الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث العاشر
314 -
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: كنت عند رفاعة القرظيّ، فطلقني، فبتّ طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزّبير، وإنما معه مثل هدبة الثّوب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك، قالت: وأبو بكر عنده، وخالد بن سعيدٍ بالباب ينتظر أن يؤذن له، فنادى: يا أبا بكرٍ ألا تسمع إلى هذه، ما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1)
قوله: (جاءت امرأة رفاعة القرظيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم) وللبخاري " أنَّ رفاعة القرظي تزوّج امرأةً " وعند الإسماعيليّ " تزوّج امرأة من بني قريظة ".
وسمّاها مالك من حديث عبد الرّحمن بن الزَّبير نفسه كما أخرجه ابن وهب والطّبرانيّ والدّارقطنيّ في " الغرائب " موصولاً ، وهو في " الموطّأ " مرسل " تميمة بنت وهب " وهي بمثنّاةٍ.
واختلف هل هي بفتحها أو بالتّصغير؟.
والثّاني أرجح ، ووقع مجزوماً به في النّكاح لسعيد بن أبي عروبة من
(1) أخرجه البخاري (2496 ، 4960 ، 4964 ، 5011 ، 5456 ، 5734) ومسلم (1433) من طريق ابن شهاب وهشام عن عروة عن عائشة. مختصراً ومطوّلاً.
وأخرجه البخاري (5487) من رواية عكرمة عن عائشة نحوه.
روايته عن قتادة
وقيل: اسمها سهيمة - بسينٍ مهملةٍ مصغّر -. أخرجه أبو نعيمٍ. وكأنّه تصحيف، وعند ابن منده. أميمة بألفٍ. أخرجها من طريق أبي صالح عن ابن عبّاس ، وسَمّى أباها الحارث.
وهي واحدة اختلف في التّلفّظ باسمها والرّاجح الأوّل.
قوله: (كنت عند رفاعة القرظيّ) هو رفاعة القرظيّ بن سموأل بفتح المهملة والميم وسكون الواو بعدها همزة ثمّ لامٌ.
والقرظيّ بالقاف والظّاء المعجمة.
قوله: (فطلقني، فبتّ طلاقي) ظاهر في أنّه قال لها: أنت طالق البتّة.
ويحتمل: أن يكون المراد أنّه طلَّقها طلاقاً حصل به قطع عصمتها منه، وهو أعمّ من أن يكون طلَّقها ثلاثاً مجموعة أو مفرّقة.
ويؤيّد الثّاني ما في الصحيحين من وجه آخر عن الزهري عن عروة عن عائشة أنّها قالت: طلقني آخر ثلاث تطليقات.
قوله: (فتزوجَتْ بعده عبدَ الرحمن بن الزّبير) الزّبير بفتح الزّاي.
واتّفقت الرّوايات كلّها عن هشام بن عروة ، أنّ الزّوج الأوّل رفاعة والثّاني عبد الرّحمن، وكذا قال عبد الوهّاب بن عطاء عن سعيد بن أبي عروبة في كتاب النّكاح له عن قتادة ، أنّ تميمة بنت أبي عبيد القرظيّة كانت تحت رفاعة فطلَّقها فخلف عليها عبد الرّحمن بن الزّبير ".
وتسميته لأبيها لا تنافي رواية مالك ، فلعل اسمه وهب وكنيته أبو عبيد. إلَّا ما وقع عند ابن إسحاق في " المغازي " من رواية سلمة بن الفضل عنه ، وتفرّد به عنه عن هشام عن أبيه ، قال: كانت امرأة من قريظة يقال لها تميمة تحت عبد الرّحمن بن الزّبير فطلقها. فتزوّجها رفاعة ثمّ فارقها، فأرادت أن ترجع إلى عبد الرّحمن بن الزّبير.
وهو مع إرساله مقلوب. والمحفوظ ما اتّفق عليه الجماعة عن هشام.
وقد وقع لامرأة أخرى قريبٌ من قصّتها ، فأخرج النّسائيّ من طريق سليمان بن يسار عن عبيد الله بن العبّاس. أي: ابن عبد المطّلب ، أنّ الغميصاء أو الرّميصاء أتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم تشكو من زوجها أنّه لا يصِلُ إليها، فلم يلبث أن جاء فقال: إنّها كاذبة ، ولكنّها تريد أن ترجع إلى زوجها الأوّل، فقال: ليس ذلك لها حتّى تذوق عسيلته " ورجاله ثقات ، لكن اختلف فيه على سليمان بن يسار.
ووقع عند شيخنا في شرح التّرمذيّ " عبد الله بن عبّاس " مكبّر ، وتعقَّبَ على ابن عساكر والمزّيّ ، أنّهما لَم يذكرا هذا الحديث في " الأطراف ".
ولا تعقّب عليهما: فإنّهما ذكراه في مسند عبيد الله بالتّصغير وهو الصّواب، وقد اختلف في سماعه من النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلَّا أنّه ولد في عصره فذُكر لذلك في الصّحابة.
واسم زوج الغميصاء هذه عمرو بن حزم. أخرجه الطّبرانيّ وأبو
مسلم الكجّيّ وأبو نعيمٍ في الصّحابة من طريق حمّاد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، أنّ عمرو بن حزم طلق الغميصاء ، فتزوّجها رجلٌ قبل أن يمسّها ، فأرادت أن ترجع إلى زوجها الأوّل .. الحديث.
ولَم أعرف اسم زوجها الثّاني.
ووقعت لثالثةٍ قصّةٌ أخرى مع رفاعة رجلٍ آخر غير الأوّل. والزّوج الثّاني عبد الرّحمن بن الزّبير أيضاً ، أخرجه مقاتل بن حيّان في " تفسيره " ، ومن طريقه ابن شاهين في " الصّحابة " ثمّ أبو موسى ، قوله تعالى (فلا تحلُّ له من بعد حتّى تنكح زوجاً غيره) قال: نزلت في عائشة بنت عبد الرّحمن بن عقيل النّضريّة ، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك - وهو ابن عمّها - فطلَّقها طلاقاً بائناً فتزوّجت بعده عبد الرّحمن بن الزّبير ، ثمّ طلَّقها ، فأتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: إنّه طلَّقني قبل أن يمسّني ، أفأرجع إلى ابن عمّي زوجي الأوّل؟ قال: لا " الحديث.
وهذا الحديث - إن كان محفوظاً - فالواضح من سياقه أنّها قصّة أخرى ، وأنّ كلاً من رفاعة القرظيّ ورفاعة النّضريّ وقع له مع زوجة له طلاقٌ ، فتزوّج كلاً منهما عبد الرّحمن بن الزّبير فطلَّقها قبل أن يمسّها. فالحكم في قصّتهما متّحدٌ مع تغاير الأشخاص.
وبهذا يتبيّن خطأ من وحّد بينهما. ظنّاً منه أنّ رفاعة بن سموأل هو رفاعة بن وهب ، فقال: اختلف في امرأة رفاعة على خمسة أقوال،
فذكر الاختلاف في النّطق بتميمة وضمّ إليها عائشة.
والتّحقيق ما تقدّم.
ووقعت لأبي ركانة قصّة أخرى سأذكرها آخر هذا الحديث
قوله: (وإنما معه مثل هدبة الثّوب) بضمّ الهاء وسكون المهملة بعدها موحّدة مفتوحة ، هو طرف الثّوب الذي لَم ينسج مأخوذ من هدب العين وهو شعر الجفن.
وأرادت أنّ ذكره يشبه الهدبة في الاسترخاء وعدم الانتشار.
وعند البخاري من طريق أبي معاوية عن هشام: فتزوّجت زوجاً غيره فلم يصل منها إلى شيء يريده. وعند أبي عوانة من طريق الدّراورديّ عن هشام " فنكحها عبد الرّحمن بن الزّبير فاعترض عنها ". وكذا في رواية مالك عن عبد الرّحمن بن الزّبير نفسه. وزاد " فلم يستطع أن يمسّها "
وقوله " فاعترض " بضمّ المثنّاة وآخره ضاد معجمة ، أي: حصل له عارض حال بينه وبين إتيانها ، إمّا من الجنّ وإمّا من المرض.
ووقع في رواية أبي معاوية عن هشام " فلم يقربني إلَّا هنةً واحدة ، ولَم يصل منّي إلى شيء " والهنة بفتح الهاء وتخفيف النّون. المرّة الواحدة الحقيرة.
واستدل به على أنّ وطء الزّوج الثّاني لا يكون محللاً ارتجاع الزّوج الأوّل للمرأة إلَّا إن كان حال وطئه منتشراً ، فلو كان ذكره أشلّ أو كان هو عنّيناً أو طفلاً لَم يكف على أصحّ قولي العلماء، وهو الأصحّ
عند الشّافعيّة أيضاً.
قوله: (وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا) وقع في رواية أبي معاوية عن هشام بن عروة " ولَم يكن معه إلَّا مثل الهدبة فلم يقربني إلَّا هنة واحدة ولَم يصل منّي إلى شيء. أفأحلُّ لزوجي الأوّل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحلين لزوجك الأوّل. الحديث.
وللبخاري من طريق أيّوب عن عكرمة ، أنّ رفاعة طلَّق امرأته فتزوّجها عبد الرّحمن بن الزّبير، قالت عائشة: فجاءت وعليها خمار أخضر. فشكت إليها - أي إلى عائشة - من زوجها وأرتها خضرة بجلدها، فلمّا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والنّساء يبصرن بعضهنّ بعضاً قالت عائشة: ما رأيت ما يلقى المؤمنات، لَجلدها أشدّ خضرة من ثوبها. وسمع زوجها فجاء ومعه ابنان له من غيرها، قالت: والله مالي إليه من ذنب إلَّا أنّ ما معه ليس بأغنى عنّي من هذه - وأخذت هدبة من ثوبها - فقال: كذبتْ والله يا رسولَ الله، إنّي لأنفضها نفض الأديم، ولكنها ناشزة تريد رفاعة. قال: فإن كان ذلك لَم تحلّ له " الحديث.
وكأنّ هذه المراجعة بينهما هي التي حملت خالد بن سعيد بن العاص على قوله الذي وقع في رواية الزّهريّ عن عروة في البخاري من طريق شعيب عنه قال: فسمع خالد بن سعيد قولها - وهو بالباب - فقال: يا أبا بكر ألا تنهي هذه عمّا تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ، فوالله ما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التّبسّم.
قوله: (قالت: وأبو بكر عنده، وخالد بن سعيدٍ بالباب
…
ما
تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) وللبخاري " يا أبا بكر ألا تنهى هذه عمّا تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله ما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التّبسّم ".
وفيه ما كان الصّحابة عليه من سلوك الأدب بحضرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، وإنكارهم على من خالف ذلك بفعله أو قوله. لقول خالد بن سعيد لأبي بكر الصّدّيق وهو جالس: ألا تنهى هذه؟.
وإنّما قال خالد ذلك ، لأنّه كان خارج الحجرة، فاحتمل عنده أن يكون هناك ما يمنعه من مباشرة نهيها بنفسه، فأمر به أبا بكر لكونه كان جالساً عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم مشاهداً لصورة الحال، ولذلك لَمَّا رأى أبو بكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتبسّم عند مقالتها لَم يزجرها.
وتبسّمه صلى الله عليه وسلم كان تعجّباً منها، إمّا لتصريحها بما يستحي النّساء من التّصريح به غالباً، وإمّا لضعف عقل النّساء لكون الحامل لها على ذلك شدّة بغضها في الزّوج الثّاني ومحبّتها في الرّجوع إلى الزّوج الأوّل، ويستفاد منه جواز وقوع ذلك.
تنبيهٌ: وقع في جميع الطّرق من قول خالد بن سعيد لأبي بكر: ألا تنهى هذه عمّا تجهر به؟ أي: ترفع به صوتها.
وذكره الدّاوديّ بلفظ " تهجر " بتقديم التّاء على الجيم، والهجر بضمّ الهاء الفحش من القول، والمعنى هنا عليه، لكنّ الثّابت في الرّوايات ما ذكرته، وذكر عياض أنّه وقع كذلك في غير الصّحيح.
واستدل بكلام خالد هذا لجواز الشّهادة على الصّوت، والغرض
منه إنكاره على امرأة رفاعة ما كانت تكلم به عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع كونه محجوباً عنها خارج الباب ، ولَم ينكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليه ذلك ، فاعتماد خالدٍ على سماع صوتها حتّى أنكر عليها هو حاصل ما يقع من شهادة السّمع.
قوله: (حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) كذا في الموضعين بالتّصغير. واختلف في توجيهه.
فقيل: هي تصغير العسل ، لأنّ العسل مؤنّث، جزم به القزّاز ثمّ قال: وأحسب التّذكير لغة.
وقال الأزهريّ: يذكّر ويؤنّث.
وقيل: لأنّ العرب إذا حقرت الشّيء أدخلت فيه هاء التّأنيث، ومن ذلك قولهم دريهمات. فجمعوا الدّرهم جمع المؤنّث عند إرادة التّحقير، وقالوا أيضاً في تصغير هند: هنيدة.
وقيل: التّأنيث باعتبار الوطأة. إشارة إلى أنّها تكفي في المقصود من تحليلها للزّوج الأوّل
وقيل: المراد قطعة من العسل ، والتّصغير للتّقليل إشارة إلى أنّ القدر القليل كافٍ في تحصيل الحلّ.
قال الأزهريّ: الصّواب أنّ معنى العسيلة حلاوة الجماع الذي يحصل بتغييب الحشفة في الفرج، وأنّث تشبيهاً بقطعةٍ من عسلٍ.
وقال الدّاوديّ: صغّرت لشدّة شبهها بالعسل.
وقيل: معنى العسيلة النّطفة، وهذا يوافق قول الحسن البصريّ.
وقال جمهور العلماء: ذوق العسيلة كناية عن المجامعة ، وهو تغييب حشفة الرّجل في فرج المرأة.
وزاد الحسن البصريّ: حصول الإنزال. وهذا الشّرط انفرد به عن الجماعة. قاله ابن المنذر وآخرون.
وقال ابن بطّالٍ: شذّ الحسن في هذا، وخالفه سائر الفقهاء ، وقالوا: يكفي من ذلك ما يوجب الحدّ ويحصن الشّخص ويوجب كمال الصّداق ويفسد الحجّ والصّوم.
قال أبو عبيد: العسيلة لذّة الجماع ، والعرب تسمّي كلّ شيء تستلذّه عسلاً، وهو في التّشديد يقابل قول سعيد بن المسيّب في الرّخصة، ويردّ قول الحسن أنّ الإنزال لو كان شرطاً لكان كافياً، وليس كذلك ، لأنّ كلاً منهما إذا كان بعيد العهد بالجماع مثلاً أنزل قبل تمام الإيلاج، وإذا أنزل كلّ منهما قبل تمام الإيلاج لَم يذق عسيلة صاحبه، لا إن فسّرت العسيلة بالإمناء ولا بلذّة الجماع.
قال ابن المنذر: أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحلّ للأوّل، إلَّا سعيد بن المسيّب. ثمّ ساق بسنده الصّحيح عنه قال: يقول النّاس لا تحلّ للأوّل حتّى يجامعها الثّاني، وأنا أقول: إذا تزوّجها تزويجاً صحيحاً لا يريد بذلك إحلالها للأوّل فلا بأس أن يتزوّجها الأوّل. وهكذا أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور.
وفيه تعقّب على من استبعد صحّته عن سعيد.
قال ابن المنذر: وهذا القول لا نعلم أحداً وافقه عليه إلَّا طائفة من
الخوارج، ولعلَّه لَم يبلغه الحديث فأخذ بظاهر القرآن.
قلت: سياق كلامه يشعر بذلك. وفيه دلالة على ضعف الخبر الوارد في ذلك. وهو ما أخرجه النّسائيّ من رواية شعبة عن علقمة بن مرثد عن سالم بن رزين عن سالم بن عبد الله عن سعيد بن المسيّب عن ابن عمر رفعه ، في الرّجل تكون له المرأة فيطلقها ثمّ يتزوّجها آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها فترجع إلى الأوّل، فقال: لا، حتّى تذوق العسيلة.
وقد أخرجه النّسائيّ أيضاً من رواية سفيان الثّوريّ عن علقمة بن مرثد فقال: عن رزين بن سليمان الأحمريّ عن ابن عمر نحوه.
قال النّسائيّ: هذا أولى بالصّواب، وإنّما قال ذلك ، لأنّ الثّوريّ أتقن وأحفظ من شعبة، وروايته أولى بالصّواب من وجهين:
أحدهما: أنّ شيخ علقمة شيخهما هو رزين بن سليمان كما قال الثّوريّ ، لا سالم بن رزين كما قال شعبة، فقد رواه جماعة عن علقمة كذلك، منهم غيلان بن جامع أحد الثّقات.
ثانيهما: أنّ الحديث لو كان عند سعيد بن المسيّب عن ابن عمر مرفوعاً ما نسبه إلى مقالة النّاس الذين خالفهم.
ويؤخذ من كلام ابن المنذر ، أنّ نقل أبي جعفر النّحّاس في " معاني القرآن " وتبعه عبد الوهّاب المالكيّ في " شرح الرّسالة " القول بذلك عن سعيد بن جبير وهمٌ.
وأعجب منه أنّ أبا حبّان جزم به عن السّعيدين (1) سعيد بن المسيّب وسعيد بن جبير، ولا يعرف له سندٌ عن سعيد بن جبير في شيء من المصنّفات، وكفى قول ابن المنذر حجّة في ذلك.
وحكى ابن الجوزيّ عن داود أنّه وافق سعيد بن المسيّب على ذلك.
قال القرطبيّ: ويستفاد من الحديث على قول الجمهور أنّ الحكم يتعلق بأقلّ ما ينطلق عليه الاسم، خلافاً لمَن قال لا بدّ من حصول جميعه. وفي قوله " حتّى تذوقي عسيلته إلخ " إشعار بإمكان ذلك.
لكن قولها " ليس معه إلَّا مثل هذه الهدبة " ظاهر في تعذّر الجماع المشترط.
فأجاب الكرمانيّ: بأنّ مرادها بالهدبة التّشبيه بها في الدّقّة والرّقّة ، لا في الرّخاوة وعدم الحركة واستبعد ما قال.
وسياق الخبر يعطي بأنّها شكَتْ منه عدم الانتشار، ولا يمنع من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " حتّى تذوقي " لأنّه علقه على الإمكان وهو جائز الوقوع، فكأنّه قال: اصبري حتّى يتأتّى منه ذلك، وإن تفارقا فلا بدّ لها من إرادة الرّجوع إلى رفاعة من زوج آخر يحصل لها منه ذلك.
واستدل بإطلاق وجود الذّوق منهما ، الاشتراط على الزّوجين به حتّى لو وطئها نائمة أو مغمىً عليها لَم يكف ولو أنزل هو.
(1) وقع في مطبوع الفتح (السعيد بن سعيد) وهو خطأ ، والصواب ما أثبتّه ، وهو تثنية سَعيد.
وبالغ ابن المنذر فنقله عن جميع الفقهاء. وتُعقّب.
وقال القرطبيّ: فيه حجّة لأحد القولين في أنّه لو وطئها نائمة أو مغمىً عليها لَم تحلّ. وجزم ابن القاسم بأنّ وطء المجنون يحلل، وخالفه أشهب.
واستدل به على جواز رجوعها لزوجها الأوّل إذا حصل الجماع من الثّاني، لكن شرط المالكيّة. ونُقل عن عثمان وزيد بن ثابت أن لا يكون في ذلك مخادعة من الزّوج الثّاني ، ولا إرادة تحليلها للأوّل.
وقال الأكثر: إن شرط ذلك في العقد فسد ، وإلا فلا.
واتّفقوا على أنّه إذا كان في نكاح فاسدٍ لَم يحلل.
وشذّ الحَكَم ، فقال: يكفي، وأنّ من تزوّج أمة ، ثمّ بتّ طلاقها ، ثمّ ملكها لَم يحلّ له أن يطأها حتّى تتزوّج غيره.
وقال ابن عبّاس وبعض أصحابه والحسن البصريّ: تحلّ له بملك اليمين.
واختلفوا فيما إذا وطئها حائضاً ، أو بعد أن طهرت قبل أن تطهر ، أو أحدهما صائم أو محرم.
وقال ابن حزم: أخذ الحنفيّة بالشّرط الذي في هذا الحديث عن عائشة، وهو زائد على ظاهر القرآن، ولَم يأخذوا بحديثها في اشتراط خمس رضعات لأنّه زائد على ما في القرآن، فيلزمهم الأخذ به أو ترك حديث الباب.
وأجابوا: بأنّ النّكاح عندهم حقيقة في الوطء ، فالحديث موافق
لظاهر القرآن.
واستدل بقولها " بتّ طلاقي " على أنّ البتّة ثلاث تطليقات.
وهو عجبٌ ممّن استدل به فإنّ البتّ بمعنى القطع والمراد به قطع العصمة، وهو أعمّ من أن يكون بالثّلاث مجموعة أو بوقوع الثّالثة التي هي آخر ثلاث تطليقات.
وتقدّم صريحاً " أنّه طلَّقها آخر ثلاث تطليقات " فبطل الاحتجاج به.
ونقل ابن العربيّ عن بعضهم ، أنّه أورد على حديث الباب ما ملخّصه ، أنّه يلزم من القول به.
أولاً. إمّا الزّيادة بخبر الواحد على ما في القرآن فيستلزم نسخ القرآن بالسّنّة التي لَم تتواتر.
ثانياً. أو حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين مع ما فيه من الإلباس.
والجواب عن الأوّل: أنّ الشّرط إذا كان من مقتضيات اللفظ لَم تكن إضافته نسخاً ولا زيادة.
والجواب عن الثّاني: أنّ النّكاح في الآية أضيف إليها ، وهي لا تتولى العقد بمجرّدها فتعيّن أنّ المراد به في حقّها الوطء، ومن شرطه اتّفاقاً أن يكون وطئاً مباحاً فيحتاج إلى سبق العقد.
ويمكن أن يقال: لَمَّا كان اللفظ محتملاً للمعنيين بيّنت السّنّة أنّه لا بدّ من حصولهما، فاستدل به على أنّ المرأة لا حقّ لها في الجماع ، لأنّ
هذه المرأة شكت أنّ زوجها لا يطؤها ، وأنّ ذكره لا ينتشر ، وأنّه ليس معه ما يغني عنها ، ولَم يفسخ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نكاحها بذلك.
ومن ثَمَّ قال إبراهيم بن إسماعيل بن عليّة وداود بن عليّ: لا يفسخ بالعنّة ، ولا يُضرب للعنّين أجلٌ.
وقال ابن المنذر: اختلفوا في المرأة تطالب الرّجل بالجماع.
فقال الأكثر: إن وطئها بعد أن دخل بها مرّة واحدة لَم يؤجّل أجل العنّين، وهو قول الأوزاعيّ والثّوريّ وأبي حنيفة ومالك والشّافعيّ وإسحاق.
وقال أبو ثور: إن ترك جماعها لعلةٍ أجّل له سنة، وإن كان لغير عِلَّة فلا تأجيل.
وقال عياض: اتّفق كافّة العلماء على أنّ للمرأة حقّاً في الجماع، فيثبت الخِيَار لها إذا تزوّجت المجبوب والممسوح جاهلة بهما، ويضرب للعنّين أجل سنة لاحتمال زوال ما به.
وأمّا استدلال داود ومن يقول بقوله بقصّة امرأة رفاعة فلا حجّة فيها، لأنّ في بعض طرقه أنّ الزّوج الثّاني كان أيضاً طلَّقها كما وقع عند مسلم صريحاً من طريق القاسم عن عائشة قالت: طلّق رجلٌ امرأتَه ثلاثاً فتزوّجها رجلٌ آخر فطلَّقها قبل أن يدخل بها ، فأراد زوجها الأوّل أن يتزوّجها، فسئل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: لا. الحديث، وأصله عند البخاريّ.
ووقع في حديث الزّهريّ عن عروة كما في البخاري في آخر الحديث
بعد قوله: لا حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " قال: ففارقته بعد " زاد ابن جريجٍ عن الزّهريّ في هذا الحديث: أنّها جاءت بعد ذلك إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت إنّه - يعني زوجها الثّاني -: مسّها فمنعها أن ترجع إلى زوجها الأوّل.
وصرّح مقاتل بن حيّان في " تفسيره " مرسلاً ، أنّها قالت: يا رسولَ الله: إنّه كان مسّني، فقال: كذبتِ بقولكِ الأوّل فلن أصدّقكِ في الآخر، وأنّها أتت أبا بكر ثمّ عمر فمنعاها.
وكذا وقعت هذه الزّيادة الأخيرة في رواية ابن جريجٍ المذكورة. أخرجها عبد الرّزّاق عنه.
ووقع عند مالك في " الموطّأ " عن المسور بن رفاعة عن الزّبير بن عبد الرّحمن بن الزّبير، زاد خارج الموطّأ فيما رواه ابن وهب عنه ، وتابعه إبراهيم بن طهمان عن مالك عند الدّارقطنيّ في " الغرائب " عن أبيه ، أنّ رفاعة طلَّق امرأته تميمة بنت وهب ثلاثاً، فنكحها عبد الرّحمن، فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسّها ففارقها، فأراد رفاعة أن يتزوّجها. الحديث.
ووقع عند أبي داود من طريق الأسود عن عائشة. سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته فتزوّجت غيره فدخل بها وطلَّقها قبل أن يواقعها. أتحل للأوّل؟ قال: لا. الحديث.
وأخرج الطّبريّ وابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة نحوه، والطّبريّ أيضاً والبيهقيّ من حديث أنسٍ كذلك، وكذا وقع في رواية
حمّاد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، أنّ عمرو بن حزم طلَّق الغميصاء فنكحها رجلٌ فطلّقها قبل أن يمسّها، فسألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: لا، حتّى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته. وأخرجه الطّبرانيّ. ورواته ثقات.
فإن كان حمّاد بن سلمة حفظه فهو حديث آخر لعائشة في قصّة أخرى غير قصّة امرأة رفاعة، وله شاهد من حديث عبيد الله - بالتّصغير - ابن عبّاس عند النّسائيّ في ذكره الغميصاء، لكنّ سياقه يشبه قصّة رفاعة. كما تقدّم في أوّل شرح هذا الحديث.
وقد قدّمت أنّه وقع لكلٍّ من رفاعة بن سموأل ورفاعة بن وهب أنّه طلق امرأته ، وأنّ كلاً منهما تزوّجها عبد الرّحمن بن الزّبير ، وأنّ كلاً منهما شكَتْ أنّه ليس معه إلَّا مثل الهدبة.
فلعل إحدى المرأتين شكته قبل أن يفارقها ، والأخرى بعد أن فارقها.
ويحتمل: أن تكون القصّة واحدة. ووقع الوهم من بعض الرّواة في التّسمية أو في النّسبة ، وتكون المرأة شكت مرّتين من قبل المفارقة ومن بعدها، والله أعلم
وأمّا ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عبّاس قال: طلَّق عبد يزيد أبو ركانة أمّ ركانة ونكح امرأة من مزينة، فجاءت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: ما يغني عنّي إلَّا كما تغني هذه الشّعرة - لشعرةٍ أخذتها من رأسها - ففرّق بيني وبينه، قال: فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد: طلَّقها
وراجع أمّ ركانة، ففعل.
فليس فيه حجّة لمسألة العنّين، والله أعلم بالصّواب.