الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الواحد والأربعون
297 -
عن زيد بن خالدٍ الجُهنيّ رضي الله عنه ، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لُقطة الذهب أو الورق، فقال: اعرف وكاءَها وعفاصَها، ثم عرّفها سنة، فإن لَم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعةً عندك، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر، فأدّها إليه، وسأله عن ضالة الإبل، فقال: مالك ولها؟ دعها فإنّ معها حذاءَها وسقاءَها، ترِد الماء، وتأكلُ الشجر، حتى يجدَها ربُّها، وسألَه عن الشاة، فقال: خُذها، فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب. (1)
قوله: (عن زيد بن خالدٍ الجُهنيّ رضي الله عنه)(2)
قوله: (سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم) وللبخاري من رواية سفيان عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن " جاء أعرابيّ ". وفي رواية مالك عن ربيعة في الصحيحين " جاء رجلٌ ".
وزعم ابن بشكوال. وعزاه لأبي داود وتبعه بعض المتأخّرين: أنّ السّائل المذكور هو بلال المؤذّن، ولَم أر عند أبي داود في شيءٍ من
(1) أخرجه البخاري (91 ، 2243 ، 2295 ، 2296 ، 2297 ، 2304 ، 2306 ، 4986 ، 5761) ومسلم (1722) من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن. وكذا يحيى بن سعيد كلاهما عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد رضي الله عنه.
ولمسلم (1722) من وجهٍ آخر عن بسر بن سعيد عن زيد خالد نحوه مختصراً.
(2)
مختلف في كنيته أبو زرعة وأبو عبد الرحمن وأبو طلحة. شهد الحديبية ، وكان معه لواء جهينة يوم الفتح. قال ابن البرقي وغيره: مات سنة 78 بالمدينة. وله 85 ، وقيل: مات سنة 68 ، وقيل مات قبل ذلك في خلافة معاوية بالمدينة. قاله في الإصابة.
النّسخ شيئاً من ذلك.
وفيه بُعدٌ أيضاً ، لأنّه لا يوصف بأنّه أعرابيّ.
وقيل: السّائل هو الرّاوي.
وفيه بعدٌ أيضاً لِما ذكرناه.
ومستند مَن قال ذلك ما رواه الطّبرانيّ من وجهٍ آخر عن ربيعة بهذا الإسناد فقال فيه " إنّه سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم ".
لكن رواه أحمد من وجهٍ آخر عن زيد بن خالد فقال فيه ، أنّه سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أو أنّ رجلاً سأل. على الشّكّ.
وأيضاً فإنّ في رواية ابن وهب (1) المذكورة عن زيد بن خالد " أتى رجلٌ وأنا معه " فدلَّ هذا على أنّه غيره ، ولعله نسب السّؤال إلى نفسه لكونه كان مع السّائل.
ثمّ ظفرتُ بتسمية السّائل ، وذلك فيما أخرجه الحميديّ والبغويّ وابن السّكن والباروديّ والطّبرانيّ كلّهم من طريق محمّد بن معن الغفاريّ عن ربيعة عن عقبة بن سويد الجهنيّ عن أبيه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة؟ فقال: عرّفها سنةً ثمّ أوثق وعاءها. فذكر الحديث.
وقد ذكر أبو داود طرفاً منه تعليقاً. ولَم يسق لفظه. وكذلك
(1) رواية ابن وهب. أخرجها مسلم (1722) عنه عن مالك وسفيان وعمرو بن الحارث عن ربيعة به.
البخاريّ في " تاريخه ". وهو أولى ما يفسّر به هذا المبهم لكونه من رهط زيد بن خالد.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة والطّبرانيّ من حديث أبي ثعلبة الخشنيّ قال: قلت: يا رسولَ الله. الورق يوجد عند القرية؟، قال: عرّفها حولاً. الحديث، وفيه سؤاله عن الشّاة والبعير وجوابه. وهو في أثناء حديث طويلٍ. أخرج أصله النّسائيّ.
وقيل: هو عمير والد مالك ، وروى الإسماعيليّ في " الصّحابة " من طريق مالك بن عمير عن أبيه ، أنّه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة؟ فقال: إن وجدتَ من يعرفها فادفعها إليه. الحديث. وإسناده واهٍ جدّاً.
وروى الطّبرانيّ من حديث الجارود العبديّ قال: قلت: يا رسولَ الله اللقطة نجدها؟، قال: أنشدها ، ولا تكتم ولا تغيّب. الحديث.
قوله: (عن لقطة الذهب والفضة) في رواية سفيان " فسأله عمّا يلتقطه " في أكثر الرّوايات أنّه سأل عن اللقطة، زاد مسلم من طريق يحيى بن سعيد عن يزيد مولى المنبعث " الذّهب والفضّة ".
وهو كالمثال وإلَّا فلا فرق بينهما وبين الجوهر واللؤلؤ مثلاً وغير ذلك ممّا يستمتع به غير الحيوان في تسميته لقطة ، وفي إعطائه الحكم المذكور.
ووقع لأبي داود من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن أبيه بلفظ " وسئل عن اللقطة ".
قوله: (اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرّفها سنةً) في رواية الثوري " عرّفها سنةً ثمّ اعرف عفاصها ووكاءها " وفي رواية العقديّ عن سليمان بن بلال في البخاري " اعرف وكاءها أو قال: عفاصها ".
ولمسلمٍ من طريق بشير بن سعيد عن زيد بن خالد " فاعرف عفاصَها ووعاءَها وعددَها " زاد فيه العدد كما في حديث أبيّ بن كعب.
ووقع في رواية مالك كما في الصحيحين " اعرف عفاصها ووكاءها ، ثمّ عرّفها سنة ". ووافقه الأكثر.
نعم. وافق الثّوريّ. ما أخرجه أبو داود من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث بلفظ " عرّفها حولاً، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه، وإلَّا اعرف وكاءها وعفاصها ثمّ اقبضها في مالك " الحديث. وهو يقتضي أنّ التّعريف يقع بعد معرفة ما ذكر من العلامات.
ورواية الثوري. تقتضي أنّ التّعريف يسبق المعرفة.
وقال النّوويّ: يجمع بينهما بأن يكون مأموراً بالمعرفة في حالتين، فيعرّف العلامات أوّل ما يلتقط حتّى يعلم صدق واصفها إذا وصفها كما تقدّم، ثمّ بعد تعريفها سنةً إذا أراد أن يتملكها فيعرّفها مرّة أخرى تعرّفاً وافياً محقّقاً. ليعلم قدرها وصفتها فيردّها إلى صاحبها.
قلت: ويحتمل أن تكون " ثمّ " في الرّوايتين بمعنى الواو فلا تقتضي ترتيباً ، ولا تقتضي تخالفاً يحتاج إلى الجمع.
ويقوّيه كون المخرج واحداً والقصّة واحدة ، وإنّما يحسّن ما تقدّم أن
لو كان المخرج مختلفاً فيحمل على تعدّد القصّة، وليس الغرض إلَّا أن يقع التّعرّف والتّعريف مع قطع النّظر عن أيّهما أسبق.
واختلف في هذه المعرفة على قولين للعلماء.
ظهرهما: الوجوب لظاهر الأمر.
وقيل: يستحبّ.
وقال بعضهم: يجب عند الالتقاط، ويستحبّ بعده.
قوله: (وكاءها) بكسر الواو ما يربط به.
قوله: (وعفاصها) العفاص بكسر المهملة وتخفيف الفاء وبعد الألف مهملة: الوعاء الذي تكون فيه النّفقة جلداً كان أو غيره.
وقيل له العفاص أخذاً من العفص وهو الثّني ، لأنّ الوعاء يثنى على ما فيه.
وقد وقع في " زوائد المسند " لعبد الله بن أحمد من طريق الأعمش عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة في حديث أُبَيّ " وخِرْقتَها " بدل عفاصها ، والعفاص أيضاً الجلد الذي يكون على رأس القارورة، وأمّا الذي يدخل فم القارورة من جلدٍ أو غيره فهو الصّمام بكسر الصّاد المهملة.
قلت: فحيث ذكر العفاص مع الوعاء فالمراد الثّاني ، وحيث لَم يذكر العفاص مع الوعاء فالمراد به الأوّل، والغرض معرفة الآلات التي تحفظ النّفقة. ويلتحق بما ذكر حفظ الجنس والصّفة والقدر والكيل فيما يكال ، والوزن فيما يوزن ، والذّرع فيما يذرع.
وقال جماعةٌ من الشّافعيّة: يستحبّ تقييدها بالكتابة خوف النّسيان.
واختلفوا فيما إذا عرّف بعض الصّفات دون بعض بناءً على القول بوجوب الدّفع لمن عرّف الصّفة.
قال ابن القاسم: لا بدّ من ذكر جميعها.
وكذا قال أصبغ. لكن قال: لا يشترط معرفة العدد.
وقول ابن القاسم ، أقوى لثبوت ذكر العدد في الرّواية الأخرى وزيادة الحافظ حجّة.
قوله: (عرّفها) بالتّشديد وكسر الرّاء. أي: اذكرها للنّاس.
قال العلماء: محل ذلك المحافل كأبواب المساجد والأسواق ونحو ذلك، يقول: من ضاعت له نفقةٌ أو نحو ذلك من العبارات، ولا يذكر شيئاً من الصّفات.
وقوله: (سنة) أي: متوالية فلو عرّفها سنة متفرّقة لَم يكف كأن يعرّفها في كل سنةٍ شهراً فيصدق أنّه عرّفها سنةً في اثنتي عشرة سنةً.
وقال العلماء: يعرّفها في كل يومٍ مرّتين ، ثمّ مرّةً ثمّ في كل أسبوعٍ ، ثمّ في كل شهر، ولا يشترط أن يعرّفها بنفسه ، بل يجوز بوكيله ، ويعرّفها في مكان سقوطها وفي غيره.
وجمع بعضهم بين حديث أُبيّ بن كعب (1) وحديث زيد بن خالد
(1) حديث أُبَيٍّ رضي الله عنه أخرجه البخاري (2426 ، 2437) ومسلم (1723) من طريق سلمة سمعت سويد بن غفلة، قال: لقيت أبيَّ بن كعب رضي الله عنه، فقال: أخذت صرة مائة دينار، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: عرِّفها حولاً، فعرَّفتها حولاً، فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته، فقال: عرِّفها حولاً فعرِّفتها، فلم أجد، ثم أتيته ثلاثاً، فقال: احفظ وعاءها وعددها ووكاءها، فإن جاء صاحبها، وإلا فاستمتع بها، فاستمتعت، فلقيته بعد بمكة، فقال: لا أدري ثلاثة أحوال، أو حولا واحداً.
قال الحافظ في " الفتح "(5/ 99) قوله: " فلقيته بعدُ بمكة " القائل شعبة. والذي قال " لا أدري " هو شيخه سلمة بن كهيل، وقد بيّنه مسلم من رواية بهز بن أسد عن شعبة أخبرني سلمة بن كهيل. واختصر الحديث، قال شعبة: فسمعته بعد عشر سنين يقول: عرفها عاماً واحداً. وقد بينه أبو داود الطيالسي في " مسنده " أيضاً ، فقال في آخر الحديث: قال شعبة: فلقيت سلمة بعد ذلك فقال: لا أدري ثلاثة أحوال أو حولاً واحداً ". وأغرب ابن بطال فقال: الذي شكَّ فيه هو أُبي بن كعب، والقائل هو سويد بن غفلة. انتهى
ولَم يصب في ذلك. وإنْ تبعه جماعةٌ منهم المنذري، بل الشك فيه من أحد رواته وهو سلمة لَمَّا استثبته فيه شعبة، وقد رواه غير شعبة عن سلمة بن كهيل بغير شك جماعةٌ، وفيه هذه الزيادة، وأخرجها مسلم من طريق الأعمش والثوري وزيد بن أبي أنيسة وحماد بن سلمة كلهم عن سلمة. وقال: قالوا في حديثهم جميعا " ثلاثة أحوال " إلَّا حماد بن سلمة. فإن في حديثه عامين أو ثلاثة. انتهى
فإنّه لَم يختلف عليه (1) في الاقتصار على سنةٍ واحدةٍ.
فقيل: يحمل حديث أُبيّ بن كعب على مزيد الورع عن التّصرّف في اللقطة والمبالغة في التّعفّف عنها، وحديث زيد على ما لا بدّ منه، أو لاحتياج الأعرابيّ واستغناء أُبيٍّ.
قال المنذريّ: لَم يقل أحدٌ من أئمّة الفتوى أنّ اللقطة تُعرّف ثلاثة أعوام، إلَّا شيء جاء عن عمر. انتهى.
(1) أي: حديث زيد بن خالد رضي الله عنه.
وقد حكاه الماورديّ عن شواذّ من الفقهاء.
وحكى بن المنذر عن عمر أربعة أقوال: يعرّفها ثلاثة أحوال، عاماً واحداً ، ثلاثة أشهر، ثلاثة أيّام. ويحمل ذلك على عظم اللقطة وحقارتها.
وزاد ابن حزمٍ عن عمر قولاً خامساً. وهو أربعة أشهر.
وجزم ابن حزم وابن الجوزيّ: بأنّ هذه الزّيادة غلطٌ (1). قال: والذي يظهر أنّ سلمة أخطأ فيها ثمّ تثبّت واستذكر واستمرّ على عامٍ واحدٍ، ولا يؤخذ إلَّا بما لَم يشكّ فيه راويه.
وقال ابن الجوزيّ: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم عرف أنّ تعريفها لَم يقع على الوجه الذي ينبغي، فأمر أبيّاً بإعادة التّعريف كما قال للمسيء صلاته " ارجع فصل فإنّك لَم تصل " انتهى.
ولا يخفى بُعدُ هذا على مثل أبيٍّ رضي الله عنه مع كونه من فقهاء الصّحابة وفضلائهم.
وقد حكى صاحب الهداية من الحنفيّة: رواية عندهم أنّ الأمر في التّعريف مفوّضٌ لأمر الملتقط، فعليه أن يعرّفها إلى أن يغلب على ظنّه أنّ صاحبها لا يطلبها بعد ذلك، والله أعلم.
قوله: (فإن لَم تُعرف فاستنفقها) في رواية الثوري " فإن جاء أحدٌ يخبرك بها ، وإلَّا فاستنفقها " جواب الشّرط محذوف تقديره فأدّها
(1) أي: تعريف اللقظة ثلاث سنوات في حديث أبيِّ بنِ كعب رضي الله عنه. انظر التعليق السابق.
إليه.
وفي رواية محمّد بن يوسف عن سفيان كما في البخاري أيضاً " فإن جاء أحدٌ يخبرك بعفاصها ووكائها ".
وفي رواية مالك عن ربيعة " ثمّ عرّفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا شأنك بها " فيه حذف تقديره فإن جاء صاحبها فأدّها إليه ، وإن لَم يجئ فشأنك بها ، فحذف من هذه الرّواية جواب الشّرط الأوّل ، وشرط " إن " الثّانية والفاء من جوابها. قاله ابن مالك
وفي حديث أبيٍّ في الصحيحين بلفظ " فإن جاء صاحبها وإلَّا استمتع بها " وإنّما وقع الحذف من بعض الرّواة دون بعض، وفي رواية لهما في حديث أبيّ بلفظ " فاستمتع بها " بإثبات الفاء في الجواب الثّاني.
ومضى من رواية الثّوريّ عن ربيعة بلفظ " وإلا فاستنفقها " ومثله ما في الصحيحين من رواية إسماعيل بن جعفر عن ربيعة بلفظ " ثمّ استنفق بها، فإن جاء ربّها فأدّها إليه " ولمسلمٍ من طريق ابن وهب المُقدَّم ذكرها " فإذا لَم يأت لها طالبٌ فاستنفقها ".
واستدل به على أنّ اللاقط يملكها بعد انقضاء مدّة التّعريف، وهو ظاهر نصّ الشّافعيّ فإنّ قوله:" شأنك بها " تفويض إلى اختياره.
وقوله: " فاستنفقها " الأمر فيه للإباحة، والمشهور عند الشّافعيّة اشتراط التّلفّظ بالتّمليك.
وقيل: تكفي النّيّة. وهو الأرجح دليلاً.
وقيل: تدخل في ملكه بمجرّد الالتقاط. وقد روى الحديث سعيد بن منصور عن الدّراورديّ عن ربيعة بلفظ " وإلا فتصنع بها ما تصنع بمالك ".
واستدل به على أنّ الملتقط يتصرّف فيها سواء كان غنيّاً أو فقيراً.
وعن أبي حنيفة: إنْ كان غنيّاً تصدّق بها ، وإن جاء صاحبها تخيّر بين إمضاء الصّدقة أو تغريمه.
قال صاحب الهداية: إلَّا إن كان يأذن الإمام فيجوز للغنيّ كما في قصّة أبيّ بن كعب، وبهذا قال عمر وعليّ وابن مسعود وابن عبّاس وغيرهم من الصّحابة والتّابعين.
وقوله " شأنك بها " الشّأن الحال. أي: تصرّف فيها، وهو بالنّصب أي الزم شأنك بها، ويجوز الرّفع بالابتداء والخبر " بها " أي: شأنك متعلق بها.
قوله: (ولتكن وديعةً عندك) وللبخاري من رواية سليمان بن بلالٍ عن يحيى عن يزيد مولى المنبعث بلفظ " ثمّ عرّفها سنةً - يقول يزيد: إن لَم تعرف استنفق بها صاحبها، وكانت وديعةً عنده، قال يحيى: فهذا الذي لا أدري أفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو، أم شيءٌ من عنده؟ " والقائل " يقول يزيد " هو يحيى بن سعيد الأنصاريّ. والقائل " قال " هو سليمان.
والغرض أنّ يحيى بن سعيد شكّ هل قوله: " ولتكن وديعة عنده " مرفوع أو لا؟. وهذا القدر المشار إليه بهذا دون ما قبله لثبوت ما
قبله في أكثر الرّوايات وخُلوّها عن ذكر الوديعة.
وقد جزم يحيى بن سعيد برفعه مرّة أخرى ، وذلك فيما أخرجه مسلم عن القعنبيّ (1) والإسماعيليّ من طريق يحيى بن حسّان كلاهما عن سليمان بن بلال عن يحيى فقال فيه: فإن لَم تعرف فاستنفقها ، ولتكن وديعة عندك.
وكذلك جزم برفعها خالد بن مخلد عن سليمان بن ربيعة عند مسلم، والفهميّ عن سليمان عن يحيى وربيعة جميعاً. عند الطّحاويّ.
وقد أشار البخاريّ إلى رجحان رفعها فترجم " إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردّها عليه، لأنّها وديعةٌ عنده " أورده من طريق إسماعيل بن جعفر عن ربيعة ، وليس فيه ذكر الوديعة.
وقال ابن بطّال: استراب البخاريّ بالشّكّ المذكور. فترجمه بالمعنى.
وقال ابن المنير: أسقطها لفظاً وضمنها معنىً ، لأنّ قوله:" فإن جاء صاحبها فأدّها إليه " يدل على بقاء ملك صاحبها خلافاً لمن أباحها بعد الحول بلا ضمان.
وقوله: " ولتكن وديعة عندك ". قال ابن دقيق العيد:
يحتمل: أن يكون المراد بعد الاستنفاق وهو ظاهر السّياق، فتجوز بذكر الوديعة عن وجوب ردّ بدلها، لأنّ حقيقة الوديعة أن تبقى عينها
(1) رواية مسلم عن القعنبي هي التي اعتمدها صاحب العمدة هنا ، ولعل السبب أنَّ فيها زيادات ليست في غيرها. كما أشار إليها الشارح رحمه الله.
، والجامع وجوب ردّ ما يجد المرء لغيره ، وإلا فالمأذون في استنفاقه لا تبقى عينه.
ويحتمل: أن تكون الواو في قوله: " ولتكن " بمعنى أو، أي: إمّا أن تستنفقها وتغرم بدلها ، وإمّا أن تتركها عندك على سبيل الوديعة حتّى يجيء صاحبها فتعطيها له.
ويستفاد من تسميتها وديعة ، أنّها لو تلفت لَم يكن عليه ضمانها ، وهو اختيار البخاريّ تبعاً لجماعةٍ من السّلف.
وقال ابن المنير: يستدل به لأحد الأقوال عند العلماء إذا أتلفها الملتقط بعد التّعريف وانقضاء زمنه ، ثمّ أخرج بدلها ، ثمّ هلكت أن لا ضمان عليه في الثّانية، وإذا ادّعى أنّه أكلها ، ثمّ غرمها ثمّ ضاعت قُبل قوله أيضاً ، وهو الرّاجح من الأقوال.
قوله: (فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأدّها له) اختلف العلماء فيما إذا تصرّف في اللقطة بعد تعريفها سنةً ، ثمّ جاء صاحبها هل يضمنها له أم لا؟.
القول الأول: الجمهور على وجوب الرّدّ إن كانت العين موجودة، أو البدل إن كانت استهلكت.
القول الثاني: خالف في ذلك الكرابيسيّ صاحب الشّافعيّ ، ووافقه صاحباه البخاريّ وداود بن عليّ إمام الظّاهريّة، لكن وافق داود الجمهور إذا كانت العين قائمة.
ومن حجّة الجمهور: قوله في الرّواية الماضية " ولتكن وديعة
عندك " وقوله أيضاً عند مسلم في رواية بشر بن سعيد عن زيد بن خالد " فاعرف عفاصها ووكاءها ثمّ كلها، فإن جاء صاحبها فأدّها إليه ".
فإنّ ظاهر قوله: " فإن جاء صاحبها إلخ ". بعد قوله: " كلها " يقتضي وجوب ردّها بعد أكلها. فيحمل على ردّ البدل.
ويحتمل: أن يكون في الكلام حذفٌ يدل عليه بقيّة الرّوايات، والتّقدير فاعرف عفاصها ووكاءها ، ثمّ كلها إن لَم يجئ صاحبها ، فإن جاء صاحبها فأدّها إليه.
وأصرح من ذلك رواية أبي داود من هذا الوجه بلفظ " فإن جاء باغيها فأدّها إليه، وإلَّا فاعرف عفاصها ووكاءها ثمّ كلها، فإن جاء باغيها فأدّها إليه ". فأمر بأدائها إليه قبل الإذن في أكلها وبعده. وهي أقوى حجّة للجمهور.
وروى أبو داود أيضاً من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن أبيه عن زيد بن خالد في هذا الحديث " فإن جاء صاحبها دفعتها إليه ، وإلَّا عرفت وكاءها وعفاصها ، ثمّ اقبضها في مالك ، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه ".
وإذا تقرّر هذا ، أمكن حمل قول البخاري في التّرجمة " إذا لَم يوجد صاحب اللقطة فهي لمن وجدها " أي: في إباحة التّصرّف فيها حينئذٍ، وأمّا أمر ضمانها بعد ذلك فهو ساكتٌ عنه.
قال النّوويّ: إن جاء صاحبها قبل أن يتملكها الملتقط ، أخذها
بزوائدها المتّصلة والمنفصلة ، وأمّا بعد التّملك فإن لَم يجئ صاحبها فهي لمن وجدها ولا مطالبة عليه في الآخرة، وإن جاء صاحبها فإن كانت موجودة بعينها استحقّها بزوائدها المتّصلة ، ومهما تلف منها لزم الملتقط غرامته للمالك ، وهو قول الجمهور.
وقال بعض السّلف: لا يلزمه وهو ظاهرُ اختيارِ البخاريّ. والله أعلم.
قوله: (وسأله عن ضالة الإبل) الضّال الضّائع ، والضّال في الحيوان كاللقطة في غيره.
القول الأول: الجمهور. على القول بظاهر الحديث ، في أنّها لا تُلتقط.
القول الثاني: قال الحنفيّة: الأولى أن تلتقط.
وحمل بعضهم النّهي على من التقطها ليتملكها لا ليحفظها فيجوز له، وهو قول الشّافعيّة. وكذا إذا وجدت بقريةٍ فيجوز التّملك على الأصحّ عندهم، والخلاف عند المالكيّة أيضاً.
قال العلماء: حكمة النّهي عن التقاط الإبل ، أنّ بقاءها حيث ضلت أقرب إلى وجدان مالكها لها من تطلبه لها في رحال النّاس.
وقالوا: في معنى الإبل. كلّ ما امتنع بقوّته عن صغار السّباع.
تكملة: أخرج النّسائيّ بإسنادٍ صحيحٍ من حديث الجارود مرفوعاً: ضالة المسلم حرَقُ النّار.
وحمل الجمهور ذلك على من لا يعرّفها، وحجّتهم حديث زيد بن
خالد عند مسلم " من آوى الضّالة فهو ضالّ، ما لَم يعرّفها " ولَم ينكر صلى الله عليه وسلم على أُبيّ رضي الله عنه أخذه الصّرّة ، فدلَّ على أنّه جائزٌ شرعاً، ويستلزم اشتماله على المصلحة وإلاّ كان تصرّفاً في ملك الغير، وتلك المصلحة تحصل بحفظها وصيانتها عن الخونة وتعريفها لتصل إلى صاحبها.
ومن ثَمَّ كان الأرجح من مذاهب العلماء ، أنّ ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فمتى رجح أخذها وجب أو استحبّ، ومتى رجح تركها حرم أو كره، وإلا فهو جائز.
قوله: (مالك ولها. دعها) زاد في رواية سليمان بن بلال عن ربيعة في البخاري " فذرها حتّى يلقاها ربّها ".
وفي رواية سفيان " فتمعَّر وجه النبي صلى الله عليه وسلم " هو بالعين المهملة الثّقيلة. أي: تغيّر، وأصله في الشّجر إذا قلَّ ماؤه ، فصار قليل النّضرة عديم الإشراق، ويقال: للوادي المجدب أمعر.
ولو روي تمغّر - بالغين المعجمة - لكان له وجه. أي: صار بلون المغرة وهو حمرةٌ شديدةٌ إلى كمودةٍ.
ويقوّيه أنّ قوله في رواية إسماعيل بن جعفر " فغضب حتّى احمرّت وجنتاه أو وجهه ". شكّ من الرّاوي.
والوجنة ما ارتفع من الخدّين ، وفيها أربع لغات: بالواو والهمزة والفتح فيهما والكسر. والغضب: إمّا لأنّه كان نهى قبل ذلك عن التقاطها، وإمّا لأنّ السّائل قصّر في فهمه فقاس ما يتعيّن التقاطه على ما لا يتعيّن.
قوله: (فإنَّ معها حذاءها وسقاءها) في رواية سفيان " معها حذاؤها وسقاؤها " الحذاء: بكسر المهملة ثمّ ذال معجمة والمراد هنا خفّها.
وسقاؤها: هو بكسر أوّله والمراد بذلك أجوافها ، لأنّها تشرب فتكتفي به أيّاماً. وقيل: عنقها، وأشار بذلك إلى استغنائها عن الحفظ لها بما ركب في طباعها من الجلادة على العطش وتناول المأكول بغير تعبٍ لطول عنقها فلا تحتاج إلى ملتقط.
قوله: (وسأله عن الشاة، فقال: خذها) في رواية سفيان " قال: يا رسولَ الله فضالة الغنم؟ " أي: ما حكمها؟ فحذف ذلك للعلم به.
قال العلماء: الضّالة لا تقع إلَّا على الحيوان، وما سواه يقال له لقطة. ويقال للضّوال أيضاً الهوامي والهوافي - بالميم والفاء - والهوامل.
قوله: (لك أو لأخيك أو للذّئب) فيه إشارة إلى جواز أخذها كأنّه قال: هي ضعيفةٌ لعدم الاستقلال، معرّضة للهلاك متردّدة بين أن تأخذها أنت أو أخوك، والمراد به ما هو أعمّ من صاحبها ، أو من ملتقطٍ آخر.
والمراد بالذّئب جنس ما يأكل الشّاة من السّباع. وفيه حثٌّ له على أخذها ، لأنّه إذا علم أنّه إن لَم يأخذها بقيت للذّئب ، كان ذلك أدعى له إلى أخذها.
وقوله " خذها فإنّما هي لك " إلخ، صريحٌ في الأمر بالأخذ، ففيه دليلٌ على ردّ إحدى الرّوايتين عن أحمد في قوله: يترك التقاط الشّاة.
وتمسّك به مالك في أنّه يملكها بالأخذ ، ولا يلزمه غرامة ولو جاء صاحبها.
واحتجّ له بالتّسوية بين الذّئب والملتقط، والذّئب لا غرامة عليه فكذلك الملتقط.
وأجيب: بأنّ اللام ليست للتّمليك ، لأنّ الذّئب لا يملك وإنّما يملكها الملتقط على شرط ضمانها.
وقد أجمعوا على أنّه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط له أخذها ، فدلَّ على أنّها باقية على ملك صاحبها، ولا فرق بين قوله في الشّاة " هي لك أو لأخيك أو للذّئب " وبين قوله في اللقطة " شأنك بها أو خذها " بل هو أشبه بالتّملك لأنّه لَم يشرك معه ذئباً ولا غيره، ومع ذلك فقالوا في النّفقة يغرمها إذا تصرّف فيها ثمّ جاء صاحبها.
وقال الجمهور: يجب تعريفها، فإذا انقضت مدّة التّعريف أكلها إن شاء وغرم لصاحبها، إلَّا أنّ الشّافعيّ قال: لا يجب تعريفها إذا وجدت في الفلاة، وأمّا في القرية فيجب في الأصحّ.
قال النّوويّ: احتجّ أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم في الرّواية الأولى " فإن جاء صاحبها فأعطها إيّاه " وأجابوا عن رواية مالك ، بأنّه لَم يذكر الغرامة ولا نفاها ، فثبت حكمها بدليلٍ آخر. انتهى.
وهو يوهم أنّ الرّواية الأولى من روايات مسلمٍ فيها ذكر حكم
الشّاة إذا أكلها الملتقط، ولَم أر ذلك في شيءٍ من روايات مسلمٍ ولا غيره في حديث زيد بن خالد.
نعم. عند أبي داود والتّرمذيّ والنّسائيّ والطّحاويّ والدّارقطنيّ من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه في ضالة الشّاة " فاجمعها حتّى يأتيها باغيها ".
تكميل: قال البخاري " باب من عرّف اللقطة ولَم يدفعها إلى السلطان ".
أشار بالتّرجمة إلى ردّ قول الأوزاعيّ في التّفرقة بين القليل والكثير ، فقال: إن كان قليلاً عرّفه ، وإن كان مالاً كثيراً رفعه إلى بيت المال.
والجمهور على خلافه.
نعم. فرّق بعضهم بين اللقطة والضّوالّ، وبعض المالكيّة والشّافعيّة بيّن المؤتمن وغيره فقال: يعرّف المؤتمن؛ وأمّا غير المؤتمن فيدفعها إلى السّلطان ليعطيها المؤتمن ليعرّفها.
وقال بعض المالكيّة: إن كانت اللقطة بين قومٍ مأمونين والسّلطان جائر فالأفضل أن لا يلتقطها ، فإن التقطها لا يدفعها له ، وإن كان عادلاً فكذلك ويخيّر في دفعها له.
وإن كانت بين قومٍ مأمونين والإمام جائر تخيّر الملتقط. وعمل بما يترجّح عنده، وإن كان عادلاً فكذلك.
فائدة: روى سفيان بن عيينة في " جامعه " والطّبرانيّ في " المعجم الكبير " بسند جيد عن أبي وائلٍ ، أنّ ابن مسعودٍ اشترى جاريةً
بسبعمائة درهم ، فإمَّا غاب صاحبها ، وإمّا تركها. فنشده عبد الله حولاً فلم يجد صاحبها ، فخرج بها إلى مساكين عند سُدّة بابه ، فجعل يقبض ويعطي ، ويقول: اللهمّ عن صاحبها فإنْ أَبَى فمنّي وعليّ الغرم ، وقال: هكذا يفعل باللقطة.
قوله (وقال: هكذا يُفعل باللقطة) يشير إلى أنه انتزع فعله في ذلك من حكم اللقطة للأمر بتعريفها سنة والتصرف فيها بعد ذلك فإن جاء صاحبها غرمها له.
فرأى ابن مسعود أن يجعل التصرّف صدقة ، فإن أجازها صاحبها إذا جاء حصل له أجرها ، وإن لم يجزها كان الأجر للمتصدق وعليه الغرم لصاحبها، وإلى ذلك أشار بقوله " فلي وعلي " أي فليَ الثواب وعليَّ الغرامة.