الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السابع عشر
273 -
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول وهو بمكة عام الفتح: إنّ الله ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يارسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنّه يُطلى بها السّفن ويُدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرامٌ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود، إنّ الله لَمَّا حرّم عليهم شحومها جملوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه. (1)
قال المصنف: جملوه: أي أذابوه.
قوله: (وهو بمكّة عام الفتح) فيه بيان تاريخ ذلك؛ وكان ذلك في رمضان سنة ثمان من الهجرة، ويحتمل: أن يكون التّحريم وقع قبل ذلك ، ثمّ أعاده صلى الله عليه وسلم ليسمعه من لَم يكن سمعه.
قوله: (إنّ الله ورسوله حرّم) هكذا وقع في الصّحيحين بإسناد الفعل إلى ضمير الواحد ، وكان الأصل " حرَّما ".
فقال القرطبيّ: إنّه صلى الله عليه وسلم تأدّب فلم يجمع بينه وبين اسم الله في ضمير الاثنين، لأنّه من نوع ما ردّ به على الخطيب الذي قال: ومن يعصهما.
كذا قال، ولَم تتّفق الرّواة في هذا الحديث على ذلك ، فإنّ في بعض طرقه في الصّحيح (2)" إنّ الله حرّم " ليس فيه " ورسوله ".
(1) أخرجه البخاري (2121 ، 4045 ، 4357) ومسلم (1581) من طريق يزيد بن أبي حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن جابر رضي الله عنه.
(2)
كذا أطلق الشارح رحمه الله. ومراده أحد الصحيحين ، ولَم أر فيهما الاقتصار على قوله (إن الله حرَّم) ولعلَّه وقع في نسخة الشارح.
وقد أخرجه أبو داود (3486) عن قتيبة ثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عطاء عن جابر. بهذا اللفظ المذكور.
وأخرجه البخاري (2121) مسلم (1581) كلاهما عن قتيبة. وفيه " ورسوله "
ورواه مسلم من طريق عبد الحميد بن جعفر عن يزيد به. ولَم يسق لفظه. كما نبّه عليه الشارح. وقد أخرجه أبو عوانة في " مستخرجه "(4348) من طريق عبد الحميد به. وليس فيه. ورسوله.
ورواه ابن الجارود في " المنتقى "(578) والطحاوي في " شرح مشكل الآثار "(4468) من طريق أبي الوليد الطيالسي عن الليث به. وليس فيه ورسوله
وفي رواية لابن مردويه من وجه آخر عن الليث " إنّ الله ورسوله حرّما " وقد صحّ حديث أنس في النّهي عن أكل الحمر الأهليّة " إنّ الله ورسوله ينهيانكم " ووقع في رواية النّسائيّ في هذا الحديث " ينهاكم ".
والتّحقيق: جواز الإفراد في مثل هذا، ووجهه الإشارة إلى أنّ أمر النّبيّ ناشئٌ عن أمر الله، وهو نحو قوله:(والله ورسوله أحقّ أن يرضوه) والمختار في هذا أنّ الجملة الأولى حذفت لدلالة الثّانية عليها، والتّقدير عند سيبويه: والله أحقّ أن يرضوه، ورسوله أحقّ أن يرضوه، وهو كقول الشّاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما
…
عندك راضٍ والرّأي مختلف
وقيل: أحقّ أن يرضوه خبر عن الاسمين، لأنّ الرّسول تابع لأمر الله.
قوله: (الخمر) سيأتي الكلام مستوفى في الأشربة إن شاء الله.
قوله: (والميتة) بفتح الميم ما زالت عنه الحياة لا بذكاةٍ شرعيّة، والميتة بالكسر الهيئة وليست مراداً هنا، ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على تحريم بيع الميتة، ويستثنى من ذلك السّمك والجراد.
قوله: (والخنزير) بوزن غربيبٍ ونونه أصليّةٌ ، وقيل: زائدةٌ. وهو مختار الجوهريّ.
قال ابن التين: شذَّ بعضُ الشافعية فقال: لا يُقتل الخنزير إذا لم يكن فيه ضراوة. قال: والجمهور على جواز قتله مطلقاً.
قوله: (والأصنام) جمع صنم ، قال الجوهريّ: هو الوثن، وقال غيره: الوثن ما له جثّة، والصّنم ما كان مصوّراً، فبينهما عموم وخصوص وجهيٌّ، فإن كان مصوّراً فهو وثن وصنم.
قوله: (فقيل: يا رسولَ الله) لَم أقف على تسمية القائل، وفي رواية عبد الحميد الآتية " فقال رجلٌ ".
قوله: (أرأيت شحوم الميتة ، فإنّه يطلى بها السّفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها النّاس) أي: فهل يحل بيعها لِمَا ذكر من المنافع فإنّها مقتضية لصحّة البيع.
قوله: (فقال: لا هو حرام) أي: البيع، هكذا فسّره بعض العلماء كالشّافعيّ ومن اتّبعه.
ومنهم من حمل قوله " هو حرام " على الانتفاع فقال: يحرم الانتفاع بها. وهو قول أكثر العلماء، فلا ينتفع من الميتة أصلاً عندهم إلَّا ما خصّ بالدّليل ، وهو الجلد المدبوغ.
واختلفوا فيما يتنجّس من الأشياء الطّاهرة.
القول الأول: الجمهور على الجواز.
القول الثاني: قال أحمد وابن الماجشون: لا ينتفع بشيءٍ من ذلك.
واستدل الخطّابيّ على جواز الانتفاع بإجماعهم على أنّ من ماتت له دابّة ساغ له إطعامها لكلاب الصّيد. فكذلك يسوغ دهن السّفينة بشحم الميتة ولا فرق.
قوله: (ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود .. إلخ) وسياقه مشعر بقوّة ما أوّله الأكثر أنّ المراد بقوله " هو حرام " البيع لا الانتفاع.
وروى أحمد والطّبرانيّ من حديث ابن عمر مرفوعاً: الويل لبني إسرائيل، إنّه لَمَّا حرّمت عليهم الشّحوم باعوها فأكلوا ثمنها، وكذلك ثمن الخمر عليكم حرام. ولأحمد والطّبرانيّ من حديث تميمٍ الدّاريّ مرفوعاً: إنّ الخمر حرامٌ شراؤها وثمنها.
قال أحمد: حدّثنا أبو عاصم الضّحّاك بن مخلدٍ عن عبد الحميد بن جعفر أخبرني يزيد بن أبي حبيب عن عطاء عن جابر. ولفظه: يقول عام الفتح: إنّ الله حرّم بيع الخنازير وبيع الميتة وبيع الخمر وبيع الأصنام، قال رجلٌ: يا رسولَ الله. فما ترى في بيع شحوم الميتة؟ فإنّها تدهن بها السّفن والجلود ويستصبح بها. فقال: قاتل الله يهود .. الحديث. وأخرجه مسلم عن أبي موسى عن أبي عاصم. ولَم يسبق
لفظه ، بل قال مثل حديث الليث (1).
والظّاهر أنّه أراد أصل الحديث، وإلا ففي سياقه بعض مخالفة فظهر بهذه الرّواية أنّ السّؤال وقع عن بيع الشّحوم وهو يؤيّد ما قرّرناه.
ويؤيّده أيضاً ما أخرجه أبو داود من وجه آخر عن ابن عبّاس ، أنّه صلى الله عليه وسلم قال - وهو عند الرّكن -: قاتل الله اليهود، إنّ الله حرّم عليهم الشّحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإنّ الله إذا حرّم على قوم أكل شيء حرّم عليهم ثمنه "
قال جمهور العلماء: العلة في منع بيع الميتة والخمر والخنزير النّجاسة فيتعدّى ذلك إلى كل نجاسة، ولكنّ المشهور عند مالك طهارة الخنزير.
والعلة في منع بيع الأصنام عدم المنفعة المباحة، فعلى هذا إن كانت بحيث إذا كسرت ينتفع برضاضها جاز بيعها عند بعض العلماء من الشّافعيّة وغيرهم.
والأكثر على المنع حملاً للنّهي على ظاهره، والظّاهر أنّ النّهي عن بيعها للمبالغة في التّنفير عنها، ويلتحق بها في الحكم الصّلبان التي تعظّمها النّصارى ، ويحرم نحت جميع ذلك وصنعته.
وأجمعوا على تحريم بيع الميتة والخمر والخنزير.
(1) المقصود بحديث الليث رواية العمدة هنا.
ورخّص بعض العلماء في القليل من شعر الخنزير للخرز. حكاه ابن المنذر عن الأوزاعيّ وأبي يوسف وبعض المالكيّة. فعلى هذا فيجوز بيعه.
ويستثنى من الميتة عند بعض العلماء ، ما لا تَحلّه الحياة كالشّعر والصّوف والوبر ، فإنّه طاهر فيجوز بيعه. وهو قول أكثر المالكيّة والحنفيّة، وزاد بعضهم العظم والسّنّ والقرن والظّلف.
وقال بنجاسة الشّعور الحسن والليث والأوزاعيّ. ولكنّها تطهر عندهم بالغسل، وكأنّها متنجّسة عندهم بما يتعلق بها من رطوبات الميتة لا نجسة العين، ونحوه قول ابن القاسم في عظم الفيل: إنّه يطهر إذا سلق بالماء.
قوله: (إنّ الله لَمَّا حرّم عليهم شحومها جملوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه)
…
سيأتي الكلام عليه مستوفى إن شاء الله (1)
(1) انظر حديث ابن عباس رضي الله عنه في كتاب الأشربة رقم (397).