الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأربعون
296 -
عن عائشة رضي الله عنها، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ظلم من الأرض قِيدَ شبرٍ، طوّقه من سبع أرضين. (1)
قوله: (من ظلم من الأرض قيد شبرٍ) وللبخاري من طريق عبد الرحمن بن عمرو بن سهل عن سعيد بن زيد " من ظلم من الأرض شيئاً " وفي رواية عروة عن سعيد بن زيد في الصحيحين: من أخذ شبراً من الأرض ظلماً.
والقِيد: بكسر القاف وسكون التّحتانيّة. أي: قدره ، وكأنّه ذكر الشّبر إشارة إلى استواء القليل والكثير في الوعيد.
قوله: (طُوّقه) بضمّ أوّله على البناء للمجهول، وفي رواية عروة " فإنّه يطوّقه " ولأبي عوانة والجوزقيّ في حديث أبي هريرة " جاء به مقلده ".
قوله: (من سبع أرضين) بفتح الرّاء ويجوز إسكانها.
قال الخطّابيّ قوله: " طوّقه " له وجهان:
أحدهما: أنّ معناه أنّه يكلف نقل ما ظلم منها في القيامة إلى المحشر ويكون كالطّوق في عنقه، لا أنّه طوقٌ حقيقةً.
(1) أخرجه البخاري (2321 ، 3023) ومسلم (1612) من طريق يحيى بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم، أنَّ أبا سلمة حدَّثه، وكان بينه وبين قومه خصومة في أرض، وأنه دخل على عائشة فذكر ذلك لها، فقالت: يا أبا سلمة اجتنب الأرض، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ظلم. فذكرته.
الثّاني: معناه أنّه يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين. أي: فتكون كل أرضٍ في تلك الحالة طوقاً في عنقه. انتهى.
وهذا يؤيّده حديث ابن عمر في البخاري بلفظ " خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين "
وقيل معناه كالأوّل، لكن بعد أن ينقل جميعه يجعل كله في عنقه طوقاً ويعظم قدر عنقه حتّى يسع ذلك. كما ورد في غلظ جلد الكافر (1). ونحو ذلك.
وقد روى الطّبريّ وابن حبّان من حديث يعلى بن مرّة مرفوعاً: أيّما رجلٍ ظلم شبراً من الأرض كلَّفه الله أن يحفره حتّى يبلغ آخر سبع أرضين، ثمّ يطوّقه يوم القيامة حتّى يقضى بين النّاس.
ولأبي يعلى بإسنادٍ حسنٍ عن الحكم بن الحارث السّلميّ مرفوعاً " من أخذ من طريق المسلمين شبراً جاء يوم القيامة يحمله من سبع أرضين ". ونظير ذلك في حديث أبي هريرة في حقّ من غلَّ بعيراً جاء يوم القيامة يحمله. (2)
ويحتمل: أن يكون المراد بقوله: " يطوّقه " يُكلّف أن يجعله له
(1) صحيح مسلم (2851) عن أبي هريرة مرفوعاً: ضرس الكافر، أو ناب الكافر، مثل أحد ، وغلظ جلده مسيرة ثلاث.
(2)
أخرجه البخاري (1402). ومسلم (4839) عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظَّمه وعظَّم أمره ، ثم قال: لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رُغاء يقول: يا رسولَ الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئاً. قد أبلغتك. لا ألفين
…
الحديث.
طوقاً ولا يستطيع ذلك فيعذّب بذلك، كما جاء في حقّ من كذب في منامه كلف أن يعقد شعيرة. (1)
ويحتمل: أن يكون التّطويق تطويق الإثم، والمراد به أنّ الظّلم المذكور لازمٌ له في عنقه لزوم الإثم، ومنه قوله تعالى " ألزمناه طائره في عنقه ".
بالوجه الأوّل جزم أبو الفتح القشيريّ ، وصحَّحه البغويّ.
ويحتمل: أن تتنوّع هذه الصّفات لصاحب هذه الجناية ، أو ينقسم أصحاب هذه الجناية ، فيعذّب بعضهم بهذا ، وبعضهم بهذا بحسب قوّة المفسدة وضعفها.
وقد روى ابن أبي شيبة بإسنادٍ حسنٍ من حديث أبي مالك الأشعريّ: أعظم الغلول عند الله يوم القيامة ذراع أرض يسرقه رجلٌ فيطوّقه من سبع أرضين.
وفي الحديث تحريم الظّلم والغصب وتغليظ عقوبته، وإمكان غصب الأرض ، وأنّه من الكبائر. قاله القرطبيّ.
وكأنّه فرّعه على أنّ الكبيرة ما ورد فيه وعيد شديد، وأنّ من ملك أرضاً ملك أسفلها إلى منتهى الأرض، وله أن يمنع من حفر تحتها سرباً أو بئراً بغير رضاه.
(1) أخرجه البخاري (6635) عن ابن عباس رضي الله عنه رفعه: من تحلَّم بحلم لم يره. كُلف أنْ يعقدَ بين شعيرتين، ولن يفعل .. الحديث.
وفيه أنّ من ملك ظاهر الأرض ملك باطنها بما فيه من حجارةٍ ثابتةٍ وأبنية ومعادن وغير ذلك، وأنّ له أن ينزل بالحفر ما شاء ما لَم يضرّ بمن يجاوره.
وفيه أنّ الأرضين السّبع متراكمة لَم يفتق بعضها من بعضٍ ، لأنّها لو فتقت لاكتفي في حقّ هذا الغاصب بتطويق التي غصبها لانفصالها عمّا تحتها. أشار إلى ذلك الدّاوديّ.
وفيه أنّ الأرضين السّبع طباق كالسّموات، وهو ظاهر قوله تعالى:(ومن الأرض مثلهنّ) خلافاً لمَن قال: إنّ المراد بقوله سبع أرضين سبعة أقاليم ، لأنّه لو كان كذلك لَم يطوّق الغاصب شبراً من إقليمٍ آخر. قاله ابن التّين.
وهو والذي قبله مبنيّ على أنّ العقوبة متعلقة بما كان بسببها وإلَّا مع قطع النّظر عن ذلك لا تلازم بين ما ذكروه.
تكميل: قال الله تعالى (الله الذي خلق سبع سمواتٍ ومن الأرض مثلهنّ).
قال الدّاوديّ: فيه دلالة على أنّ الأرضين بعضها فوق بعض مثل السّماوات ، ونقل عن بعض المتكلمين أنّ المثليّة في العدد خاصّة وأنّ السّبع متجاورة، وحكى ابن التّين. عن بعضهم أنّ الأرض واحدة، قال: وهو مردود بالقرآن والسّنّة.
قلت: لعله القول بالتّجاور، وإلا فيصير صريحاً في المخالفة.
ويدل للقول الظّاهر ما رواه ابن جرير من طريق شعبة عن عمرو
بن مرّة عن أبي الضّحى عن ابن عبّاس في هذه الآية (ومن الأرض مثلهنّ) قال: في كل أرض مثل إبراهيم، ونحو ما على الأرض من الخلق، هكذا أخرجه مختصراً ، وإسناده صحيح.
وأخرجه الحاكم والبيهقيّ من طريق عطاء بن السّائب عن أبي الضّحى مطوّلاً وأوّله " أي سبع أرضين في كل أرض آدم كآدمكم ، ونوح كنوحكم ، وإبراهيم كإبراهيمكم ، وعيسى كعيسى ، ونبيّ كنبيّكم.
قال البيهقيّ: إسناده صحيح، إلَّا أنّه شاذّ بمرّة.
وروى ابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عبّاس قال: لو حدّثكم بتفسير هذه الآية لكفرتم وكفركم تكذيبكم بها.
ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عبّاس نحوه. وزاد " وهنّ مكتوبات بعضهنّ على بعض "
وظاهر قوله تعالى (ومن الأرض مثلهنّ) يردّ أيضاً على أهل الهيئة قولهم أن لا مسافة بين كل أرض وأرض وإن كانت فوقها، وأنّ السّابعة صمّاء لا جوف لها، وفي وسطها المركز وهي نقطة مقدّرة متوهّمة، إلى غير ذلك من أقوالهم التي لا برهان عليها.
وقد روى أحمد والتّرمذيّ من حديث أبي هريرة مرفوعاً: إنّ بين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وأنّ سُمك كل سماء كذلك، وأنّ بين كل أرض وأرض خمسمائة عام " وأخرجه إسحاق بن راهويه والبزّار من حديث أبي ذرّ نحوه.
ولأبي داود والتّرمذيّ من حديث العبّاس بن عبد المطّلب مرفوعاً " بين كل سماء وسماء إحدى أو اثنتان وسبعون سنة ".
وجمع بين الحديثين بأنّ اختلاف المسافة بينهما باعتبار بطء السّير وسرعته. فالخمسمائة على السير البطيء كسير الماشي على هينته ، وتحمل السبعين على السير السريع كسير السعاة.
ولولا التحديد بالزيادة على السبعين لحملنا السبعين على المبالغة فلا تنافي الخمسمائة.