الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني والثلاثون
288 -
عن عمر رضي الله عنه ، قال: حَمَلْتُ على فرسٍ في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، وظننتُ أنه يبيعه برُخْصٍ، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: لا تشْتَرْه، ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهمٍ، فإنّ العائد في هبته، كالعائد في قيئه. (1)
قوله: (حملتُ على فرسٍ) زاد القعنبيّ في الموطّأ " عتيق "(2) والعتيق الكريم الفائق من كل شيء.
وهذا الفرس. أخرج ابن سعد عن الواقديّ بسنده عن سهل بن سعد في تسمية خيل النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: وأهدى تميم الدّاريّ له فرساً يقال له الورد ، فأعطاه عمر فحمل عليه عمر في سبيل الله فوجده يباع. الحديث.
فعُرف بهذا تسميته وأصله.
ولا يعارضه ما أخرجه مسلم. ولَم يسق لفظه. وساقه أبو عوانة في " مستخرجه " من طريق عبيد الله بن عمر عن نافعٍ عن ابن عمر ، أنّ
(1) أخرجه البخاري (1419 ، 2480 ، 2493 ، 2841) ومسلم (1620) من طرق عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم (1620) من طريق سفيان وروح بن القاسم عن زيد بن أسلم به.
وأخرجه البخاري (1418) ومواضع أخرى ، ومسلم (1620) من وجه آخر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنه نحوه. وسيأتي عند مسلم من جه آخر.
(2)
وهذه الزيادة عند مسلم في صحيحه (1620) عن القعنبي عن مالك به.
عمر حمل على فرسٍ في سبيل الله فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً.
لأنّه يُحمل على أنّ عمر لَمَّا أراد أن يتصدّق به ، فوّض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اختيار من يتصدّق به عليه أو استشاره فيمن يحمله عليه ، فأشار به عليه فنُسبت إليه العطيّة لكونه أمره بها.
قوله: (في سبيل الله) ظاهره أنّه حمله عليه حملَ تمليكٍ ليجاهد به. إذ لو كان حمل تحبيسٍ لَم يجز بيعه.
وقيل: بلغ إلى حالةٍ لا يمكن الانتفاع به فيما حبس فيه ، وهو مفتقرٌ إلى ثبوت ذلك.
ويدل على أنّه تمليك قوله: " العائد في هبته " ولو كان حبساً لقال في حبسه أو وقفه. وعلى هذا فالمراد بسبيل الله الجهاد ، لا الوقف. فلا حجّة فيه لمن أجاز بيع الموقوف إذا بلغ غايةً لا يتصوّر الانتفاع به فيما وقف له.
قوله: (فأضاعه) أي: لَم يحسن القيام عليه ، وقصّر في مؤونته وخدمته.
وقيل: أي: لَم يعرف مقداره فأراد بيعه بدون قيمته.
وقيل: معناه استعمله في غير ما جعل له.
والأوّل أظهر: ويؤيّده رواية مسلمٍ من طريق روح بن القاسم عن زيد بن أسلم عن أبيه " فوجده قد أضاعه ، وكان قليل المال " فأشار إلى عِلَّة ذلك وإلى العذر المذكور في إرادة بيعه.
قوله: (لا تشتره ولا تعد في صدقتك ، وإن أعطاكه بدرهم) ولهما
من رواية نافع عن ابن عمر " فوجده يباع " ، وسمّى الشّراء عوداً في الصّدقة ، لأنّ العادة جرت بالمسامحة من البائع في مثل ذلك للمشتري. فأطلق على القدر الذي يسامح به رجوعاً.
وأشار إلى الرّخص بقوله: " وإن أعطاكه بدرهمٍ ".
ويستفاد من قوله: " وإن أعطاكه بدرهمٍ " أنّ البائع كان قد ملكه ، ولو كان محبساً كما ادّعاه من تقدّم ذكره ، وجاز بيعه لكونه صار لا ينتفع به فيما حبس له لَمَا كان له أن يبيعه إلَّا بالقيمة الوافرة ، ولا كان له أن يسامح منها بشيءٍ ولو كان المشتري هو المحبس. والله أعلم.
وقد استشكله الإسماعيليّ ، وقال: إذا كان شرط الواقف ما تقدّم ذكره في حديث ابن عمر في وقف عمر لا يباع أصله ولا يوهب (1) ، فكيف يجوز أن يباع الفرس الموهوب؟ وكيف لا ينهى بائعه أو يمنع من بيعه؟.
قال: فلعلَّ معناه أنّ عمر جعله صدقة يعطيها من يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعطاءه فأعطاها النّبيّ صلى الله عليه وسلم الرّجل المذكور فجرى منه ما ذكر ، ويستفاد من التّعليل المذكور أيضاً أنّه لو وجده مثلاً يباع بأغلى من ثمنه لَم يتناوله النّهي.
قوله: (فإنّ العائد في صدقته إلخ).
حمل الجمهور هذا النّهي في صورة الشّراء على التّنزيه ، فيكون
(1) انظر الحديث الماضي.
التشبيه للتنفير خاصة لكون القيء مما يستقذر.
وحمله قومٌ على التّحريم. قال القرطبيّ وغيره: وهو الظّاهر. ثمّ الزّجر المذكور مخصوص بالصّورة المذكورة وما أشبهها كالكفارة والنذر وغيرهما من القربات ، لا ما إذا ردّه إليه الميراث مثلاً.
قال الطّبريّ: يخصّ من عموم هذا الحديث ، من وهب بشرط الثّواب ومن كان والداً، والموهوب ولده والهبة التي لَم تقبض والتي ردّها الميراث إلى الواهب لثبوت الأخبار باستثناء كلّ ذلك. وأمّا ما عدا ذلك كالغنيّ يثيب الفقير ونحو من يصل رحمه فلا رجوع لهؤلاء ، قال: وممّا لا رجوع فيه مطلقاً الصّدقة يراد بها ثواب الآخرة.
وقد استشكل ذكر عمر مع ما فيه من إذاعة عمل البرّ وكتمانه أرجح.
وأجيب: بأنّه تعارض عنده المصلحتان - الكتمان وتبليغ الحكم الشّرعيّ - فرجّح الثّاني فعمل به.
وتعقّب: بأنّه كان يمكن أن يقول: حمل رجل على فرسٍ مثلاً ولا يقول: حملت فيجمع بين المصلحتين.
والظّاهر: أنّ محلّ رجحان الكتمان إنّما هو قبل الفعل وعنده، وأمّا بعد وقوعه فلعل الذي أعطيه أذاع ذلك فانتفى الكتمان ، ويضاف إليه أنّ في إضافته ذلك إلى نفسه تأكيداً لصحّة الحكم المذكور ، لأنّ الذي تقع له القصّة أجدر بضبطها ممّن ليس عنده إلَّا وقوعها بحضوره ، فلمّا أمن ما يخشى من الإعلان بالقصد صرّح بإضافة الحكم إلى نفسه.
ويحتمل: أن يكون محلّ ترجيح الكتمان لمن يخشى على نفسه من الإعلان العجب والرّياء. أمّا من أمن من ذلك كعمر فلا.
وفي الحديث كراهة الرّجوع في الصّدقة ، وفضل الحمل في سبيل الله والإعانة على الغزو بكل شيءٍ، وأنّ الحمل في سبيل الله تمليكٌ ، وأنّ للمحمول بيعه والانتفاع بثمنه من جهة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أقرّ المحمول عليه على التّصرّف فيه بالبيع وغيره ، فدلَّ على تقوية ما ذهب إليه طاوسٌ من أنّ للآخذ التّصرّف في المأخوذ.
وقال ابن المنير: كل من أخذ مالاً من بيت المال على عمل إذا أهمل العمل يردّ ما أخذ، وكذا الأخذ على عمل لا يتأهّل له، ويحتاج إلى تأويل ما ذهب إليه عمر في الأمر المذكور بأن يحمل على الكراهة، وقد قال سعيد بن المسيّب: من أعان بشيءٍ في الغزو فإنّه للذي يعطاه إذا بلغ رأس المغزى، أخرجه ابن أبي شيبة وغيره.
وروى مالك في " الموطّأ " عن ابن عمر: إذا بلغتَ وادي القرى فشأنك به. أي: تصرّف فيه، وهو قول الليث والثّوريّ
قال ابن بطّال: ما كان من الحمل على الخيل تمليكاً للمحمول عليه بقوله: هو لك ، فهو كالصّدقة، فإذا قبضها لَم يجز الرّجوع فيها وما كان منه تحبيساً في سبيل الله فهو كالوقف لا يجوز الرّجوع فيه عند الجمهور، وعن أبي حنيفة. أنّ الحبس باطلٌ في كل شيءٍ. انتهى.
تكميل: بوّب البخاري على الحديث " باب وقف الدواب والكراع والعروض والصامت ".
ووجه أخْذِ ذلك من حديث الباب المشتمل على قصّة فرس عمر ، أنّها دالة على صحّة وقف المنقولات فيلحق به ما في معناه من المنقولات إذا وجد الشّرط وهو تحبيس العين، فلا تباع ولا توهب بل ينتفع بها، والانتفاع في كلّ شيء بحسبه. (1)
(1) هكذا وافق الشارحُ البخاريّ على الاستدلال بالحديث. ولَم يعترض عليه ، مع أن الشارح استبعد القولَ القائل بأنَّ صدقة عمر كانت وقْفاً. وردّ على قائله.