الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
307 -
عن سعد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه قال: ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعونٍ التّبتّل، ولو أذن له لاختصينا. (1)
قال المصنف: التبتل: ترك النكاح ، ومنه قيل لمريم: البتُول.
قوله: (عن سعد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه) وهو سعد بن مالك الزهري أحد العشرة يكنى أبا إسحاق. اسم أبي وقاص مالك بن وهيب - ويقال أهيب - ابن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة. يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كلاب بن مرة، وعدد ما بينهما من الآباء متقارب.
وأمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس لم تُسلم.
مات بالعقيق سنة خمس وخمسين ، وقيل: بعد ذلك إلى ثمانية وخمسين، وعاش نحواً من ثمانين سنة. وكان آخر من مات من البدريِّين ، وروى البخاري عنه قال: جَمعَ لي النبي صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أُحد.
قوله: (عثمان بن مظعونٍ) كان عثمان من السّابقين إلى الإسلام، كنيته أبو السّائب، وكانت وفاته في ذي الحجّة سنة اثنتين (2) من
(1) أخرجه البخاري (4786) ومسلم (1402) من طرق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
(2)
هكذا جزم في كتاب النكاح باب ما يُكره من التبتل. وكذا في كتابه الإصابة.
مَّا في كتاب الرؤيا في باب العين الجارية في المنام. فقال: كانت وفاته في شعبان سنة ثلاث من الهجرة. أرخه ابن سعد وغيره.
الهجرة، وهو أوّل من دُفن بالبقيع.
قوله: (التّبتّل) المراد به هنا الانقطاع عن النّكاح وما يتّبعه من الملاذ إلى العبادة. وأمّا المأمور به في قوله تعالى (وتبتّل إليه تبتيلاً) فقد فسّره مجاهد فقال: أخلص له إخلاصاً، وهو تفسير معنىً، وإلا فأصل التّبتّل الانقطاع، والمعنى انقطع إليه انقطاعاً. لكن لَمَّا كانت حقيقة الانقطاع إلى الله إنّما تقع بإخلاص العبادة له فسّرها بذلك.
ومنه " صدقة بتلة " أي: منقطعة عن الملك، ومريم البتول لانقطاعها عن التّزويج إلى العبادة ، وقيل لفاطمة البتول ، إمّا لانقطاعها عن الأزواج غير عليّ ، أو لانقطاعها عن نظرائها في الحسن والشّرف.
قوله: (ولو أذن له لاختصينا) الخصاء هو الشّقّ على الأنثيين وانتزاعهما، وإنّما قال البخاري باب " ما يكره من التّبتّل والخصاء " للإشارة إلى أنّ الذي يكره من التّبتّل هو الذي يفضي إلى التّنطّع وتحريم ما أحل الله ، وليس التّبتّل من أصله مكروهاً، وعطف الخصاء عليه ، لأنّ بعضه يجوز في الحيوان المأكول.
ولمسلم من طريق عقيل عن ابن شهاب بلفظ " أراد عثمان بن مظعون أن يتبتّل، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم " فعرف أنّ معنى قوله " ردّ على عثمان " أي: لَم يأذن له بل نهاه. وهو نهي تحريمٍ بلا خلاف في بني آدم.
وأخرج الطّبرانيّ من حديث عثمان بن مظعون نفسه ، أنّه قال: يا
رسولَ الله. إنّي رجل يشقّ عليَّ العزوبة، فأذن لي في الخصاء. قال: لا، ولكن عليك بالصّيام " الحديث. ومن طريق سعيد بن العاص ، أنّ عثمان قال: يا رسولَ الله ائذن لي في الاختصاء، فقال: إنّ الله قد أبدلنا بالرّهبانيّة الحنيفيّة السّمحة.
وأخرج الطّبرانيّ من حديث ابن عبّاس قال: شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العزوبة فقال: ألا أختصي؟ قال: ليس منّا من خصى أو اختصى.
فيحتمل: أن يكون الذي طلبه عثمان هو الاختصاء حقيقة فعبّر عنه الرّاوي بالتّبتّل لأنّه ينشأ عنه، فلذلك قال " ولو أذن له لاختصينا ".
ويحتمل: عكسه. وهو أنّ المراد بقول سعد " ولو أذن له لاختصينا " لفعلنا فعل من يختصي. وهو الانقطاع عن النّساء.
قال الطّبريّ: التّبتّل الذي أراده عثمان بن مظعون تحريم النّساء والطّيب وكلّ ما يلتذّ به، فلهذا أنزل في حقّه (يا أيّها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحل الله لكم) وقد تقدّم في حديث أنس رضي الله عنه (1) تسمية من أراد ذلك مع عثمان بن مظعون ومن وافقه.
وقال الطّيبيّ: قوله " ولو أذن له لاختصينا " كان الظّاهر أن يقول. ولو أذن له لتبتّلنا، لكنّه عدل عن هذا الظّاهر إلى قوله " لاختصينا "
(1) انظر الحديث الماضي.
لإرادة المبالغة، أي: لبالغنا في التّبتّل حتّى يفضي بنا الأمر إلى الاختصاء، ولَم يرد به حقيقة الاختصاء لأنّه حرام.
وقيل: بل هو على ظاهره، وكان ذلك قبل النّهي عن الاختصاء. ويؤيّده توارد استئذان جماعة من الصّحابة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك كأبي هريرة وابن مسعود وغيرهما.
وإنّما كان التّعبير بالخصاء أبلغ من التّعبير بالتّبتّل لأنّ وجود الآلة يقتضي استمرار وجود الشّهوة، ووجود الشّهوة ينافي المراد من التّبتّل، فيتعيّن الخصاء طريقاً إلى تحصيل المطلوب.
وغايته أنّ فيه أَلَماً عظيماً في العاجل يغتفر في جنب ما يندفع به الآجل، فهو كقطع الإصبع إذا وقعت في اليد الأكلة صيانة لبقيّة اليد، وليس الهلاك بالخصاء محقّقاً بل هو نادر، ويشهد له كثرة وجوده في البهائم مع بقائها، وعلى هذا فلعل الرّاوي عبّر بالخصاء عن الجبّ لأنّه هو الذي يحصّل المقصود.
والحكمة في منعهم من الاختصاء إرادة تكثير النّسل ليستمرّ جهاد الكفّار، وإلا لو أذن في ذلك لأوشك تواردهم عليه فينقطع النّسل فيقلّ المسلمون بانقطاعه ويكثر الكفّار، فهو خلاف المقصود من البعثة المحمّديّة.
وفيه أيضاً من المفاسد تعذيب النّفس والتّشويه مع إدخال الضّرر الذي قد يفضي إلى الهلاك. وفيه إبطال معنى الرّجوليّة وتغيير خلق الله وكفر النّعمة، لأنّ خلق الشّخص رجلاً من النّعم العظيمة فإذا أزال
ذلك فقد تشبّه بالمرأة واختار النّقص على الكمال.
قال القرطبيّ: الخصاء في غير بني آدم ممنوع في الحيوان إلَّا لمنفعةٍ حاصلة في ذلك كتطييب اللحم أو قطع ضرر عنه.
وقال النّوويّ: يحرم خصاء الحيوان غير المأكول مطلقاً، وأمّا المأكول فيجوز في صغيره دون كبيره.
وما أظنّه يدفع ما ذكره القرطبيّ من إباحة ذلك في الحيوان الكبير عند إزالة الضّرر.