الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأحرى أن لا يجوز غائبٌ بغائب.
وأمّا الحديث الذي أخرجه أصحاب السّنن عن ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع: أبيع بالدّنانير وآخذ الدّراهم، وأبيع بالدّراهم وآخذ الدّنانير. فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال: لا بأس به إذا كان بسعر يومه ، ولَم تفترقا وبينكما شيء.
فلا يدخل في بيع الذّهب بالورق ديناً، لأنّ النّهي بقبض الدّراهم عن الدّنانير لَم يقصد إلى التّأخير في الصّرف. قاله ابن بطّالٍ.
واستُدلّ بقوله " مثلاً بمثلٍ " على بطلان البيع بقاعدة مدّ عجوة ، وهو أن يبيع مدّ عجوة وديناراً بدينارين مثلاً.
وأصرح من ذلك في الاستدلال على المنع حديث فضالة بن عبيد. في ردّ البيع في القلادة التي فيها خرز وذهب حتّى تُفصلَ. أخرجه مسلم (1)، وفي رواية أبي داود " فقلتُ: إنّما أردت الحجارة، فقال: لا حتّى تميّز بينهما ".
الحديث الرابع والعشرون
(1) صحيح مسلم (1591) عن فضالة بن عبيد الأنصاري قال: أُتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب - وهي من المغانم تباع - فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده ، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب وزناً بوزن.
وفي رواية له: اشتريت يوم خيبر قلادة بإثني عشر ديناراً فيها ذهب وخرز ، ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تباع حتى تفصل.
280 -
عن أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه ، قال: جاء بلالٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بتمرٍ برنيٍّ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: من أين هذا؟ قال بلالٌ: كان عندي تمرٌ رديءٌ، فبعت منه صاعين بصاعٍ ليطعم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم عند ذلك: أوّه، أوّه! عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيعٍ آخر، ثم اشتر به. (1)
قوله: (جاء بلال إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بتمر برنيّ) بفتح الموحّدة وسكون الرّاء بعدها نون ثمّ تحتانيّة مشدّدة ضربٌ من التّمر معروف، قيل له ذلك ، لأنّ كل تمرة تشبه البرنيّة. وقد وقع عند أحمد مرفوعاً: خير تمراتكم البرنيّ، يذهب الدّاء ، ولا داء فيه.
(1) أخرجه البخاري (2188) ومسلم (1594) من طريق معاوية بن سلام عن يحيى بن أبي كثير عن عقبة بن عبد الغفور عن أبي سعيد رضي الله عنه.
ولمسلم (1594) من وجهين آخرين عن أبي سعيد نحوه مختصراً.
هذا الحديث يشتبه كثيراً بما أخرجه البخاري (2201) ومسلم (1593) عن سعيد بن المسيب ، أن أبا سعيد الخدري وأبا هريرة حدَّثاه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أخا بني عدي الأنصاري واستعمله على خيبر ، فقدم بتمر جنيب ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكلَّ تمر خيبر هكذا؟. قال: لا والله يا رسولَ الله. إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا ، ولكن مثل بمثل ، أو بيعوا هذا ، واشتروا بثمنه من هذا ، وكذلك الميزان.
وهي قصة أخرى كما قال ابن عبد البر وابن حجر ، وهو ظاهر السياقين.
فصاحب خيبر هو سواد بن غزيّة كما جاء مصرّحاً باسمه عند أبي عوانة والدارقطني.
أما حديث الباب فهو بلال. والمعنى واحد.
قوله: (كان عندي) في رواية الكشميهنيّ " عندنا "(1).
قوله: (رديء) بالهمزة وزن عظيم.
قوله: (لنُطعم النّبيّ صلى الله عليه وسلم) بالنّون المضمومة، ولغير أبي ذرّ (2) بالتّحتانيّة المفتوحة والعين مفتوحة أيضاً، وفي رواية مسلم " لمطعم النّبيّ صلى الله عليه وسلم " بالميم.
قوله: (أوّه أوّه) كلمة تقال عند التّوجّع - وهي مشدّدة الواو مفتوحة. وقد تكسر والهاء ساكنة - وربّما حذفوها، ويقال بسكون الواو وكسر الهاء، وحكى بعضهم مدّ الهمزة بدل التّشديد.
قال ابن التّين: إنّما تأوّه ليكون أبلغ في الزّجر، وقاله. إمّا للتّألم من هذا الفعل ، وإمّا من سوء الفهم.
قوله: (عين الرّبا) وللبخاري " عين الرّبا عين الرّبا " كذا فيه بالتّكرار مرّتين. ووقع في مسلم مرّة واحدة، ومراده بعين الرّبا نفسه.
قوله: (لا تفعل ، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيعٍ آخر، ثم اشتر به) في رواية مسلم " ولكن إذا أردت أن تشتري التّمر فبعه ببيعٍ آخر ، ثمّ اشتره ".
وبينهما مغايرة ، لأنّ التّمر في رواية الباب المراد به التّمر الرّديء ،
(1) وكذا عند مسلم (1594) أي " عندنا " وكذا في طبعة البغا.
(2)
هو عبد بن أحمد الهروي ، سبق ترجمته (1/ 114).
والضّمير في به يعود إلى التّمر. أي: بالتّمر الرّديء والمفعول محذوف. أي: اشتر به تمراً جيّداً.
وأمّا رواية مسلم فالمراد بالتّمر الجيّد، والضّمير في قوله " ثمّ اشتره " للجيّد.
وفي الحديث البحث عمّا يستريب به الشّخص حتّى ينكشف حاله.
وفيه النّصّ على تحريم ربا الفضل. واهتمام الإمام بأمر الدّين وتعليمه لمن لا يعلمه، وإرشاده إلى التّوصّل إلى المباحات وغيرها، واهتمام التّابع بأمر متبوعه.
وفيه أنّ صفقة الرّبا لا تصحّ، ولمسلم من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد في نحو هذه القصّة فقال " هذا الرّبا فردّه ".
وعند الطّبريّ من طريق سعيد بن المسيّب عن بلال قال: كان عندي تمرٌ دونٌ، فابتعت منه تمراً أجود منه. الحديث. وفيه ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: هذا الرّبا بعينه، انطلِق فردّه على صاحبه ، وخذ تمرك وبعه بحنطةٍ أو شعير ، ثمّ اشتر به من هذا التّمر ، ثمّ جئني به.
قال ابن عبد البرّ: لا خلاف بين أهل العلم فيه ، كلٌ يقول على أصله: إنّ كل ما دخله الرّبا من جهة التّفاضل فالكيل والوزن فيه واحدٌ، ولكن ما كان أصله الكيل لا يباع إلَّا كيلاً وكذا الوزن، ثمّ ما كان أصله الوزن لا يصحّ أن يباع بالكيل، بخلاف ما كان أصله الكيل. فإنّ بعضهم يجيز فيه الوزن ، ويقول: إنّ المماثلة تدرك بالوزن في كل شيءٍ.
قال: وأجمعوا على أنّ التّمر بالتّمر لا يجوز بيع بعضه ببعضٍ إلَّا مثلاً بمثلٍ، وسواءٌ فيه الطّيّب والدّون، وأنّه كله على اختلاف أنواعه جنسٌ واحدٌ. انتهى
وفي الحديث قيام عذر من لا يعلم التّحريم حتّى يعلمه.
وفيه جواز الرّفق بالنّفس وترك الحمل على النّفس لاختيار أكل الطّيّب على الرّديء خلافاً لمن منع ذلك من المتزهّدين.
واستدل به على جواز بيع العيّنة وهو أن يبيع السّلعة من رجلٍ بنقدٍ ، ثمّ يشتريها منه بأقل من الثّمن ، لأنّه لَم يخصّ بقوله " ثمّ اشتر بالدّراهم جنيباً "(1) غيرَ الذي باع له الجمع.
وتعقّب: بأنّه مطلقٌ. والمطلق لا يشمل ، ولكن يشيع فإذا عمل به في صورةٍ سقط الاحتجاج به فيما عداها.
ولا يصحّ الاستدلال به على جواز الشّراء ممّن باعه تلك السّلعة بعينها. وقيل: إنّ وجه الاستدلال به لذلك من جهة ترك الاستفصال، ولا يخفى ما فيه.
وقال القرطبيّ: استدل بهذا الحديث من لَم يقل بسدّ الذّرائع، لأنّ بعض صور هذا البيع يؤدّي إلى بيع التّمر بالتّمر متفاضلاً ويكون الثّمن لغواً.
(1) هذه الرواية من حديث أبي سعيد وأبي هريرة المتقدّم في التعليق السابق. لَمَّا كان معناهما واحداً دمجت الشرحين جميعاً.
قال: ولا حجّة في هذا الحديث ، لأنّه لَم ينصّ على جواز شراء التّمر الثّاني ممّن باعه التّمر الأوّل، ولا يتناوله ظاهر السّياق بعمومه بل بإطلاقه ، والمطلق يحتمل التّقييد إجمالاً فوجب الاستفسار، وإذا كان كذلك فتقييده بأدنى دليلٍ كافٍ، وقد دلَّ الدّليل على سدّ الذّرائع ، فلتكن هذه الصّورة ممنوعةً.
واستدل بعضهم على الجواز: بما أخرجه سعيد بن منصورٍ من طريق ابن سيرين ، أنّ عمر خطب ، فقال: إنّ الدّرهم بالدّرهم سواءٌ بسواءٍ يداً بيدٍ، فقال له ابن عوفٍ: فنعطي الجنيب ونأخذ غيره؟ قال: لا، ولكن ابتع بهذا عرضاً فإذا قبضته وكان له فيه نيّةٌ فاهضم ما شئت ، وخذ أيّ نقدٍ شئت.
واستدل أيضاً بالاتّفاق على أنّ من باع السّلعة التي اشتراها ممّن اشتراها منه بعد مدّةٍ فالبيع صحيحٌ ، فلا فرق بين التّعجيل في ذلك والتّأجيل، فدلَّ على أنّ المعتبر في ذلك وجود الشّرط في أصل العقد وعدمه ، فإن تشارطا على ذلك في نفس العقد فهو باطلٌ، أو قبله ثمّ وقع العقد بغير شرطٍ فهو صحيحٌ. ولا يخفى الورع.
وقال بعضهم: ولا يضرّ إرادة الشّراء إذا كان بغير شرطٍ، وهو كمن أراد أن يزني بامرأةٍ ثمّ عدل عن ذلك فخطبها وتزوّجها فإنّه عدل عن الحرام إلى الحلال بكلمة الله التي أباحها، وكذلك البيع. والله أعلم.
وفي الحديث جواز الوكالة في البيع وغيره.
وفيه أنّ البيوع الفاسدة تردّ.
وفيه حجّةٌ على مَن قال إنّ بيع الرّبا جائزٌ بأصله من حيث إنّه بيعٌ ، ممنوعٌ بوصفه من حيث إنّه رباً، فعلى هذا يسقط الرّبا ، ويصحّ البيع. قاله القرطبيّ.
قال: ووجه الرّدّ أنّه لو كان كذلك لَمَا ردّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الصّفقة، ولأمره بردّ الزّيادة على الصّاع.