الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع والثلاثون
290 -
عن النّعمان بن بشيرٍ رضي الله عنه ، قال: تصدّق عليَّ أَبِي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق أَبِي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفعلتَ هذا بولدك كلهم ، قال: لا، قال: اتقوا الله، واعدلوا في أولادكم، فرجع أَبِي، فردّ تلك الصّدقة.
وفي لفظ قال: فلا تشهدني إذاً، فإني لا أشهد على جورٍ. (1)
وفي لفظ: فأشهد على هذا غيري. (2)
قوله: (عن النّعمان بن بشير)(3) كذا لأكثر أصحاب الزّهريّ، وأخرجه النّسائيّ من طريق الأوزاعيّ عن ابن شهاب ، أنّ محمّد بن النّعمان وحميد بن عبد الرّحمن حدّثاه عن بشير بن سعد " جعله من مسند بشير فشذّ بذلك، والمحفوظ أنّه عنهما عن النّعمان.
وقد روى هذا الحديثَ عن النّعمان عددٌ كثيرٌ من التّابعين.
(1) أخرجه البخاري (2447 ، 2507) ومسلم (1623) من طرق عن عامر الشعبي عن النعمان بن بشير به.
وأخرجه البخاري (2446) ومسلم (1623) من طرق عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن ومحمد بن النعمان بن بشير حدّثاه عن النعمان رضي الله عنه. نحوه.
وأخرجه مسلم (1623) من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن النعمان نحوه.
(2)
أخرجه مسلم (1623) من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن النعمان به.
(3)
تقدمت ترجمته في كتاب الصلاة رقم (76).
منهم عروة بن الزّبير عند مسلم والنّسائيّ وأبي داود، وأبو الضّحى عند النّسائيّ وابن حبّان وأحمد والطّحاويّ، والمفضّل بن المُهلَّب عند أحمد وأبي داود والنّسائيّ، وعبد الله بن عتبة بن مسعود عند أحمد، وعون بن عبد الله عند أبي عوانة، والشّعبيّ في الصّحيحين وأبي داود وأحمد والنّسائيّ وابن ماجه وابن حبّان وغيرهم، ورواه عن الشّعبيّ عدد كثير أيضاً.
وسأذكر ما في رواياتهم من الفوائد الزّائدة على هذه الطّريق مفصّلاً إن شاء الله تعالى.
قوله: (تصدَّق عليَّ أَبِي) والد النّعمان. هو ابن سعد بن ثعلبة بن الجلاس - بضمّ الجيم وتخفيف اللام – الخزرجيّ، صحابيّ شهير من أهل بدر وشهد غيرها.
ومات في خلافة أبي بكر سنة ثلاث عشرة، ويقال: إنّه أوّل من بايع أبا بكر من الأنصار، وقيل: عاش إلى خلافة عمر.
قوله: (ببعض ماله) في رواية مالك عن الزهري عند الشيخين " أنّ أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني غلاماً " بفتح النّون والمهملة، والنّحلة: بكسر النّون وسكون المهملة العطيّة بغير عوض.
وفي رواية الشّعبيّ في البخاري " أعطاني أبي عطيّة، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتّى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّي أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطيّة ".
وللبخاري من طريق أبي حبّان عن الشّعبيّ سبب سؤالها شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولفظه " عن النّعمان قال: سألت أمّي أبي بعض الموهبة لي من ماله ".
زاد مسلم والنّسائيّ من هذا الوجه " فالتوى بها سنة " أي: مطلها. وفي رواية ابن حبّان من هذا الوجه " بعد حولين ".
ويجمع بينهما: بأنّ المدّة كانت سنة وشيئاً فجبر الكسر تارة وألغى أخرى.
قال (1): ثمّ بدا له فوهبها لي، فقالت له: لا أرضى حتّى تشهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: فأخذ بيدي وأنا غلام ". ولمسلمٍ من طريق داود بن أبي هند عن الشّعبيّ عن النّعمان " انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
ويجمع بينهما: بأنّه أخذ بيده فمشى معه بعض الطّريق وحمله في بعضها لصغر سنّه، أو عبّر عن استتباعه إيّاه بالحمل.
وقد تبيّن من رواية مالك ، أنّ العطيّة كانت غلاماً، وكذا في رواية ابن حبّان المذكورة، وكذا لأبي داود من طريق إسماعيل بن سالم عن الشّعبيّ، ولمسلمٍ في رواية عروة وحديث جابر معاً.
ووقع في رواية أبي حريز - بمهملةٍ وراء ثمّ زاي بوزنٍ عظيمٍ - عند
(1) كذا فيه. ولم يذكر الشارح من أخرجها. وهي في صحيح البخاري (2507) في كتاب الشهادات. من طريق أبي حيان عن الشعبي عن النعمان به.
ابن حبّان والطّبرانيّ عن الشّعبيّ ، أنّ النّعمان خطب بالكوفة فقال: إنّ والدي بشير بن سعد أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ عمرة بنت رواحة نفست بغلامٍ، وإنّي سمّيته النّعمان، وإنّها أبت أن تربّيه حتّى جعلت له حديقةً من أفضل مال هو لي ، وأنّها قالت: أشهد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: لا أشهد على جورٍ.
وجمع ابن حبّان بين الرّوايتين: بالحمل على واقعتين.
إحداهما: عند ولادة النّعمان ، وكانت العطيّة حديقة.
والأخرى: بعد أن كبُر النّعمان ، وكانت العطيّة عبداً.
وهو جمع لا بأس به، إلَّا أنّه يعكّر عليه أنّه يبعد أن ينسى بشير بن سعد - مع جلالته - الحكمَ في المسألة حتّى يعود إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيستشهده على العطيّة الثّانية بعد أن قال له في الأولى " لا أشهد على جورٍ ".
وجوّز ابن حبّان: أن يكون بشير ظنّ نسخ الحكم.
وقال غيره: يحتمل أن يكون حمل الأمر الأوّل على كراهة التّنزيه، أو ظنّ أنّه لا يلزم من الامتناع في الحديقة الامتناع في العبد ، لأنّ ثمن الحديقة في الأغلب أكثر من ثمن العبد.
ثمّ ظهر لي وجه آخر من الجمع يسلم من هذا الخدش ، ولا يحتاج إلى جوابٍ. وهو أنّ عمرة لَمَّا امتنعت من تربيته إلَّا أن يهب له شيئاً يخصّه به وهبه الحديقة المذكورة تطييباً لخاطرها، ثمّ بدا له فارتجعها ، لأنّه لَم يقبضها منه أحد غيره، فعاودته عمرة في ذلك فمطلها سنة أو
سنتين ، ثمّ طابت نفسه أن يهب له بدل الحديقة غلاماً ورضيت عمرة بذلك، إلَّا أنّها خشيت أن يرتجعه أيضاً ، فقالت له: أشهد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم تريد بذلك تثبيت العطيّة وأن تأمن من رجوعه فيها، ويكون مجيئه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم للإشهاد مرّة واحدة وهي الأخيرة.
وغاية ما فيه أنّ بعض الرّواة حفظ ما لَم يحفظ بعض، أو كان النّعمان يقصّ بعض القصّة تارة ويقصّ بعضها أخرى، فسمع كل ما رواه فاقتصر عليه، والله أعلم.
قوله: (فقالت أُمّي عمرة بنت رواحة) ابن ثعلبة الخزرجيّة أخت عبد الله بن رواحة الصّحابيّ المشهور.
ووقع عند أبي عوانة من طريق عون بن عبد الله أنّها بنت عبد الله بن رواحة. والصّحيح الأوّل، وبذلك ذكرها ابن سعد وغيره وقالوا: كانت ممّن بايع النّبيّ صلى الله عليه وسلم من النّساء. وفيها يقول قيس بن الخطيم بفتح المعجمة:
وعمرة من سروات النّسا
…
ء تنفح بالمسك أردانها
قوله: (أفعلتَ هذا بولدك كلهم ، قال: لا) وفي رواية مالك " فقال: أكل ولدك نحلت مثله ". زاد في رواية أبي حيّان عند مسلم " فقال: ألك ولد سواه؟ قال: نعم ، فقال: أكلهم وهبت له هذا؟ قال: لا ".
وقال مسلم لَمَّا رواه من طريق الزّهريّ: أمّا يونس ومعمر فقالا: أَكلَّ بنيك. وأمّا الليث وابن عيينة فقالا: أَكلَّ ولدك.
وله من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشّعبيّ فقال: ألك بنون سواه؟ قال: نعم. قال: فكلهم أعطيت مثل هذا؟ قال: لا ، وفي رواية ابن القاسم في " الموطّآت للدّارقطنيّ عن مالك " قال: لا والله يا رسولَ الله ".
قلت: ولا منافاة بينهما ، لأنّ لفظ الولد يشمل ما لو كانوا ذكوراً، أو إناثاً وذكوراً، وأمّا لفظ البنين فإن كانوا ذكوراً فظاهر ، وإن كانوا إناثاً وذكوراً فعلى سبيل التّغليب؛ ولَم يذكر ابن سعد لبشيرٍ - والد النّعمان - ولداً غير النّعمان، وذكر له بنتاً اسمها أُبيّة بالموحّدة تصغير أبٍ.
قوله: (قال: اتقوا الله، واعدلوا في أولادكم، فرجع أبي، فردّ تلك الصّدقة) في رواية مالك عن الزهري " قال: فارجعه " ولمسلمٍ من طريق إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب " قال: فاردده ". وله وللنّسائيّ من طريق عروة مثله، وفي رواية الشّعبيّ " قال: فرجع فردّ عطيّته " ولمسلمٍ " فردّ تلك الصّدقة "
قوله: (فلا تشهدني إذاً، فإني لا أشهد على جورٍ ، وفي لفظ: فأشهد على هذا غيري) في رواية أبي حيّان عند البخاري " قال: لا تشهدني على جور " ، ومثله لمسلمٍ من رواية عاصم عن الشّعبيّ ، وفي حديث جابر " فليس يصلح هذا ، وإنّي لا أشهد إلَّا على حقٍّ ".
ولعبد الرّزّاق من طريق طاوسٍ مرسلاً " لا أشهد إلَّا على الحقّ،
لا أشهد بهذه " (1) وفي رواية عروة عند النّسائيّ " فكره أن يشهد له ".
وفي رواية المغيرة عن الشّعبيّ عند مسلم " اعدلوا بين أولادكم في النّحل، كما تحبّون أن يعدلوا بينكم في البرّ ".
وفي رواية مجالد عن الشّعبيّ عند أحمد " إنّ لبنيك عليك من الحقّ أن تعدل بينهم، فلا تشهدني على جور، أيسرّك أن يكونوا إليك في البرّ سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذاً ".
ولأبي داود من هذا الوجه " إنّ لهم عليك من الحقّ أن تعدل بينهم، كما أنّ لك عليهم من الحقّ أن يبرّوك ". وللنّسائيّ من طريق أبي الضّحى " ألا سوّيت بينهم " ، وله ولابن حبّان من هذا الوجه " سوّ بينهم "
واختلاف الألفاظ في هذه القصّة الواحدة يرجع إلى معنىً واحدٍ.
وقد تمسّك به من أوجب السّويّة في عطيّة الأولاد، وبه صرّح البخاريّ، وهو قول طاوسٍ والثّوريّ وأحمد وإسحاق، وقال به بعض المالكيّة.
ثمّ المشهور عن هؤلاء أنّها باطلة.
وعن أحمد: تصحّ، ويجب أن يرجع.
وعنه: يجوز التّفاضل إن كان له سببٌ، كأن يحتاج الولد لزمانته
(1) ولهذه الزيادة أعني (إلَّا على الحق) شاهدٌ من حديث جابر رضي الله عنه أخرجه مسلم في " صحيحه "(1624) ، وأبو داود (3545) وغيرهما.
ودينه أو نحو ذلك دون الباقين.
وقال أبو يوسف: تجب التّسوية إن قصد بالتّفضيل الإضرار.
وذهب الجمهور إلى أنّ التّسوية مستحبّة، فإن فضّل بعضاً صحّ وكره. واستحبّت المبادرة إلى التّسوية أو الرّجوع، فحملوا الأمر على النّدب والنّهي على التّنزيه.
ومن حجّة من أوجبه: أنّه مقدّمة الواجب ، لأنّ قطع الرّحم والعقوق محرّمان فما يؤدّي إليهما يكون محرّماً ، والتّفضيل ممّا يؤدّي إليهما.
ثمّ اختلفوا في صفة التّسوية.
القول الأول: قال محمّد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض الشّافعيّة والمالكيّة. العدل أن يعطي الذّكر حظّين كالميراث.
واحتجّوا بأنّه حظّها من ذلك المال لو أبقاه الواهب في يده حتّى مات.
القول الثاني: لا فرق بين الذّكر والأنثى، وظاهر الأمر بالتّسوية يشهد له.
واستأنسوا بحديث ابن عبّاس رفعه " سوّوا بين أولادكم في العطيّة، فلو كنت مفضّلاً أحداً لفضّلت النّساء " أخرجه سعيد بن منصور والبيهقيّ من طريقه. وإسناده حسن.
وأجاب: من حمل الأمر بالتّسوية على النّدب عن حديث النّعمان بأجوبةٍ:
أحدها: أنّ الموهوب للنّعمان كان جميع مال والده ولذلك منعه، فليس فيه حجّة على منع التّفضيل. حكاه ابن عبد البرّ عن مالك. وتعقّبه: بأنّ كثيراً من طرق حديث النّعمان صرّح بالبعضيّة.
وقال القرطبيّ: ومن أبعد التّأويلات أنّ النّهي إنّما يتناول من وهب جميع ماله لبعض ولده كما ذهب إليه سحنون، وكأنّه لَم يسمع في نفس هذا الحديث ، أنّ الموهوب كان غلاماً وأنّه وهبه له لَمَّا سألته الأمّ الهبة من بعض ماله، قال: وهذا يعلم منه على القطع أنّه كان له مال غيره.
ثانيها: أنّ العطيّة المذكورة لَم تنجز، وإنّما جاء بشير يستشير النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك فأشار عليه بأن لا تفعل فترك. حكاه الطّحاويّ.
وفي أكثر طرق حديث الباب ما ينابذه.
ثالثها: أنّ النّعمان كان كبيراً ، ولَم يكن قبض الموهوب فجاز لأبيه الرّجوع، ذكره الطّحاويّ.
وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث أيضاً خصوصاً قوله: " ارجعه " فإنّه يدل على تقدّم وقوع القبض.
والذي تضافرت عليه الرّوايات أنّه كان صغيراً ، وكان أبوه قابضاً له لصغره، فأمر بردّ العطيّة المذكورة بعدما كانت في حكم المقبوض.
رابعها: أنّ قوله: " ارجعه " دليل على الصّحّة، ولو لَم تصحّ الهبة لَم يصحّ الرّجوع، وإنّما أمره بالرّجوع لأنّ للوالد أن يرجع فيما وهبه لولده - وإن كان الأفضل خلاف ذلك - لكن استحباب التّسوية
رجح على ذلك فلذلك أمره به.
وفي الاحتجاج بذلك نظرٌ.
والذي يظهر أنّ معنى قوله: " ارجعه " أي: لا تمض الهبة المذكورة، ولا يلزم من ذلك تقدّم صحّة الهبة.
خامسها: أنّ قوله: " أشهد على هذا غيري " إذن بالإشهاد على ذلك، وإنّما امتنع من ذلك لكونه الإمام، وكأنّه قال: لا أشهد لأنّ الإمام ليس من شأنه أن يشهد وإنّما من شأنه أن يحكم، حكاه الطّحاويّ أيضاً، وارتضاه ابن القصّار.
وتعقّب: بأنّه لا يلزم من كون الإمام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمّل الشّهادة ولا من أدائها إذا تعيّنت عليه، وقد صرّح المحتجّ بهذا أنّ الإمام إذا شهد عند بعض نوّابه جاز.
وأمّا قوله إنّ قوله: " أشهد " صيغة إذنٍ فليس كذلك، بل هو للتّوبيخ لِمَا يدل عليه بقيّة ألفاظ الحديث، وبذلك صرّح الجمهور في هذا الموضع.
وقال ابن حبّان: قوله: " أشهد " صيغة أمر. والمراد به نفي الجواز وهو كقوله لعائشة: " اشترطي لهم الولاء " انتهى.
سادسها: التّمسّك بقوله: " ألا سوّيت بينهم " على أنّ المراد بالأمر الاستحباب وبالنّهي التّنزيه.
وهذا جيّدٌ. لولا ورود تلك الألفاظ الزّائدة على هذه اللفظة، ولا سيّما أنّ تلك الرّواية بعينها وردت بصيغة الأمر أيضاً حيث قال:
" سوّ بينهم ".
سابعها: وقع عند مسلم عن ابن سيرين ما يدل على أنّ المحفوظ في حديث النّعمان " قاربوا بين أولادكم لا سوّوا ".
وتعقّب: بأنّ المخالفين لا يوجبون المقاربة كما لا يوجبون التّسوية.
ثامنها: في التّشبيه الواقع في التّسوية بينهم بالتّسوية منهم في برّ الوالدين قرينة تدل على أنّ الأمر للنّدب، لكن إطلاق الجور على عدم التّسوية، والمفهوم من قوله:" لا أشهد إلَّا على حقّ " وقد قال في آخر الرّواية التي وقع فيها التّشبيه " قال: فلا إذاً ".
تاسعها: عمل الخليفتين أبي بكر وعمر بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم على عدم التّسوية قرينة ظاهرة في أنّ الأمر للنّدب.
فأمّا أبو بكر. فرواه الموطّأ بإسنادٍ صحيح عن عائشة ، أنّ أبا بكر قال لها في مرض موته " إنّي كنت نحلتكِ نُحلاً فلو كنت احتزتيه لكان لك، وإنّما هو اليوم للوارث ".
وأمّا عمر. فذكر الطّحاويّ وغيره: أنّه نحل ابنه عاصماً دون سائر ولده.
وقد أجاب عروة عن قصّة عائشة: بأنّ إخوتها كانوا راضين بذلك، ويجاب بمثل ذلك عن قصّة عمر.
عاشر الأجوبة: أنّ الإجماع انعقد على جواز عطيّة الرّجل ماله لغير ولده، فإذا جاز له أن يخرج جميع ولده من ماله جاز له أن يخرج عن ذلك بعضهم، ذكره ابن عبد البرّ.
ولا يخفى ضعفه ، لأنّه قياس مع وجود النّصّ.
وزعم بعضهم أنّ معنى قوله: " لا أشهد على جور " أي: لا أشهد على ميل الأب لبعض الأولاد دون بعض.
وفي هذا نظرٌ لا يخفى، ويردّه قوله في الرّواية " لا أشهد إلَّا على الحقّ ".
وحكى ابن التّين عن الدّاوديّ: أنّ بعض المالكيّة احتجّ بالإجماع على خلاف ظاهر حديث النّعمان، ثمّ ردّه عليه.
واستدلَّ به أيضاً على أنّ للأب أن يرجع فيما وهبه لابنه وكذلك الأمّ، وهو قول أكثر الفقهاء.
إلَّا أنّ المالكيّة فرّقوا بين الأب والأمّ ، فقالوا: للأمّ أن ترجع إن كان الأب حيّاً دون ما إذا مات، وقيّدوا رجوع الأب بما إذا كان الابن الموهوب له لَم يستحدث ديناً أو ينكح، وبذلك قال إسحاق.
وقال الشّافعيّ: للأب الرّجوع مطلقاً.
وقال أحمد: لا يحل لواهبٍ أن يرجع في هبته مطلقاً.
وقال الكوفيّون: إن كان الموهوب صغيراً لَم يكن للأب الرّجوع، وكذا إن كان كبيراً وقبضها، قالوا: وإن كانت الهبة لزوجٍ من زوجته أو بالعكس أو لذي رحمٍ لَم يجز الرّجوع في شيء من ذلك.
ووافقهم إسحاق في ذي الرّحم ، وقال: للزّوجة أن ترجع بخلاف الزّوج.
والاحتجاج لكل واحدٍ من ذلك يطول.
وحجّة الجمهور في استثناء الأب ، أنّ الولد وماله لأبيه (1) فليس في الحقيقة رجوعاً، وعلى تقدير كونه رجوعاً فربّما اقتضته مصلحة التّأديب، ونحو ذلك.
وحديث الباب ظاهر في الجواز.
وأخرج أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عبّاس وابن عمر " لا يحلُّ لرجلٍ يعطي عطيّةً أو يهب هبة فيرجع فيها ، إلَّا الوالد فيما يعطي ولده " ورجاله ثقات.
وفي الحديث أيضاً النّدب إلى التّآلف بين الإخوة وترك ما يوقع بينهم الشّحناء أو يورث العقوق للآباء، وأنّ عطيّة الأب لابنه الصّغير في حجره لا تحتاج إلى قبض.
وأنّ الإشهاد فيها يغني عن القبض.
وقيل: إن كانت الهبة ذهباً أو فضّة فلا بدّ من عزلها وإفرازها.
وفيه كراهة تحمّل الشّهادة فيما ليس بمباحٍ ، وأنّ الإشهاد في الهبة
(1) للحديث المشهور " أنت ومالك لأبيك ".
قال الشارح في " الفتح "(5/ 260): أخرجه ابن ماجه من حديث جابر، قال الدارقطني: غريب تفرد به عيسى بن يونس بن أبي إسحاق ويوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق عن ابن المنكدر. وقال ابن القطان: إسناده صحيح. وقال المنذري: رجاله ثقات. وله طريق أخرى عن جابر عند الطبراني في " الصغير " والبيهقي في " الدلائل " فيها قصة مطولة.
وفي الباب عن عائشة في " صحيح ابن حبان " وعن سمرة وعن عمر كلاهما عند البزار، وعن ابن مسعود عند الطبراني، وعن ابن عمر عند أبي يعلى، فمجموع طرقه لا تحطُّه عن القوة، وجواز الاحتجاج به. انتهى من الفتح.
مشروع وليس بواجبٍ.
وفيه جواز الميل إلى بعض الأولاد والزّوجات دون بعض وإن وجبت التّسوية بينهم في غير ذلك.
وفيه أنّ للإمام الأعظم أن يتحمّل الشّهادة، وتظهر فائدتها إمّا ليحكم في ذلك بعلمه عند من يجيزه، أو يؤدّيها عند بعض نوّابه.
وفيه مشروعيّة استفصال الحاكم والمفتي عمّا يحتمل الاستفصال، لقوله " ألك ولد غيره ، فلمّا قال: نعم ، قال: أفكلهم أعطيت مثله. فلمّا قال: لا ، قال: لا أشهد. فيفهم منه أنّه لو قال: نعم لشهد.
وفيه جواز تسمية الهبة صدقة، وأنّ للإمام كلاماً في مصلحة الولد، والمبادرة إلى قبول الحقّ، وأمر الحاكم والمفتي بتقوى الله في كل حال.
وفيه إشارة إلى سوء عاقبة الحرص والتّنطّع، لأنّ عمرة لو رضيت بما وهبه زوجها لولده لِمَا رجع فيه، فلمّا اشتدّ حرصها في تثبيت ذلك أفضى إلى بطلانه.
وقال المُهلَّب: فيه أنّ للإمام أن يردّ الهبة والوصيّة ممّن يعرف منه هروباً عن بعض الورثة، والله أعلم.