المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الأول 257 - عن عبد الله بن عمر رضي الله - فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري - جـ ٥

[عبد السلام العامر]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب البيوع

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب ما يُنهي عنه من البيوع

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌باب العرايا وغير ذلك

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌باب السّلم

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌باب الشروط في البيع

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌الحديث العشرون

- ‌الحديث الواحد والعشرون

- ‌باب الربا والصرف

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌الحديث الرابع والعشرون

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌باب الرهن وغيره

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌باب الحوالة

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌باب الفلس

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌باب الشفعة

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌باب الوقف

- ‌الحديث الواحد والثلاثون

- ‌باب الهبة

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌باب الحرث والمزارعة

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌الحديث السابع والثلاثون

- ‌باب العُمرى

- ‌الحديث الثامن والثلاثون

- ‌باب المظالم

- ‌الحديث التاسع والثلاثون

- ‌الحديث الأربعون

- ‌باب اللقطة

- ‌الحديث الواحد والأربعون

- ‌كتاب الوصايا

- ‌الحديث الثاني والأربعون

- ‌الحديث الثالث والأربعون

- ‌الحديث الرابع والأربعون

- ‌كتاب الفرائض

- ‌الحديث الخامس والأربعون

- ‌الحديث السادس والأربعون

- ‌الحديث السابع والأربعون

- ‌الحديث الثامن والأربعون

- ‌كتاب النكاح

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌باب الصّداق

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌الحديث السادس عشر

الفصل: ‌ ‌الحديث الأول 257 - عن عبد الله بن عمر رضي الله

‌الحديث الأول

257 -

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: إذا تبايع الرجلان، فكل واحدٍ منهما بالخِيَار، ما لَم يتفرَّقا، وكانا جميعاً، أو يخيّر أحدهما الآخر، فإن خيّر أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولَم يترك واحدٌ منهما البيع فقد وجب البيع. (1)

‌الحديث الثاني

258 -

وما في معناه من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البيّعان بالخِيَار ما لَم يتفرّقا ، أو قال حتى يتفرّقا ، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما. (2)

قوله: (إذا تبايع الرجلان) وللبخاري " إنّ المتبايعين بالخِيَار " كذا للأكثر، وحكى ابن التّين (3) في رواية القابسيّ " إنّ المتبايعان " قال:

(1) أخرجه البخاري (2001 ، 2003 ، 2005 ، 2006) ومسلم (1531) من طرق عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه.

وأخرجه البخاري (2007) ومسلم (1531) من طريق عمرو بن دينار ، والبخاري (1020) من طريق سالم بن عبد الله كلاهما عن ابن عمر مختصراً.

(2)

أخرجه البخاري (1973 ، 1976 ، 2002 ، 2004 ، 2008) ومسلم (1532) من طريق قتادة عن صالح أبي الخليل عن عبد الله بن الحارث عن حكيم رضي الله عنه.

وأخرجه مسلم (1532) من طريق أبي التياح عن عبد الله بن الحارث به.

(3)

هو عبدالواحد بن التين ، سبق ترجمته (1/ 151)

ص: 4

وهي لغةٌ.

وفي رواية أيّوب عن نافع في البخاري " البيّعان " بتشديد التّحتانيّة. والبيّع بمعنى البائع كضيّقٍ وضائقٍ وصيّن وصائن ، وليس كبيّنٍ وبائنٍ فإنّهما متغايران كقيّمٍ وقائمٍ.

واستعمال البيّع في المشتري. إمّا على سبيل التّغليب ، أو لأنّ كلا منهما بائعٌ.

قوله: (فكل واحدٍ منهما بالخِيَار) الخِيَار بكسر الخاء اسمٌ من الاختيار أو التّخيير، وهو طلب خير الأمرين من إمضاء البيع أو فسخه.

وهو خِيَاران: خِيَار المجلس وخِيَار الشّرط، وزاد بعضهم خِيَار النّقيصة، وهو مندرجٌ في الشّرط فلا يزاد.

وروى البيهقيّ من طريق أبي علقمة الغرويّ عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً " الخِيَار ثلاثة أيّام " وهذا كأنّه مختصرٌ من الحديث الذي رواه أحمد (1) من طريق محمّد بن إسحاق عن نافع: كان رجلٌ من الأنصار.

(1) طريق ابن إسحاق عن نافع. عزاها الشارح رحمه الله في باب " كم يجوز الخِيَار " لأصحاب السنن ، ثم عزاه في باب " ما يكره من الخداع في البيع " لأحمد. وهو الصواب ، وهو الذي أثبتّه هنا.

وإنما رواه ابن ماجه في " السنن "(2355) من طريق عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان قال: هو جدي منقذ بن عمرو. وهي رواية الدارقطني والبيهقي كما ذكر الشارح.

وقد أخرج القصّةَ الخمسةُ عن أنس رضي الله عنه. نحوه.

وأصل القصة عند البخاري (2011) ومسلم (1533) عن ابن عمر ، أنَّ رجلاً ذكَرَ للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يُخدع في البيوع، فقال: إذا بايعتَ فقل لا خلابة.

قال الشارح (4/ 337): قوله (لا خلابة) بكسر المعجمة وتخفيف اللام. أي: لا خديعة. ولا لنفي الجنس. أي: لا خديعة في الدين ، لأنَّ الدين النصيحة.

ص: 5

زاد ابن الجارود في " المنتقى " من طريق سفيان عن نافعٍ ، أنّه حبّان بن منقذٍ، وهو بفتح المهملة والموحّدة الثّقيلة.

ورواه الدّارقطنيّ من طريق عبد الأعلى ، والبيهقيّ من طريق يونس بن بكير كلاهما عن ابن إسحاق به. وزاد فيه. قال ابن إسحاق: فحدّثني محمّد بن يحيى بن حبّان قال: هو جدّي منقذ بن عمرو.

وكذلك رواه ابن منده من وجه آخر عن ابن إسحاق.

زاد ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير وعبد الأعلى عنه " ثمّ أنت بالخِيَار في كل سلعةٍ ابتعتها ثلاث ليالٍ، فإن رضيت فأمسِك ، وإن سخطت فاردُد ، فبقي حتّى أدرك زمان عثمان - وهو ابن مائةٍ وثلاثين سنةً - فكثر النّاس في زمن عثمان، وكان إذا اشترى شيئاً فقيل له: إنّك غُبنت فيه رجع به ، فيشهد له الرّجل من الصّحابة بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد جعله بالخِيَار ثلاثاً. فيردّ له دراهمه.

قال ابن العربيّ: وأمّا ما روي عن عمر ، أنّه كُلّم في البيع فقال: ما أجد لكم شيئاً أوسع ممّا جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبّان بن منقذ ثلاثة أيّام. فمداره على ابن لهيعة ، وهو ضعيفٌ. انتهى.

وهو كما قال. أخرجه الطّبرانيّ والدّارقطنيّ وغيرهما من طريقه.

ص: 6

وبه احتجّ للحنفيّة والشّافعيّة ، في أنّ أمد الخِيَار ثلاثة أيّام من غير زيادة ، لأنّه حكمٌ ورد على خلاف الأصل فيقتصر به على أقصى ما ورد فيه.

ويؤيّده جعل الخِيَار في المصرّاة ثلاثة أيّامٍ، واعتبار الثّلاث في غير موضع.

وأغرب بعض المالكيّة ، فقال: إنّما قصره على ثلاثٍ ، لأنّ معظم بيعه كان في الرّقيق، وهذا يحتاج إلى دليلٍ. ولا يكفي فيه مجرّد الاحتمال.

وأنكر مالكٌ التّوقيت في خِيَار الشّرط ثلاثة أيّام بغير زيادة ، وإن كانت في الغالب يمكن الاختيار فيها، لكن لكل شيء أمدٌ بحسبه يتخيّر فيه، فللدّابّة مثلاً والثّوب يوم أو يومان ، وللجارية جمعةٌ ، وللدّار شهرٌ.

وقال الأوزاعيّ: يمتدّ الخِيَار شهراً وأكثر بحسب الحاجة إليه.

وقال الثّوريّ: يختصّ الخِيَار بالمشتري ، ويمتدّ له إلى عشرة أيّام وأكثر، ويقال إنّه انفرد بذلك.

وذهب ابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمّد وأحمد وإسحاق وأبو ثورٍ وآخرون. إلى أنّه لا أَمَدَ لمدّة خِيَار الشّرط ، بل البيع جائزٌ والشّرط لازمٌ إلى الوقت الذي يشترطانه. وهو اختيار ابن المنذر، وقد صحّ القول بامتداد الخِيَار عن عمر وغيره.

فإن شرطا أو أحدهما الخِيَار مطلقاً.

ص: 7

القول الأول: قال الأوزاعيّ وابن أبي ليلى: هو شرطٌ باطلٌ والبيع جائزٌ.

القول الثاني: قال الثّوريّ والشّافعيّ وأصحاب الرّأي: يبطل البيع أيضاً.

القول الثالث: قال أحمد وإسحاق: للذي شرط الخِيَار أبداً.

قوله: (ما لَم يتفرقا) في رواية النّسائيّ " يفترقا " بتقديم الفاء، ونقل ثعلب عن الفضل بن سلمة: افترقا بالكلام ، وتفرّقا بالأبدان.

وردّه ابن العربيّ بقوله تعالى (وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب) فإنّه ظاهرٌ في التّفرّق بالكلام لا أنّه بالاعتقاد.

وأجيب: بأنّه من لازمه في الغالب ، لأنّ من خالف آخر في عقيدته كان مستدعياً لمفارقته إيّاه ببدنه.

ولا يخفى ضعف هذا الجواب، والحقّ حمل كلام الفضل على الاستعمال بالحقيقة، وإنّما استعمل أحدهما في موضع الآخر اتّساعاً.

وفي رواية أيّوب عن نافعٍ في البخاري " ما لَم يتفرّقا ، أو يقل أحدهما لصاحبه: اختر " وهو ظاهرٌ في حصر لزوم البيع بهذين الأمرين.

القول الأول: فيه دليلٌ على إثبات خِيَار المجلس ، وفي البخاري عن نافع ، قال: كان ابن عمر إذا اشترى شيئاً يُعجبه فارق صاحبه ". وللترمذي من طريق بن فضيل عن يحيى بن سعيد: وكان ابن عمر إذا ابتاع بيعاً - وهو قاعد - قام ليجب له.

ص: 8

ولمسلم من طريق ابن جريج قال: أملى عليَّ نافع. فذكر الحديث. وفيه قال نافع: وكان إذا بايع رجلاً فأراد أن لا يقيله. قام فمشى هنيهة ، ثم رجع إليه.

فحَمَله على التّفرّق بالأبدان، وكذلك أبو برزة الأسلميّ، ولا يُعرف لهما مخالفٌ من الصّحابة.

قال الشافعي في الأم: أخبرنا ابن عيينة عن عبد الله بن طاوس عن أبيه. قال: خيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً بعد البيع. قال: وكان أبي يحلف ما الخيار إلَّا بعد البيع.

وروى ابن أبي شيبة عن جرير عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة وعطاء ، قالا: البيّعان بالخيار حتى يتفرَّقا عن رضا.

ونقل ابن المنذر القول بخِيَار المجلس أيضاً. عن سعيد بن المسيّب والزّهريّ وابن أبي ذئبٍ من أهل المدينة، وعن الحسن البصريّ والأوزاعيّ وابن جريجٍ وغيرهم.

وبالغ ابن حزمٍ فقال: لا نعلم لهم مخالفاً من التّابعين إلَّا النّخعيّ وحده ، وروايةً مكذوبةً عن شُريح، والصّحيح عنه القول به.

وأشار إلى ما رواه سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن حجّاج عن الحكم عن شُريح قال: إذا تكلَّم الرّجل بالبيع فقد وجب البيع. وإسناده ضعيفٌ لأجل حجّاجٍ. وهو ابن أرطاة.

القول الثاني: خالف في ذلك إبراهيم النّخعيّ.

فروى ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيحٍ عنه قال: البيع جائزٌ وإن لَم

ص: 9

يتفرّقا. ورواه سعيد بن منصور عنه بلفظ " إذا وجبت الصّفقة فلا خِيَار ". وبذلك قال المالكيّة إلَّا ابن حبيبٍ والحنفيّة كلّهم.

وقد ذهبوا في الجواب عن حديْثَي الباب فرقاً:

فمنهم: من ردّه ، لكونه معارضاً لِمَا هو أقوى منه.

ومنهم: من صحَّحه. ولكن أوّله على غير ظاهره.

فقالت طائفةٌ منهم: هو منسوخٌ بحديث " المسلمون على شروطهم " والخِيَار بعد لزوم العقد يفسد الشّرط، وبحديث التّحالف عند اختلاف المتبايعين ، لأنّه يقتضي الحاجة إلى اليمين. وذلك يستلزم لزوم العقد. ولو ثبت الخِيَار لكان كافياً في رفع العقد، وبقوله تعالى (وأشهدوا إذا تبايعتم) والإشهاد إن وقع بعد التّفرّق لَم يطابق الأمر ، وإن وقع قبل التّفرّق لَم يصادف محلاًّ.

ولا حجّة في شيءٍ من ذلك ، لأنّ النّسخ لا يثبت بالاحتمال، والجمع بين الدّليلين مهما أمكن لا يُصار معه إلى التّرجيح، والجمع هنا ممكنٌ بين الأدلة المذكورة بغير تعسّفٍ ولا تكلّفٍ.

وقالت طائفة: هو من رواية مالكٍ وقد عمل بخلافه ، فدلَّ على أنّه عارضه ما هو أقوى منه، والرّاوي إذا عمل بخلاف ما روى دلَّ على وهْن المرويّ عنده.

وتعقّب: بأنّ مالكاً لَم يتفرّد به، فقد رواه غيره وعمل به ، وهم أكثر عدداً روايةً وعملاً.

وقد خصَّ كثيرٌ من محقّقي أهل الأصول الخلاف المشهور - فيما إذا

ص: 10

عمل الرّاوي بخلاف ما روى - بالصّحابة دون ما جاء بعدهم، ومن قاعدتهم أنّ الرّاوي أعلم بما روى، وابن عمر هو راوي الخبر ، وكان يفارق إذا باع ببدنه فاتّباعه أولى من غيره.

وقالت طائفةٌ: هو معارَضٌ بعمل أهل المدينة، ونقل ابن التّين عن أشهب بأنّه مخالفٌ لعمل أهل مكّة أيضاً.

وتعقّب: بأنّه قال به ابن عمر ثمّ سعيد بن المسيّب ثمّ الزّهريّ ثمّ ابن أبي ذئبٍ كما مضى، وهؤلاء من أكابر علماء أهل المدينة في أعصارهم ، ولا يُحفظ عن أحدٍ من علماء المدينة القول بخلافه سوى عن ربيعة.

وأمّا أهل مكّة فلا يُعرف أحدٌ منهم القول بخلافه، فقد سبق عن عطاءٍ وطاوسٍ وغيرهما من أهل مكّة.

وقد اشتدّ إنكار ابن عبد البرّ وابن العربيّ على من زعم من المالكيّة ، أنّ مالكاً ترك العمل به لكون عمل أهل المدينة على خلافه.

قال ابن العربيّ: إنّما لَم يأخذ به مالكٌ ، لأنّ وقت التّفرّق غير معلومٍ فأشبه بيوع الغرر كالملامسة.

وتعقّب: بأنّه يقول بخِيَار الشّرط ولا يحدّه بوقتٍ معيّنٍ، وما ادّعاه من الغرر موجودٌ فيه ، وبأنّ الغرر في خِيَار المجلس معدومٌ ، لأنّ كلاً منهما متمكّنٌ من إمضاء البيع أو فسخه بالقول أو بالفعل فلا غرر.

وقالت طائفةٌ: هو خبرُ واحدٍ فلا يعمل به إلَّا فيما تعمّ به البلوى.

ورُدّ: بأنّه مشهورٌ فيعمل به كما ادّعوا نظير ذلك في خبر القهقهة في

ص: 11

الصّلاة وإيجاب الوتر.

وقال آخرون: هو مخالفٌ للقياس الجليّ في إلحاق ما قبل التّفرّق بما بعده.

وتعقّب: بأنّ القياس مع النّصّ فاسد الاعتبار.

وقال آخرون: التّفرّق بالأبدان محمولٌ على الاستحباب تحسيناً للمعاملة مع المسلم لا على الوجوب.

وقال آخرون: هو محمولٌ على الاحتياط للخروج من الخلاف وكلاهما على خلاف الظّاهر.

وقالت طائفةٌ: المراد بالتّفرّق في الحديث التّفرّق بالكلام كما في عقد النّكاح والإجارة والعتق.

وتعقّب: بأنّه قياسٌ مع ظهور الفارق ، لأنّ البيع ينقل فيه ملك رقبة المبيع ومنفعته بخلاف ما ذكر.

وقال ابن حزمٍ: سواءٌ قلنا التّفرّق بالكلام أو بالأبدان. فإنّ خِيَار المجلس بهذا الحديث ثابتٌ، أمّا حيث قلنا التّفرّق بالأبدان فواضحٌ، وحيث قلنا بالكلام فواضح أيضاً، لأنّ قول أحد المتبايعين مثلاً بعتَكَه بعشرةٍ ، وقول الآخر بل بعشرين مثلاً افتراقٌ في الكلام بلا شكٍّ، بخلاف ما لو قال: اشتريته بعشرةٍ فإنّهما حينئذٍ متوافقان ، فيتعيّن ثبوت الخِيَار لهما حين يتّفقان لا حين يتفرّقان وهو المدّعى.

وقالت طائفة: المراد بالمتبايعين المتساومان.

ورُدّ: بأنّه مجازٌ والحمل على الحقيقة أو ما يقرب منها أولى.

ص: 12

واحتجّ الطّحاويّ بآياتٍ وأحاديث استعمل فيها المجاز ، وقال: من أنكر استعمال لفظ البائع في السّائم فقد غفل عن اتّساع اللّغة.

وتعقّب: بأنّه لا يلزم من استعمال المجاز في موضعٍ طرده في كلّ موضعٍ، فالأصل من الإطلاق الحقيقة حتّى يقوم الدّليل على خلافه.

وقالوا أيضاً: وقت التّفرّق في الحديث هو ما بين قول البائع: بعتك هذا بكذا وبين قول المشتري: اشتريت، قالوا: فالمشتري بالخِيَار في قوله اشتريت أو تركه والبائع بالخِيَار إلى أن يوجب المشتري، وهكذا حكاه الطّحاويّ عن عيسى بن أبان منهم، وحكاه ابن خويزمندادٍ عن مالكٍ.

قال عيسى بن أبان: وفائدته تظهر فيما لو تفرّقا قبل القبول فإنّ القبول يتعذّر.

وتعقّب: بأنّ تسميتهما متبايعين قبل تمام العقد مجازٌ أيضاً، فأجيب: بأنّ تسميتهما متبايعين بعد تمام العقد مجازٌ أيضاً، لأنّ اسم الفاعل في الحال حقيقةٌ وفيما عداه مجازٌ، فلو كان الخِيَار بعد انعقاد البيع لكان لغير البيّعين ، والحديث يردّه فتعيّن حمل التّفرّق على الكلام.

وأجيب: بأنّه إذا تعذّر الحمل على الحقيقة تعيّن المجاز، وإذا تعارض المجازان فالأقرب إلى الحقيقة أولى. وأيضاً فالمتبايعان لا يكونان متبايعين حقيقةً إلَّا في حين تعاقدهما، لكنّ عقدهما لا يتمّ إلَّا بأحد أمرين.

الأول: إمّا بإبرام العقد.

ص: 13

الثاني: التّفرّق على ظاهر الخبر ، فصحّ أنّهما متعاقدان ما داما في مجلس العقد، فعلى هذا تسميتهما متبايعين حقيقةٌ بخلاف حمل المتبايعين على المتساومين. فإنّه مجازٌ باتّفاقٍ.

وقالت طائفةٌ: التّفرّق يقع بالأقوال كقوله تعالى (وإن يتفرّقا يغن الله كلاً من سعته).

وأجيب: بأنّه سُمي بذلك لكونه يفضي إلى التّفرّق بالأبدان.

قال البيضاويّ (1): ومن نفى خِيَار المجلس ارتكب مجازين بحمله التّفرّق على الأقوال وحمله المتبايعين على المتساومين، وأيضاً فكلام الشّارع يصان عن الحمل عليه، لأنّه يصير تقديره إنّ المتساومين إن شاءا عقدا البيع، وإن شاءا لَم يعقداه ، وهو تحصيل الحاصل ، لأنّ كل أحد يعرف ذلك.

ويقال لمن زعم أنّ التّفرّق بالكلام: ما هو الكلام الذي يقع به التّفرّق، أهو الكلام الذي وقع به العقد أم غيره؟ فإن كان غيره فما هو؟ فليس بين المتعاقدين كلامٌ غيره ، وإن كان هو ذلك الكلام بعينه لزم أن يكون الكلام الذي اتّفقا عليه. وتمّ بيعهما به هو الكلام الذي افترقا به وانفسخ بيعهما به. وهذا في غاية الفساد.

وقال آخرون: العمل بظاهر الحديث متعذّرٌ فيتعيّن تأويله، وبيان تعذّره أنّ المتبايعين إن اتّفقا في الفسخ أو الإمضاء لَم يثبت لواحدٍ منهما

(1) هو عبدالله بن عمر الشيرازي ، سبق ترجمته (1/ 191)

ص: 14

على الآخر خِيَار، وإن اختلفا فالجمع بين الفسخ والإمضاء جمعٌ بين النّقضين. وهو مستحيلٌ.

وأجيب: بأنّ المراد أنّ لكلٍّ منهما الخِيَار في الفسخ، وأمّا الإمضاء فلا احتياج إلى اختياره فإنّه مقتضى العقد والحال يفضي إليه مع السّكوت بخلاف الفسخ.

وقال آخرون: حديث ابن عمر هذا وحكيم بن حزام معارَضٌ بحديث عبد الله بن عمرو، وذلك فيما أخرجه أبو داود وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه مرفوعاً: البيّعان بالخِيَار ما لَم يتفرّقا إلَّا أن تكون صفقة خِيَار، ولا يحلّ له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله.

قال ابن العربيّ: ظاهر هذه الزّيادة مخالفٌ لأوّل الحديث في الظّاهر، فإن تأوّلوا الاستقالة فيه على الفسخ تأوّلنا الخِيَار فيه على الاستقالة ، وإذا تعارض التّأويلان فزع إلى التّرجيح، والقياس في جانبنا.

وتعقّب: بأنّ حمل الاستقالة على الفسخ أوضح من حمل الخِيَار على الاستقالة، لأنّه لو كان المراد حقيقة الاستقالة لَم تمنعه من المفارقة ، لأنّها لا تختصّ بمجلس العقد، وقد أثبت في أوّل الحديث الخِيَار ومدّه إلى غاية التّفرّق، ومن المعلوم أنّ من له الخِيَار لا يحتاج إلى الاستقالة فتعيّن حملها على الفسخ.

وعلى ذلك حَملَه التّرمذيّ وغيره من العلماء فقالوا: معناه لا يحلّ له أن يفارقه بعد البيع خشية أن يختار فسخ البيع ، لأنّ العرب تقول:

ص: 15

استقلت ما فات عنّي إذا استدركه، فالمراد بالاستقالة فسخ النّادم منهما للبيع.

وحملوا نفي الحلّ على الكراهة ، لأنّه لا يليق بالمروءة وحسن معاشرة المسلم، إلَّا أنّ اختيار الفسخ حرامٌ.

قال ابن حزمٍ: احتجاجهم بحديث عمرو بن شعيبٍ على التّفرّق بالكلام لقوله فيه " خشية أن يستقيله " لكون الاستقالة لا تكون إلَّا بعد تمام البيع، وصحّة انتقال الملك تستلزم أن يكون الخبر المذكور لا فائدة له لأنّه يلزم من حمل التّفرّق على القول إباحة المفارقة، خشي أن يستقيله أو لَم يخش.

وقال بعضهم: التّفرّق بالأبدان في الصّرف قبل القبض يبطل العقد. فكيف يثبت العقد ما يبطله؟.

وتعقّب: باختلاف الجهة وبالمعارضة بنظيره، وذلك أنّ النّقد وترك الأجل شرطٌ لصحّة الصّرف وهو يفسد السّلم عندهم.

واحتجّ الطّحاويّ بقول ابن عمر " ما أدركت الصّفقة حيّاً مجموعاً فهو من مال المبتاع "(1)

(1) علّقه البخاري في " صحيحه ". ووصله الدارقطني (4/ 6) والطحاوي في " شرح مشكل الآثار "(13/ 256) من حديث حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه.

قال ابن حجر في " التغليق "(3/ 243): صحيح الإسناد.

وقال في " الفتح "(4/ 352): قوله (ما أدركت الصفقة) أي: العقد. (حياً) أي بمهملة وتحتانية مثقلة مجموعاً. أي لم يتغير عن حالته فهو من المبتاع. أي من المشتري. وإسناد الإدراك إلى العقد مجاز. أي ما كان عند العقد موجوداً وغير منفصل.

قال الطحاوي: ذهب ابن عمر إلى أنَّ الصفقة إذا أدركت شيئاً حياً فهلك بعد ذلك عند البائع فهو من ضمان المشتري ، فدلَّ على أنه كان يرى أنَّ البيع يتم بالأقوال قبل الفرقة بالأبدان. انتهى

وما قاله ليس بلازم ، وكيف يحتج بأمر محتمل في معارضة أمر مصرَّح به؟ فابن عمر قد تقدم عنه التصريح بأنه كان يرى الفرقة بالأبدان.

والمنقول عنه هنا: يحتمل أن يكون قبل التفرق بالأبدان ، ويحتمل أن يكون بعده فحمله على ما بعده أولى جمعا بين حديثيه.

وقال ابن حبيب: اختلف العلماء فيمن باع عبداً واحتبسه بالثمن فهلك في يديه قبل أن يأتي المشتري بالثمن. فقال سعيد بن المسيب وربيعة: هو على البائع ، وقال سليمان بن يسار: هو على المشتري. ورجع إليه مالك بعد أنْ كان أخذ بالأول ، وتابعه أحمد وإسحاق وأبو ثور ، وقال بالأول الحنفية والشافعية.

والأصل في ذلك اشتراط القبض في صحة البيع. فمن اشترطه في كل شيء جعله من ضمان البائع ، ومن لم يشترطه جعله من ضمان المشتري. والله أعلم.

وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن طاوس في ذلك تفصيلاً قال: إن قال البائع: لا أعطيكه حتى تنقدني الثمن فهلك فهو من ضمان البائع ، وإلَّا فهو من ضمان المشتري.

وقد فسر بعض الشراح المبتاع في أثر ابن عمر بالعين المبيعة وهو جيد.

وقد سئل الإمام أحمد. عمن اشترى طعاماً فطلب من يحمله فرجع فوجده قد احترق؟ فقال هو من ضمان المشتري. وأورد أثر ابن عمر المذكور بلفظ فهو من مال المشتري.

وفرَّع بعضهم على ذلك أنَّ المبيع إذا كان معيناً دخل في ضمان المشتري بمجرد العقد - ولو لم يقبض - بخلاف ما يكون في الذمة فإنه لا يكون من ضمان المشتري إلَّا بعد القبض. كما لو اشترى قفيزاً من صبرة. والله أعلم

ص: 16

وتعقّب: بأنّهم يخالفونه.

أمّا الحنفيّة فقالوا: هو من مال البائع ما لَم يره المبتاع أو ينقله.

والمالكيّة قالوا: إن كان غائباً غيبةً بعيدةً فهو من البائع وأنّه لا حجّة فيه ، لأنّ الصّفقة فيه محمولةٌ على البيع الذي انبرم. لا على ما لَم ينبرم جمعاً بين كلاميه.

ص: 17

وقال بعضهم: معنى قوله " حتّى يتفرّقا ". أي: حتّى يتوافقا يقال للقوم: على ماذا تفارقتم.؟ أي: على ماذا اتّفقتم؟.

وتعقّب: بما ورد في بقيّة حديث ابن عمر في جميع طرقه ، ولا سيّما في طريق الليث. (1)

وقال بعضهم: حديث " البيّعان بالخِيَار " جاء بألفاظٍ مختلفةٍ. فهو مضطربٌ لا يحتجّ به.

وتعقّب: بأنّ الجمع بين ما اختلف من ألفاظه ممكنٌ بغير تكلّفٍ ولا تعسّفٍ فلا يضرّه الاختلاف، وشرط المضطرب أن يتعذّر الجمع بين مختلف ألفاظه. وليس هذا الحديث من ذلك.

وقال بعضهم: لا يتعيّن حمل الخِيَار في هذا الحديث على خِيَار الفسخ، فلعله أريد به خِيَار الشّراء أو خِيَار الزّيادة في الثّمن أو المثمّن.

وأجيب: بأنّ المعهود في كلامه صلى الله عليه وسلم حيث يطلق الخِيَار. إرادة خِيَار الفسخ كما في حديث المصرّاة ، وكما في حديث الذي يخدع في البيوع.

وأيضاً فإذا ثبت أنّ المراد بالمتبايعين المتعاقدان فبعد صدور العقد لا خِيَار في الشّراء ولا في الثّمن.

وقال ابن عبد البرّ: قد أكثَرَ المالكيّة والحنفيّة من الاحتجاج لردّ هذا الحديث بما يطول ذكره، وأكثره لا يحصل منه شيءٌ.

(1) طريق الليث هي رواية العمدة التي اعتمدها المقدسي ، وقد اتفق الشيخان على إخراجها.

ص: 18

وحكى ابن السّمعانيّ في " الاصطلاح " عن بعض الحنفيّة قال: البيع عقدٌ مشروعٌ بوصفٍ وحكمٍ، فوصفه اللّزوم وحكمه الملك، وقد تمّ البيع بالعقد فوجب أن يتمّ بوصفه وحكمه، فأمّا تأخير ذلك إلى أن يفترقا فليس عليه دليل ، لأنّ السّبب إذا تمّ يفيد حكمه، ولا ينتفي إلَّا بعارضٍ ومن ادّعاه فعليه البيان.

وأجاب: أنّ البيع سبب للإيقاع في النّدم والنّدم يحوج إلى النّظر فأثبت الشّارع خِيَار المجلس نظراً للمتعاقدين ليسلما من النّدم، ودليله خِيَار الرّؤية عندهم وخِيَار الشّرط عندنا.

قال: ولو لزم العقد بوصفه وحكمه لَما شرعت الإقالة، لكنّها شرعت نظراً للمتعاقدين إلَّا أنّها شرعت لاستدراك ندمٍ ينفرد به أحدهما فلم تجب، وخِيَار المجلس شرع لاستدراك ندمٍ يشتركان فيه فوجب.

قوله: (وكانا جميعاً) تأكيدٌ لذلك.

قوله: (أو يخيّر أحدهما الآخر) أي: فينقطع الخِيَار.

قوله: (فإن خيّر أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع) أي: وبطل الخِيَار وإن لَم يتفرّقا. وفي رواية مالك عن نافع في الصحيحين " ما لَم يتفرّقا إلَّا بيع الخِيَار " أي: فلا يحتاج إلى التفرق.

وقد اختلف العلماء في المراد بقوله في حديث مالك " إلَّا بيع الخِيَار "

القول الأول: قال الجمهور. به جزم الشّافعيّ: هو استثناءٌ من

ص: 19

امتداد الخِيَار إلى التّفرّق، والمراد أنّهما إن اختارا إمضاء البيع قبل التّفرّق لزم البيع حينئذٍ وبطل اعتبار التّفرّق، فالتّقدير إلَّا البيع الذي جرى فيه التّخاير.

قال النّوويّ (1): اتّفق أصحابنا على ترجيح هذا التّأويل وأبطل كثيرٌ منهم ما سواه وغلطوا قائله. انتهى.

ورواية الليث ظاهرةٌ جدّاً في ترجيحه.

القول الثاني: هو استثناءٌ من انقطاع الخِيَار بالتّفرّق.

القول الثالث: المراد بقوله " أو يخيّر (2) أحدهما الآخر " أي: فيشترط الخِيَار مدّةً معيّنةً فلا ينقضي الخِيَار بالتّفرّق بل يبقى حتّى تمضي المدّة. حكاه ابن عبد البرّ عن أبي ثورٍ، ورجح الأوّل بأنّه أقل في الإضمار.

وتعيّنه رواية النّسائيّ من طريق إسماعيل - قيل هو ابن أُميَّة ، وقيل غيره - عن نافعٍ ، بلفظ " إلَّا أن يكون البيع كان عن خِيَار. فإن كان البيع عن خِيَار وجب البيع "

القول الرابع: هو استثناء من إثبات خِيَار المجلس، والمعنى أو يخيّر أحدهما الآخر فيختار في خِيَار المجلس فينتفي الخِيَار.

وهذا أضعف هذه الاحتمالات.

(1) هو يحيى بن شرف ، سبق ترجمته (1/ 22)

(2)

في المطبوع من الفتح (أو يفرق ..) وهي غريبة ، ولعل الصواب ما أثبتّه ، وهو الموافق للفظ الحديث. والله أعلم.

ص: 20

القول الخامس: قوله " إلَّا أن يكون بيع خِيَار " أي: هما بالخِيَار ما لَم يتفرّقا إلَّا أن يتخايرا - ولو قبل التّفرّق - وإلا أن يكون البيع بشرط الخِيَار - ولو بعد التّفرّق - وهو قولٌ يجمع التّأويلين الأوّلين.

ويؤيّده رواية عبد الرّزّاق عن سفيان (1) عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر حيث قال فيه " إلَّا بيع الخِيَار أو يقول لصاحبه اختر " إن حملنا " أو " على التّقسيم لا على الشّكّ.

قوله: (وإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولَم يترك واحدٌ منهما البيع) أي: لَم يفسخه.

قوله: (فقد وجب البيع) أي: بعد التّفرّق، وهذا ظاهرٌ جدّاً في انفساخ البيع بفسخ أحدهما.

قال الخطّابيّ (2): هذا أوضح شيءٍ في ثبوت خِيَار المجلس، وهو مبطلٌ لكل تأويلٍ مخالفٍ لظاهر الحديث، وكذلك قوله في آخره " وإن تفرّقا بعد أن تبايعا " فيه البيان الواضح أنّ التّفرّق بالبدن هو القاطع للخِيَار، ولو كان معناه التّفرّق بالقول لخلا الحديث عن فائدةٍ. انتهى.

(1) وقد أخرجه البخاري في " الصحيح "(2113) عن محمد بن يوسف عن سفيان به. دون قوله " أو يقول لصاحبه: اختر "

وكذا أخرجه مسلم (3936) من طريق إسماعيل بن جعفر عن ابن دينار. دون الزيادة.

(2)

حمد بن محمد البستي. تقدمت ترجمته (1/ 61).

ص: 21

وقد أقدم الدّاوديّ (1) على ردّ هذا الحديث المتّفق على صحّته بما لا يقبل منه ، فقال: قول الليث في هذا الحديث " وكانا جميعاً .. إلخ " ليس بمحفوظٍ ، لأنّ مقام الليث في نافعٍ ليس كمقام مالكٍ ونظرائه. انتهى

وهو ردٌّ لِما اتّفق الأئمّة على ثبوته بغير مستندٍ، وأيّ لومٍ على من روى الحديث مفسّراً لأحد محتملاته حافظاً من ذلك ما لَم يحفظه غيره مع وقوع تعدّد المجلس، فهو محمولٌ على أنّ شيخهم حدّثهم به تارة مفسّراً وتارة مختصراً.

تنبيهٌ: قوله " أو يخيّر أحدهما الآخر " بإسكان الرّاء من " يخيّر " عطفاً على قوله " ما لَم يتفرّقا "، ويحتمل: نصب الرّاء على أنّ " أو " بمعنى " إلَّا أن " كما تقدّم قريباً مثله في قوله " أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر "

قوله في الحديث الآخر: (عن حكيم بن حزام) بن خويلد الأسدي. (2)

(1) هو أحمد بن نصر ، سبق ترجمته (1/ 312)

(2)

ابن أخي خديجة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم. ويكنى أبا خالد له حديث في الكتب السّتة.

قال موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة مولى الزّبير: سمعت حكيم بن حزام يقول: ولدت قبل الفيل بثلاث عشرة سنة. وأنا أعقل حين أراد عبد المطلب أنْ يذبح عبد اللَّه ابنه. وحكى الزّبير بن بكّار ، أنّ حكيماً ولد في جوف الكعبة، قال: وكان من سادات قريش، وكان صديق النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل المبعث، وكان يودّه ويحبه بعد البعثة، ولكنه تأخر إسلامه حتى أسلم عام الفتح. وكان من المؤلفة.

وشهد حنيناً وأعطي من غنائمها مائة بعير، ثم حسن إسلامه، وكان قد شهد بدرا مع الكفّار، ونجا مع من نجا، فكان إذا اجتهد في اليمين قال: والّذي نجّاني يوم بدر.

وفي الصّحيح ، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشياء كنت أفعلها في الجاهلية ألي فيها أجر؟ قال: أسلمت على ما سلف لك من خير.

وكان من العلماء بأنساب قريش وأخبارها. مات سنة 50، وقيل سنة 54، وقيل: 58 ، وقيل سنة 60. وهو ممن عاش 120 سنة شطرها في الجاهلية في الإسلام.

قال البخاري في " التاريخ ": مات سنة 60، وهو ابن 120 سنة. قاله إبراهيم بن المنذر، ثم أسند من طريق عمر بن عبد اللَّه بن عروة، عن عروة، قال: مات لعشر سنوات من خلافة معاوية. قال في الإصابة بتجوز.

ص: 22

قوله: (البيّعان) بفتح الموحّدة وتشديد التّحتانيّة. أي: البائع والمشتري.

قوله: (بالْخِيَار) أي: بخِيَار المجلس.

وتقدّم الكلام عليه مستوفى في حديث ابن عمر الماضي.

قوله: (ما لَم يتفرّقا) في رواية همّامٍ عن قتادة عن أبي الخليل عن عبد الله بن الحارث عن حكيم بن حزام عند البخاري " ما لَم يفترقا "، وزاد " قال همام: وجدت في كتابي " يختار ثلاث مرار .. ".

وفي رواية سليمان بن موسى عن نافع عن ابن عمر، وعن عطاء عن ابن عبّاس مرفوعاً " ما لَم يفارقه صاحبه ، فإن فارقه فلا خِيَار له "

وقد اختلف القائلون بأنّ المراد أن يتفرّقا بالأبدان ، هل للتّفرّق المذكور حدٌّ ينتهى إليه؟.

والمشهور الرّاجح من مذهب العلماء في ذلك أنّه موكولٌ إلى العرف، فكل ما عدّ في العرف تفرّقاً حكم به وما لا فلا.

ص: 23

وقوله: " يختار ثلاث مرار " أشار أبو داود: إلى أنّ همّاماً تفرّد بذلك عن أصحاب قتادة، ووقع عند أحمد عن عفّان عن همّام قال: وجدت في كتابي الخِيَار ثلاث مرار. ولَم يصرّح همّامٌ بمن حدّثه بهذه الزّيادة. فإن ثبتت فهي على سبيل الاختيار. وقد أخرجه الإسماعيليّ وجه آخر عن حبّان بن هلالٍ. فذكر هذه الزّيادة في آخر الحديث.

قوله: (فإن صدقا وبيّنا) أي: صدق البائع في إخبار المشترى مثلاً ، وبيّن العيب إن كان في السّلعة، وصدق المشتري في قدر الثّمن مثلاً ، وبيّن العيب إن كان في الثّمن، ويحتمل: أن يكون الصّدق والبيان بمعنىً واحدٍ ، وذِكْر أحدهما تأكيدٌ للآخر.

قوله: (مُحقت بركةُ بيعِهما) وللبخاري من رواية همام " وإن كذبا وكتما فعسى أن يربحاً ربحاً ويمحقا بركة بيعهما ".

وفي الحديث حصول البركة لهما إن حصل منهما الشّرط وهو الصّدق والتّبيين، ومَحْقُها إن وجد ضدّهما وهو الكذب والكتم.

وهل تحصل البركة لأحدهما إذا وجد منه المشروط دون الآخر؟.

ظاهر الحديث يقتضيه، ورجّحه ابن أبي جمرة.

ويحتمل: أن يعود شؤم أحدهما على الآخر بأن تنزع البركة من المبيع إذا وجد الكذب أو الكتم من كل واحدٍ منهما، وإن كان الأجر ثابتاً للصّادق المبيّن، والوزر حاصلٌ للكاذب الكاتم.

وفي الحديث أنّ الدّنيا لا يتمّ حصولها إلَّا بالعمل الصّالح، وأنّ شؤم المعاصي يذهب بخير الدّنيا والآخرة.

ص: 24

تكميل: روى أحمد وابن ماجه والحاكم من طريق عبد الرّحمن بن شماسة - بكسر المعجمة وتخفيف الميم وبعد الألف مهملةٌ - عن عقبة مرفوعاً بلفظ: المسلم أخو المسلم، ولا يحلُّ لمسلمٍ باع من أخيه بيعاً فيه غشٌّ إلَّا بيّنه له. وفي رواية أحمد " يعلم فيه عيباً " وإسناده حسنٌ.

وروى التّرمذيّ والنّسائيّ وابن ماجه وابن الجارود وابن منده كلهم من طريق عبد المجيد بن أبي يزيد قال: قال لي العدَّاء بن خالد بن هوذة: ألا أقرئك كتاباً كتبه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قلت: بلى فأخرج لي كتاباً. هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى منه عبداً أو أمةً لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم المسلم.

قوله " بيع المسلم المسلم ". فيه أنّه ليس من شأن المسلم الخديعة قوله " لا داء " أي: لا عيب، والمراد به الباطن سواء ظهر منه شيءٌ أم لا. كوجع الكبد والسّعال. قاله المطرّزيّ.

وقال ابن المنيّر (1) في الحاشية: قوله " لا داء " أي: يكتمه البائع، وإلا فلو كان بعبدٍ داءٌ وبيّنه البائع لكان من بيع المسلم للمسلم، ومحصّله أنّه لَم يرد بقوله لا داء نفي الدّاء مطلقاً بل نفي داءٍ مخصوصٍ. وهو ما لَم يطّلع عليه.

قوله " ولا خبثة " بكسر المعجمة وبضمّها وسكون الموحّدة بعدها

(1) هو علي بن محمد الاسكندراني ، سبق ترجمته (2/ 378)

ص: 25

مثلثةٌ. أي: مسبيّاً من قوم لهم عهد. قاله المطرّزيّ.

وقيل: المراد الأخلاق الخبيثة كالإباق، وقال صاحب " العين " الرّيبة. وقيل: المراد الحرام كما عبّر عن الحلال بالطّيّب.

وقال ابن العربيّ: الدّاء ما كان في الخلق بالفتح والخبثة ما كان في الخلق بالضّمّ، والغائلة سكوت البائع على ما يعلم من مكروهٍ في المبيع.

قوله " ولا غائلة " بالمعجمة ، أي: ولا فجور، وقيل: المراد الإباق.

وقال ابن بطّال (1): هو من قولهم اغتالني فلانٌ. إذا احتال بحيلةٍ يتلف بها مالي.

(1)((هو علي بن خلف ، سبق ترجمته (1/ 34)

ص: 26