الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن
264 -
وعن عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنه ، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُتلقّى الرّكبان، وأن يبيع حاضرٌ لبادٍ، قال: فقلت لابن عباسٍ: ما قوله حاضرٌ لبادٍ؟ قال: لا يكون له سمساراً. (1)
قوله: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُتلقّى الرّكبان) زاد الكشميهني (2)" للبيع " وتقدّم الكلام عليه (3).
قوله: (وأن يبيع حاضرٌ لبادٍ) قال ابن المنير وغيره: حمل البخاري النّهي عن بيع الحاضر للبادي على معنىً خاصٍّ وهو البيع بالأجر أخذاً من تفسير ابن عبّاس، وقوّى ذلك بعموم أحاديث " الدّين النّصيحة "(4) ، لأنّ الذي يبيع بالأجرة لا يكون غرضه نصح البائع غالباً ، وإنّما غرضه تحصيل الأجرة. فاقتضى ذلك إجازة بيع الحاضر للبادي بغير أجرةٍ من باب النّصيحة.
(1) أخرجه البخاري (2050 ، 2055 ، 2154) ومسلم (1521) من طرق عن معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه.
وقوله: فقلت لابن عباسٍ: ما قوله. إلخ. السائل هو طاوس بن كيسان اليماني.
(2)
هو أبو الهيثم محمد بن مكي ، سبق ترجمته (1/ 32)
(3)
انظر حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدّم برقم (261).
(4)
أخرجه مسلم في الصحيح (205) من حديث تميم الداري رضي الله عنه ، ومنها أيضاً ما أورده البخاري (2157) في الباب من حديث جرير ، قال: بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على شهادة أن لا إله إلَّا الله
…
وفيه. والنصح لكل مسلم.
قلت: ويؤيده ما رواه أحمد من حديث عطاء بن السّائب عن حكيم بن أبى يزيد عن أبيه حدّثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوا النّاس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا استنصح الرّجل الرّجل فلينصح له " ورواه البيهقيّ من طريق عبد الملك بن عمير عن أبي الزّبير عن جابر مرفوعاً مثله.
وقد أخرجه مسلم من طريق أبي خيثمة عن أبي الزّبير بلفظ " لا يبيع حاضرٌ لبادٍ ، دعوا النّاس يرزق الله بعضهم من بعض " وكذلك ما أخرجه أبو داود من طريق سالمٍ المكّيّ ، أنّ أعرابيّاً حدّثه أنّه قدم بحلوبةٍ له على طلحة بن عبيد الله، فقال له: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع حاضرٌ لبادٍ، ولكن اذهب إلى السّوق فانظر من يبايعك فشاورني حتّى آمرك وأنهاك.
ورخّص عطاء في بيع الحاضر للبادي، فروى عبد الرّزّاق عن الثّوريّ عن عبد الله بن عثمان. أي: ابن خثيمٍ عن عطاء بن أبي رباح قال: سألته عن أعرابيٍّ أبيع له؟ فرخّص لي.
وأمّا ما رواه سعيد بن منصور من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهدٍ قال: إنّما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضرٌ لبادٍ ، لأنّه أراد أن يصيب المسلمون غرّتهم، فأمّا اليوم فلا بأس. فقال عطاء: لا يصلح اليوم. فقال مجاهد. ما أرى أبا محمّد إلَّا لو أتاه ظئر له من أهل البادية إلَّا سيبيع له.
فالجمع بين الرّوايتين عن عطاءٍ: أن يُحمل قوله هذا على كراهة
التّنزيه ، ولهذا نسب إليه مجاهد ما نسب، وأخذ بقول مجاهدٍ في ذلك أبو حنيفة.
وتمسّكوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم " الدّين النّصيحة " وزعموا أنّه ناسخٌ لحديث النّهي.
وحمل الجمهور حديث " الدّين النّصيحة " على عمومه ، إلَّا في بيع الحاضر للبادي ، فهو خاصٌّ فيقضى على العامّ، والنّسخ لا يثبت بالاحتمال.
وجمع البخاريّ بينهما: بتخصيص النّهي بمن يبيع له بالأجرة كالسّمسار، وأمّا من ينصحه فيعلمه بأنّ السّعر كذا مثلاً فلا يدخل في النّهي عنده. والله أعلم
قوله: (لا يكون له سمساراً) بمهملتين. هو في الأصل القيّم بالأمر والحافظ له، ثمّ استعمل في متولي البيع والشّراء لغيره.
وفي هذا التّفسير تعقّب على من فسّر الحاضر بالبادي ، بأنّ المراد نهي الحاضر أن يبيع للبادي في زمن الغلاء شيئاً يحتاج إليه أهل البلد. فهذا مذكور في كتب الحنفيّة.
وقال غيرهم: صورته أن يجيء البلد غريبٌ بسلعته يريد بيعها بسعر الوقت في الحال، فيأتيه بلديٌّ فيقول له: ضعه عندي لأبيعه لك على التّدريج بأغلى من هذا السّعر، فجعلوا الحكم منوطاً بالبادي ومن شاركه في معناه.
قال: وإنّما ذكر البادي في الحديث لكونه الغالب فألحق به من
يشاركه في عدم معرفة السّعر الحاضر وإضرار أهل البلد بالإشارة عليه بأن لا يبادر بالبيع، وهذا تفسير الشّافعيّة والحنابلة.
وجعل المالكيّة البداوة قيداً، وعن مالكٍ لا يلتحق بالبدويّ في ذلك إلَّا من كان يشبهه، قال: فأمّا أهل القرى الذين يعرفون أثمان السّلع والأسواق ، فليسوا داخلين في ذلك.
قال ابن المنذر: اختلفوا في هذا النّهي.
فالجمهور أنّه على التّحريم ، بشرط العلم بالنّهي ، وأن يكون المتاع المجلوب ممّا يحتاج إليه ، وأن يعرض الحضريّ ذلك على البدويّ، فلو عرضه البدويّ على الحضريّ لَم يمنع.
وزاد بعض الشّافعيّة عموم الحاجة ، وأن يظهر ببيع ذلك المتاع السّعة في تلك البلد.
قال ابن دقيق العيد: أكثر هذه الشّروط تدور بين اتّباع المعنى أو اللفظ، والذي ينبغي أن ينظر في المعنى إلى الظّهور والخفاء فحيث يظهر يخصّص النّصّ أو يعمّم، وحيث يخفى فاتّباع اللفظ أولى، فأمّا اشتراط أن يلتمس البلديّ ذلك فلا يقوى لعدم دلالة اللفظ عليه وعدم ظهور المعنى فيه، فإنّ الضّرر الذي علل به النّهي لا يفترق الحال فيه بين سؤال البلديّ وعدمه، وأمّا اشتراط أن يكون الطّعام ممّا تدعو الحاجة إليه فمتوسّط بين الظّهور وعدمه، وأمّا اشتراط ظهور السّعة فكذلك أيضاً لاحتمال أن يكون المقصود مجرّد تفويت الرّبح والرّزق على أهل البلد، وأمّا اشتراط العلم بالنّهي فلا إشكال فيه.
وقال السّبكيّ: شرط حاجة النّاس إليه معتبر، ولَم يذكر جماعةٌ عمومها وإنّما ذكره الرّافعيّ تبعاً للبغويّ. ويحتاج إلى دليل.
واختلفوا أيضاً فيما إذا وقع البيع مع وجود الشّروط المذكورة. هل يصحّ مع التّحريم أو لا يصحّ؟ على القاعدة المشهورة.
وقوله في تفسير المنع لبيع الحاضر للبادي " أن لا يكون له سمساراً " مفهومه أنّه يجوز أن يكون سمساراً في بيع الحاضر للحاضر ، ولكن شرط الجمهور أن تكون الأجرة معلومة.
وعن أبي حنيفة ، إن دفع له ألفاً على أن يشتري بها بزّاً بأجرة عشرة فهو فاسد، فإن اشترى فله أجرة المثل ولا يجوز ما سمّى من الأجرة.
وعن أبي ثور ، إذا جعل له في كلّ ألف شيئاً معلوماً لَم يجز ، لأنّ ذلك غير معلوم فإن عمل فله أجر مثله.
وحجّة من منع: أنّها إجارة في أمر لأمد غير معلوم، وحجّة من أجازه أنّه إذا عيّن له الأجرة كفى ويكون من باب الجعالة. والله أعلم.
تكميل: روى ابن أبي شيبة عن ابن سيرين وإبراهيم قالا: لا بأس بأجر السّمسار إذا اشترى يداً بيدٍ. وروى ابن أبي شيبة: سئل عطاء عن السّمسرة فقال: لا بأس بها.
وكأنّ البخاري (1) أشار إلى الرّدّ على من كرهها، وقد نقله ابن
(1) ترجم البخاري " باب أجر السمسرة " ثم ذكر عن هؤلاء جوازه ، ثم أعقبه بحديث ابن عباس حديث الباب.
المنذر عن الكوفيّين.
وروى ابن أبي شيبة من طريق عطاء، عن ابن عباس ، أنه كان لا يرى بأساً أن يعطي الرجل الرجل الثوب ، فيقول: بعه بكذا وكذا فما ازددت فلك. وهذه أجر سمسرة ، لكنّها مجهولة. ولذلك لَم يُجزها الجمهور. وقالوا: إن باع له على ذلك فله أجر مثله.
وحمل بعضهم إجازة ابن عبّاس على أنّه أجراه مجرى المُقارض، وبذلك أجاب أحمد وإسحاق.
ونقل ابن التّين: أنّ بعضهم شرط في جوازه أن يعلم النّاس ذلك الوقت أنّ ثمن السّلعة يساوي أكثر ممّا سمّى له.
وتعقّبه: بأنّ الجهل بمقدار الأجرة باقٍ.