الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَإِنْ وَصَفَهَا وَمَيَّزَهَا فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِي التِّرْكَةِ فَلَا ضَمَانَ بِسَبَبِ التَّقْصِيرِ قَطْعًا وَفِي ضَمَانِهَا بِسَبَبِ الْفَقْدِ الْخِلَافُ السَّابِقُ.
وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الرَّافِعِيُّ الْخِلَافَ فِي ضَمَانِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ إلَّا فِي ضَمَانِ التَّقْصِيرِ وَذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي الْمُهَذَّبِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَصِفْهَا بَلْ اقْتَصَرَ عَلَى جِنْسِهَا فَقَالَ: عِنْدِي ثَوْبٌ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي تَرِكَتِهِ جِنْسُ الثَّوْبِ ضَمِنَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ عِنْدَ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَضْمَنُ. وَهُوَ الَّذِي أَوْرَدَ الْغَزَالِيُّ.
وَهَذَا مِنْ الرَّافِعِيِّ لَعَلَّ مُسْتَنَدَهُ أَنَّهُمْ نَقَلُوا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ التَّفْصِيلَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي التَّرِكَةِ جِنْسُهَا أَوْ لَا وَاقْتَضَى كَلَامُهُمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَقَرَّ بِذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِهِ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ وَمِنْ ذَلِكَ يُوجَدُ خِلَافُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيَصِحُّ نَقْلُ الرَّافِعِيِّ عَنْهُ عَلَى هَذَا بِطَرِيقِ التَّوْكِيدِ لَا؛ لِأَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخُصُوصِهَا وَمَعَ هَذَا كَلَامُ أَبِي إِسْحَاقَ فِي الضَّمَانِ بِسَبَبِ الْفَقْدِ وَكَلَامُ الرَّافِعِيِّ إنَّمَا هُوَ فِي الضَّمَانِ بِسَبَبِ التَّقْصِيرِ.
ثُمَّ قَالَ الرَّافِعِيُّ: إنْ وُجِدَ فِي تَرِكَتِهِ جِنْسُهُ بِأَنْ وُجِدَ أَثْوَابٌ ضَمِنَ وَهَذَا الَّذِي قَطَعَ بِهِ فِي الضَّمَانِ فِيهِ نَظَرٌ وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ يُعْطَى وَاحِدًا مِنْهَا؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَحَقَّقْ تَجْهِيلَهُ فَقَدْ يَكُونُ غَيْرُهُ خَلَطَهُ بِهِ فَبِأَيِّ شَيْءٍ نَنْقُلُهُ مِنْ الْأَمَانَةِ إلَى ضَمَانِ الذِّمَّةِ وَضَمَانُ الْفَقْدِ مُتَعَذِّرٌ؛ لِأَنَّ الْفَقْدَ لَمْ يُوجَدْ.
وَأَبُو إِسْحَاقَ يَجْعَلُ وُجُودَ الْجِنْسِ كَوُجُودِ الْوَدِيعَةِ.
ثُمَّ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَإِنْ وُجِدَ ثَوْبٌ وَاحِدٌ فَفِي التَّتِمَّةِ وَالتَّهْذِيبِ أَنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَاسْتَحْسَنَ أَنَّهُ يَضْمَنُ وَلَا يَتَعَيَّنُ أَمَّا الضَّمَانُ فَلِلتَّقْصِيرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قِيَاسَ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ فَإِنَّمَا ضَمِنُوهُ بِالْفَقْدِ وَالْفَقْدُ هُنَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فَالْأَوْلَى جَعَلُ الْمَوْجُودِ هُوَ الْوَدِيعَةُ، ثُمَّ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَفِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهٌ أَنَّهُ إنَّمَا يَضْمَنُ إذَا قَالَ: عِنْدِي ثَوْبٌ لِفُلَانٍ وَذَكَرَ مَعَهُ مَا يَقْتَضِي الضَّمَانَ فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فَلَا ضَمَانَ هَذَا صَحِيحٌ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فِي ضَمَانِ الْفَقْدِ أَمَّا ضَمَانُ الْعُدْوَانِ بِتَرْكِ الْإِيصَاءِ فَلَا يَعْرِفُ هَذَا الْوَجْهَ مَحْكِيًّا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[بَابُ قَسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ وَالصَّدَقَاتِ]
(مَسْأَلَةٌ) اُشْتُهِرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يُسَوِّي فِي الْعَطَاءِ. وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ يُعْطِي بِحَسَبِ الْفَضَائِلِ. وَخَطَرَ لِي أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ
بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا عُمَرُ رضي الله عنه كَثُرَتْ الْفُتُوحُ وَالْأَمْوَالُ فِي زَمَانِهِ وَهُوَ رضي الله عنه يَسُدُّ خَلَلَ الْمُحْتَاجِينَ عَنْهُمْ، وَبَعْدَ كِفَايَةِ الْمُحْتَاجِينَ لَوْ حَصَلَتْ التَّسْوِيَةُ فِي الزَّائِدِ بَيْنَ الْفَاضِلِ وَالْمَفْضُولِ كَانَ الصَّرْفُ إلَى الْمَفْضُولِ مَا زَادَ مِنْ كِفَايَتِهِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ وَحِرْمَانِ الْفَاضِلِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَاجَةِ غَيْرِهِ إلَيْهِ يَحْسُنُ لِحَقِّهِ فَاقْتَضَتْ الْحَالَةُ التَّفْضِيلَ.
وَفِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه لَمْ تَكُنْ فُتُوحٌ وَكَانَتْ الْأَرْزَاقُ قَلِيلَةً فَلَوْ أَعْطَى الْفَاضِلَ مَا يَسْتَحِقُّهُ لَبَقِيَ الْمَفْضُولُ الْمُحْتَاجُ جَائِعًا وَكِفَايَتُهُ وَاجِبَةٌ فَفَعَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي زَمَانِهِ مَا اقْتَضَاهُ حَالُهُ وَزَمَانُهُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَرَى أَنَّ الدُّنْيَا بَلَاغٌ وَأَنَّ الْفَضَائِلَ تُحَالُ أَجْزَاؤُهَا عَلَى الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ وَأَبْقَى.
وَرَتَّبْت عَلَى هَذَا الْبَحْثِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلنَّاظِرِ فِي الْمَصَالِحِ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ زَمَانٌ شَدِيدٌ عَلَى النَّاسِ يُقَدِّمُ سَدَّ الْخَلَّاتِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مَهْمَا أَمْكَنَهُ وَبَعْدَهَا يَنْظُرُ فِي الْفَضَائِلِ لِئَلَّا يَضِيعَ الْمُحْتَاجُونَ.
وَهَذَا فِي الْأَحْوَالِ الْعَامَّةِ أَمَّا الَّتِي هِيَ مَشْرُوطَةٌ بِوَصْفٍ فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ ذَلِكَ الْوَصْفِ، وَقَدْ يَكُونُ لِذَلِكَ الْوَصْفِ مَرَاتِبُ أَدْنَى وَأَعْلَى فَتَقْتَضِي الْحَاجَةُ الِاكْتِفَاءَ بِالْأَدْنَى وَعِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ لَا يَكْتَفِي بِالْأَدْنَى وَيَطْلُبُ الْأَعْلَى، وَوَقْتُنَا هَذَا وَقْتٌ صَعْبٌ عَلَى النَّاسِ فَأَنَا أَمِيلُ فِيهِ إلَى سَدِّ الْخَلَّاتِ مَا أَمْكَنَ انْتَهَى.
قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا تَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ» فِيهِ مَسَائِلُ:
(الْأُولَى) لَا شَكَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يُورَثُ. فَقَوْلُهُ " وَرَثَتِي " إمَّا أَنْ يُقَالَ: وَرَثَتِي بِالْقُوَّةِ لَوْ كُنْت مِمَّنْ أُورَثُ. وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ الْوَرَثَةِ أَنْ يَرِثُوا حَتَّى يَجِدُوا مَا يَرِثُونَهُ وَجَمِيعُ مَالِهِ صلى الله عليه وسلم انْتَقَلَ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِقَوْلِهِ مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ فَيَكُونُ وَرَثَتُهُ بِمَنْزِلَةِ وَرَثَةِ غَيْرِهِ الَّذِينَ لَمْ يَجِدُوا مَا يَرِثُونَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّهُمْ إنَّمَا سَلَبُوا الْوَرَثَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بِتَمَامِهِ فَسَمَّاهُمْ وَرَثَةً بِاعْتِبَارِهِمْ حِينَئِذٍ ثُمَّ سَلَبَ عَنْهُمْ الْإِرْثَ بِتَمَامِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِتَمَامِهِ.
وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ الثَّالِثَةَ الْمُحَصِّلَةُ لَا يُقْتَضَى وُجُودُ مَوْضُوعِهَا فَلَا تَقْتَضِي الصِّيغَةُ الْمَذْكُورَةُ وُجُودَ وَرَثَةٍ.
وَإِنْ صَحَّ هَذَا فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُنْكَرِ وَالْمُضَافِ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّك إذَا قُلْت " لَا يَقُومُ ابْنُ زَيْدٍ " يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ زَيْدًا لَهُ ابْنٌ وَصَدَقَ هَذَا الْكَلَامُ بِكَوْنِ زَيْدٍ لَا ابْنَ لَهُ لَا يَفْهَمُهُ أَهْلُ الْعُرْفِ إلَّا أَنَّ
الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوهُ فِي " عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ " وَهُوَ مُضَافٌ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ لَا يَقْتَسِمُ مَا أَتْرُكُهُ لِجِهَةِ الْإِرْثِ فَإِنَّك إذَا قُلْت: لَا يَقْتَسِمُ أَوْلَادِي دِرْهَمًا كَانَ نَفْيًا عَامًا لِلِاقْتِسَامِ عَنْ الْإِرْثِ وَعَنْ غَيْرِهِ وَلَيْسَ هَذَا الْمَقْصُودُ فَالْمَقْصُودُ نَفْيُ الِاقْتِسَامِ عَنْ جِهَةِ الْإِرْثِ فَلِذَلِكَ أَتَى بِلَفْظِ وَرَثَتِي لِيَكُونَ الْحُكْمُ مُعَلَّلًا بِمَا بِهِ الِاشْتِقَاقُ وَهُوَ الْإِرْثُ فَالْمَنْفِيُّ اقْتِسَامُهُمْ بِالْإِرْثِ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ الْمَبَاحِثِ مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ إرْثَ غَيْرِ الْمَالِ هَلْ يَثْبُتُ كَالْمُطَالَبَةِ بِالْحَقِّ وَالْعَفْوِ عَنْهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَالَ لَا يُورَثُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِ «لَا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا» وَمِمَّا صَحَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتْرُكْ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا عَبْدًا وَلَا أَمَةً وَإِنَّمَا تَرَكَ أَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً.
وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا» أَمَّا غَيْرُ الْمَالِ فَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ لَا يُورَثُ أَيْضًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ «إنَّا مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُوَرَّثُ» وَبِقَوْلِهِ «إنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ» .
إنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى " إنَّمَا " لِلْحَصْرِ، وَقَدْ يُقَالُ: نُوَرَّثُ وَإِنَّمَا لَيْسَتْ لِلْحَصْرِ، وَقَوْلُهُ: لَا نُوَرَّثُ يُحْمَلُ عَلَى الْمَالِ.
وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا ذَكَرَهَا الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِيمَا لَوْ قَالَ: عَفَى بَعْضُ بَنِي أَعْمَامِهِ عَنْ الْمُفْتَرَضِ وَلِي طَلَبُهُ. وَرَجَّحْت فِي كِتَابِ السَّيْفِ الْمَسْلُولِ أَنَّ الْإِرْثَ لَيْسَ إلَّا فِي الْعِلْمِ وَأَنَّ الْحُقُوقَ كَالْمَالِ لَا تُوَرَّثُ.
ثُمَّ الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ إذَا ثَبَتَ الْوَجْهُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ لَا يَجْرِي فِي هَذَا الزَّمَانِ إلَّا فِي أَوْلَادِ الْعَبَّاسِ؛ لِأَنَّ الْعَبَّاسَ هُوَ الَّذِي كَانَ عَاصِبًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَفِي أَوْلَادِ فَاطِمَةَ لَمَّا انْتَقَلَ إلَيْهِمْ مِنْ أُمِّهِمْ، أَمَّا بَقِيَّةُ بَنِي أَعْمَامِهِ فَلَا مَا دَامَ الْحُسَيْنِيُّونَ وَالْحَسَنِيُّونَ وَالْعَبَّاسِيُّونَ مَوْجُودِينَ، وَعَلَى تَفْرِيعِهِ يَنْبَغِي أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ ذَلِكَ لِشَخْصٍ مَعَ وُجُودِ مَنْ يُدْلِي بِهِ، وَقِيلَ: هَذَا مِنْ تَفْرِيعِ الْوَجْهِ الضَّعِيفِ وَلَكِنَّهُ مَعَ ضَعْفِهِ يَتَأَيَّدُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " وَرَثَتِي " سَمَّاهُمْ وَرَثَةً وَوِرَاثَةُ الْعِلْمِ لَا تَخْتَصُّ بِهِمْ هُوَ الْحَقُّ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) ذِكْرُ النَّفَقَةِ لِلنِّسَاءِ وَالْمُؤْنَةِ لِلْعَامِلِ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مَدْلُولِ النَّفَقَةِ وَمَدْلُولِ الْمُؤْنَةِ فَإِنْ كَانَا وَاحِدًا فَلِمَ غَايَرَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ فَتَبَيَّنَ اخْتِلَافُهُمَا ثُمَّ سَبَبُ اخْتِصَاصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا خُصَّ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى.
وَالْجَوَابُ قَدْ قِيلَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ ذَكَرَ الْمُؤْنَةَ فِي النِّسَاءِ فَلَا فَرْقَ وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَقَدْ رَأَيْت فِي كَلَامِ اللُّغَوِيِّينَ
وَأَنَّهُ إذَا قَامَ لِكِفَايَتِهِ وَأَنْفَقَ الشَّيْءَ عَلَى أَهْلِهِ إذَا فَوَّتَهُمْ بِهِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ النَّفَقَةَ دُونَ الْمُؤْنَةِ فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَيَحْتَمِلُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِكَمَالِ زُهْدِهِ وَرَغْبَتِهِ عَنْ الدُّنْيَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَمَنْ يَخْتَصُّ بِهِ أَزْوَاجُهُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لِاخْتِيَارِهِمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ إرَادَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا مَعَ إبَاحَتِهَا لَهُنَّ لِتَمْكِينِهِنَّ مِنْهَا وَتَقْرِيرِهِنَّ عَلَيْهَا لَوْ أَرَدْنَهَا فَكَانَتْ رُتْبَتُهُنَّ أَعْظَمَ الْمَرَاتِبِ فَاخْتِيرَ لَهُنَّ النَّفَقَةُ الَّتِي قَدِمَهَا بِالضَّرُورَةِ وَالْقُوتِ وَذَخَرَ نَصِيبَهُنَّ لِلْآخِرَةِ لِيُوَفَّيْنَ أُجُورَهُنَّ مَرَّتَيْنِ وَلِشَفَقَتِهِ عَلَى الْخَلْقِ وَعِلْمِهِ بِأَنْ لَيْسَ كُلُّ النُّفُوسِ تَصْبِرُ عَلَى الضِّيقِ جَعَلَ لِلْعَامِلِ كِفَايَتَهُ لِئَلَّا تُضَيِّقَ نَفْسُهُ وَهُوَ لَيْسَ بِمُعِينٍ بِخِلَافِ الزَّوْجَاتِ اللَّوَاتِي خَبَرَ حَالَهُنَّ وَأَيْضًا فَاَلَّذِي أَخَذَهُ أُجْرَةُ عَمَلٍ، هَذَا الَّذِي خَطَرَ لِي فِي ذَلِكَ إنْ صَحَّتْ الرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ مِنْ الرُّوَاةِ وَرِوَايَةٍ بِالْمَعْنَى فَإِنَّ الْحَدِيثَ فِي الْبُخَارِيِّ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً} [التوبة: 121] وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] فَفِي الْآيَتَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى انْقِسَامِ النَّفَقَةِ إلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: النَّفَقَةُ اسْمٌ لِمَا يَخْرُجُ، وَالْمُؤْنَةُ قَدْ تُدَّخَرُ فَلَمْ يَجْعَلْ صلى الله عليه وسلم لِنِسَائِهِ إلَّا قَدْرَ مَا يُخْرِجْنَهُ لِيَكُنَّ عَلَى أَفْضَلِ الْحَالَاتِ وَأَكْمَلِهَا مِنْ الزُّهْدِ وَالتَّجَرُّدِ عَنْ الدُّنْيَا وَالتَّبَتُّلِ لِلْآخِرَةِ وَجَعَلَ لِلْعَامِلِ مَا يُمَوِّنُهُ وَقَدْ يَدَّخِرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى مَا يَقْوَى عَلَيْهِ بَيْتُ النُّبُوَّةِ وَلِأَنَّهُ أُجْرَةُ عَمَلٍ.
وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يَفْضُلُ عَائِشَةَ فِي الْعَطَاءِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ رضي الله عنه مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ تَعْظِيمِ مَنْ يُحِبُّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ تَفْعَلُ مَا يَلِيقُ بِهَا فَلَمْ تَكُنْ تَدَّخِرُ شَيْئًا رضي الله عنها وَعَنْ أَبِيهَا وَكَذَا بَقِيَّةُ النِّسَاءِ يَجِبُ عَلَيْنَا تَفْضِيلُهُنَّ وَتَفْضِيلُ قِسْمَهُنَّ لِشَرَفِهِنَّ، وَهُنَّ يَفْعَلْنَ مَا يَلِيقُ بِهِنَّ مِنْ الزَّهَادَةِ وَمَا اخْتَارَهُ لَهُنَّ صلى الله عليه وسلم فَاخْتِيَارُهُ لَهُنَّ شَيْءٌ وَاخْتِيَارُهُنَّ؛ لِأَنْفُسِهِنَّ شَيْءٌ وَاخْتِيَارُنَا نَحْنُ لَهُنَّ شَيْءٌ وَلَا يُعَوِّضُ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ الْآخَرَ.
وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ أَنْ يُكْرِمُوهُمْ وَيُفَضِّلُوهُمْ ثُمَّ هُمْ يَخْتَارُونَ؛ لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَرَوْنَهُ بِمَا يَلِيقُ بِعِلْمِهِمْ وَزُهْدِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَهَذَا ظَاهِرٌ