لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يُطْلِقَ بِشَهَادَتِهِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَا يُخَصِّصَهَا فَمَتَى خَصَّصَهَا فَقَالَ: إلَى الْإِنْسِ خَاصَّةً فَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ.
وَمِنْهُمْ عَامِّيُّ اعْتَقَدَ فِيهَا خِلَافَ الْحَقِّ لِشُبْهَةٍ أَوْ تَقْلِيدِ جَاهِلٍ. فَهَذَا: اعْتِقَادُهُ هَذَا خَطَأٌ يَجِبُ عَلَيْهِ النُّزُوعُ عَنْهُ وَأَنْ يَسْأَلَ أَوْ يَبْحَثَ لِيَظْهَرَ لَهُ الصَّوَابُ، وَهَذَا بِإِصْرَارِهِ عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ وَالْخَطَأِ عَاصٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُصُولِ الدَّيْنِ الَّذِي لَا يُعْذَرُ بِالْخَطَأِ فِيهِ، وَالْفَقِيهُ إذَا اعْتَقَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافَ الْحَقِّ لِشُبْهَةٍ أَوْ تَقْلِيدٍ لِجَاهِلٍ عَاصٍ أَيْضًا كَالْعَامِّيِّ بَلْ هُوَ عَامِّيٌّ فِيهَا، وَمَحِلُّ الْحُكْمِ فِيهَا بِالْعِصْيَانِ فَقَطْ، وَصِحَّةُ الْإِيمَانِ إذَا أَطْلَقَا شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ خَصَّصَا وَقَالَا: إلَى الْإِنْسِ فَقَطْ، فَأَخْشَى عَلَيْهِمَا الْكُفْرَ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي بَيَّنَهُ الشَّارِعُ بِالشَّهَادَةِ الْمُطْلَقَةِ لَا الْمُقَيَّدَةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَقَدَ الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ مِنْ عَامِّيٍّ أَوْ فَقِيهٍ لَا عَنْ دَلِيلٍ بَلْ تَقْلِيدٍ مَحْضٍ فَيَكْفِيهِ ذَلِكَ وَلَيْسَ بِعَاصٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى إيجَابِ الْيَقِينِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا هِيَ شَرْطٌ فِي الْإِيمَانِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلشَّخْصِ عِلْمٌ بِأَدِلَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاقْتَصَرَ عَلَى التَّقْلِيدِ فِيهَا كَفَاهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُ عَلَى جِهَةِ التَّقْلِيدِ جَازِمًا أَوْ غَيْرَ جَازِمٍ فَإِنَّ التَّقْلِيدَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ الْمُطَابِقِ لَا لِمُوجَبٍ وَبَيْنَ قَبُولِ قَوْلِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ سَوَاءً أَكَانَ مَعَ الْجَزْمِ بِهِ أَمْ لَا.
فَهَذَا الثَّانِي كَافٍ هُنَا وَلَا يَكْفِي فِيمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ الْوَحْدَانِيَّةِ وَنَحْوِهَا، وَالْأَوَّلُ يَكْفِي لِأَنَّ إيمَانَ الْمُقَلِّدِ صَحِيحٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِأَبِي هَاشِمٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَغْلَطُونَ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ إيمَانَ الْمُقَلِّدِ لَا يَصِحُّ وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا فِي فَتْوَى.
وَقُلْت: إنَّ النَّاسَ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ: عُلْيَا وَهُمْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ التَّفْصِيلِيِّ وَهُمْ الْعُلَمَاءُ وَأَهْلُ الِاسْتِدْلَالِ الْإِجْمَالِيِّ وَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ الْعَوَامّ فَلَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ إيمَانِهِمْ.
وَوُسْطَى وَهُمْ أَهْلُ الْعَقِيدَةِ الْمُصَمِّمُونَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ بِكُفْرِهِمْ إلَّا أَبُو هَاشِمٍ، وَدُنْيَا وَهُمْ الْمُقَلِّدُونَ بِغَيْرِ تَصْمِيمٍ وَلَمْ يَقُلْ بِصِحَّةِ إيمَانِهِمْ إلَّا شُذُوذٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ عَالِمًا وَقَدْ وَصَلَتْ إلَيْهِ هَذِهِ الْأَدِلَّةُ وَلَهُ تَمَكُّنٌ مِنْ النَّظَرِ فِيهَا فَهَذَا الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْعِلْمُ بِهَا وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهِ قَطْعًا لِعِلْمِهِ
بِأَدِلَّتِهَا وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَصْدِيقُهُ فِيهِ قَطْعًا، وَأَمَّا الْإِيمَانُ الْإِجْمَالِيُّ فَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَا بُدَّ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرِهَا أَوْ يُكْتَفَى بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِ الْعَالِمِ وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ فِي حَقِّ الْعَالِمِ، وَفَرْضُ ذَلِكَ عُسْرٌ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ مَتَى أَحَاطَ عِلْمُهُ بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَوَجْهِ دَلَالَتِهَا حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ وَلَا يُمْكِنُ تَخَلُّفُ الْعِلْمِ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ نَعَمْ لَوْ كَانَ الشَّخْصُ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى النَّظَرِ وَتَمَكُّنٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالْوُقُوفِ عَلَيْهَا وَالنَّظَرِ وَلَمْ يَفْعَلْ بَلْ اقْتَصَرَ عَلَى مَحْضِ التَّقْلِيدِ فَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ لَا يَعْصِي بِذَلِكَ وَيَكْفِيهِ التَّقْلِيدُ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُقَلِّدْ وَلَكِنْ تَوَقَّفَ فَلَمْ يَعْتَقِدْ فِيهَا شَيْئًا مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ إدْرَاكِ ذَلِكَ فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَيَتَرَجَّحُ أَيْضًا أَنَّهُ غَيْرُ مَأْثُومٍ لِعَدَمِ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا اعْتَقَدَ غَيْرَ الْحَقِّ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ لِتَقْصِيرِهِ، وَالْإِقْدَامُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ خَطَأٌ بِخِلَافِ التَّوَقُّفِ فِيمَا لَا يَجِبُ كَمَا أَتَى فِي الْفُرُوعِ.
نَقُولُ: مَنْ أَقْدَمَ عَلَى فِعْلٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ بِحُكْمِهِ يَكُونُ مَأْثُومًا وَمَنْ تَوَقَّفَ عَنْهُ لَا يَكُونُ مَأْثُومًا.
(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ: وَهَلْ يَصِحُّ اسْتِدْلَالُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: 31]- الْآيَةَ وَبِسُورَةِ الْجِنِّ وقَوْله تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ - تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 107 - 1]{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] .
قَالَ: وَالْجِنُّ يُسَمَّوْنَ نَاسًا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «وَأُرْسِلْت إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً» وَأَنَّهُ أَتَاهُ دَاعِي الْجِنِّ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ وَحَكَمَ بَيْنَهُمْ وَأَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ كَمَا تَحَدَّى الْإِنْسَ بِهِ وَأَنَّهُ أَحَلَّ لَهُمْ كُلَّ طَعَامٍ لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَحَرَّمَ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْعَظْمِ وَالرَّوْثِ مِنْ أَجْلِهِمْ وَإِنَّ الرُّسُلَ إلَيْهِمْ لَمْ يَكُونُوا إلَّا مِنْ الْإِنْسِ.
فَإِذَا ثَبَتَ إرْسَالُ مَنْ تَقَدَّمَ إلَيْهِمْ فَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ أَوْلَى وَأَحْرَى وَأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم مَبْعُوثًا إلَيْهِمْ، وَمَا ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَلِكَ مِمَّا خَفِيَ عَلَيْهِ كَمَا خَفِيَتْ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ عَلَى آحَادِ الصَّحَابَةِ هَلْ يَنْتَهِضُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الْمَطْلُوبِ.
أَقُولُ: أَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ الْجِنِّ {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: 31] فَاسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ وَكَذَلِكَ سُورَةُ الْجِنِّ، وَأَمَّا
الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فَمُحْتَمَلٌ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ؛ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ أَعَمُّ مِنْ الرِّسَالَةِ وَقَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ قَالَ لِجِبْرِيلَ عليه السلام: هَلْ نَالَك مِنْ تِلْكَ الرَّحْمَةِ شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ» .
وَالِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] مِنْ أَصَحِّ مَا يَكُونُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] وَأَنَّ الْجِنَّ يُسَمَّوْنَ نَاسًا وَقَدْ أَشَرْنَا إلَى ذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ لَكِنَّ تَسْمِيَةَ الْجِنِّ نَاسًا مُخْتَلِفٌ فِيهِ وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي اشْتِقَاقِ النَّاسِ هَلْ هُوَ مِنْ النَّوَسِ وَهُوَ الْحَرَكَةُ أَوْ مِنْ الْإِينَاسِ بِمَعْنَى الْإِبْصَارِ أَوْ مِنْ الْإِنْسِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْوَحْشَةِ وَمَنْ يَقُولُ بِتَسْمِيَتِهِمْ نَاسًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَقُولُ إنَّ ذَلِكَ ظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ بَلْ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ وَالْأَغْلَبُ خِلَافُهُ وَالْحَمْلُ عَلَى الْعُرْفِ الْأَغْلَبِ أَوْجَبُ وَالْجَوْهَرِيُّ ذَكَرَ بَابَ أَنِسَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ ذَلِكَ وَذَكَرَ بَابَ نَوَسَ وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ مِنْ الشَّيْءِ الْقَلِيلِ وَبِإِدْخَالِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ إلَى أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّوَسِ وَقَالَ فِي بَابِ أَنِسَ إنَّ الْأُنَاسَ لُغَةٌ فِي النَّاسِ وَكَثِيرٌ مِنْ النُّحَاةِ يَقُولُونَ إنَّ النَّاسَ أَصْلُهُ الْأُنَاسُ وَأَنَّهُ مِمَّا حُذِفَتْ فِيهِ الْهَمْزَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْكِي فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ وَيَتَخَلَّصُ مِنْ مَجْمُوعِ كَلَامِهِمْ أَنَّ النَّاسَ لَفْظٌ وَاحِدٌ فِي الصُّورَةِ وَهُوَ فِي التَّقْدِيرِ لَفْظَانِ أَحَدُهُمَا أُنَاسٌ مَأْخُوذٌ مِنْ أَنِسَ إمَّا بِمَعْنَى أَبْصَرَ وَإِمَّا ضِدُّ أَوْحَشَ وَعَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْجِنِّ لِأَنَّا لَا نُبْصِرُهُمْ وَلَا نَأْنَسُ بِهِمْ وَالثَّانِي مَأْخُوذٌ مِنْ نَوَسَ بِمَعْنَى الْحَرَكَةِ وَعَلَى هَذَا يُطْلَقُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ وَلَكِنَّ الِاسْتِعْمَالَ لَهُ فِي الْإِنْسِ أَغْلَبُ فَهُمَا لَفْظَانِ مُشْتَقَّانِ مِنْ أَصْلَيْنِ مُشْتَقٌّ مِنْهُمَا وَلَمَّا حَصَلَ الْحَذْفُ وَفِي أَحَدِ الْمُشْتَقَّيْنِ وَالْقَلْبُ فِي الْآخَرِ صَارَا عَلَى صُورَةِ لَفْظٍ وَاحِدٍ إذَا عَرَفْت هَذَا فَقَوْلُهُ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] وَشَبَهُهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ الْإِنْسِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْجِنِّ أَلْبَتَّةَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ النَّوَسِ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِمْ قَلِيلًا فَدُخُولُ الْجِنِّ فِي الْآيَةِ إمَّا مُمْتَنِعٌ وَإِمَّا قَلِيلٌ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ.
وَبِهَذَا بَانَ ضَعْفُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا لَكِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ أَيْضًا لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَمِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ادَّعَى بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ دُخُولَ الْجِنِّ فِي لَفْظِ النَّاسِ قَوْله تَعَالَى {فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5] {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 6] وَتُجْعَلُ
مِنْ " بَيَانًا لِلنَّاسِ وَالْمُوَسْوِسِ فِي صُدُورِهِمْ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنَّهَا بَيَانٌ لِلْخَنَّاسِ.
وَاسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «وَأُرْسِلْت إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً» صَحِيحٌ قَوِيٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَأَنَّهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَاسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ أَتَاهُ دَاعِي الْجِنِّ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ وَحْدَهُ لَا يَكْفِي لِاحْتِمَالِ أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْمَوْعِظَةَ وَلَكِنْ إذَا انْضَمَّ إلَى غَيْرِهِ قَرُبَ.
وَقَوْلُهُ: إنَّهُ حَكَمَ بَيْنَهُمْ إنْ أَرَادَ بِإِجَابَتِهِمْ فِي الزَّادِ وَالْعَظْمِ وَالرَّوْثِ فَصَحِيحٌ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ مَعَ تَوَقُّفٍ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ وَحْدَهُ، وَإِنْ أَرَادَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ فِي دَعْوَى مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَلَا أَسْتَحْضِرُهَا، وَلَوْ اتَّفَقَ مِثْلُ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى عُمُومِ الرِّسَالَةِ إلَيْهِمْ.
وَقَدْ فَكَّرْت فِي حَدِيثِ «أَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا وَكَّلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ وَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ لِيَسْرِقَ مِنْهَا، وَقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَدْفَعَنَّكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَعْرِفْهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ أَعْلَمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ» ، وَلَمْ يَتَّفِقْ رَفْعُهُ حَتَّى نَعْلَمَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَخْبَرَهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى بِإِمْسَاكِهِ وَرَفْعِهِ إلَيْهِ وَمُجَرَّدِ إمْسَاكِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَهُ عَنْ السَّرِقَةِ مِنْ بَابِ دَفْعِ الصَّائِلِ وَهُوَ جَائِزٌ سَوَاءٌ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ أَمْ لَا كَمَا يُدْفَعُ الصَّبِيُّ وَالْبَهِيمَةُ. فَلِهَذَا لَمْ أَسْتَدِلَّ بِهَا.
وَلَوْ اتَّفَقَ رَفْعُهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحُكْمُهُ عَلَيْهِ لَمْ أَتَوَقَّفْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ. وَلَيْسَ لِقَائِلٍ ذَلِكَ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ عَلَى مُقْتَضَى اعْتِقَادِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ لَا يَعْتَقِدُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ قَبْلَ الْحُكْمِ كَحُكْمِ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْحَنَفِيِّ وَعَكْسِهِ لِأَنَّ تِلْكَ أُمُورٌ مَظْنُونَةٌ فَالشَّافِعِيُّ يَحْكُمُ عَلَى الْحَنَفِيِّ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ وَإِنْ كَانَ الْحَنَفِيُّ مُكَلَّفًا قَبْلَ الْحُكْمِ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ.
وَأَمَّا هُنَا فَالْأَمْرُ مَقْطُوعٌ بِهِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْلَمُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ وَلَا يَحْكُمُ عَلَى أَحَدٍ إلَّا بِحُكْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مَقْطُوعٌ بِهِ قَبْلَ الْحُكْمِ وَبَعْدَهُ فَلَوْ رُفِعَ إلَى نَبِيِّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ لَيْسَ مِنْ أُمَّتِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْهُ إلَيْهِ وَأَرْسَلَ إلَيْهِ غَيْرَهُ مِمَّنْ حُكْمُ ذَلِكَ الْفَرْعِ الَّذِي رُفِعَ إلَيْهِ فِي شَرْعِهِ يُخَالِفُ حُكْمَهُ فِي شَرْعِ ذَلِكَ النَّبِيِّ الْمَرْفُوعِ إلَيْهِ فَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ النَّبِيَّ لَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ بَلْ نَقُولُ: هَذَا حُكْمُ مَا فَعَلَ فَلَوْ حَكَمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ النَّبِيُّ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ إمَّا
بِرِسَالَةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ إلَيْهِ وَإِمَّا بِمُوَافَقَتِهِ لِشَرْعِ نَبِيِّهِ وَأَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِالْحُكْمِ بِهَا، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحْكُمْ بِشَرِيعَةٍ أُخْرَى لِنَسْخِ شَرِيعَتِهِ لِسَائِرِ الشَّرَائِعِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ تَكُونَ شَرِيعَتُهُ وَأَنَّ حُكْمَهَا لَازِمٌ لَهُمْ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ كَمَا تَحَدَّى الْإِنْسَ بِهِ قَدْ ذَكَرَهُ غَيْرُ هَذَا الْقَائِلِ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] هَذَا الِاسْتِدْلَال عِنْدِي لَيْسَ بِالْقَوِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ تَحَدِّيَ الْإِنْسِ فَقَطْ وَالْمُبَالَغَةَ فِي تَعْجِيزِهِمْ بِعَجْزِ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُمْ وَأَقْدَرُ وَأَذْكَى، وَالِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّهُ أَحَلَّ لَهُمْ كُلَّ طَعَامٍ لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ الْإِحْلَالَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ فَإِذَا أَحَلَّ لَهُمْ فَقَدْ تَعَلَّقَ بَعْضَ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ بِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ لَكِنَّ الَّذِي أَعْرِفُهُ فِي الصَّحِيحِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ قَالَ «لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» .
وَصِيغَتُهُ " لَكُمْ " لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي الْإِحْلَالِ فَقَدْ يَكُونُ وَسَّعَ عَلَيْهِمْ بِدُعَائِهِ بَعْدَ ضِيقِ، الِاسْتِدْلَالِ بِتَحْرِيمِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ وَالْعَظْمِ مِنْ أَجْلِهِمْ لَيْسَ بِجَيِّدٍ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ مُتَعَلِّقٌ بِنَا لَا بِهِمْ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّ الرُّسُلَ إلَيْهِمْ لَمْ يَكُونُوا إلَّا مِنْ الْإِنْسِ لَا أَرْتَضِيهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْسُنُ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الرُّسُلِ إلَيْهِمْ لَمْ يَكُونُوا إلَّا مِنْ الْإِنْسِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَلَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ.
وَالْخِلَافُ الْمُشَارُ إلَيْهِ هُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ الْمُفَسَّرِ إنَّ الرُّسُلَ إلَى الْجِنِّ مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] فَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمَنْ تَبِعَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ.
وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ لَمْ تَكُنْ الرُّسُلُ إلَّا مِنْ الْإِنْسِ وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ يَطُولُ وَلَيْسَ هَذَا مَحِلَّهُ.
وَلَمْ يَقُلْ الضَّحَّاكُ وَلَا أَحَدٌ غَيْرُهُ بِاسْتِمْرَارِ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ وَإِنَّمَا مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ فِي الْمِلَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ خَاصَّةً وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ فَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُرْسَلُ إلَيْهِمْ وَإِلَى غَيْرِهِمْ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْإِجْمَاعِ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى الْإِجْمَاعِ فِي ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ عَقِيلُ بْنُ عَطِيَّةَ الْقُضَاعِيُّ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ وَكَذَلِكَ فَعَلَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْفَصْلِ وَكَثِيرًا مَا يَذْكُرُ
الْعُلَمَاءُ فِي مُصَنَّفَاتِهِمْ كَوْنَهُ صلى الله عليه وسلم مَبْعُوثًا إلَى الثَّقَلَيْنِ، وَرُبَّمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي صُدُورِ تَوَالِيفِهِمْ.
قُلْت: وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْإِرْشَادِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْعِيسَوِيَّةِ وَقَدْ عَلِمْنَا ضَرُورَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ادَّعَى كَوْنَهُ مَبْعُوثًا إلَى الثَّقَلَيْنِ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَيْضًا فِي الشَّامِلِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْعِيسَوِيَّةِ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا دَلِيلُكُمْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَبْعُوثًا إلَى كَافَّةِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ؟ قُلْنَا: مَنْ اعْتَرَفَ بِنُبُوَّتِهِ وَأَقَرَّ بِوُجُوبِ صِدْقِ لَهْجَتِهِ وَاسْتَسْلَمَ لِقَضِيَّةِ مُعْجِزَتِهِ فَثَبَتَ مَا تَرُومُهُ مِنْ بَعْثَتِهِ إلَى الْكَافَّةِ يَثْبُتُ عَلَى الْفَوْرِ، وَذَلِكَ أَنَّا نَعْلَمُ ضَرُورَةَ وَبَدِيهَةَ أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم كَانَ تَعَلَّقَ دَعْوَتَهُ لِمَنْ عَلَى بَسِيطِ الْأَرْضِ وَلَا يُخَصِّصُهَا بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ وَهَذَا مِمَّا نُقِلَ تَوَاتُرًا مِنْهُ كَمَا نُقِلَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.
وَأَبْطَالُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي ذَلِكَ رَادًّا عَلَى الْعِيسَوِيَّةِ لَا ضَرُورَةَ بِنَا إلَى نَقْلِ بَقِيَّةِ كَلَامِهِ هُنَا.
وَقَوْلُ ذَلِكَ الْمُسْتَدِلِّ فِيمَا ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا خَفِيَ عَلَيْهِ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّا قَدْ حَمَلْنَا كَلَامَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَحْمَلٍ صَحِيحٍ هُوَ أَنَّهُ أَرَادَ فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ أَنْ نَقُولَ: إنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَذْكُورُ فِي لَيْلَةِ الْجِنِّ أَتَرَى يَخْفَى عَلَيْهِ مَا فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ وَسُورَةِ الْجِنِّ مَا فِيهِمَا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّمَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ خَاصَّةً لَا حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ حَتَّى يُشَبَّهَ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي خَفِيَتْ عَنْ آحَادِ الصَّحَابَةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ لَيْسَ فِيهِ حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ صَرِيحًا بَلْ هُوَ فِي غَيْرِهِ أَظْهَرُ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فَيَجِبُ أَنْ لَا تُطْلَقَ هَذِهِ الْعِبَارَةُ هَاهُنَا فَإِنَّهُ لَيْسَ مَحِلَّهَا وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.
وَقَوْلُ السَّائِلِ: هَلْ يَنْهَضُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الْمَطْلُوبِ؟ جَوَابُهُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ بَعْضَهُ يَنْهَضُ وَبَعْضَهُ لَا يَنْهَضُ وَقَدْ نَهَضَتْ الْأَدِلَّةُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ عَلَى ذَلِكَ
(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ: فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: 31] يَرْجِعُ إلَى الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1]{يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن: 2] وَقَوْلُهُ {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ} [الجن: 13] وَلَا شَكَّ فِي وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، وَبِتَقْدِيرِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ دَالٌ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَمُطْلَقُ الْإِيمَانِ أَعَمُّ مِنْ الْإِيمَانِ بِكَوْنِهِ رَسُولًا إلَيْهِمْ
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْأَعَمِّ ثُبُوتُ الْأَخَصِّ بَلْ وُجُوبُ الْإِيمَانِ بِهِ صلى الله عليه وسلم كَوُجُوبِ الْإِيمَانِ عَلَيْنَا بِمُوسَى وَعِيسَى عليهما السلام.
أَقُولُ: تَكَلَّمَ السَّائِلُ فِي الضَّمِيرِ فِي {وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: 31] وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِي قَوْلِهِ {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 31] وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَوْضَحُ، فَإِنْ كَانَ يَقُولُ: إنَّ الدَّاعِيَ هُوَ الْقُرْآنُ فَيُبْعِدُهُ أُمُورٌ:
(أَحَدُهَا) أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ: أَجِيبُوهُ لِتَقَدُّمِهِ فِي قَوْلِهِمْ {كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} [الأحقاف: 30] فَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ مُظْهَرًا وَمُضْمَرًا فَلَوْ أُرِيدَ بِهِ الْإِجَابَةُ لَقِيلَ: أَجِيبُوهُ وَوَضْعُ الظَّاهِرِ فِي مَوْضِعِ الْمُضْمَرِ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى خِلَافِ الْأَوْلَى.
(الثَّانِي) أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ تَثْبُتْ تَسْمِيَتُهُ دَاعِيًا فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَبَتَتْ تَسْمِيَتُهُ دَاعِيًا فِي مَوَاضِعَ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} [الأحزاب: 45 - 46] وَلِحَدِيثٍ طَوِيلٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: «جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ نَائِمٌ، وَفِيهِ فَقَالُوا: إنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلًا فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ نَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنْ الْمَأْدُبَةِ وَمَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ الْمَأْدُبَةِ، فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهُهَا، وَفِيهِ قَالُوا: فَالدَّارُ الْجَنَّةُ وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم» ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُ قَوْلِهِمْ {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 31] عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي ثَبَتَتْ تَسْمِيَتُهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَأَيْضًا فِي سُورَةِ الْجِنِّ {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19] وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الدُّعَاءُ بِمَعْنًى آخَرَ.
وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الَّذِي قَرَأَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ سُورَةُ الْجِنِّ وَقِيلَ: سُورَةُ الرَّحْمَنِ.
(الثَّالِثُ) أَنَّ إسْنَادَ الدُّعَاءِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَقِيقَةٌ وَإِلَى الْقُرْآنِ مَجَازٌ وَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى.
فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ دَاعِيَ اللَّهِ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَفَى.
ثُمَّ نَقُولُ: الضَّمِيرُ فِي {وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: 31] عَائِدٌ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْقُرْآنِ وَعَوْدُهُ فِي سُورَةِ الْجِنِّ عَلَيْهِ لِتَقَدُّمِهِ دُونَ غَيْرِهِ، هَذِهِ الْعِلَّةُ مَفْقُودَةٌ هُنَا.
وَقَوْلُ السَّائِلِ وَلَا شَكَّ فِي وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ.
أَقُولُ: وَكَذَلِكَ لَا شَكَّ فِي وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ فَالْقُرْآنُ
وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كُلٌّ مِنْهُمَا تَجِبُ إجَابَتُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَوُجُوبُ إجَابَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقْتَضِي تَعَلُّقَ شَرْعِهِ بِهِمْ، وَوُجُوبُ إجَابَةِ الْقُرْآنِ تَقْتَضِي وُجُوبَ امْتِثَالِ مَا فِيهِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِمْ جَمِيعُ تَكَالِيفِهِ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فَقَصْرُ السَّائِلِ كَلَامَهُ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ وَهُمْ قَدْ أُمِرُوا بِالْإِيمَانِ وَالْإِجَابَةِ فَلَمْ تَزَلْ الْإِجَابَةُ وَتَكَلَّمَ فِي الْإِيمَانِ، وَإِنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْإِجَابَةِ الْإِيمَانُ مَنَعْنَاهُ فَإِنَّهُمَا أَمْرَانِ مُتَغَايِرَانِ.
وَقَوْلُهُ وَبِتَقْدِيرِ عَوْدِهِ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ دَالٌّ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِهِ صَحِيحٌ.
وَقَوْلُهُ: وَمُطْلَقُ الْإِيمَانِ بِهِ أَعَمُّ مِنْ الْإِيمَانِ بِكَوْنِهِ رَسُولًا إلَيْهِمْ إلَى آخِرِهِ.
جَوَابُهُ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِإِجَابَتِهِ وَبِالْإِيمَانِ بِهِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْإِجَابَةِ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَرِدُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ وَالْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ بِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ وَهُوَ كَوْنُهُ دَاعِيًا إلَى اللَّهِ تَجِبُ عَلَيْهِ إجَابَتُهُ وَذَلِكَ هُوَ الْإِيمَانُ بِكَوْنِهِ رَسُولًا إلَيْهِمْ.
وَأَمَّا وُجُوبُ الْإِيمَانِ عَلَيْنَا بِمُوسَى وَعِيسَى عليهما السلام فَمَعْنَاهُ أَنَّا نُؤْمِنُ بِأَنَّهُمَا نَبِيَّانِ رَسُولَانِ إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ كَرِيمَانِ وَمَحِلُّهُمَا الْمَحِلُّ الَّذِي أَحَلَّهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْجِنِّ وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَزِيَادَةُ الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ دَاعٍ لَهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ إجَابَتُهُ لِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ قَوْمُهُمْ كَإِيمَانِنَا بِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ دَاعٍ يَجِبُ عَلَى الْمَدْعُوِّ الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ رَسُولٌ إلَيْهِ وَيَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمَدْعُوِّ الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ رَسُولٌ فِي الْجُمْلَةِ وَالْجِنُّ مَدْعُوُّونَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ رَسُولٌ إلَيْهِمْ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ الْأَخَصُّ بِخِلَافِ مَا قَالَ السَّائِلُ
(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ: وَكَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ رِسَالَتُهُ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ أَعَمُّ مِنْ الرِّسَالَةِ صَحِيحٌ، وَقَدْ حَصَلَ مِنْ الْأَدِلَّةِ مَا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ.
(فَصْلٌ) وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] يَجُوزُ عَوْدُهُ إلَى الْفُرْقَانِ وَبِتَقْدِيرِ عَوْدِهِ إلَيْهِ فَالنَّذِيرُ أَعَمُّ مِنْ الرَّسُولِ وَأَيْضًا فَهُوَ مَخْصُوصٌ.
أَقُولُ: كَوْنِ الضَّمِيرِ لِلْفُرْقَانِ يَرُدُّهُ كَوْنُهُ أَبْعَدَ وَكَوْنُ النَّذِيرِ أَعَمُّ مِنْ الرَّسُولِ إنْ أَرَادَ بِحَسَبِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ فَالنَّذِيرُ وَالرَّسُولُ كُلٌّ مِنْهُمَا أَعَمُّ مِنْ الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ النَّذِيرَ هُوَ الْمُخْبِرُ بِمَا يُخَافُ مِنْهُ سَوَاءٌ أَكَانَ الْخَبَرُ عَنْ نَفْسِهِ أَمْ عَنْ غَيْرِهِ وَالرَّسُولُ هُوَ الْمُخْبِرُ عَنْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ بِمُخَوِّفٍ أَمْ بِغَيْرِهِ وَسُمِّيَ الرَّسُولُ عَنْ اللَّهِ نَذِيرًا؛ لِأَنَّهُ يُخَوِّفُ النَّاسَ عَذَابَ اللَّهِ
وَسُمِّيَ الْمُبَلِّغُونَ عَنْهُمْ نُذُرًا؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُمْ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29] وَيُسَمَّوْنَ أَيْضًا رُسُلًا وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا رُسُلًا عَنْ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس: 14] وَكَانُوا رُسُلَ عِيسَى عليهم السلام وَبِهَذَا قِيلَ: إنَّ الرُّسُلَ إلَى الْجِنِّ فِي الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ وَكَانُوا نُذُرًا مِنْ جِهَةِ رُسُلِ الْإِنْسِ فَسُمُّوا رُسُلًا فِي قَوْله تَعَالَى {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ فِيهَا.
إذَا عَرَفْت ذَلِكَ فَتَسْمِيَتُهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ نَذِيرًا إنَّمَا كَانَ لِإِخْبَارِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] فَإِذَا سَلِمَ أَنَّهُ مُخْبِرٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى لِلْجِنِّ وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْفُرْقَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الرَّسُولِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ السَّائِلِ هُنَا إنَّ النَّذِيرَ أَعَمُّ مِنْ الرَّسُولِ وَقَوْلُهُ وَأَيْضًا فَهُوَ مَخْصُوصٌ يُشِيرُ إلَى خُرُوجِ الْمَلَائِكَةِ مِنْهُ، وَجَوَابُهُ إنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ حُجَّةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، وَلَوْ بَطَلَ الِاسْتِدْلَال بِالْعُمُومَاتِ الْمَخْصُوصَةِ لَبَطَلَ الِاسْتِدْلَال بِأَكْثَرِ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعُمُومَاتِ مَخْصُوصَةٌ، وَأَيْضًا فَلَوْ قِيلَ لِمُدَّعِي خُرُوجِ الْمَلَائِكَةِ مَنْ أَنْذَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إمَّا لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَإِمَّا غَيْرَهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْإِنْذَارِ وَالرِّسَالَةِ إلَيْهِمْ فِي شَيْءٍ خَاصٍّ أَنْ يَكُونَ بِالشَّرِيعَةِ كُلِّهَا. وَالْقَوْلُ بِالْعُمُومِ فِي حَقِّهِمْ فِي مُطْلَقِ الْإِنْذَارِ لَا يَكَادُ يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِهِ.
وَأَيْضًا مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْمَلَائِكَةَ هُمْ مُؤْمِنُو الْجِنِّ السَّمَاوِيَّةِ فَإِذَا رُكِّبَ هَذَا مَعَ الْقَوْلِ بِعُمُومِ الرِّسَالَةِ لِلْجِنِّ الَّذِي قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ لَزِمَ عُمُومُ الرِّسَالَةِ لَهُمْ لَكِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ مِنْ الْجِنِّ قَوْلٌ شَاذٌّ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْعَالَمِينَ ثَلَاثَةٌ: الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالْمَلَائِكَةُ أَضْعَافُ الثَّقَلَيْنِ وَإِنَّمَا أَرَدْنَا بِهَذَا عَدَمَ تَسَرُّعِ السَّائِلِ إلَى الْقَطْعِ بِالتَّخْصِيصِ.
(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ: وَتَسْمِيَتُهُ الْجِنَّ نَاسًا إنْ كَانَ حَقِيقَةً فَيَلْزَمُ الِاشْتِرَاكَ وَإِلَّا فَمَجَازٌ وَهُمَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ثُمَّ حَيْثُ أَطْلَقَ النَّاسَ فَالْمُرَادُ وَلَدُ آدَمَ عليه السلام؛ لِأَنَّهَا السَّابِقُ إلَى الْفَهْمِ وقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1]{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج: 5] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ يَدُلُّ أَقُولُ قَوْلُهُ إنْ كَانَ حَقِيقَةً يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكَ وَإِلَّا فَمَجَازٌ وَهُمَا عَلَى
خِلَافِ الْأَصْلِ.
يَرِدُ عَلَيْهِ التَّوَاطُؤُ وَهُوَ الْحَقُّ إذَا قُلْنَا: يُطْلَقُ عَلَى الْجِنِّ نَاسٌ فَإِنَّ النَّاسَ جَسَدٌ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّوَسِ وَهُوَ الْحَرَكَةُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَهُوَ مَوْضُوعٌ لِمَعْنًى عَامٍّ مُسْتَوْفًى فِي مُحَالِهِ وَهَذَا حَدُّ الْمُتَوَاطِئِ وَلَيْسَ بِمُشْتَرَكٍ وَلَا مَجَازٍ يَعُمُّ إطْلَاقَ الْمُتَوَاطِئِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ؟ فِيهِ بَحْثٌ طَوِيلٌ لِشُيُوخِنَا وَشُيُوخِ شُيُوخِنَا وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَالْخُصُوصُ غَيْرُ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْخُصُوصِ فَقَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ فَيَكُونُ مَجَازًا، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إنْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ بِخُصُوصِهِ كَانَ مَجَازًا.
وَلَا تَحْقِيقَ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ أَوْ هُوَ عَيْنُ التَّحْقِيقِ فَإِنَّ الِاسْتِعْمَالَ فِي الْخُصُوصِ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْخُصُوصِ أَمَّا إذَا أَرَدْتُ الْعُمُومَ فَلَا تَسْتَعْمِلْهُ فَلَا وَجْهَ لِلْخُصُوصِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّفْصِيلِ وَإِنْ كَانَ حَقًّا.
وَتَفْصِيلُ السَّائِلِ التَّسْمِيَةَ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازِ مُسْتَدْرَكٌ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَا تُوصَفُ بِحَقِيقَةٍ وَلَا بِمَجَازٍ وَإِنَّمَا الْمَوْصُوفُ بِهِمَا اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضُوعِهِ وَفِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ.
وَتَحْرِيرُ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ: اسْمُ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا لِلْجِنِّ مَعَ كَوْنِهِ مَوْضُوعًا لِلْإِنْسِ لَزِمَ الِاشْتِرَاكَ وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا لِلْإِنْسِ فَقَطْ وَأُطْلِقَ عَلَى الْجِنِّ لَزِمَ الْمَجَازَ.
وَإِذَا حَرَّرَ الْعِبَارَةَ هَكَذَا يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ إنْكَارَ اسْتِعْمَالِ هَذَا الِاسْمِ فِي الْجِنِّ بِالْأَصَالَةِ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ لِنَقْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ ذَلِكَ فَكَوْنُهُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لَا يَضُرُّ بَلْ يَتَرَجَّحُ إنَّهُ مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الِاشْتِرَاكِ، أَوْ يَتَرَجَّحُ بِأَنَّهُ مُتَوَاطِئٌ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَاطِئَ خَيْرٌ مِنْهُمَا عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ يَلْزَمُ بِالتَّوَاطُؤِ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا.
وَجَوَابُهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ بِخُصُوصِهِ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ بِخُصُوصِهِ؛ لِأَنَّهُ يُكْتَفَى فِي الِاسْتِعْمَالِ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ.
وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْجِنِّ وَلَكِنْ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا فَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ مُسْتَعْمَلٍ لَا يَخْلُو عَنْ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ السَّائِلِ إنْكَارُ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ النَّاسِ فِي الْجِنِّ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِقَوْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ لَكِنَّهُ قَلِيلٌ وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتَفِيَ بِدَعْوَى الْقِلَّةِ فِيهِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْقِلَّةِ لَا يُنَافِي
قَوْلَنَا: إنَّهُ مُتَوَاطِئٌ لِأَمْرَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْمُتَوَاطِئَ قَدْ يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُهُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ دُونَ بَعْضٍ.
وَالثَّانِي: مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ لَفْظَ النَّاسِ صُورَتُهُ وَاحِدَةٌ وَهُوَ لَفْظَانِ فِي الْحَقِيقَةِ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: أَصْلَانِ. فَالنَّاسُ الْمَوْضُوعُ لِلْإِنْسِ فَقَطْ مَادَّتُهُ مِنْ هَمْزَةٍ وَنُونٍ وَسِينٍ، وَالْأَلْفُ الَّتِي وَسَطُ زَائِدَةٌ فَوَزْنُهُ عَالٍ، وَهُوَ غَيْرُ النَّاسِ الْمُتَوَاطِئُ بَيْنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَإِنَّ مَادَّتَهُ مِنْ نُونٍ وَوَاوٍ وَسِينٍ وَلَا حَذْفَ فِيهِ بَلْ قُلِبَتْ وَاوُهُ أَلْفًا فَوَزْنُهُ فَعَلَ، وَلَوْلَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّغَايُرِ لَكَانَ مُشْتَرَكًا، وَثَمَّ أَلْفَاظٌ فِي اللُّغَةِ هَكَذَا صُورَتُهَا وَاحِدَةٌ وَإِذَا نُظِرَ إلَى تَصْرِيفِهَا وَاشْتِقَاقِهَا عُلِمَ تَغَايُرُهَا مِثْلُ " زَالَ " مَاضِي يَزَالُ وَ " زَالَ " مَاضِي يَزُولُ وَمِثْلُ " عَلَا " الَّتِي هِيَ فِعْلٌ، وَ " عَلَى " الَّتِي هِيَ حَرْفٌ وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَلْفَاظِ لَا نُطِيلُ بِذِكْرِهِ فَلَفْظُ النَّاسِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، هَذَا الَّذِي تَخْتَارُهُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النُّحَاةِ يَنْقُلُ فِيهِ خِلَافًا.
وَقَوْلُ السَّائِلِ: إنَّهُ حَيْثُ أُطْلِقَ النَّاسُ فَالْمُرَادُ وَلَدُ آدَمَ هُوَ الظَّاهِرُ لَكِنَّا قَدَّمْنَا خِلَافًا فِي قَوْلِهِ {فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5] وَالْآيَتَانِ اللَّتَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُرَادُ فِيهِمَا وَلَدُ آدَمَ لِقَرِينَةٍ فِيهِمَا، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَالْقَرِينَةُ الْمَذْكُورَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي قَوْلِهِ {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] .
(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «وَأُرْسِلْت إلَى الْخَلْقِ عَامَّةً» أَيْ رَحْمَةً. أَقُولُ: هَذَا تَفْسِيرٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ خُرُوجًا عَنْ مَوْضُوعِ اللَّفْظِ بِلَا دَلِيلٍ، وَمُخَالِفٌ لِمَقْصُودِ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ قَبْلَهُ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ فَتَفْسِيرُ الْإِرْسَالِ هُنَا بِالرَّحْمَةِ تَحْرِيفٌ وَهُوَ مِمَّا يَشْمَئِزُّ لَهُ الطَّبْعُ فَأُحَاشِي السَّائِلَ مِنْهُ وَلَا يُسْلَكُ مِثْلُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ إلَّا حَيْثُ تَكُونُ أَدِلَّةٌ قَوِيَّةٌ تُلْجِئُ إلَى ذَلِكَ وَهَا هُنَا بِالْعَكْسِ الْأَدِلَّةُ تُوَافِقُ الظَّاهِرَ فَأَيُّ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إلَى هَذِهِ التَّعَسُّفَاتِ.
(فَصْلٌ) قَالَ: وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] وَلِكَوْنِ الْخَلْقِ فِيهِ مَنْ يَتَأَتَّى الْإِرْسَالُ إلَيْهِ.
أَقُولُ: أَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآيَةِ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ الْمُرْسَلُ إلَيْهِ وَالْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ الْعِلَّةُ الَّتِي هِيَ الرَّحْمَةُ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الرَّحْمَةَ عَامَّةٌ فَلَوْ عَكَسَ السَّائِلُ وَجَعَلَ
الْعُمُومَ فِي الْمُرْسَلِ إلَيْهِ كَذَلِكَ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ، أَمَّا تَفْسِيرُ الْإِرْسَالِ بِالرَّحْمَةِ الَّتِي هِيَ عِلَّتُهُ فَغَيْرُ مَرْضِيٍّ.
وَأَمَّا كَوْنُ الْخَلْقِ فِيهِ مَنْ يَتَأَتَّى الْإِرْسَالُ إلَيْهِ فَالْجِنُّ يَتَأَتَّى الْإِرْسَالُ إلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] وَلِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَكْلِيفِهِمْ فَإِنْ قَالَ: لَا يَتَأَتَّى الْإِرْسَالُ مِنْ الْإِنْسِ إلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِمْ فَنَقُولُ: إنَّهُ يَتَأَتَّى فَإِنَّ سُلَيْمَانَ عليه السلام سُخِّرَتْ لَهُ الْجِنُّ؛ وَغَيْرُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَكِنْ إذَا أَرْسَلَهُ اللَّهُ إلَيْهِمْ لَا بُدَّ أَنْ نَجْعَلَ لَهُ طَرِيقًا إلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ أَنْ يَحْصُلَ وُصُولُ ذَلِكَ الْكَلَامِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ وَقَدْ حَصَلَ هَذَا فِي اسْتِمَاعِ الْجِنِّ لِقِرَاءَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي ذَهَابِهِ إلَيْهِمْ وَقِرَاءَتِهِ عَلَيْهِمْ.
(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ: وَأَمَّا تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ وَتَحَدِّيهِمْ بِهِ؛ فَلِاحْتِمَالِ أَنْ يُحَقِّقَ عَجْزَهُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَيُثْبِتَ مُدَّعَاهُ إذْ لَا يَمْتَنِعُ اخْتِصَاصُ الرِّسَالَةِ بِقَوْمٍ وَتَحَدِّيهِمْ بِمُعْجِزَةٍ لَا يَقْدِرُونَ هُمْ وَلَا غَيْرُهُمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا؛ وَإِذَا انْضَافَ إلَى عَجْزِ الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ عَجْزُ مَنْ سِوَاهُمْ مِمَّنْ هُوَ أَقْوَى وَأَقْدَرُ مِنْهُمْ كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الِانْقِيَادِ وَالِاسْتِجَابَةِ لَهُ.
أَقُولُ: أَمَّا تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ وَكَانَ ذَلِكَ لِيُعْلِمَهُمْ بِسُؤَالِهِمْ كَمَا تَبَيَّنَ مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَأَمَّا تَحَدِّيهِمْ بِهِ فَذَلِكَ الْمُسْتَدِلُّ أَطْلَقَ هَذِهِ الدَّعْوَى وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنْ بَعْضَ الْمُصَنِّفِينَ ذَكَرَهَا مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ} [الإسراء: 88]- الْآيَةَ وَقُلْنَا: إنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ إلَّا عَلَى التَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ عَلَى مُعَارَضَتِهِ، وَأَمَّا عُمُومُ الدَّعْوَةِ بِهِ أَوْ خُصُوصُهَا فَلَا تَعَرُّضَ فِي الْآيَةِ لِذَلِكَ وَلِذَلِكَ فَقَوْلُ السَّائِلِ أَمَّا تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ وَتَحَدِّيهِمْ بِهِ إنْ أَرَادَ أَنَّ تِلَاوَتَهُ عَلَيْهِمْ كَانَ لِقَصْدِ التَّحَدِّي.
فَهَذَا لَمْ يَثْبُتْ وَإِنَّمَا كَانَ لِلتَّعْلِيمِ، وَالتَّحَدِّي فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمُبَارَاةُ وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ دَعْوَى الرِّسَالَةِ وَالْإِتْيَانِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ الْمُعْجِزَاتِ وَالْجِنُّ مِنْ حَيْثُ سَمِعُوا الْقُرْآنَ بِنَخْلَةٍ إذْ صَرَفَهُمْ اللَّهُ إلَيْهِ عَلِمُوا أَنَّهُ مُعْجِزٌ فَلَمْ يُبَارُوا فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَالْجِنُّ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي جَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى أَسَالِيبِهِ وَتَضَمَّنَ مِنْ نَظْمِ تِلْكَ الْأَسَالِيبِ وَالْجَزَالَةِ الْغَايَةَ الْقُصْوَى الَّذِي أَعْجَزَتْ الْخَلَائِقَ الَّذِينَ هُمْ فُصَحَاءُ ذَلِكَ اللِّسَانِ فَعَجْزُهُمْ
عَنْ مُعَارَضَتِهِ أُعْجِبُ مِنْ عَجْزِ الْجِنِّ وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ الْجِنُّ فِي قَوْلِهِ {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ} [الإسراء: 88] تَعْظِيمًا لِإِعْجَازِهِ؛ لِأَنَّ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ لَهَا مِنْ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ لِلْأَفْرَادِ فَإِذَا فُرِضَ اجْتِمَاعُ جَمِيعِ الْإِنْسِ وَجَمِيعِ الْجِنِّ فَظَاهَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَعَجَزُوا عَنْ الْمُعَارَضَةِ كَانَ الْفَرِيقُ الْوَاحِدُ وَالطَّائِفَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْهُ وَكُلُّ شَخْصٍ مِنْهَا عَنْ الْمُعَارَضَةِ أَعْجَزَ، فَمَقْصُودُ الْآيَةِ إثْبَاتُ عَجْزِهِمْ بِدَلِيلِ الْأَوْلَى سَوَاءٌ حَصَلَ هَذَا الِاجْتِمَاعُ أَمْ لَمْ يَحْصُلْ.
وَالسَّائِلُ مَعْذُورٌ فِي رَدِّهِ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ بِذَلِكَ عَلَى عُمُومِ الْبَعْثَةِ لِلْجِنِّ وَنَحْنُ لَمْ نَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ بَلْ بِغَيْرِهِ مِمَّا لَا مُعْتَرَضَ عَلَيْهِ وَلَا مَرَدَّ لَهُ.
(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ: وَأَمَّا مَا أُحِلَّ لَهُمْ فَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ تَكْلِيفٌ لَنَا وَمُتَعَلِّقٌ بِنَا وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجْلِهِمْ كَمَا نَهَى عَنْ الْبَصْقِ عَنْ الْيَمِينِ مِنْ أَجْلِ الْمَلَكِ وَكَمَا حَرَّمَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ.
أَقُولُ: إنْ ثَبَتَ لَفْظُ الْإِحْلَالِ لَهُمْ لَمْ يَرِدْ هَذَا؛ لِأَنَّ الْإِحْلَالَ لَهُمْ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِهِمْ وَهُوَ إخْبَارٌ لَهُمْ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَالْبَعْثَةِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلسَّائِلِ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ إنْ ثَبَتَ لَفْظُ الْإِحْلَالِ لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا اللَّفْظُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ قَوْلُهُ «لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْإِحْلَالِ وَلِغَيْرِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَهُوَ مَحَلُّ التَّوَقُّفِ وَإِذَا جُعِلَ التَّوَقُّفُ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الْبُصَاقِ لِأَجْلِ الْمَلَكِ وَتَحْرِيمُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ فَنَظِيرُهُ تَحْرِيمُ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْعَظْمِ مِنْ أَجْلِ الْجِنِّ وَذَلِكَ بِمُجَرَّدِهِ لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ بِالتَّحْلِيلِ لَهُمْ، فَلْيَفْهَمْ النَّاظِرُ الْفَرْقَ بَيْنَ التَّحْلِيلِ لَهُمْ وَالتَّحْرِيمِ عَلَيْنَا مِنْ أَجْلِهِمْ، وَالْأَوَّلُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِهِمْ، وَالثَّانِي مُتَعَلِّقٌ بِنَا لَا بِهِمْ، وَلَيْسَ لَنَا إذَا وَرَدَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ أَنْ نَحْمِلَهُ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى أَلْفَاظِ الشَّرِيعَةِ مَا أَمْكَنَ وَفَهْمُ مَعَانِيهَا وَتَوْفِيَتُهَا مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَلَا نُهْمِلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا نَتَجَاوَزُهُ فَنَزِيدُ أَحْكَامًا لَمْ يُنْزِلْ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَلَا نَنْقُصُ مِنْهُ فَنَتْرُكُ حُكْمًا أَنْزَلَهُ اللَّهُ، مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ فِي الْأَوَّلِ حَاكِمًا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَفِي الثَّانِي تَارِكًا لِلْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَكِلَاهُمَا مَذْمُومٌ لِقَوْلِهِ {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 44]- الْآيَاتِ وَإِذَا تَوَعَّدَ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَعَلَى الْحُكْمِ بِمَا لَمْ
يُنْزِلْ اللَّهُ أَوْلَى نَسْأَلُ اللَّهَ الْعِصْمَةَ مِنْ الْأَمْرَيْنِ.
(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ: وَأَمَّا أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ إلَى الْجِنِّ إلَّا مِنْ الْإِنْسِ فَمُجَرَّدُ دَعْوَى وقَوْله تَعَالَى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] ظَاهِرٌ فِي كَوْنِ الرُّسُلِ إلَيْهِمْ مِنْهُمْ، وَاحْتِمَالُ غَيْرِ ذَلِكَ عُدُولٌ عَنْ الظَّاهِرِ أَقُولُ: هَذِهِ مَسْأَلَةٍ خِلَافٌ ذَهَبَ الضَّحَّاكُ إلَى مَا قَالَهُ السَّائِلُ وَلَا أَعْرِفُ ذَلِكَ نُقِلَ عَنْ أَحَدٍ مُعَيَّنٍ إلَّا عَنْهُ لَكِنَّ فِي كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّ غَيْرَهُ قَالَ بِقَوْلِهِ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ وَإِنَّمَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ صَرِيحًا عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ ثنا ابْنُ حُمَيْدٍ ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سُئِلَ الضَّحَّاكُ عَنْ الْجِنِّ هَلْ كَانَ فِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعْ إلَى قَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} [الأنعام: 130]- الْآيَةَ يَعْنِي بِذَلِكَ رُسُلًا مِنْ الْإِنْسِ وَرُسُلًا مِنْ الْجِنِّ؟ قَالُوا: بَلَى، ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِقَوْلِ الضَّحَّاكِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ مِنْ الْجِنِّ رُسُلًا أُرْسِلُوا إلَيْهِمْ، قَالَ: وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ عَنْ رُسُلِ الْجِنِّ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ رُسُلُ الْإِنْسِ جَازَ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ عَنْ رُسُلِ الْإِنْسِ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ رُسُلُ الْجِنِّ قَالُوا: وَفِي فَسَادِ هَذَا الْمَعْنَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا بِمَعْنَى الْخَبَرِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْخِطَابِ دُونَ غَيْرِهِ.
هَذَا جُمْلَةُ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي مَذْهَبِ الضَّحَّاكِ، وَالْأَكْثَرُونَ خَالَفُوا الضَّحَّاكَ وَقَالُوا: لَمْ يَكُنْ مِنْ الْجِنِّ قَطُّ رَسُولٌ وَلَمْ تَكُنْ رُسُلٌ إلَّا مِنْ الْإِنْسِ.
نُقِلَ مَعْنَى هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جَرِيرٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْكَلْبِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَالْوَاحِدِيِّ مَعَ قَوْلِهِ: إنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ لِلضَّحَّاكِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَتَأَوَّلُونَهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ مَا مَعْنَاهُ: إنَّ رُسُلَ الْإِنْسِ رُسُلٌ مِنْ اللَّهِ إلَيْهِمْ وَرُسُلَ الْجِنِّ قَوْمٌ مِنْ الْجِنِّ لَيْسُوا رُسُلًا عَنْ اللَّهِ وَلَكِنْ بَثَّهُمْ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ فَسَمِعُوا كَلَامَ رُسُلِ اللَّهِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ وَجَاءُوا إلَى قَوْمِهِمْ مِنْ الْجِنِّ فَأَخْبَرُوهُمْ كَمَا اتَّفَقَ لِلَّذِينَ صَرَفَهُمْ اللَّهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ وَوَلَّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ فَهُمْ رُسُلٌ عَنْ الرُّسُلِ لَا رُسُلٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَيُسَمَّوْنَ نُذُرًا وَيَجُوزُ تَسْمِيَتُهُمْ رُسُلًا لِتَسْمِيَةِ رُسُلِ عِيسَى رُسُلًا فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس: 14] وَجَاءَ
قَوْلُهُ {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] عَلَى ذَلِكَ فَالرُّسُلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ الْإِنْسِ وَهُمْ رُسُلُ اللَّهِ، وَالنُّذُرِ مِنْ الْجِنِّ وَهُمْ رُسُلُ الرُّسُلِ وَيَجُوزُ تَسْمِيَتُهُمْ رُسُلًا هَذَا قَوْلُ هَؤُلَاءِ.
وَقَالَ طَائِفَةٌ وَالْكَلْبِيُّ: تَأْوِيلُ الْآيَةِ وَقَوْلِهِ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَرُبَّمَا نُقِلَ مَعْنَى هَذَا عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَيْضًا وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ كَانَتْ الرُّسُلُ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم يَبْعَثُونَ إلَى الْإِنْسِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمْ يُرْسَلْ إلَيْهِمْ رَسُولٌ مِنْ الْإِنْسِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَهُ وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ إلَّا نُذُرٌ يُخْبِرُونَهُمْ عَنْ الرُّسُلِ وَتَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَيَتَعَلَّقُ بِهِمْ التَّكْلِيفُ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْكَلْبِيُّ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلٌ إلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَمْ يُخَالِفْهُ فِيهِ أَحَدٌ وَالضَّحَّاكُ إنَّمَا خَالَفَهُ فِي الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ كَمَا تُشِيرُ إلَيْهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَقَوْلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ مِثْلُ الضَّحَّاكِ عَنْ الْجِنِّ هَلْ كَانَ فِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَانْظُرْ هَذَا التَّقْيِيدَ فَمَنْ نَقَلَ عَنْ الضَّحَّاكِ مُطْلَقًا أَنَّ رُسُلَ الْجِنِّ مِنْهُمْ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا التَّقْيِيدِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ أَحَدٌ عَلَيْهِ فَقَدْ أَخْطَأَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ النُّزُوعُ عَنْهُ وَعَدَمُ اعْتِقَادِهِ، وَأَنْ لَا يَنْسِبَ إلَى رَجُلٍ عَالِمٍ مَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ فَيَكُونُ قَدْ جَنَى عَلَيْهِ جِنَايَةً يُطَالِبُهُ بِهَا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُ السَّائِلِ وَاحْتِمَالُ غَيْرِ ذَلِكَ عُدُولٌ عَنْ الظَّاهِرِ. عِبَارَةٌ رَدِيئَةٌ فَإِنَّ الْعُدُولَ عَنْ الظَّاهِرِ هُوَ سُلُوكُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ وَالْقَوْلُ بِهِ لَا نَفْسُ الِاحْتِمَالِ، وَإِذَا صَحَّتْ الْعِبَارَةُ يُجَابُ بِأَنَّ الْعُدُولَ عَنْ الظَّاهِرِ جَائِزٌ بَلْ وَاجِبٌ إذَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَاَلَّذِينَ عَدَلُوا عَنْ الظَّاهِرِ فِي ذَلِكَ أَكَابِرُ الْأُمَّةِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَمَنْ دُونَهُ وَأَيْنَ يَقَعُ الضَّحَّاكُ مِنْهُمْ أَوْ مَنْ وَافَقَهُ.
(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ: ثُمَّ إنَّ الْجِنَّ سَابِقُونَ عَلَى الْإِنْسِ فِي الْخَلْقِ وَالْوُجُودِ فَحَالُ وُجُودِهِمْ السَّابِقِ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ: يَلْزَمُ كَوْنَ الرُّسُلِ مِنْ غَيْرِ الْإِنْسِ ضَرُورَةَ تَقَدُّمِهِمْ عَلَيْهِمْ.
وَالثَّانِي: يَلْزَمُ عَلَيْهِ عَدَمُ تَكْلِيفِهِمْ وَعَدَمُ تَعْذِيبِهِمْ وَذَلِكَ
عَلَى خِلَافِ قَوْله تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] أَقُولُ: عَطْفُ الْوُجُودِ عَلَى الْخَلْقِ لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ إلَّا أَنْ تَقُولَ: إنَّ الْخَلْقَ فِعْلٌ وَالْوُجُودَ انْفِعَالٌ، وَالثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ فِي الذِّهْنِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْخَارِجِ فَهَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَا يُعْتَمَدُ فِي مِثْلِ هَذَا، وَقَوْلُهُ: إنَّهُمْ سَابِقُونَ عَلَى الْإِنْسِ إنْ اسْتَنَدَ فِي هَذَا إلَى قَوْله تَعَالَى {إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] فَالنَّاسُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ الْجِنَّ اسْمٌ لِكُلِّ مَنْ اسْتَتَرَ عَنْ الْعُيُونِ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ وَيَنْقَسِمُ إلَى مُؤْمِنِينَ يُسَمَّوْنَ مَلَائِكَةً وَإِلَى كُفَّارٍ يُسَمَّوْنَ شَيَاطِينَ حَكَاهُ الْحَلِيمِيُّ وَقَدْ أَشَرْنَا إلَيْهِ فِيمَا سَبَقَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَلَائِكَةُ جِنْسٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْجِنِّ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ وَعَلَى هَذَا قُلْ: إنَّ إبْلِيسَ أَبُو الْجِنِّ كَآدَمَ أَبِي الْبَشَرِ فَعَلَى الْأَوَّلِ مُؤْمِنُو الْجِنِّ هُمْ الْمَلَائِكَةُ وَهُمْ مُكَلَّفُونَ وَتَكْلِيفُهُمْ إمَّا بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِمَّا بِخَلْقِ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ بِمَا يُؤْمَرُونَ بِهِ وَيُنْهَوْنَ عَنْهُ وَإِمَّا بِأَنْ يُرْسَلَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، وَكُفَّارُ الْجِنِّ هُمْ الشَّيَاطِينُ وَلَعَلَّ أَوَّلَهُمْ إبْلِيسُ وَهُوَ مُكَلَّفٌ بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ بَعْدَهُ لَا يَلْزَمُ فِيهِ مَا قَالَهُ السَّائِلُ: يَجُوزُ وُصُولُ رُسُلِ الْإِنْسِ إلَيْهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَكُونُ الْجِنُّ مَوْجُودِينَ قَبْلَ آدَمَ عليه السلام، وَلَمْ يُنْقَلْ لَنَا كَيْفَ كَانَ تَكْلِيفُهُمْ هَلْ هُوَ بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ وَاسْتِدْلَالِيٍّ، وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَفَرْضُ هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ التَّكْلِيفِ الَّذِي لَا حَاجَةَ إلَى الْكَلَامِ فِيهِ وَتَوْقِيفُ التَّكْلِيفِ عَلَى الرَّسُولِ إنَّمَا هُوَ فِي هَذِهِ الْأُمَمِ الَّتِي فِيهَا الرُّسُلُ وَإِلَّا فَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ رُسُلٌ كَجِبْرِيلَ مُكَلَّفُونَ.
وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ إنْكَارَ وُجُودِ الْجِنِّ وَهُوَ عَجَبٌ كَيْفَ يُنْكِرُ مَنْ يُصَدِّقُ بِالْقُرْآنِ وُجُودَ الْجِنِّ.
وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا لِيَعْلَمَ السَّائِلُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي يَأْخُذُهَا مُسَلَّمَةٌ مِنْ نَفْسِهِ لَا يُسَلِّمُهَا إلَيْهِ غَيْرُهُ وقَوْله تَعَالَى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} [الإسراء: 15]- الْآيَةَ سِيَاقُ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْإِنْسِ فَإِنَّهُ قَالَ {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]- الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ {رَسُولا} [الإسراء: 15] وَلَا خِلَافَ أَنَّ إبْلِيسَ مُكَلَّفٌ مُعَذَّبٌ لِمُخَالَفَتِهِ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ رَسُولٌ لَا إنْسِيٌّ وَلَا
جِنِّيٌّ فَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ أَوْ أَنَّ الْعَقْلَ قَائِمٌ مَقَامَ الرَّسُولِ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُ الْأَحْكَامَ بِالْعَقْلِ أَوْ أَنَّ الرَّسُولَ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَوْ أَنَّ التَّكْلِيفَ يَحْصُلُ بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ خَلْقِ عِلْمٍ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّائِلَ بَنَى كَلَامَهُ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا إلَّا لِأَمْرِهِمْ بِالْعِبَادَةِ وَهُوَ قَوْلٌ مِنْ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِيهَا وَالْمَشْهُورُ خِلَافُهُ، وَفِيهَا بَحْثٌ كَبِيرٌ لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ.
(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ: وَأَمَّا دَعْوَى الْإِجْمَاعِ فَهَلْ لَهُ مُسْتَنَدٌ وَهَلْ هُوَ قَطْعِيٌّ أَوْ ظَنِّيٌّ وَهَلْ الْمَطْلُوبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقَطْعُ أَوْ الظَّنُّ وَهَلْ تَثْبُتُ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ فِي الْأُصُولِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
أَقُولُ: أَمَّا مُسْتَنَدُ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ فَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ أَبِي طَالِبٍ عَقِيلِ بْنِ عَطِيَّةَ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ بَلْ كَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ إلَّا اسْتِطْرَادًا فِي الرَّدِّ عَلَى الْعِيسَوِيَّةِ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الْيَهُودِ مَنْسُوبُونَ إلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عِيسَى يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَسُولٌ إلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً، وَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الْمُفِيدِ لِلضَّرُورَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ادَّعَى الرِّسَالَةَ مُطْلَقَةً وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِقَبِيلَةٍ وَلَا طَائِفَةٍ وَلَا إنْسٍ وَلَا جِنٍّ فَهِيَ عَامَّةٌ لِكُلِّ مَنْ هُوَ عَلَى بَسِيطِ الْأَرْضِ، وَسُكَّانُ الْأَرْضِ هُمْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ فَهُمْ كُلُّهُمْ فِي دَعْوَتِهِ وَعُمُومِ رِسَالَتِهِ.
وَقَوْلُ السَّائِلِ: قَطْعِيٌّ أَوْ ظَنِّيٌّ، قَدْ عُلِمَ جَوَابُهُ وَأَنَّهُ قَطْعِيٌّ وَتَضَمَّنَ كَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ لِذَلِكَ وَهُوَ الْقُدْوَةُ لَكِنِّي أُنَبِّهُ هُنَا عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْلُومَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الشَّرْعِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا يَعْرِفُهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَالثَّانِي: قَدْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ الْعَوَامّ، وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلَنَا: إنَّهُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مَنْ مَارَسَ الشَّرِيعَةَ وَعَلِمَ مِنْهَا مَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِذَلِكَ وَهَذَا قَدْ يَحْصُلُ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ بِحَسَبِ الْمُمَارَسَةِ وَكَثْرَتِهَا أَوْ قِلَّتِهَا أَوْ عَدَمِهَا فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مَنْ أَنْكَرَهُ الْعَوَامُّ أَوْ الْخَوَاصُّ فَقَدْ كَفَرَ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي خَبَرِهِ.
وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ إنْكَارُ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهَا وَتَخْصِيصُ رِسَالَتِهِ بِبَعْضِ الْإِنْسِ. فَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ فِي كُفْرِهِ وَإِنْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ رَسُولٌ إلَيْهِ لِأَنَّ عُمُومَ رِسَالَتِهِ إلَى جَمِيعِ الْإِنْسِ مِمَّا يَعْلَمُهُ الْخَوَاصُّ وَالْعَوَامُّ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الدِّينِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي مَنْ أَنْكَرَهُ مِنْ الْعَوَامّ الَّذِينَ
لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مِنْ مُمَارَسَتِهِ الشَّرْعَ مِمَّا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ وَإِنْ كَانَتْ كَثْرَةُ الْمُمَارَسَةِ أَوْجَبَتْ لِلْعُلَمَاءِ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ عُمُومُ رِسَالَتِهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْجِنِّ فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ مُمَارَسَتِنَا لِأَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَخْبَارِ الْأُمَّةِ.
وَأَمَّا الْعَامِّيُّ الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ ذَلِكَ فَإِنْ قَيَّدَ الشَّهَادَةَ بِالرِّسَالَةِ إلَى الْإِنْسِ خَاصَّةً خَشِيت عَلَيْهِ الْكُفْرَ كَمَا قَدَّمْته فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْفَتْوَى، وَإِنْ أَطْلَقَ الشَّهَادَةَ بِأَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يَنْتَبِهْ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُ لِعُمُومِ الدَّعْوَى لِلْجِنِّ يُخَالِفُ ذَلِكَ فَلَا أَرَى الْحُكْمَ بِكُفْرِهِ وَلَكِنْ يُؤَدَّبُ عَلَى كَلَامِهِ فِي الدَّيْنِ بِالْجَهْلِ وَيُؤْمَرُ بِأَنْ يَتَعَلَّمَ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ لِتَزُولَ عَنْهُ الشُّبْهَةُ الَّتِي أَوْجَبَتْ الْإِنْكَارَ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ إنْكَارٌ وَلَا تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ وَلَا خَطَرَ بِبَالِهِ شَيْءٌ مِنْهُ فَلَا لَوْمَ عَلَيْهِ وَلَا يُؤْمَرُ بِتَعَلُّمِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فَرْضَ عَيْنٍ وَإِنْ خَطَرَ بِبَالِهِ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ السُّؤَالُ وَاعْتِقَادُ الْحَقِّ أَوْ صَرْفُ نَفْسِهِ عَنْ اعْتِقَادِ الْبَاطِلِ وَيَشْهَدُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالرِّسَالَةِ مُطْلَقَةً.
وَقَوْلُ السَّائِلِ هُوَ الْمَطْلُوبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقَطْعُ أَوْ الظَّنُّ. حَوَابُّهُ يُؤْخَذُ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ فَإِنَّ الْعَامِّيَّ لَا يُكَلَّفُ بِذَلِكَ قَطْعًا وَلَا ظَنًّا وَالْعَالِمُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْقَطْعُ.
وَقَوْلُهُ وَهَلْ تَثْبُتُ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ فِي الْأُصُولِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؟ جَوَابُهُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ قَدْ قُلْنَا: إنَّهَا قَطْعِيَّةٌ فِي نَفْسِهَا وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ فِيهَا غَيْرَ لَازِمٍ لِلْعَامِّيِّ فَتَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَمَسَائِلِ الْفُرُوعِ فَيُكْتَفَى فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ الْمَنْقُولِ بِالْأَحَادِ، وَأَمَّا الْعَالِمُ فَهَذَا الْإِجْمَاعُ عِنْدَهُ مُتَوَاتِرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الثَّابِتَةِ بِالتَّوَاتُرِ كَمَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ.
(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ: ثُمَّ إنَّ الْقَاضِيَ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِي كِتَابِهِ الشِّفَا لِذِكْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ إطْنَابِهِ وَإِسْهَابِهِ فِي خَصَائِصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمُعْجِزَاتِهِ.
أَقُولُ: هَذَا لَا تَعَلُّقَ فِيهِ وَلَيْسَ كِتَابٌ حَوَى الْعِلْمَ كُلَّهُ إلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَخَصَائِصُهُ صلى الله عليه وسلم وَمُعْجِزَاتُهُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ وَلَوْ أَسْهَبَ الْخَلْقُ فِيهَا وَأَطْنَبُوا لَكَانَ مَا فَاتَهُمْ مِنْهَا أَكْثَرَ، وَيَنْبَغِي تَجَنُّبُ لَفْظِ الْإِسْهَابِ وَالْإِطْنَابِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا الْإِكْثَارُ وَالْمُبَالَغَةُ وَكُلُّ مُتَكَلِّمٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ الْبَشَرِ مُقَصِّرٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ مُسْهِبٌ أَوْ مُطْنِبٌ.
(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحَاكُمِهِمْ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم إرْسَالُهُ إلَيْهِمْ مَا لَمْ يُنَصَّ
عَلَى ذَلِكَ.
أَقُولُ قَدْ سَبَقَ بَعْضُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ وَالْحَقُّ أَنَّهُمْ مَتَى تَحَاكَمُوا إلَيْهِ وَحَكَمَ بَيْنَهُمْ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحُكْمُ حُكْمَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إمَّا بِرِسَالَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَيْهِمْ وَهُوَ الْمُدَّعَى وَإِمَّا بِمُوَافَقَةِ رِسَالَةِ غَيْرِهِ إلَيْهِمْ كَمَا يَدَّعِيهِ السَّائِلُ وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُوَافِقًا لِذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ فَثَبَتَتْ الرِّسَالَةُ بِذَلِكَ إلَيْهِمْ عَلَى كُلِّ حَالٍّ.
وَرَوَى الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إنَّ الْجِنَّ تَدَارَأَتْ فِي قَتِيلٍ قُتِلَ بَيْنَهُمْ فَتَحَاكَمُوا إلَيَّ فَقَضَيْت بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ.
(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ: وَأَمَّا خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا خَفِيَ عَلَيْهِ فَبَعِيدٌ مَعَ جَزْمِهِ بِذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَقُولُهُ عَنْ اجْتِهَادٍ.
أَقُولُ: قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ مُرَادِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ السَّائِلُ وَالْمُسْتَدِلُّ.
(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ: ثُمَّ إذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم مَبْعُوثًا إلَى الْجِنِّ فَهَلْ هُمْ مُمْتَازُونَ عَنَّا بِشَرِيعَةٍ وَعِبَادَاتٍ أَوْ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ وَاحِدٌ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَمَا الْحُكْمُ فِي إخْفَاءِ شَرِيعَتِهِمْ عَنْ الْأُمَّةِ وَقَدْ بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَحْوَالَ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ عليهم السلام وَأَذْكَارَهُمْ وَعِبَادَاتِهِمْ وَهُمْ أَشْرَفُ وَأَرْفَعُ مِنْهُمْ.
أَقُولُ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَمْتَازُوا بِشَرِيعَةٍ بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ لِعُمُومِ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالطَّهَارَةُ كَمَا هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْنَا لَا يَخْتَلِفُ حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي حَقِّهِمْ إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ فِيهِمْ شَبَهٌ أَوْ لَا يَعْلَمُوا أَنَّهُ هَذَا هُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ فِي ذَلِكَ تَمَسُّكًا بِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْإِمَامُ لِلْجَمِيعِ وَأَحْكَامُهُ جَارِيَةٌ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ بَعْضَ الْفُرُوعِ لَا تَلْزَمُهُمْ وَأَنَّهُ يُكْتَفَى مِنْهُمْ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِقْرَارِ بِالرِّسَالَةِ وَالْمَعَادِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ مَاذَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَشْكَالِ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُمْ يَمْتَازُونَ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ يُخْتَصُّونَ بِهَا عَنْ الْإِنْسِ فَمَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وَعَدَمُ إعْلَامِنَا بِذَلِكَ لِعَدَمِ حَاجَتِنَا إلَيْهِ وَلَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ إخْفَاءٌ حَتَّى تَطْلُبَ لِحِكْمَةٍ فِيهِ وَبَيَانُ أَحْوَالِ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ أَشْرَفُ مِنْهُمْ كَيْفَ يَلْزَمُ مِنْهُ بَيَانُ أَحْوَالِ الْجِنِّ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَ الْمَلَائِكَةِ لَمْ تَتَبَيَّنْ كُلُّهَا وَإِنَّمَا بُيِّنَ بَعْضُهَا مِمَّا يَحْصُلُ بِبَيَانِهِ اعْتِبَارٌ وَفَائِدَةٌ.
(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ
إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً هَلْ التَّخْصِيصُ بِاعْتِبَارِ مَا بُعِثُوا بِهِ مِنْ الْفُرُوعِ الْمُخْتَصَّةِ بِأُمَّةٍ دُونَ أُخْرَى لِاتِّفَاقِهِمْ فِي أُصُولِ الدِّينِ أَمْ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ حَتَّى لَا يَكُونَ الرَّسُولُ إلَى طَائِفَةٍ خَاصَّةٍ مُبْدِيهِمَا سِوَاهُمْ وَلَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِمْ الدُّخُولُ فِي دَعَوْتِهِ.
أَقُولُ: الَّذِي ظَهَرَ لَنَا بِاعْتِبَارِ مَا وَصَلَ بَحْثِي إلَيْهِ وَمَا فَهِمْته مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ - إنَّهُ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَلَا صَارِفَ لَهُ وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي عُلُوِّ شَأْنِهِ صلى الله عليه وسلم وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُقَابِلَةَ بَيْنَ بَعْثِهِ وَبَعْثِهِمْ لَا بَيْنَ شَرِيعَتِهِ وَشَرِيعَتِهِمْ، وَالِاحْتِمَالُ فِي الثَّانِي لَا فِي الْأَوَّلِ وَلِأَنَّ النَّاسَ تَكَلَّمُوا فِي غَرَقِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مَعَ كَوْنِ مُوسَى عليه السلام شَرِيعَتُهُ لِبَنِي إسْرَائِيلَ وَأَجَابُوا بِأَنَّ مُوسَى عليه السلام أَيْضًا كَانَ رَسُولًا إلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ بِالْإِيمَانِ مَعَ اسْتِعْبَادِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} [طه: 24] الْآيَتَيْنِ كَذَلِكَ {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء: 10]- الْآيَتَيْنِ.
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى دَعْوَةِ مُوسَى وَهَارُونَ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمُهُ بِالْأُصُولِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلُهُ {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 17] لِأَنَّهُ كَانَ مُكَلَّفًا بِالْأُصُولِ وَبِهَذَا الْفَرْعِ كُلُّ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى شَرِيعَةِ مُوسَى وَإِنْ كَانَ قَدْ كَانَ مُكَلَّفًا قَبْلَ ذَلِكَ أَيْضًا بِشَرِيعَةِ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِ فِيمَا مَضَى وَتَقَدَّمَ تَكْلِيفُهُ.
وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مُوسَى رَسُولٌ إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَإِلَى الْقِبْطِ وَكَذَا هُوَ، وَتَتَعَلَّقُ شَرِيعَتُهُ أَيْضًا بِكُلِّ مَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي شَرِيعَتِهِ مِنْ غَيْرِ بَنِي إسْرَائِيلَ قَبْلَ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَنُزُولِ التَّوْرَاةِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَحْكَامِ لَمْ يَكُنْ إلَّا بَعْدَ غَرَقِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِبَنِي إسْرَائِيلَ وَمِنْ دَانَ بِدِينِهِمْ خَاصَّةً دُونَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فَلَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِمْ وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَمَنْ مَاتَ مِنْ الْكُفَّارِ فِي أَوَّلِ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ تَجَدَّدَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ أَحْكَامٌ أُخْرَى نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِأَنَّ النَّاسَ قَالُوا فِي الطُّوفَانِ: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ إلَّا قَوْمُ نُوحٍ عليه السلام فَلِذَلِكَ عُوقِبُوا.
وَرُبَّمَا مَرَّ بِي مِنْ كَلَامِ بَعْضِ النَّاسِ فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ غَرَقِ أَهْلِ الْأَرْضِ بِالطُّوفَانِ وَغَرَقِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُكَلَّفِينَ بِالْإِيمَانِ بِدَعْوَةِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الرُّسُلِ لِاشْتِرَاكِ جَمِيعِ الرُّسُلِ فِي
الدَّعْوَةِ إلَى الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا التَّخْصِيصُ بِالْفَرْعِ وَهَذَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ فِي الطُّوفَانِ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ إلَّا قَوْمُ نُوحٍ وَبِأَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ دَخَلُوا فِي دَعْوَةِ مُوسَى بِالْإِيمَانِ.
وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى مَذْهَبِنَا فِي أَنَّ الْأَحْكَامَ كُلَّهَا أُصُولَهَا وَفُرُوعَهَا لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْعِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا تَثْبُتُ بِالْعَقْلِ فَيَكْتَفُونَ فِي إغْرَاقِ فِرْعَوْنَ وَنَحْوِهِ بِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ عَلَيْهِ وَبِالْإِيمَانِ وَمُخَالَفَتِهِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فُرِضَ سَوَاءٌ قُلْنَا بِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَوْ بِمَا مَرَّ بِي مِنْ كَلَامِ بَعْضِ النَّاسِ أَوْ بِمَا قُلْنَاهُ، وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ دَعْوَةَ كُلِّ نَبِيٍّ بِالْإِيمَانِ وَأُصُولِ الدِّينِ كَانَتْ عَامَّةً لِدَعْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَلْزَمُ مِنْ اشْتِرَاكِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الدَّعْوَةِ إلَى الْإِيمَانِ أَنَّ دَعْوَةَ كُلٍّ مِنْهُمْ عَامَّةٌ فِيهِ إلَى جَمِيعِ النَّاسِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ دَعَا قَوْمَهُ إلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} [الشورى: 13]- الْآيَةَ فَكُلُّ وَاحِدٍ دَاعٍ إلَى ذَلِكَ مَنْ أُرْسِلَ إلَيْهِ.
وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [نوح: 1] وَقَالَ تَعَالَى {وَإِلَى عَادٍ} [الأعراف: 65]{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: 73] وَقَالَ فِي التَّوْرَاةِ {هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 2] وَقَالَ عِيسَى عليه السلام {وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 49] وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [الأحزاب: 45] وَلَمْ يُخَصِّصْ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً» وَظَاهِرُهُ مَا قُلْنَاهُ فَالْعُدُولُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ.
(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} [الأعراف: 138] الْآيَاتِ فَلَمْ يُنْكِرْ مُوسَى عليه الصلاة والسلام عَلَيْهِمْ فَلَا دَعَاهُمْ إلَى دِينِهِ.
أَقُولُ: أَمَّا كَوْنُ مُوسَى عليه السلام لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ فَلَا يُقْدَرُ عَلَى إثْبَاتِهِ وَلَعَلَّهُ قَدْ أُنْكِرَ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مَا دَعَاهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ فَكَذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ نَبِيٍّ قَبْلَهُ فَمُوسَى عليه السلام وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى أُولَئِكَ الْقَوْمِ لَكِنَّهُ إذَا رَآهُمْ عَلَى جَهْلٍ وَخَطَأٍ لَا يَتْرُكُ إرْشَادَهُمْ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ تَأْيِيدُ ذَلِكَ الْمُدَّعَى بِهَذِهِ الْقِصَّةِ ضَعِيفٌ وَذَلِكَ الْمُدَّعَى مُتَأَيَّدٌ ثَابِتٌ بِغَيْرِهَا كَمَا سَبَقَ.
هَذَا مَا انْتَهَى نَظَرِي إلَيْهِ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ. وَقَدْ اسْتَوْفَيْت كَلَامَ السَّائِلِ فَلَمْ أَحْذِفْ مِنْهُ شَيْئًا وَهَذَا الْجَوَابُ يُصْلَحُ أَنْ يَكُونَ تَصْنِيفًا مُسْتَقِلًّا وَيُسَمَّى (الدَّلَالَةُ عَلَى عُمُومِ الرِّسَالَةِ) فَرَغْت مِنْهُ عِنْدَ أَذَانِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعَ عَشَرَ شَعْبَانَ سَنَةَ 238 انْتَهَى.