الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع
260 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: لا تلقّوا الرّكبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعضٍ، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضرٌ لبادٍ، ولا تُصرّوا الإبل والغنم، ومن ابتاعها فهو بخير النّظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردّها وصاعاً من تمرٍ. (1)
وفي لفظ: هو بالخِيَار ثلاثاً. (2)
قوله: (لا تلقّوا الرّكبان) ولمسلم " لا يتلقّى الرّكبان لبيعٍ " خرج مخرج الغالب في أنّ من يجلب الطّعام يكونون عدداً ركباناً، ولا مفهومَ له بل لو كان الجالب عدداً مشاة أو واحداً راكباً أو ماشياً لَم يختلف الحكم.
ولهما من رواية أبي حازم عن أبي هريرة " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التلقي " ، وظاهره منع التّلقّي مطلقاً سواء كان قريباً أم بعيداً، سواء
(1) أخرجه البخاري (2043) عن عبد الله بن يوسف ، ومسلم (1515) عن يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به.
وأخرجه البخاري (2041) من طريق جعفر بن ربيعة عن الأعرج. فذكر التصرية فقط.
وأخرجه البخاري (2033 ، 2044 ، 2052 ، 2054 ، 2574 ، 2577) ومسلم (1515 ، 1524) من طرق أخرى عن أبي هريرة. مختصراً ومطولاً.
(2)
أخرجه مسلم (1524) من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه أيضاً (1524) من طريق قرة عن ابن سيرين عن أبي هريرة. وذكره البخاري معلّقاً. كما سيأتي مفصّلاً في الشرح.
كان لأجل الشّراء منهم أم لا.
وقوله " لبيع " يشمل البيع لهم والبيع منهم، ويفهم منه اشتراط قصد ذلك بالتّلقّي. فلو تلقّى الرّكبان أحد للسّلام أو الفرجة ، أو خرج لحاجةٍ له فوجدهم فبايعهم ، هل يتناوله النّهي؟.
فيه احتمال، فمن نَظَرَ إلى المعنى لَم يفترق عنده الحكم بذلك ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة، وشرط بعض الشّافعيّة في النّهي أن يبتدئ المتلقّي فيطلب من الجالب البيع، فلو ابتدأ الجالب بطلب البيع فاشترى منه المتلقّي لَم يدخل في النّهي.
وذكر إمام الحرمين (1) في صورة التّلقّي المحرّم: أن يكذب في سعر البلد ويشتري منهم بأقل من ثمن المثل.
وذكر المتولي فيها ، أن يخبرهم بكثرة المؤنة عليهم في الدّخول.
وذكر أبو إسحاق الشّيرازيّ: أن يخبرهم بكساد ما معهم ليغبنهم.
وقد يؤخذ من هذه التّقييدات إثبات الخِيَار لمن وقعت له ولو لَم يكن هناك تلقٍّ، لكن صرّح الشّافعيّة: أنّ كون إخباره كذباً ليس شرطاً لثبوت الخِيَار ، وإنّما يثبت له الخِيَار إذا ظهر الغبن ، فهو المعتبر وجوداً وعدماً.
وجزم البخاري. بأنّ البيع مردود بناءً على أنّ النّهي يقتضي الفساد، لكن محل ذلك عند المحقّقين فيما يرجع إلى ذات المنهيّ عنه. لا ما إذا
(1) هو عبدالملك الجويني ، سبق ترجمته (1/ 283)
كان يرجع إلى أمرٍ خارجٍ عنه. فيصحّ البيع ويثبت الخِيَار بشرطه الآتي ذكره.
وأمّا كون صاحبه عاصياً آثماً والاستدلال عليه بكونه خداعاً فصحيح، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون البيع مردوداً ، لأنّ النّهي لا يرجع إلى نفس العقد ولا يخل بشيءٍ من أركانه وشرائطه ، وإنّما هو لدفع الإضرار بالرّكبان
والقول ببطلان البيع صار إليه بعض المالكيّة وبعض الحنابلة، ويمكن أن يحمل قول البخاريّ ، أنّ البيع مردود على ما إذا اختار البائع ردّه فلا يخالف الرّاجح.
وقد تعقّبه الإسماعيليّ ، وألزمه التّناقض ببيع المصرّاة ، فإنّ فيه خداعاً ومع ذلك لَم يبطل البيع، وبكونه فصل في بيع الحاضر للبادي بين أن يبيع له بأجرٍ أو بغير أجر، واستدل عليه أيضاً بحديث حكيم بن حزام الماضي في بيع الخِيَار ففيه " فإن كذّبا وكتما محقت بركة بيعهما ".
قال: فلم يبطل بيعهما بالكذب والكتمان للعيب، وقد ورد بإسنادٍ صحيحٍ " أنّ صاحب السّلعة إذا باعها لمن تلقّاه يصير بالخِيَار إذا دخل السّوق " ثمّ ساقه من حديث أبي هريرة.
قال ابن المنذر: أجاز أبو حنيفة التّلقّي. وكرهه الجمهور.
قلت: الذي في كتب الحنفيّة يكره التّلقّي في حالتين:
الحالة الأولى: أن يضرّ بأهل البلد.
الثانية: أن يلتبس السّعر على الواردين.
ثمّ اختلفوا:
فقال الشّافعيّ: مَن تلقّاه فقد أساء وصاحب السّلعة بالخِيَار، وحجّته حديث أيّوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة " أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن تلقّي الجلب، فإن تلقّاه فاشتراه فصاحبه بالخِيَار إذا أتى السّوق ".
قلت: وهو حديثٌ أخرجه أبو داود والتّرمذيّ وصحَّحه ابن خزيمة من طريق أيّوب، وأخرجه مسلم من طريق هشام عن ابن سيرين بلفظ " لا تلقّوا الجلب، فمن تلقّاه فاشترى منه فإذا أتى سيّده السّوق فهو بالخِيَار " وقوله " فهو بالخِيَار " أي: إذا قدم السّوق وعلم السّعر.
وهل يثبت له مطلقاً أو بشرط أن يقع له في البيع غبنٌ؟ وجهان.
أصحّهما الأوّل. وبه قال الحنابلة، وظاهره أيضاً أنّ النّهي لأجل منفعة البائع وإزالة الضّرر عنه وصيانته ممّن يخدعه.
قال ابن المنذر: وحمله مالك على نفع أهل السّوق لا على نفع ربّ السّلعة، وإلى ذلك جنح الكوفيّون والأوزاعيّ قال: والحديث حجّة للشّافعيّ لأنّه أثبت الخِيَار للبائع لا لأهل السّوق. انتهى.
واحتجّ مالك بحديث ابن عمر في البخاري " ولا تلقّوا السّلع حتّى يهبط بها إلى السّوق "
تكميل: أخرج البخاري عن ابن عمر قال: كنّا نتلقّى الرّكبان
فنشترى منهم الطّعام، فنهانا النّبىّ صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتّى يبلغ به سوق الطّعام.
قال البخاري: هذا في أعلى السّوق، يبيّنه حديث عبيد الله.
أراد البخاريّ بذلك. الرّدّ على من استدل به على جواز تلقّي الرّكبان ، لإطلاق قول ابن عمر " كنّا نتلقّى الرّكبان " ولا دلالة فيه، لأنّ معناه أنّهم كانوا يتلقّونهم في أعلى السّوق. كما في رواية عبيد الله بن عمر عن نافع في البخاري بلفظ: كانوا يبتاعون الطّعام في أعلى السّوق فيبيعونه في مكانهم، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه في مكانه حتّى ينقلوه.
وقد صرّح مالك في روايته عن نافعٍ في البخاري بقوله " ولا تلقّوا السّلع حتّى يهبط بها السّوق " فدلَّ على أنّ التّلقّي الذي لَم ينه عنه إنّما هو ما بلغ السّوق، والحديث يفسّر بعضه بعضاً.
وادّعى الطّحاويّ التّعارض في هاتين الرّوايتين ، وجمع بينهما بوقوع الضّرر لأصحاب السّلع وعدمه، قال: فيحمل حديث النّهي على ما إذا حصل الضّرر، وحديث الإباحة على ما إذا لَم يحصل.
ولا يخفى رجحان الجمع الذي جمع به البخاريّ. والله أعلم.
قوله: (ولا يبع بعضكم على بيع بعضٍ) في رواية ابن المسيب عن أبي هريرة في الصحيحين " ولا يبع المرء على بيع أخيه " ، ولمسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافعٍ عن ابن عمر " لا يبع الرّجل على بيع
أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه (1)، إلَّا أن يأذن له ".
وقوله: " إلَّا أن يأذن له ".
يحتمل: أن يكون استثناء من الحكمين كما هو قاعدة الشّافعيّ.
ويحتمل: أن يختصّ بالأخير.
ويؤيّد الثّاني: رواية البخاري من طريق ابن جريج عن نافعٍ عن ابن عمر بلفظ " نهى أن يبيع الرّجل على بيع أخيه، ولا يخطب الرّجل على خطبة أخيه، حتّى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب ".
ومن ثَمَّ نشأ خلاف للشّافعيّة: هل يختصّ ذلك بالنّكاح ، أو يلتحق به البيع في ذلك؟ والصّحيح عدم الفرق.
وقد أخرجه النّسائيّ من وجهٍ آخر عن عبيد الله بن عمر بلفظ " لا يبيع الرّجل على بيع أخيه حتّى يبتاع أو يذر " وللبخاري من حديث أبي هريرة بلفظ " وأن يستام الرّجل على سوم أخيه " وأخرجه مسلم في حديث نافعٍ عن ابن عمر أيضاً.
وذِكْر " المسلم " لكونه أقرب إلى امتثال الأمر من غيره، وفي ذِكْره إيذان بأنّه لا يليق به أن يستأثر على مسلمٍ مثله.
وظاهر التّقييد بأخيه أن يختصّ ذلك بالمسلم. وبه قال الأوزاعيّ وأبو عبيد بن حربويه من الشّافعيّة.
(1) سيأتي إن شاء الله الكلامُ مستوفى عن الخطبة في حديث أبي هريرة " في النهي عن خطبة الرجل على خطبة أخيه " برقم (277). في باب الشروط في البيع.
وأصرح من ذلك رواية مسلمٍ من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ " لا يسوم المسلم على سوم المسلم "
وقال الجمهور: لا فرق في ذلك بين المسلم والذّمّيّ: وذِكْرُ الأخِ خرج للغالب فلا مفهوم له.
قال العلماء: البيع على البيع حرام، وكذلك الشّراء على الشّراء، وهو أن يقول لمن اشترى سلعةً في زمن الخِيَار: افسخ لأبيعك بأنقص، أو يقول للبائع افسخ لأشتري منك بأزيد، وهو مجمعٌ عليه.
وأمّا السّوم: فصورته أن يأخذ شيئاً ليشتريه فيقول له: ردّه لأبيعك خيراً منه بثمنه أو مثله بأرخص، أو يقول للمالك: استردّه لأشتريه منك بأكثر.
ومحلّه بعد استقرار الثّمن وركون أحدهما إلى الآخر. فإن كان ذلك صريحاً. فلا خلاف في التّحريم. وإن كان ظاهراً. ففيه وجهان للشّافعيّة.
ونقل ابن حزم اشتراط الرّكون عن مالكٍ ، وقال: إنّ لفظ الحديث لا يدل عليه.
وتعقّب: بأنّه لا بدّ من أمرٍ مبيّنٍ لموضع التّحريم في السّوم، لأنّ السّوم في السّلعة التي تباع فيمن يزيد لا يحرم اتّفاقاً كما نقله ابن عبد البرّ. فتعيّن أنّ السّوم المحرّم ما وقع فيه قدرٌ زائدٌ على ذلك.
وقد استثنى بعض الشّافعيّة من تحريم البيع والسّوم على الآخر. ما إذا لَم يكن المشتري مغبوناً غبناً فاحشاً، وبه قال ابن حزمٍ. واحتجّ
بحديث " الدّين النّصيحة " ، لكن لَم تنحصر النّصيحة في البيع والسّوم فله أن يعرّفه أنّ قيمتها كذا وأنّك إن بعتها بكذا مغبون من غير أن يزيد فيها، فيجمع بذلك بين المصلحتين.
وذهب الجمهور: إلى صحّة البيع المذكور مع تأثيم فاعله.
وعند المالكيّة والحنابلة في فساده روايتان، وبه جزم أهل الظّاهر. والله أعلم.
قوله: (ولا تناجشوا) ذكره بصيغة التّفاعل ، لأنّ التّاجر إذا فعل لصاحبه ذلك كان بصدد أن يفعل له مثله.
والنجش: بفتح النّون والمشهور أنّه بفتح الجيم. وحكى المطرّزيّ فيه السّكون. وهو في اللغة تنفير الصّيد واستثارته من مكانه ليصاد، يقال نجشت الصّيد أنجشه بالضّمّ نجشاً.
وفي الشّرع ، الزّيادة في ثمن السّلعة ممّن لا يريد شراءها ليقع غيره فيها، سمّي بذلك ، لأنّ النّاجش يثير الرّغبة في السّلعة ، ويقع ذلك بمواطأة البائع فيشتركان في الإثم، ويقع ذلك بغير علم البائع فيختصّ بذلك النّاجش.
وقد يختصّ به البائع كمن يخبر بأنّه اشترى سلعة بأكثر ممّا اشتراها به ليغرّ غيره بذلك كما سيأتي من كلام الصّحابيّ.
وقال ابن قتيبة: النّجش الختل والخديعة، ومنه قيل للصّائد ناجش ، لأنّه يختل الصّيد ، ويحتال له.
وأخرج عبد الرّزّاق من طريق عمر بن عبد العزيز ، أنّ عاملاً له
باع سبياً ، فقال له: لولا أنّي كنت أزيد فأنفقه لكان كاسداً، فقال له عمر: هذا نجش لا يحل، فبعث منادياً ينادي: إنّ البيع مردود ، وإنّ البيع لا يحل.
وأخرج البخاري عن إبراهيم السكسكي عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: أقام رجل سلعته فحلف بالله لقد أعطى فيها ما لَم يعط فنزلت (إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً) قال ابن أبي أوفى: النّاجش آكل رباً خائنٌ. أورده من طريق يزيد بن هارون عن السّكسكيّ.
وقد أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور عن يزيد ، مقتصرين على الموقوف ، وأخرجه الطّبرانيّ من وجهٍ آخر عن ابن أبي أوفى مرفوعاً ، لكن قال " ملعون " بدل خائن.
وأطلق ابن أبي أوفى على مَن أخبر بأكثر ممّا اشترى به أنّه ناجشٌ لمشاركته لمن يزيد في السّلعة وهو لا يريد أن يشتريها في غرور الغير ، فاشتركا في الحكم لذلك ، وكونه آكل رباً بهذا التّفسير.
وكذلك يصحّ على التّفسير الأوّل ، إن واطأه البائع على ذلك وجعل له عليه جعلاً ، فيشتركان جميعاً في الخيانة.
وقد اتّفق أكثر العلماء على تفسير النّجش في الشّرع بما تقدّم.
وقيّد ابن عبد البرّ وابن العربيّ وابن حزم التّحريم بأن تكون الزّيادة المذكورة فوق ثمن المثل.
قال ابن العربيّ: فلو أنّ رجلاً رأى سلعة رجلٍ تباع بدون قيمتها
فزاد فيها لتنتهي إلى قيمتها لَم يكن ناجشاً عاصياً ، بل يؤجر على ذلك بنيّته، وقد وافقه على ذلك بعض المتأخّرين من الشّافعيّة.
وفيه نظرٌ. إذ لَم تتعيّن النّصيحة في أن يوهم أنّه يريد الشّراء وليس من غرضه ، بل غرضه أن يزيد على من يريد الشّراء أكثر ممّا يريد أن يشتري به، فللذي يريد النّصيحة مندوحة عن ذلك أن يعلم البائع بأنّ قيمة سلعتك أكثر من ذلك ثمّ هو باختياره بعد ذلك.
ويحتمل: أن لا يتعيّن عليه إعلامه بذلك حتّى يسأله للحديث الآتي " دعوا النّاس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه " والله أعلم.
قال ابن بطّال: أجمع العلماء على أنّ النّاجش عاصٍ بفعله، واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك.
ونقل ابن المنذر عن طائفةٍ من أهل الحديث فساد ذلك البيع، وهو قول أهل الظّاهر ورواية عن مالك، وهو المشهور عند الحنابلة إذا كان ذلك بمواطأة البائع أو صنعه.
والمشهور عند المالكيّة في مثل ذلك ثبوت الخِيَار. وهو وجهٌ للشّافعيّة قياساً على المصرّاة، والأصحّ عندهم صحّة البيع مع الإثم، وهو قول الحنفيّة
وقال الرّافعيّ: أطلق الشّافعيّ في " المختصر " تعصية النّاجش، وشرط في تعصية من باع على بيع أخيه أن يكون عالماً بالنّهي.
وأجاب الشّارحون: بأنّ النّجش خديعة ، وتحريم الخديعة واضح
لكل أحدٍ وإن لَم يعلم هذا الحديث بخصوصه، بخلاف البيع على بيع أخيه فقد لا يشترك فيه كلّ أحد.
واستشكل الرّافعيّ الفرق بأنّ البيع على بيع أخيه إضرار ، والإضرار يشترك في علم تحريمه كلّ أحد، قال: فالوجه تخصيص المعصية في الموضعين بمن علم التّحريم. انتهى.
وقد حكى البيهقيّ في " المعرفة " و " السّنن " عن الشّافعيّ تخصيص التّعصية في النّجش أيضاً بمن علم النّهي. فظهر أنّ ما قاله الرّافعيّ بحثاً منصوصٌ، ولفظ الشّافعيّ: النّجش أن يحضر الرّجل السّلعة تباع فيعطي بها الشّيء وهو لا يريد شراءها ليقتدي به السّوّام فيعطون بها أكثر ممّا كانوا يعطون لو لَم يسمعوا سومه، فمن نَجَشَ فهو عاصٍ بالنّجش إن كان عالماً بالنّهي، والبيع جائز لا يفسده معصية رجل نجش عليه.
قوله: (ولا يبع حاضرٌ لبادٍ) وللبخاري من رواية أبي حازم عن أبي هريرة " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التّلقّى، وأن يبتاع المهاجر للأعرابىّ " المراد بالمهاجر الحضريّ، وأطلق عليه ذلك على عرف ذلك الزّمان.
والمعنى أنّ الأعرابيّ إذا جاء السّوق ليبتاع شيئاً لا يتوكّل له الحاضر ، لئلا يحرم أهل السّوق نفعاً ورفقاً، وإنّما له أن ينصحه ويشير عليه.
ويحتمل: أن يكون المراد بقوله " أن يبتاع " أن يبيع فيوافق الرواية
الماضية (1).
قوله: (ولا تُصرّوا الإبل) بضمّ أوّله وفتح ثانيه بوزن تزكّوا. يقال: صرّى يصرّي تصرية كزكّى يزكّي تزكية.
والإبل بالنّصب على المفعوليّة، وقيّده بعضهم بفتح أوّله وضمّ ثانيه.
والأوّل أصحّ. لأنّه من صريت اللبن في الضّرع إذا جمعته ، وليس من صررت الشّيء إذا ربطته، إذ لو كان منه لقيل مصرورة أو مصرّرة ولَم يقل مصرّاة، على أنّه قد سُمع الأمران في كلام العرب.
قال الأغلب:
رأت غلاماً قد صرى في فقرته
…
ماء الشّباب عنفوان سيرته
وقال مالك بن نويرة:
فقلتُ لقومي هذه صدقاتكم
…
مصرّرة أخلافها لَم تحرّر
وضبطه بعضهم: بضمّ أوّله وفتح ثانيه لكن بغير واوٍ على البناء للمجهول ، والمشهور الأوّل.
قال البخاري: المصرّاة التي صُري لبنها وحقن فيه وجمع فلم يحلب ، وأصل التّصرية حبس الماء يقال: منه صريت الماء إذا حبسته " وهذا التّفسير قول أبي عبيد وأكثر أهل اللغة.
(1) أي: رواية الباب بلفظ البيع ". وسيأتي إن شاء الله الكلام على مسألة بيع الحاضر للباد مستوفى في شرح حديث ابن عباس بعد حديثين رقم (263).
وقال الشّافعيّ: هو ربط أخلاف النّاقة أو الشّاة وترك حلبها حتّى يجتمع لبنها فيكثر ، فيظنّ المشتري أنّ ذلك عادتها ، فيزيد في ثمنها لِما يرى من كثرة لبنها.
قوله: (الإبل والغنم) لَم يذكر البقر، إلَّا أنّها في معنى الإبل والغنم في الحكم خلافاً لداود، وإنّما اقتصر عليهما لغلبتهما عندهم.
وظاهر النّهي تحريم التّصرية سواء قصد التّدليس أم لا.
وللشيخين من طريق أبي حازم عن أبي هريرة " نهى عن التّصرية " وبهذا جزم بعض الشّافعيّة. وعلَّله بما فيه من إيذاء الحيوان.
لكن أخرج النّسائيّ حديث الباب من طريق سفيان عن أبي الزّناد عن الأعرج بلفظ " لا تصرّوا الإبل والغنم للبيع "، وله من طريق أبي كثير السّحيميّ عن أبي هريرة: إذا باع أحدكم الشّاة أو اللقحة فلا يحفّلها.
وهذا هو الرّاجح. وعليه يدل تعليل الأكثر بالتّدليس، ويجاب عن التّعليل بالإيذاء بأنّه ضرر يسير لا يستمرّ فيغتفر لتحصيل المنفعة.
قوله: (فمن ابتاعها) أي: من اشتراها بعد التّحفيل.
زاد عبيد الله بن عمر (1) عن أبي الزّناد " فهو بالخِيَار ثلاثة أيّام " أخرجه الطّحاويّ. وسيأتي ذكر من وافقه على ذلك.
(1) حديث الباب أخرجه الشيخان من طريق مالك عن أبي الزناد به. وله طرق أخرى سيأتي ذكرها في كلام الشارح.
وابتداء هذه المدّة من وقت بيان التّصرية وهو قول الحنابلة.
وعند الشّافعيّة أنّها من حين العقد.
وقيل: من التّفرّق، ويلزم عليه أن يكون الغرر أوسع من الثّلاث في بعض الصّور ، وهو ما إذا تأخّر ظهور التّصرية إلى آخر الثّلاث، ويلزم عليه أيضاً أن تحسب المدّة قبل التّمكّن من الفسخ. وذلك يفوّت مقصود التّوسّع بالمدّة.
قوله: (فهو بخير النّظرين) أي: الرّأيين.
قوله: (بعد أن يَحلبها) وللبخاري من رواية الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج " بخير النظرين بعد إن يحتلبها " كذا في الأصل. وهو بكسر إن على أنّها شرطيّة وجزْم يحتلبها.
ولابن خزيمة والإسماعيليّ من طريق أسيد بن موسى عن الليث " بعد أن يحتلبها " بفتح أن ونصب يحتلبها.
وظاهر الحديث. أنّ الخِيَار لا يثبت إلَّا بعد الحلب، والجمهور على أنّه إذا علم بالتّصرية ثبت له الخِيَار ولو لَم يحلب، لكن لَمَّا كانت التّصرية لا تعرف غالباً إلَّا بعد الحلب ذكر قيداً في ثبوت الخِيَار، فلو ظهرت التّصرية بغير الحلب فالخِيَار ثابت.
قوله: (إن رضيها أمسكها) في رواية جعفر بن ربيعة " إن شاء أمسك " أي: أبقاها على ملكه وهو يقتضي صحّة بيع المصرّاة وإثبات الخِيَار للمشتري.
فلو اطّلع على عيبٍ بعد الرّضا بالتّصرية فردّها هل يلزم الصّاع؟
فيه خلاف.
والأصحّ عند الشّافعيّة وجوب الرّدّ، ونقلوا نصّ الشّافعيّ على أنّه لا يردّ، وعند المالكيّة قولان.
قوله: (وإن سخطها ردّها) في رواية جعفر بن ربيعة " وإن شاء ردّها " وظاهره اشتراط الفور وقياساً على سائر العيوب، لكنّ الرّواية التي فيها أنّ له الخِيَار ثلاثة أيّامٍ مقدّمةٌ على هذا الإطلاق، ونقل أبو حامد والرّويانيّ فيه نصّ الشّافعيّ. وهو قول الأكثر.
وأجاب من صحّح الأوّل: بأنّ هذه الرّواية محمولةٌ على ما إذا لَم يعلم أنّها مصرّاة إلَّا في الثّلاث لكون الغالب أنّها لا تعلم فيما دون ذلك.
قال ابن دقيق العيد (1): والثّاني أرجح ، لأنّ حكم التّصرية قد خالف القياس في أصل الحكم لأجل النّصّ فيطرد ذلك ، ويتّبع في جميع موارده.
قلت: ويؤيّده أنّ في بعض روايات أحمد والطّحاويّ من طريق ابن سيرين عن أبي هريرة " فهو بأحد النّظرين: بالخِيَار إلى أن يحوزها أو يردّها " وسيأتي.
قوله: (وصاعاً من تمر) في رواية جعفر بن ربيعة " وصاع تمر " والواو عاطفة للصّاع على الضّمير في ردّها، ويجوز أن تكون الواو
(1) هو محمد بن علي ، سبق ترجمته (1/ 12)
بمعنى مع ، ويستفاد منه فوريّة الصّاع مع الرّدّ.
ويجوز أن يكون مفعولاً معه، ويعكّر عليه قول جمهور النّحاة: إنّ شرط المفعول معه أن يكون فاعلاً.
فإن قيل: التّعبير بالرّدّ في المصرّاة واضح. فما معنى التّعبير بالرّدّ في الصّاع؟.
فالجواب: أنّه مثل قول الشّاعر: علفتها تبناً وماءً بارداً.
أي: علفتها تبناً وسقيتها ماءً بارداً، ويجعل علفتها مجازاً عن فعلٍ شاملٍ للأمرين. أي: ناولتها، فيحمل الرّدّ في الحديث على نحو هذا التّأويل.
واستدل به على وجوب ردّ الصّاع مع الشّاة إذا اختار فسخ البيع، فلو كان اللبن باقياً ولَم يتغيّر فأراد ردّه. هل يلزم البائع قبوله؟.
فيه وجهان. أصحّهما لا، لذهاب طراوته ولاختلاطه بما تجدّد عند المبتاع، والتّنصيص على التّمر يقتضي تعيينه كما سيأتي.
قال البخاري: ويُذكر عن أبى صالحٍ ومجاهدٍ والوليد بن رباحٍ وموسى بن يسارٍ عن أبى هريرة عن النّبىّ صلى الله عليه وسلم صاع تمرٍ.
وقال بعضهم عن ابن سيرين: صاعاً من طعامٍ وهو بالخِيَار ثلاثاً.
وقال بعضهم عن ابن سيرين: صاعاً من تمرٍ. ولَم يذكر ثلاثاً، والتّمر أكثر. انتهى
يعني: أنّ أبا صالح ومن بعده وقع في رواياتهم تعيين التّمر.
فأمّا رواية أبي صالح ، فوصلها أحمد ومسلم من طريق سهيل بن
أبي صالح عن أبيه بلفظ " من ابتاع شاةً مصرّاةً فهو فيها بالخِيَار ثلاثة أيّامٍ. فإن شاء أمسكها وإن شاء ردّها وردّ معها صاعاً من تمر "
وأمّا رواية مجاهدٍ. فوصلها البزّار، قال مغلطاي: لَم أرها إلَّا عنده.
قلت: قد وصلها أيضاً الطّبرانيّ في " الأوسط " من طريق محمّد بن مسلم الطّائفيّ عن ابن أبي نجيح، والدّارقطنيّ من طريق ليث بن أبي سليم كلاهما عن مجاهد، وأوّل رواية ليث " لا تبيعوا المصرّاة من الإبل والغنم " الحديث.
وليث ضعيف ، وفي محمّد بن مسلم أيضاً لينٌ
وأمّا رواية الوليد بن رباح - وهو بفتح الرّاء وبالموحّدة - فوصلها أحمد بن منيع في " مسنده " بلفظ " من اشترى مصرّاة فليردّ معها صاعاً من تمرٍ ".
وأمّا رواية موسى بن يسار - وهو بالتّحتانيّة والمهملة - فوصلها مسلم بلفظ " من اشترى شاةً مصرّاةً فلينقلب بها فليحلبها فإن رضي بها أمسكها ، وإلا ردّها ومعها صاعٌ من تمر " وسياقه يقتضي الفوريّة.
وقول البخاري: وقال بعضهم عن ابن سيرين: صاعاً من طعامٍ وهو بالخِيَار ثلاثاً ، وقال بعضهم عن ابن سيرين: صاعاً من تمر " ولَم يذكر ثلاثاً "
أمّا رواية من رواه بلفظ الطّعام والثّلاث.
فوصلها مسلم والتّرمذيّ من طريق قرّة بن خالد عنه بلفظ " من اشترى مصرّاة فهو بالخِيَار ثلاثة أيّامٍ. فإنْ ردّها ردّ معها صاعاً من
طعامٍ لا سمراء " وأخرجه أبو داود من طريق حمّاد بن سلمة عن هشام وحبيب وأيّوب عن ابن سيرين نحوه.
وأمّا رواية من رواه بلفظ التّمر دون ذكر الثّلاث.
فوصلها أحمد من طريق معمر عن أيّوب عن ابن سيرين بلفظ " من اشترى شاةً مصرّاةً فإنّه يحلبها فإن رضيها أخذها وإلا ردّها وردّ معها صاعاً من تمر " وقد رواه سفيان عن أيّوب فذكر الثّلاث ، أخرجه مسلم من طريقه بلفظ: من اشترى شاةً مصرّاةً فهو بخير النّظرين ثلاثة أيّامٍ. إن شاء أمسكها وإن شاء ردّها وصاعاً من تمرٍ لا سمراء.
ورواه بعضهم عن ابن سيرين بذكر الطّعام ، ولَم يقل ثلاثاً.
أخرجه أحمد والطّحاويّ من طريق عون عن ابن سيرين وخلاس بن عمرو كلاهما عن أبي هريرة بلفظ " من اشترى لقحة مصرّاة أو شاة مصرّاة فحلبها. فهو بأحد النّظرين بالخِيَار إلى أن يحوزها أو يردّها وإناءً من طعام ".
فحصلنا عن ابن سيرين على أربع روايات:
ذِكْر التّمر والثّلاث، وذِكْر التّمر بدون الثّلاث، والطّعام بدل التّمر كذلك.
والذي يظهر في الجمع بينها ، أنّ من زاد الثّلاث معه زيادة علم وهو حافظ، ويُحمل الأمر فيمن لَم يذكرها على أنّه لَم يحفظها أو اختصرها ، وتُحمل الرّواية التي فيها الطّعام على التّمر.
وقد روى الطّحاويّ من طريق أيّوب عن ابن سيرين ، أنّ المراد بالسّمراء الحنطة الشّأُميَّة. وروى ابن أبي شيبة وأبو عوانة من طريق هشام بن حسّان عن ابن سيرين " لا سمراء " يعني الحنطة.
وروى ابن المنذر من طريق ابن عونٍ عن ابن سيرين ، أنّه سمع أبا هريرة يقول: لا سمراء، تمر ليس ببرٍّ.
فهذه الرّوايات تبيّن أنّ المراد بالطّعام التّمر، ولَمّا كان المتبادر إلى الذّهن أنّ المراد بالطّعام القمح نفاه بقوله " لا سمراء ".
لكن يعكّر على هذا الجمع ما رواه البزّار من طريق أشعث بن عبد الملك عن ابن سيرين بلفظ " إن ردّها ردّها ومعها صاعٌ من برٍّ، لا سمراء ".
وهذا يقتضى أنّ المنفيّ في قوله " لا سمراء " حنطة مخصوصة وهي الحنطة الشّأُميَّة. فيكون المثبت لقوله " من طعام " أي: من قمح.
ويحتمل: أن يكون راويه رواه بالمعنى الذي ظنّه مساوياً، وذلك أنّ المتبادر من الطّعام البرّ. فظنّ الرّاوي أنّه البُرّ فعبّر به، وإنّما أطلق لفظ الطّعام على التّمر ، لأنّه كان غالب قوت أهل المدينة.
فهذا طريق الجمع بين مختلف الرّوايات عن ابن سيرين في ذلك.
لكن يعكّر على هذا ما رواه أحمد بإسنادٍ صحيحٍ عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن رجلٍ من الصّحابة نحو حديث الباب. وفيه " فإن ردّها ردّ معها صاعاً من طعامٍ أو صاعاً من تمر " فإنّ ظاهره يقتضي التّخيير بين التّمر والطّعام ، وأنّ الطّعام غير التّمر.
ويحتمل: أن تكون " أو " شكّاً من الرّاوي لا تخييراً.
وإذا وقع الاحتمال في هذه الرّوايات لَم يصحّ الاستدلال بشيءٍ منها فيرجع إلى الرّوايات التي لَم يختلف فيها - وهي التّمر - فهي الرّاجحة ، كما أشار إليه البخاريّ.
وأمّا ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر بلفظ " إن ردّها ردّ معها مثل أو مثلي لبنها قمحاً " ففي إسناده ضعف.
وقد قال ابن قدامة: إنّه متروك الظّاهر بالاتّفاق.
وقول البخاري " والتّمر أكثر " أي: أنّ الرّوايات النّاصّة على التّمر أكثر عدداً من الرّوايات التي لَم تنصّ عليه أو أبدلته بذكر الطّعام.
فقد رواه بذكر التّمر - غير من تقدّم ذكره - ثابت بن عياض كما عند البخاري ، وهمّام بن منبّه عند مسلم ، وعكرمة وأبو إسحاق عند الطّحاويّ ، ومحمّد بن زياد عند التّرمذيّ ، والشّعبيّ عند أحمد وابن خزيمة كلّهم عن أبي هريرة.
وأمّا رواية من رواه بذكر الإناء ، فيفسّرها رواية من رواه بذكر الصّاع.
وقد أخذ بظاهر هذا الحديث جمهور أهل العلم. وأفتى به ابن مسعود وأبو هريرة ولا مخالف لهم من الصّحابة، وقال به من التّابعين ومن بعدهم من لا يحصى عدده ، ولَم يفرّقوا بين أن يكون اللبن الذي احتلب قليلاً أو كثيراً، ولا بين أن يكون التّمر قوت تلك البلد أم لا.
وخالف في أصل المسألة أكثر الحنفيّة. وفي فروعها آخرون.
أمّا الحنفيّة فقالوا: لا يردّ بعيب التّصرية ولا يجب ردّ صاع من التّمر، وخالفهم زفر ، فقال بقول الجمهور إلَّا أنّه قال: يتخيّر بين صاع تمرٍ أو نصف صاع برٍّ، وكذا قال ابن أبي ليلى وأبو يوسف في روايةٍ إلَّا أنّهما قالا: لا يتعيّن صاع التّمر بل قيمته، وفي روايةٍ عن مالك وبعض الشّافعيّة كذلك ، لكن قالوا: يتعيّن قوت البلد قياساً على زكاة الفطر.
وحكى البغويّ: أن لا خلاف في المذهب أنّهما لو تراضيا بغير التّمر من قوتٍ أو غيره كفى، وأثبت ابن كجّ الخلاف في ذلك.
وحكى الماورديّ وجهين فيما إذا عجَزَ عن التّمر. هل تلزمه قيمته ببلده أو بأقرب البلاد التي فيها التّمر إليه؟ وبالثّاني. قال الحنابلة
واعتذر الحنفيّة عن الأخذ بحديث المصرّاة بأعذارٍ شتّى:
الاعتذار الأول: منهم: من طعن في الحديث لكونه من رواية أبي هريرة. ولَم يكن كابن مسعود وغيره من فقهاء الصّحابة فلا يؤخذ بما رواه مخالفاً للقياس الجليّ.
وهو كلامٌ آذى قائله به نفسه، وفي حكايته غنىً عن تكلّف الرّدّ عليه.
وقد ترك أبو حنيفة القياس الجليّ لرواية أبي هريرة وأمثاله كما في الوضوء بنبيذ التّمر ومن القهقهة في الصّلاة وغير ذلك.
وأظنّ أنّ لهذه النّكتة أورد البخاريّ حديث ابن مسعود (1) عقب حديث أبي هريرة إشارة منه إلى أنّ ابن مسعود قد أفتى بوفق حديث أبي هريرة ، فلولا أنّ خبر أبي هريرة في ذلك ثابت لَمَا خالف ابن مسعود القياس الجليّ في ذلك.
وقال ابن السّمعانيّ في " الاصطلام ": التّعرّض إلى جانب الصّحابة علامة على خذلان فاعله ، بل هو بدعة وضلالة، وقد اختصّ أبو هريرة بمزيد الحفظ لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له كما عند البخاري وفيه قوله: إنّ إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصّفق بالأسواق ، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشهد إذا غابوا ، وأحفظ إذا نسوا. الحديث.
ثمّ مع ذلك لَم ينفرد أبو هريرة برواية هذا الأصل.
فقد أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر، وأخرجه الطّبرانيّ من وجه آخر عنه، وأبو يعلى من حديث أنس، وأخرجه البيهقيّ في الخلافيّات من حديث عمرو بن عوف المزنيّ، وأخرجه أحمد من رواية رجلٍ من الصّحابة لَم يسمّ.
(1) ولفظه عند البخاري (2149) عن ابن مسعود قال: من اشترى شاة محفلةً، فردّها. فليردّ معها صاعاً. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أنْ تُلقى البيوع.
قال الحافظ في الفتح (4/ 456): التحفيل بالمهملة والفاء التجميع، قال أبو عبيد: سميت بذلك لأنَّ اللبن يكثر في ضرعها، وكل شيء كثرته فقد حفّلته ، تقول: ضرع حافل. أي: عظيم. واحتفل القوم إذا كثر جمعهم. ومنه سمي المحفل.
وقال ابن عبد البرّ: هذا الحديث مُجمعٌ على صحّته وثبوته من جهة النّقل ، واعتلَّ من لَم يأخذ به بأشياء لا حقيقة لها.
الاعتذار الثاني: منهم مَن قال: هو حديث مضطرب. لذكر التّمر فيه تارة والقمح أخرى واللبن أخرى، واعتباره بالصّاع تارة، وبالمثل أو المثلين تارةً وبالإناء أخرى.
والجواب: أنّ الطّرق الصّحيحة لا اختلاف فيها كما تقدّم، والضّعيف لا يُعل به الصّحيح.
الاعتذار الثالث: منهم مَن قال: هو معارضٌ لعموم القرآن كقوله تعالى (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به).
وأجيب: بأنّه من ضمان المتلفات لا العقوبات، والمتلفات تضمن بالمثل وبغير المثل.
الاعتذار الرابع: منهم مَن قال: هو منسوخ.
وتعقّب: بأنّ النّسخ لا يثبت بالاحتمال، ولا دلالة على النّسخ مع مدّعيه ، لأنّهم اختلفوا في النّاسخ.
فقيل ناسخه: حديث النّهي عن بيع الدّين بالدّين، وهو حديثٌ أخرجه ابن ماجه وغيره من حديث ابن عمر.
ووجه الدّلالة منه أنّ لبن المصرّاة يصير ديناً في ذمّة المشتري، فإذا ألزم بصاعٍ من تمر نسيئة صار ديناً بدينٍ، وهذا جواب الطّحاويّ.
وتعقّب: بأنّ الحديث ضعيف باتّفاق المحدّثين، وعلى التّنزّل فالتّمر إنّما شرع في مقابل الحلب سواء كان اللبن موجوداً أو غير
موجودٍ فلم يتعيّن في كونه من الدّين بالدّين.
وقيل ناسخه: حديث " الخراج بالضّمان " وهو حديثٌ أخرجه أصحاب السّنن عن عائشة.
ووجه الدّلالة منه أنّ اللبن فضلة من فضلات الشّاة ولو هلكت لكان من ضمان المشتري فكذلك فضلاتها تكون له. فكيف يغرم بدلها للبائع؟ حكاه الطّحاويّ أيضاً.
وتعقّب: بأنّ حديث المصرّاة أصحّ منه باتّفاقٍ. فكيف يقدّم المرجوح على الرّاجح؟ ودعوى كونه بعده لا دليل عليها، وعلى التّنزال فالمشتري لَم يؤمر بغرامة ما حدث في ملكه ، بل بغرامة اللبن الذي ورد عليه العقد. ولَم يدخل في العقد فليس بين الحديثين على هذا تعارضٌ.
وقيل ناسخه: الأحاديث الواردة في رفع العقوبة بالمال، وقد كانت مشروعةً قبل ذلك كما في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه في مانع الزّكاة: فإنّا آخذوها وشطر ماله. وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه " في الذي يسرق من الجرين: يغرم مثليه " وكلاهما في السّنن.
وهذا جواب عيسى بن أبان، فحديث المصرّاة من هذا القبيل ، وهي كلها منسوخة.
وتعقّبه الطّحاويّ: بأنّ التّصرية إنّما وجدت من البائع، فلو كان من ذلك الباب للزمه التّغريم، والفرض أنّ حديث المصرّاة يقتضي
تغريم المشتري فافترقا.
وقيل ناسخه: حديث " والبيّعان بالخِيَار ما لَم يتفرّقا " وهذا جواب محمّد بن شجاع.
ووجه الدّلالة منه أنّ الفرقة تقطع الخِيَار فثبت أن لا خِيَار بعدها إلَّا لمن استثناه الشّارع بقوله " إلَّا بيع الخِيَار ".
وتعقّبه الطّحاويّ: بأنّ الخِيَار الذي في المصرّاة من خِيَار الرّدّ بالعيب، وخِيَار الرّدّ بالعيب لا تقطعه الفرقة، ومن الغريب أنّهم لا يقولون بخِيَار المجلس ثمّ يحتجّون به فيما لَم يرد فيه.
الاعتذار الخامس: منهم مَن قال: هو خبرٌ واحدٌ لا يفيد إلَّا الظّنّ، وهو مخالفٌ لقياس الأصول المقطوع به فلا يلزم العمل به.
وتعقّب: بأنّ التّوقّف في خبر الواحد إنّما هو في مخالفة الأصول لا في مخالفة قياس الأصول، وهذا الخبر إنّما خالف قياس الأصول بدليل أنّ الأصول الكتاب والسّنّة والإجماع والقياس، والكتاب والسّنّة في الحقيقة هما الأصل والآخران مردودان إليهما.
فالسّنّة أصل والقياس فرع. فكيف يردّ الأصل بالفرع؟ بل الحديث الصّحيح أصل بنفسه. فكيف يقال إنّ الأصل يخالف نفسه؟.
وعلى تقدير التّسليم. يكون قياس الأصول يفيد القطع وخبر الواحد لا يفيد إلَّا الظّنّ، فتناول الأصل لا يخالف هذا الخبر الواحد غير مقطوعٍ به لجواز استثناء محله عن ذلك الأصل.
قال ابن دقيق العيد: وهذا أقوى متمسّكٍ به في الرّدّ على هذا المقام.
وقال ابن السّمعانيّ: متى ثبت الخبر صار أصلاً من الأصول ولا يحتاج إلى عرضه على أصلٍ آخر ، لأنّه إن وافقه فذاك ، وإن خالفه فلا يجوز ردّ أحدهما ، لأنّه ردٌّ للخبر بالقياس ، وهو مردودٌ باتّفاقٍ ، فإنّ السّنّة مقدّمةٌ على القياس بلا خلاف، إلى أن قال: والأولى عندي في هذه المسألة تسليم الأقيسة ، لكنّها ليست لازمةً ، لأنّ السّنّة الثّابتة مقدّمة عليها. والله تعالى أعلم.
وعلى تقدير التّنزّل فلا نسلم أنّه مخالفٌ لقياس الأصول ، لأنّ الذي ادّعوه عليه من المخالفة بيّنوها بأوجه:
أحدها: أنّ المعلوم من الأصول أنّ ضمان المثليّات بالمثل والمتقوّمات بالقيمة، وهاهنا إن كان اللبن مثليّاً فليضمن باللبن ، وإن كان متقوّماً فليضمن بأحد النّقدين، وقد وقع هنا مضموناً بالتّمر فخالف الأصل.
والجواب: منع الحصر، فإنّ الحرّ يضمن في ديته بالإبل وليست مثلاً ولا قيمة. وأيضاً فضمان المثل بالمثل ليس مطّرداً فقد يضمن المثل بالقيمة إذا تعذّرت المماثلة كمن أتلف شاة لبوناً كان عليه قيمتها، ولا يجعل بإزاء لبنها لبناً آخر لتعذّر المماثلة.
ثانيها: أنّ القواعد تقتضي أن يكون المضمون مقدّرَ الضّمان بقدر التّالف وذلك مختلف، وقد قدّر هنا بمقدارٍ واحدٍ وهو الصّاع فخرج عن القياس.
والجواب: منع التّعميم في المضمونات كالموضحة فأرشها مقدّر مع
اختلافها بالكبر والصّغر، والغرّة مقدّرة في الجنين مع اختلافه، والحكمة في ذلك أنّ كل ما يقع فيه التّنازع فليقدّر بشيءٍ معيّنٍ لقطع التّشاجر، وتقدّم هذه المصلحة على تلك القاعدة فإن اللبن الحادث بعد العقد اختلط باللبن الموجود وقت العقد فلم يعرف مقداره حتّى يوجب نظيره على المشتري، ولو عرف مقداره فوكل إلى تقديرهما أو تقدير أحدهما لأفضى إلى النّزاع والخصام، فقطع الشّارع النّزاع والخصام وقدّره بحدٍّ لا يتعدّيانه فصلاً للخصومة.
وكان تقديره بالتّمر أقرب الأشياء إلى اللبن فإنّه كان قوتهم إذ ذاك كاللبن وهو مكيلٌ كاللبن ومقتاتٌ فاشتركا في كون كل واحدٍ منهما مطعوماً مقتاتاً مكيلاً، واشتركا أيضاً في أنّ كُلاً منهما يقتات به بغير صنعة ولا علاج.
ثالثها: أنّ اللبن التّالف إن كان موجوداً عند العقد ، فقد ذهب جزءٌ من المعقود عليه من أصل الخلقة وذلك مانع من الرّدّ ، فقد حدث على ملك المشتري فلا يضمنه. وإن كان مختلطاً فما كان منه موجوداً عند العقد وما كان حادثاً لَم يجب ضمانه.
والجواب: أن يقال إنّما يمتنع الرّدّ بالنّقص إذا لَم يكن لاستعلام العيب ، وإلا فلا يمتنع. وهنا كذلك.
رابعها: أنّه خالف الأصول في جعل الخِيَار فيه ثلاثاً مع أنّ خِيَار العيب لا يقدّر بالثّلاث. وكذا خِيَار المجلس عند من يقول به. وخِيَار الرّؤية عند من يثبته،
والجواب: بأنّ حكم المصرّاة انفرد بأصله عن مماثلةٍ فلا يستغرب أن ينفرد بوصفٍ زائدٍ على غيره، والحكمة فيه أنّ هذه المدّة هي التي يتبيّن بها لبن الخلقة من اللبن المجتمع بالتّدليس غالباً فشرعت لاستعلام العيب، بخلاف خِيَار الرّؤية والعيب فلا يتوقّف على مدّة، وأمّا خِيَار المجلس فليس لاستعلام العيب، فظهر الفرق بين الخِيَار في المصرّاة وغيرها.
خامسها: أنّه يلزم من الأخذ به الجمع بين العوض والمعوّض فيما إذا كانت قيمة الشّاة صاعاً من تمرٍ فإنّها ترجع إليه من الصّاع الذي هو مقدار ثمنها.
والجواب: أنّ التّمر عوضٌ عن اللبن لا عن الشّاة فلا يلزم ما ذكروه.
سادسها: أنّه مخالفٌ لقاعدة الرّبا فيما إذا اشترى شاةً بصاعٍ. فإذا استردّ معها صاعاً فقد استرجع الصّاع الذي هو الثّمن ، فيكون قد باع شاةً وصاعاً بصاع.
والجواب: أنّ الرّبا إنّما يعتبر في العقود لا الفسوخ، بدليل أنّهما لو تبايعا ذهباً بفضّةٍ لَم يجز أن يتفرّقا قبل القبض، فلو تقايلا في هذا العقد بعينه جاز التّفرّق قبل القبض.
سابعها: أنّه يلزم منه ضمان الأعيان مع بقائها فيما إذا كان اللبن موجوداً، والأعيان لا تضمن بالبدل إلَّا مع فواتها كالمغصوب.
والجواب: أنّ اللبن وإن كان موجوداً لكنّه تعذّر ردّه، لاختلاطه
باللبن الحادث بعد العقد وتعذّر تمييزه فأشبه الآبق بعد الغصب فإنّه يضمن قيمته مع بقاء عينه لتعذّر الرّدّ.
ثامنها: أنّه يلزم منه إثبات الرّدّ بغير عيبٍ ولا شرط، أمّا الشّرط فلم يوجد وأمّا العيب فنقصان اللبن لو كان عيباً لثبت به الرّدّ من غير تصريةٍ
والجواب: أنّ الخِيَار يثبت بالتّدليس كمن باع رحىً دائرةً بما جمعه لها بغير علم المشتري فإذا اطّلع عليه المشتري كان له الرّدّ، وأيضاً فالمشتري لَمَّا رأى ضرعاً مملوءاً لبناً ظنّ أنّه عادةٌ لها فكأنّ البائع شرط له ذلك فتبيّن الأمر بخلافه. فثبت له الرّدّ لفقد الشّرط المعنويّ ، لأنّ البائع يظهر صفة المبيع تارةً بقوله وتارةً بفعله فإذا أظهر المشتري على صفةٍ فبان الأمر بخلافها كان قد دلَّس عليه ، فشرع له الخِيَار.
وهذا هو محض القياس ومقتضى العدل، فإنّ المشتري إنّما بذل ماله بناءً على الصّفة التي أظهرها له البائع، وقد أثبت الشّارع الخِيَار للرّكبان إذا تلقّوا واشتري منهم قبل أن يهبطوا إلى السّوق ويعلموا السّعر ، وليس هناك عيبٌ ولا خلفٌ في شرط. ولكن لِمَا فيه من الغشّ والتّدليس.
الاعتذار السادس: منهم مَن قال: الحديث صحيح لا اضطراب فيه ولا عِلَّة ولا نسخ ، وإنّما هو محمولٌ على صورةٍ مخصوصةٍ ، وهو ما إذا اشترى شاةً بشرط أنّها تحلب مثلاً خمسة أرطالٍ وشرط فيها الخِيَار فالشّرط فاسد، فإن اتّفقا على إسقاطه في مدّة الخِيَار صحّ العقد وإن لَم
يتّفقا بطل العقد ووجب ردّ الصّاع من التّمر ، لأنّه كان قيمة اللبن يومئذٍ
وتعقّب: بأنّ الحديث ظاهرٌ في تعليق الحكم بالتّصرية، وما ذكره هذا القائل يقتضي تعليقه بفساد الشّرط سواء وجدت التّصرية أم لا فهو تأويلٌ متعسّفٌ.
وأيضاً فلفظ الحديث لفظ عموم، وما ادّعوه على تقدير تسليمه فردٌ من أفراد ذلك العموم ، فيحتاج من ادّعى قصر العموم عليه الدّليل على ذلك ولا وجود له.
قال ابن عبد البرّ: هذا الحديث أصل في النّهي عن الغشّ، وأصل في ثبوث الخِيَار لمن دلس عليه بعيب، وأصلٌ في أنّه لا يفسد أصل البيع، وأصل في أن مدّة الخِيَار ثلاثة أيّامٍ، وأصلٌ في تحريم التّصرية وثبوت الخِيَار بها.
وقد روى أحمد وابن ماجه عن ابن مسعود مرفوعاً: بيع المحفّلات خلابة ، ولا تحل الخلابة لمسلم. وفي إسناده ضعفٌ. قد رواه ابن أبي شيبة وعبد الرّزّاق موقوفاً بإسنادٍ صحيحٍ.
وروى ابن أبي شيبة من طريق قيس بن أبي حازم قال: كان يقال: التّصرية خلابة. وإسناده صحيح
واختلف القائلون به في أشياء.
المسألة الأولى: لو كان عالماً بالتّصرية هل يثبت له الخِيَار؟. فيه وجه للشّافعيّة.
ويرجّح أنّه لا يثبت رواية عكرمة عن أبي هريرة في هذا الحديث عند الطّحاويّ فإنّ لفظه " من اشترى مصرّاة ولَم يعلم أنّها مصرّاة " الحديث.
ولو صار لبن المصرّاة عادةً واستمرّ على كثرته هل له الرّدّ؟. فيه وجه لهم أيضاً خلافاً للحنابلة في المسألتين
المسألة الثانية: لو تحفّلت بنفسها أو صرّها المالك لنفسه ، ثمّ بدا له فباعها فهل يثبت ذلك الحكم؟ فيه خلاف:
فمن نَظَرَ إلى المعنى أثبته ، لأنّ العيب مُثبِتٌ للخِيَار ، ولا يشترط فيه تدليس للبائع. ومن نَظَرَ إلى أنّ حكم التّصرية خارج عن القياس. خصّه بمورده - وهو حالة العمد - فإنّ النّهي إنّما تناولها فقط.
المسألة الثالثة: لو كان الضّرع مملوءاً لحماً وظنّه المشتري لبناً فاشتراها على ذلك ، ثمّ ظهر له أنّه لحم هل يثبت له الخِيَار؟.
فيه وجهان حكاهما بعض المالكيّة.
المسألة الرابعة: لو اشترى غير المصرّاة ، ثمّ اطّلع على عيبٍ بها بعد حلبها، فقد نصّ الشّافعيّ على جواز الرّدّ مجّاناً ، لأنّه قليلٌ غير معتنىً بجمعه.
وقيل: يردّ بدل اللبن كالمصرّاة، وقال البغويّ: يردّ صاعاً من تمر
تكميل: في البخاري من رواية ثابت مولى عبد الرّحمن بن زيدٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من اشترى غنماً مصرّاةً فاحتلبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ففي حلبتها صاعٌ من
تمرٍ ".
قوله " حلبتها " بسكون اللام على أنّه اسم الفعل. ويجوز الفتح على إرادة المحلوب، وظاهره أنّ التّمر مقابل للحلبة.
وزعم ابن حزمٍ: أنّ التّمر في مقابلة الحلب لا في مقابلة اللبن ، لأنّ الحلبة حقيقة في الحلب مجازٌ في اللبن والحمل على الحقيقة أولى ، فلذلك قال: يجب ردّ التّمر واللبن معاً. وشذّ بذلك عن الجمهور.
وقوله " ففي حلبتها صاع من تمر ".
القول الأول. ظاهره أنّ صاع التّمر في مقابل المصرّاة سواء كانت واحدة أو أكثر لقوله " من اشترى غنماً " ثمّ قال " ففي حلبتها صاع من تمر ".
ونقله ابن عبد البرّ عمّن استعمل الحديث، وابن بطّال عن أكثر العلماء، وابن قدامة عن الشّافعيّة والحنابلة.
القول الثاني: عن أكثر المالكيّة يردّ عن كل واحدة صاعاً.
حتّى قال المازريّ: من المستبشع أن يغرم متلف لبن ألف شاةٍ كما يغرم متلف لبن شاةٍ واحدةٍ.
وأجيب: بأنّ ذلك مغتفر بالنّسبة إلى ما تقدّم من أنّ الحكمة في اعتبار الصّاع ، قطع النّزاع فجعل حدّاً يرجع إليه عند التّخاصم فاستوى القليل والكثير.
ومن المعلوم أنّ لبن الشّاة الواحدة أو النّاقة الواحدة يختلف اختلافاً متبايناً، ومع ذلك فالمعتبر الصّاع سواء قل اللبن أم كثر،
فكذلك هو معتبرٌ سواء قلّت المصرّاة أو كثرت. والله تعالى أعلم.