الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الفلس
الحديث التاسع والعشرون
285 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أدرك ماله بعينه عند رجلٍ أو إنسانٍ قد أفلس، فهو أحقّ به من غيره. (1)
قوله: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) هو شكٌّ من أحد رواته ، وأظنّه من زهير، فإنّي لَم أر في رواية أحد ممّن رواه عن يحيى بن سعيد - مع كثرتهم فيه - التّصريح بالسّماع، وهذا مشعر بأنّه كان لا يرى الرّواية بالمعنى أصلاً.
قوله: (من أدرك ماله بعينه) استدل به على أنّ شرط استحقاق صاحب المال دون غيره أن يجد ماله بعينه لَم يتغيّر ، ولَم يتبدّل، وإلَّا فإن تغيّرت العين في ذاتها بالنّقص مثلاً ، أو في صفةٍ من صفاتها فهي أسوةٌ للغرماء.
وأصرح منه رواية مسلم من طريق ابن أبي حسين عن أبي بكر بن
(1) أخرجه البخاري (2272) ومسلم (1559) من طريق يحيى بن سعيد ، ومسلم (1559) من طريق ابن أبي حسين كلاهما عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمر بن عبد العزيز عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم (1559) من وجهين آخرين عن بشير بن نهيك وعراك عن أبي هريرة نحوه
محمّد بن عمرو بن حزمٍ. بلفظ: إذا وجد عنده المتاع ولَم يفرّقه.
ووقع في رواية مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث مرسلاً: أيّما رجلٍ باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه ، ولَم يقبض البائع من ثمنه شيئاً ، فوجده بعينه فهو أحقّ به.
فمفهومه أنّه إذا قبض من ثمنه شيئاً كان أسوة الغرماء ، وبه صرّح ابن شهاب فيما رواه عبد الرّزّاق عن معمرٍ عنه، وهذا - وإن كان مرسلاً - فقد وصله عبد الرّزّاق في " مصنّفه " عن مالك ، لكنّ المشهور عن مالك إرساله، وكذا عن الزّهريّ، وقد وصله الزّبيديّ عن الزّهريّ ، أخرجه أبو داود وابن خزيمة وابن الجارود.
ولابن أبي شيبة عن عمر بن عبد العزيز - أحد رواة هذا الحديث - قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه أحقّ به من الغرماء إلَّا أن يكون اقتضى من ماله شيئاً فهو أسوة الغرماء. وإليه يشير اختيار البخاريّ لاستشهاده بأثر عثمان (1) ، وكذلك رواه عبد الرّزّاق عن طاوس وعطاء صحيحاً.
وبذلك قال جمهورُ مَن أخذ بعموم حديث الباب. إلَّا أنّ للشّافعيّ
(1) قال البخاري في " الصحيح "(2/ 845) وقال سعيد بن المسيب: قضى عثمان من اقتضى من حقه قبل أن يُفلس فهو له ، ومن عرف بعينه فهو أحق به.
قال ابن حجر (5/ 78): وصله أبو عبيد في " كتاب الأموال " والبيهقي بإسناد صحيح إلى سعيد ، ولفظه " أفلس مولى لأم حبيبة فاختصم فيه إلى عثمان فقضى " فذكره. وقال فيه " قبل أن يبين إفلاسه " بدل قوله " قبل أن يفلس "، والباقي سواء.
قولاً هو الرّاجح في مذهبه ، أن لا فرق بين تغيّر السّلعة أو بقائها، ولا بين قبض بعض ثمنها أو عدم قبض شيءٍ منه ، على التّفاصيل المشروحة في كتب الفروع.
قوله: (عند رجلٍ أو إنسان) شكٌّ من الرّاوي أيضاً.
قوله: (قد أفلس) أي: تبيّن إفلاسه. والمفلس شرعاً من تزيد ديونه على موجوده.
سُمّي مفلساً: لأنّه صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم ودنانير إشارةً إلى أنّه صار لا يملك إلَّا أدنى الأموال وهي الفلوس.
أو سُمّي بذلك: لأنّه يمنع التّصرّف إلَّا في الشّيء التّافه كالفلوس ، لأنّهم ما كانوا يتعاملون بها إلَّا في الأشياء الحقيرة.
أو سُمّي لأنّه صار إلى حالةٍ لا يملك فيها فلساً، فعلى هذا فالهمزة في أفلس للسّلب.
قوله: (فهو أحقّ به من غيره) أي: كائناً من كان وارثاً وغريماً.
وبهذا قال جمهور العلماء. وهو القول الأول.
القول الثاني: خالف الحنفيّة: فتأوّلوه لكونه خبر واحد خالف الأصول، لأنّ السّلعة صارت بالبيع ملكاً للمشتري ومن ضمانه، واستحقاق البائع أخذها منه نقضٌ لملكه.
وحملوا الحديث على صورةٍ ، وهي ما إذا كان المتاع وديعة أو عاريّة أو لقطة.
وتعقّب: بأنّه لو كان كذلك لَم يقيّد بالفلس ولا جعل أحقّ بها لِما
يقتضيه صيغة أفعل من الاشتراك، وأيضاً فما ذكروه ينتقض بالشّفعة.
وأيضاً فقد ورد التّنصيص في حديث الباب على أنّه في صورة المبيع، وذلك فيما رواه سفيان الثّوريّ في " جامعه ".
وأخرجه من طريقه ابن خزيمة وابن حبّان وغيرهما عن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد بلفظ " إذا ابتاع الرّجل سلعةً ثمّ أفلس وهي عنده بعينها فهو أحقّ بها من الغرماء ".
ولابن حبّان من طريق هشام بن يحيى المخزوميّ عن أبي هريرة بلفظ " إذا أفلس الرّجل فوجد البائع سلعته " والباقي مثله.
ولمسلمٍ في رواية ابن أبي حسين المشار إليها قبل " إذا وجد عنده المتاع أنّه لصاحبه الذي باعه ".
وفي مرسل ابن أبي مُلَيكة عند عبد الرّزّاق " من باع سلعةً من رجلٍ لَم ينقده ، ثمّ أفلس الرّجل فوجدها بعينها. فليأخذها من بين الغرماء " وفي مرسل مالكٍ المشار إليه " أيّما رجلٍ باع متاعاً ". وكذا هو عند من قدّمنا أنّه وصله.
فظهر أنّ الحديث واردٌ في صورة البيع، ويلتحق به القرض وسائر ما ذكر من باب الأولى.
تنبيهٌ: وقع في الرّافعيّ سياق الحديث بلفظ الثّوريّ الذي قدّمته.
فقال السّبكيّ في " شرح المنهاج ": هذا الحديث أخرجه مسلم بهذا اللفظ ، وهو صريحٌ في المقصود ، فإنّ اللفظ المشهور. أي: الذي في البخاريّ عامٌّ أو محتمل، بخلاف لفظ البيع فإنّه نصٌّ لا احتمال فيه.
وهو لفظ مسلم، قال: وجاء بلفظه بسندٍ آخر صحيحٍ. انتهى
واللفظ المذكور ما هو في صحيح مسلمٍ ، وإنّما فيه ما قدّمته. والله المستعان.
وحمله بعض الحنفيّة أيضاً على ما إذا أفلس المشتري قبل أن يقبض السّلعة.
وتعقّب: بقوله في حديث الباب " عند رجل " ولابن حبّان من طريق سفيان الثّوريّ عن يحيى بن سعيد " ثمّ أفلس وهي عنده ".
وللبيهقيّ من طريق ابن شهاب عن يحيى " إذا أفلس الرّجل وعنده متاع " فلو كان لَم يقبضه ما نصّ في الخبر على أنّه عنده.
واعتذارهم بكونه خبر واحدٍ فيه نظرٌ، فإنّه مشهورٌ من غير هذا الوجه، أخرجه ابن حبّان من حديث ابن عمر. وإسناده صحيح، وأخرجه أحمد وأبو داود من حديث سمرة. وإسناده حسن.
وقضى به عثمان وعمر بن عبد العزيز كما مضى ، وبدون هذا يخرج الخبر عن كونه فرداً غريباً.
قال ابن المنذر: لا نعرف لعثمان في هذا مخالفاً من الصّحابة.
وتعقّب: بما روى ابن أبي شيبة عن عليّ ، أنّه أسوة الغرماء.
وأجيب: بأنّه اختلف على عليٍّ في ذلك بخلاف عثمان.
وقال القرطبيّ في " المفهم ": تعسّف بعض الحنفيّة في تأويل هذا الحديث بتأويلاتٍ لا تقوم على أساس.
وقال النّوويّ: تأوّله بتأويلاتٍ ضعيفةٍ مردودةٍ. انتهى.
واختلف القائلون في صورةٍ. وهي ما إذا مات ووُجدت السّلعة.
القول الأول: قال الشّافعيّ: الْحُكم كذلك ، وصاحب السّلعة أحقّ بها من غيره.
القول الثاني: قال مالك وأحمد: هو أسوة الغرماء.
واحتجّا بما في مرسل مالكٍ " وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء " وفرّقوا بين الفلس والموت. بأنّ الميّت خربت ذمّته فليس للغرماء محل يرجعون إليه فاستووا في ذلك، بخلاف المفلس.
واحتجّ الشّافعيّ: بما رواه من طريق عمر بن خلدة - قاضي المدينة - عن أبي هريرة قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّما رجلٍ مات أو أفلس فصاحب المتاع أحقّ بمتاعه إذا وجده بعينه " وهو حديث حسنٌ يحتجّ بمثله. أخرجه أيضاً أحمد وأبو داود وابن ماجه وصحَّحه الحاكم، وزاد بعضهم في آخره " إلَّا أن يترك صاحبه وفاء ".
ورجّحه الشّافعيّ على المرسل. وقال: يحتمل أن يكون آخره من رأي أبي بكر بن عبد الرّحمن ، لأنّ الذين وصلوه عنه لَم يذكروا قضيّة الموت، وكذلك الذين رووا عن أبي هريرة ، وغيره لَم يذكروا ذلك، بل صرّح ابن خلدة عن أبي هريرة بالتّسوية بين الإفلاس والموت فتعيّن المصير إليه ، لأنّها زيادةٌ من ثقة.
وجزم ابن العربيّ المالكيّ: بأنّ الزّيادة التي في مرسل مالكٍ من قول الرّاوي.
وجمع الشّافعيّ أيضاً بين الحديثين بحمل حديث ابن خلدة على ما
إذا مات مفلساً ، وحديث أبي بكر بن عبد الرّحمن على ما إذا مات مليئاً. والله أعلم.
ومن فروع المسألة: ما إذا أراد الغرماء ، أو الورثة إعطاء صاحب السّلعة الثّمن.
فقال مالك: يلزمه القبول.
وقال الشّافعيّ وأحمد: لا يلزمه ذلك لِما فيه من المنّة، ولأنّه ربّما ظهر غريم آخر فزاحمه فيما أخذ.
وأغرب ابن التّين فحكى عن الشّافعيّ أنّه قال: لا يجوز له ذلك، ليس له إلَّا سلعته.
ويلتحق بالمبيع المؤجّر. فيرجع مكتري الدّابّة أو الدّار إلى عين دابّته وداره ونحو ذلك، وهذا هو الصّحيح عن الشّافعيّة والمالكيّة.
وإدراج الإجارة في هذا الحكم متوقّف على أنّ المنافع يُطلق عليها اسم المتاع أو المال، أو يقال اقتضى الحديث أن يكون أحقّ بالعين ، ومن لوازم ذلك الرّجوع في المنافع فثبت بطريق اللزوم.
واستدل به على حلول الدّين المؤجّل بالفلس من حيث إنّ صاحب الدّين أدرك متاعه بعينه فيكون أحقّ به، ومن لوازم ذلك أن يجوز له المطالبة بالمؤجّل. وهو قول الجمهور.
لكنّ الرّاجح عند الشّافعيّة أنّ المؤجّل لا يحل بذلك ، لأنّ الأجل حقّ مقصود له فلا يفوت.
واستدل به على أنّ لصاحب المتاع أن يأخذه ، وهو الأصحّ من قولي
العلماء.
والقول الآخر: يتوقّف على حكم الحاكم كما يتوقّف ثبوت الفلس.
واستدل به على فسخ البيع إذا امتنع المشتري من أداء الثّمن مع قدرته بمطلٍ أو هربٍ قياساً على الفلس بجامع تعذّر الوصول إليه حالاً، والأصحّ من قولي العلماء أنّه لا يفسخ.
واستدل به على أنّ الرّجوع إنّما يقع في عين المتاع دون زوائده المنفصلة ، لأنّها حدثت على ملك المشتري. وليست بمتاع البائع. والله أعلم.