الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن
312 -
عن عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المُتعة يوم خيبر، وعن لحوم الحُمر الأهليّة. (1)
قوله: (عن عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه) وللبخاري من طريق يحيى، عن عبيد الله بن عمر حدّثنا الزّهريّ ، أنّ عليّاً رضي الله عنه قيل له: إنّ ابن عبّاسٍ لا يرى بمتعة النّساء بأساً، فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى .. فذكره.
وفي رواية الثّوريّ ويحيى بن سعيد كلاهما عن مالك عن الزهري عند الدّارقطنيّ " أنّ عليّاً سمع ابن عبّاس وهو يفتي في متعة النّساء فقال: أما علمت.
وأخرجه سعيد بن منصور عن هشيمٍ " عن يحيى بن سعيد عن الزّهريّ بدون ذكر مالك. ولفظه " أنّ عليّاً مرّ بابن عبّاس وهو يفتي في متعة النّساء أنّه لا بأس بها ".
ولمسلمٍ من طريق جويرية عن مالك بسنده ، أنّه سمع عليّ بن أبي طالب يقول لفلانٍ: إنّك رجل تائه. وفي رواية الدّارقطنيّ من طريق الثّوريّ أيضاً " تكلَّم عليّ وابن عبّاس في متعة النّساء ، فقال له عليّ:
(1) أخرجه البخاري (3979 ، 4825 ، 5203 ، 6560) ومسلم (1407) من طرق عن الزهري عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي عن أبيهما عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه -
إنّك امرؤ تائه "
ولمسلمٍ من وجه آخر ، أنّه سمع ابن عبّاس يلين في متعة النّساء ، فقال له: مهلاً يا ابن عبّاس " ولأحمد من طريق معمر " رخّص في متعة النّساء ".
قوله: (نهى عن نكاح المتعة)(1) المتعة تزويج المرأة إلى أجلٍ فإذا انقضى وقعت الفرقة.
وقد وردت عدّة أحاديث صحيحة صريحة بالنّهي عنها بعد الإذن فيها.
وأقرب ما فيها عهداً بالوفاة النّبويّة. ما أخرجه أبو داود من طريق الزّهريّ قال: كنّا عند عمر بن عبد العزيز فتذاكرنا متعة النّساء، فقال رجلٌ يقال له ربيع بن سبرة: أشهد على أَبِي أنّه حدّث ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها في حجّة الوداع.
وسأذكر الاختلاف في حديث سبرة هذا - وهو ابن معبد - بعدُ.
وقد اختلف السّلف في نكاح المتعة.
قال ابن المنذر: جاء عن الأوائل الرّخصة فيها، ولا أعلم اليوم أحداً يجيزها إلَّا بعض الرّافضة، ولا معنى لقولٍ يخالف كتاب الله وسنّة رسوله.
(1) فائدة: قال القاضي عياض في " مشارق الأنوار "(1/ 372): مُتعة النساء ، ومُتعة الحج ، ومُتعة المطلَّقة. كلها بضم الميم إلَّا ما حكى أبو علي عن الخليل في متعة الحج أنها بكسر الميم. والمعروف الضم. انتهى بتجوز.
وقال عياض: ثمّ وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريمها إلَّا الرّوافض. وأمّا ابن عبّاس فروي عنه أنّه أباحها، وروي عنه أنّه رجع عن ذلك.
قال ابن بطّال: روى أهل مكّة واليمن عن ابن عبّاس إباحة المتعة، وروي عنه الرّجوع بأسانيد ضعيفة ، وإجازة المتعة عنه أصحّ، وهو مذهب الشّيعة.
قال: وأجمعوا على أنّه متى وقع الآن أبطل سواء كان قبل الدّخول أم بعده، إلَّا قول زفر إنّه جعلها كالشّروط الفاسدة، ويردّه قوله صلى الله عليه وسلم: فمن كان عنده منهنّ شيء فليخل سبيلها.
قلت: وهو في حديث الرّبيع بن سبرة عن أبيه عند مسلم.
وقال الخطّابيّ: تحريم المتعة كالإجماع إلَّا عن بعض الشّيعة، ولا يصحّ على قاعدتهم في الرّجوع في المختلفات إلى عليّ وآل بيته ، فقد صحّ عن عليّ أنّها نسخت. ونقل البيهقيّ عن جعفر بن محمّد ، أنّه سئل عن المتعة فقال: هي الزّنا بعينه. قال الخطّابيّ: ويُحكى عن ابن جريجٍ جوازها. انتهى.
وقد نقل أبو عوانة في " صحيحه " عن ابن جريجٍ ، أنّه رجع عنها بعد أن روى بالبصرة في إباحتها ثمانية عشر حديثاً.
وقال ابن دقيق العيد: ما حكاه بعض الحنفيّة عن مالك من الجواز خطأ، فقد بالغ المالكيّة في منع النّكاح المؤقّت حتّى أبطلوا توقيت الحلّ بسببه فقالوا: لو علّق على وقت لا بدّ من مجيئه وقع الطّلاق الآن ،
لأنّه توقيت للحل فيكون في معنى نكاح المتعة.
قال عياض: وأجمعوا على أنّ شرط البطلان التّصريح بالشّرط، فلو نوى عند العقد أن يفارق بعد مدّة صحّ نكاحه، إلَّا الأوزاعيّ فأبطله.
واختلفوا هل يحدّ ناكح المتعة أو يعزّر؟.
على قولين ، مأخذهما أنّ الاتّفاق بعد الخلاف. هل يرفع الخلاف المتقدّم.
وقال القرطبيّ: الرّوايات كلّها متّفقة على أنّ زمن إباحة المتعة لَم يطِل وأنّه حرّم، ثمّ أجمع السّلف والخلف على تحريمها إلَّا من لا يلتفت إليه من الرّوافض. وجزم جماعة من الأئمّة بتفرّد ابن عبّاس بإباحتها ، فهي من المسألة المشهورة وهي ندرة المخالف.
ولكن قال ابن عبد البرّ: أصحاب ابن عبّاس من أهل مكّة واليمن على إباحتها، ثمّ اتّفق فقهاء الأمصار على تحريمها.
وقال ابن حزم: ثبت على إباحتها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن مسعود ومعاوية وأبو سعيد وابن عبّاس وسلمة ومعبد ابنا أُميَّة بن خلف وجابر وعمرو بن حريثٍ ، ورواه جابر عن جميع الصّحابة مدّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر.
قال: ومن التّابعين طاوسٌ وسعيد بن جبير وعطاء وسائر فقهاء مكّة.
قلت: وفي جميع ما أطلقه نظرٌ.
أمّا ابن مسعود. فمستنده ما في الصحيحين عنه ، قال: كنّا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس لنا نساءٌ، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثمّ رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثّوب إلى أجلٍ "، ثمّ قرأ عبد الله:{يا أيّها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين} .
وظاهر استشهاد ابن مسعود بهذه الآية هنا يشعر بأنّه كان يرى بجواز المتعة، فقال القرطبيّ: لعله لَم يكن حينئذٍ بلغه النّاسخ، ثمّ بلغه فرجع بعد.
قلت: يؤيّده ما ذكره الإسماعيليّ أنّه وقع في رواية أبي معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد " ففعله ثمّ ترك ذلك " أخرجه أبو عوانة قال: وفي رواية لابن عيينة عن إسماعيل " ثمّ جاء تحريمها بعد " وفي رواية معمر عن إسماعيل " ثمّ نسخ "
وأمّا معاوية. فأخرجه عبد الرّزّاق من طريق صفوان بن يعلى بن أُميَّة أخبرني يعلى ، أنّ معاوية استمتع بامرأةٍ بالطّائف. وإسناده صحيح.
لكن في رواية أبي الزّبير عن جابر عند عبد الرّزّاق أيضاً أنّ ذلك كان قديماً. ولفظه " استمتع معاوية مقدمه الطّائف بمولاةٍ لبني الحضرميّ يقال لها معانة، قال جابر: ثمّ عاشت معانة إلى خلافة معاوية ، فكان يرسل إليها بجائزةٍ كلّ عام.
وقد كان معاوية متّبعاً لعمر مقتدياً به. فلا يشكّ أنّه عمل بقوله
بعد النّهي، ومن ثَمَّ قال الطّحاويّ: خطب عمر فنهى عن المتعة، ونقل ذلك عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه ذلك منكر.
وفي هذا دليل على متابعتهم له على ما نهى عنه.
فأخرج ابن ماجه من طريق أبي بكر بن حفص عن ابن عمر قال: لَمَّا ولي عمر خطب فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثاً ثمّ حرّمها.
وأخرج ابن المنذر والبيهقيّ من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: صعد عمر المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال: ما بال رجال ينكحون هذه المتعة بعد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها.
وأمّا أبو سعيد. فأخرج عبد الرّزّاق عن ابن جريجٍ أنّ عطاء قال: أخبَرَني مَن شئت عن أبي سعيد قال: لقد كان أحدنا يستمتع بملء القدح سويقاً ".
وهذا مع كونه ضعيفاً للجهل بأحد رواته. ليس فيه التّصريح بأنّه كان بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأمّا ابن عبّاس. فأخرج البخاري عن أبي جمرة، قال: سمعت ابن عبّاسٍ: سئل عن متعة النّساء فرخّص، فقال له مولىً له: إنّما ذلك في الحال الشّديد، وفي النّساء قلةٌ؟ أو نحوه، فقال ابن عبّاسٍ: نعم. في رواية الإسماعيليّ " صدق ".
وعند مسلم من طريق الزّهريّ عن خالد بن المهاجر أو ابن أبي عمرة الأنصاريّ ، قال رجل - يعني لابن عبّاس، وصرّح به البيهقيّ
في روايته - إنّما كانت - يعني المتعة - رخصة في أوّل الإسلام لمن اضطرّ إليها كالميتة والدّم ولحم الخنزير.
ويؤيّده ما أخرجه الخطّابيّ والفاكهيّ من طريق سعيد بن جبير قال: قلت لابن عبّاس لقد سارت بفتياك الرّكبان، وقال فيها الشّعراء، يعني في المتعة. فقال: والله ما بهذا أفتيتُ وما هي إلَّا كالميتة لا تحلّ إلَّا للمضطرّ.
وأخرجه البيهقيّ من وجه آخر عن سعيد بن جبير. وزاد في آخره: ألا إنّما هي كالميتة والدّم ولحم الخنزير. وأخرجه محمّد بن خلف المعروف بوكيع في كتاب " الغرر من الأخبار " بإسنادٍ أحسن منه عن سعيد بن جبير بالقصّة، لكن ليس في آخره قول ابن عبّاس المذكور.
وفي حديث سهل بن سعد الذي سيأتي قريباً نحوه
فهذه أخبار يقوى بعضُها ببعضٍ ، وحاصلها أنّ المتعة إنّما رخّص فيها بسبب العزبة في حال السّفر ، وهو يوافق حديث ابن مسعود الماضي. وأخرج البيهقيّ من حديث أبي ذرّ بإسنادٍ حسن: إنّما كانت المتعة لحربنا وخوفنا.
وأمّا ما أخرجه التّرمذيّ من طريق محمّد بن كعبٍ عن ابن عبّاس قال: إنّما كانت المتعة في أوّل الإسلام، كان الرّجل يقدم البلد ليس له فيها معرفة، فيتزوّج المرأة بقدر ما يقيم فتحفظ له متاعه.
فإسناده ضعيف، وهو شاذّ مخالف لِمَا تقدّم من عِلَّة إباحتها.
وأمّا سلمة ومعبد. فقصّتهما واحدة اختلف فيها. هل وقعت لهذا
أو لهذا؟.
فروى عبد الرّزّاق بسندٍ صحيح عن عمرو بن دينار عن طاوسٍ عن ابن عبّاس قال: لَم يرع عمر إلَّا أمّ أراكة قد خرجت حبلى، فسألها عمر فقالت: استمتع بي سلمة بن أُميَّة.
وأخرج من طريق أبي الزّبير عن طاوسٍ فسمّاه معبد بن أُميَّة.
وأمّا جابر. فمستنده قوله " فعلناها " وقد بيّنته قبل، ووقع في رواية أبي نصرة عن جابر عند مسلم " فنهانا عمر فلم نفعله بعد ".
فإن كان قوله " فعلنا " يعمّ جميع الصّحابة فقوله " ثمّ لَم نعد " يعمّ جميع الصّحابة فيكون إجماعاً، وقد ظهر أنّ مستنده الأحاديث الصّحيحة التي بيّناها.
وأمّا عمرو بن حريثٍ وكذا قوله: رواه جابر عن جميع الصّحابة. فعجيب، وإنّما قال جابر: فعلناها. وذلك لا يقتضي تعميم جميع الصّحابة ، بل يصدق على فعل نفسه وحده.
وأمّا ما ذكره عن التّابعين. فهو عند عبد الرّزّاق عنهم بأسانيد صحيحة، وقد ثبت عن جابر عند مسلم: فعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثمّ نهانا عمر فلم نعد لها. فهذا يردّ عدّه جابراً فيمن ثبت على تحليلها، وقد اعترف ابن حزم مع ذلك بتحريمها لثبوت قوله صلى الله عليه وسلم: إنّها حرام إلى يوم القيامة. قال: فأمنّا بهذا القول نسخ التّحريم. والله أعلم
قوله: (يوم خيبر) هكذا لجميع الرّواة عن الزّهريّ " خيبر " بالمعجمة أوّله والرّاء آخره إلَّا ما رواه عبد الوهّاب الثّقفيّ عن يحيى
بن سعيد عن مالك في هذا الحديث فإنّه قال " حنين " بمهملةٍ أوّله ونونين. أخرجه النّسائيّ والدّارقطنيّ ، ونبّها على أنّه وهمٌ تفرّد به عبد الوهّاب، وأخرجه الدّارقطنيّ من طريق أخرى عن يحيى بن سعيد فقال " خيبر " على الصّواب.
وأغرب من ذلك رواية إسحاق بن راشد عن الزّهريّ عنه بلفظ " نهى في غزوة تبوك عن نكاح المتعة " وهو خطأ أيضاً.
قوله: (يوم خيبر) وللبخاري من طريق ابن عيينة، أنّه سمع الزّهريّ، بلفظ " نهى عن المتعة، وعن لحوم الحمر الأهليّة زمن خيبر ". وقوله " زمن خيبر " الظّاهر أنّه ظرف للأمرين.
وحكى البيهقيّ عن الحميديّ ، أنّ سفيان بن عيينة كان يقول: قوله " يوم خيبر " يتعلق بالحمر الأهليّة لا بالمتعة.
قال البيهقيّ: وما قاله محتمل يعني في روايته هذه، وأمّا غيره فصرّح أنّ الظّرف يتعلق بالمتعة.
وللبخاري من طريق مالك عن الزهري بلفظ " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن متعة النّساء ، وعن لحوم الحمر الأهليّة " وهكذا أخرجه مسلم من رواية ابن عيينة أيضاً، وللبخاري من رواية عبيد الله بن عمر عن الزّهريّ " أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر ". وكذا أخرجه مسلم ، وزاد من طريقه. فقال: مهلاً يا ابن عبّاس ".
ولأحمد من طريق معمر بسنده ، أنّه بلغه أنّ ابن عبّاس رخّص في متعة النّساء، فقال له: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر، وعن
لحوم الحمر الأهليّة. وأخرجه مسلم من رواية يونس بن يزيد عن الزّهريّ مثل رواية مالك، والدّارقطنيّ من طريق ابن وهب عن مالك ويونس وأسامة بن زيد ثلاثتهم عن الزّهريّ كذلك.
وذكر السّهيليّ: أنّ ابن عيينة رواه عن الزّهريّ بلفظ " نهى عن أكل الحمر الأهليّة عام خيبر، وعن المتعة بعد ذلك ، أو في غير ذلك اليوم " انتهى
وهذا اللفظ الذي ذكره لَم أره من رواية ابن عيينة، فقد أخرجه أحمد وابن أبي عمر والحميديّ وإسحاق في " مسانيدهم " عن ابن عيينة باللفظ الذي أخرجه البخاريّ من طريقه، لكن منهم من زاد لفظ " نكاح " وكذا أخرجه الإسماعيليّ من طريق عثمان بن أبي شيبة وإبراهيم بن موسى والعبّاس بن الوليد.
وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمّد بن عبد الله بن نمير وزهير بن حرب جميعاً عن ابن عيينة بمثل لفظ مالك، وكذا أخرجه سعيد بن منصور عن ابن عيينة لكن قال " زمن " بدل " يوم "
قال السّهيليّ: ويتّصل بهذا الحديث تنبيه على إشكال ، لأنّ فيه النّهي عن نكاح المتعة يوم خيبر، وهذا شيء لا يعرفه أحد من أهل السّير ورواة الأثر، قال: فالذي يظهر أنّه وقع تقديم وتأخير في لفظ الزّهريّ. انتهى
وهذا الذي قاله. سبقه إليه غيره في النّقل عن ابن عيينة، فذكر ابن عبد البرّ من طريق قاسم بن أصبغ ، أنّ الحميديّ ذكر عن ابن عيينة أنّ
النّهي زمن خيبر عن لحوم الحمر الأهليّة، وأمّا المتعة فكان في غير يوم خيبر.
ثمّ راجعتُ " مسند الحميديّ " من طريق قاسم بن أصبغ عن أبي إسماعيل السّلميّ عنه فقال بعد سياق الحديث: قال ابن عيينة: يعني أنّه نهى عن لحوم الحمر الأهليّة زمن خيبر، ولا يعني نكاح المتعة.
قال ابن عبد البرّ: وعلى هذا أكثر النّاس.
وقال البيهقيّ: يشبه أن يكون كما قال. لصحّة الحديث في أنّه صلى الله عليه وسلم رخّص فيها بعد ذلك ثمّ نهى عنها، فلا يتمّ احتجاج عليّ إلَّا إذا وقع النّهي أخيراً لتقوم به الحجّة على ابن عبّاس.
وقال أبو عوانة في " صحيحه ": سمعت أهل العلم يقولون: معنى حديث عليّ أنّه نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر، وأمّا المتعة فسكت عنها ، وإنّما نهى عنها يوم الفتح. انتهى.
والحامل لهؤلاء على هذا ما ثبت من الرّخصة فيها بعد زمن خيبر كما أشار إليه البيهقيّ.
لكن يمكن الانفصال عن ذلك. بأنّ عليّاً لَم تبلغه الرّخصة فيها يوم الفتح لوقوع النّهي عنها عن قربٍ. كما سيأتي بيانه.
ويؤيّد ظاهر حديث عليّ ما أخرجه أبو عوانة وصحَّحه من طريق سالم بن عبد الله ، أنّ رجلاً سأل ابن عمر عن المتعة فقال: حرام. فقال: إنّ فلاناً يقول فيها. فقال: والله لقد علم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّمها يوم خيبر. وما كنّا مسافحين.
قال السّهيليّ: وقد اختلف في وقت تحريم نكاح المتعة. فأغربُ ما روي في ذلك رواية مَن قال في غزوة تبوك، ثمّ رواية الحسن أنّ ذلك كان في عمرة القضاء، والمشهور في تحريمها أنّ ذلك في غزوة الفتح ، كما أخرجه مسلم من حديث الرّبيع بن سبرة عن أبيه. وفي روايةٍ عن الرّبيع أخرجها أبو داود. أنّه كان في حجّة الوداع.
قال: ومَن قال من الرّواة كان في غزوة أوطاسٍ ، فهو موافق لمَن قال عام الفتح. انتهى.
فتحصّل ممّا أشار إليه ستّة مواطن: خيبر، ثمّ عمرة القضاء، ثمّ الفتح، ثمّ أوطاس، ثمّ تبوك، ثمّ حجّة الوداع.
وبقي عليه حنين ، لأنّها وقعت في رواية قد نبّهت عليها قبل، فإمّا أن يكون ذهل عنها ، أو تركها عمداً لخطأ رواتها، أو لكون غزوة أوطاسٍ وحنين واحدة.
فأمّا رواية تبوك: فأخرجها إسحاق بن راهويه وابن حبّان من طريقه من حديث أبي هريرة ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نزل بثنيّة الوداع رأى مصابيح وسمع نساء يبكين، فقال: ما هذا؟ فقالوا: يا رسولَ الله، نساء كانوا تمتّعوا منهنّ. فقال: هدم المتعة النّكاح والطّلاق والميراث.
وأخرجه الحازميّ من حديث جابر قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك حتّى إذا كنّا عند العقبة ممّا يلي الشّام جاءت نسوة قد كنّا تمتّعنا بهنّ يطفن برحالنا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، قال: فغضب وقام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ، ونهى عن المتعة،
فتوادعنا يومئذٍ فسمّيت ثنيّة الوداع.
وأمّا رواية الحسن وهو البصريّ. فأخرجها عبد الرّزّاق من طريقه وزاد " ما كانت قبلها ولا بعدها " وهذه الزّيادة منكرة من راويها عمرو بن عبيد، وهو ساقط الحديث، وقد أخرجه سعيد بن منصور من طريق صحيحة عن الحسن بدون هذه الزّيادة.
وأمّا غزوة الفتح: فثبتت في صحيح مسلم كما قال.
وأمّا أوطاس: فثبتت في مسلم أيضاً من حديث سلمة بن الأكوع.
وأمّا حجّة الوداع: فوقع عند أبي داود من حديث الرّبيع بن سبرة عن أبيه.
وأمّا قوله " لا مخالفة بين أوطاس والفتح "
ففيه نظرٌ، لأنّ الفتح كان في رمضان ثمّ خرجوا إلى أوطاسٍ في شوّال، وفي سياق مسلم أنّهم لَم يخرجوا من مكّة حتّى حرمت، ولفظة " إنّه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتح، فأذن لنا في متعة النّساء، فخرجت أنا ورجلٌ من قومي - فذكر قصّة المرأة، إلى أن قال: ثمّ استمتعت منها، فلم أخرج حتّى حرّمها "
وفي لفظ له " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً بين الرّكن والباب وهو يقول " بمثل حديث ابن نمير ، وكان تقدّم في حديث ابن نمير أنّه قال: يا أيّها النّاس إنّي قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النّساء، وأنّ الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة ".
وفي رواية " أمرنا بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكّة، ثمّ لَم نخرج
حتّى نهانا عنها " وفي رواية له " أمر أصحابه بالتّمتّع من النّساء - فذكر القصّة - قال: فكنّ معنا ثلاثاً، ثمّ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقهنّ " وفي لفظ " فقال إنّها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة "
فأمّا أوطاس: فلفظ مسلم " رخّص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثاً، ثمّ نهى عنها "
وظاهر الحديثين المغايرة، لكن يحتمل أن يكون أطلق على عام الفتح عام أوطاس لتقاربهما، ولو وقع في سياقه أنّهم تمتّعوا من النّساء في غزوة أوطاس لَمَّا حسن هذا الجمع.
نعم. ويبعد أن يقع الإذن في غزوة أوطاس بعد أن يقع التّصريح قبلها في غزوة الفتح بأنّها حرمت إلى يوم القيامة.
وإذا تقرّر ذلك ، فلا يصحّ من الرّوايات شيء بغير عِلَّة إلَّا غزوة الفتح.
وأمّا غزوة خيبر: وإن كانت طرق الحديث فيها صحيحة ففيها من كلام أهل العلم ما تقدّم.
وأمّا عمرة القضاء: فلا يصحّ الأثر فيها ، لكونه من مرسل الحسن ومراسيله ضعيفة ، لأنّه كان يأخذ عن كلّ أحد.
وعلى تقدير ثبوته فلعله أراد أيّام خيبر لأنّهما كانا في سنة واحدة في الفتح وأوطاس سواء.
وأمّا قصّة تبوك: فليس في حديث أبي هريرة التّصريح بأنّهم استمتعوا منهنّ في تلك الحالة.
فيحتمل أن يكون ذلك وقع قديماً ثمّ وقع التّوديع منهنّ حينئذٍ والنّهي.
أو كان النّهي وقع قديماً فلم يبلغ بعضهم فاستمرّ على الرّخصة، فلذلك قرن النّهي بالغضب لتقدّم النّهي في ذلك.
على أنّ في حديث أبي هريرة مقالاً، فإنّه من رواية مؤمّل بن إسماعيل عن عكرمة بن عمّار وفي كلٍّ منهما مقال.
وأمّا حديث جابر فلا يصحّ فإنّه من طريق عبّاد بن كثير. وهو متروك.
وأمّا حجّة الوداع: فهو اختلاف على الرّبيع بن سبرة، والرّواية عنه بأنّها في الفتح أصحّ وأشهر، فإن كان حفظه فليس في سياق أبي داود سوى مجرّد النّهي، فلعله صلى الله عليه وسلم أراد إعادة النّهي ليشيع ويسمعه من لَم يسمعه قبل ذلك.
فلم يبق من المواطن كما قلنا صحيحاً صريحاً سوى غزوة خيبر وغزوة الفتح، وفي غزوة خيبر من كلام أهل العلم ما تقدّم.
وزاد ابن القيّم في " الهدي " أنّ الصّحابة لَم يكونوا يستمتعون باليهوديّات، يعني فيقوى أنّ النّهي لَم يقع يوم خيبر أو لَم يقع هناك نكاح متعة ، لكن يمكن أن يجاب: بأنّ يهود خيبر كانوا يصاهرون الأوس والخزرج قبل الإسلام فيجوز أن يكون هناك من نسائهم من وقع التّمتّع بهنّ. فلا ينهض الاستدلال بما قال.
قال الماورديّ في " الحاوي ": في تعيين موضع تحريم المتعة وجهان.
أحدهما: أنّ التّحريم تكرّر ليكون أظهر وأنشر حتّى يعلمه من لَم يكن علمه ، لأنّه قد يحضر في بعض المواطن من لا يحضر في غيرها.
الثّاني: أنّها أبيحت مراراً، ولهذا قال في المرّة الأخيرة " إلى يوم القيامة " إشارة إلى أنّ التّحريم الماضي كان مؤذناً بأنّ الإباحة تعقبه، بخلاف هذا فإنّه تحريم مؤبّد لا تعقبه إباحة أصلاً.
وهذا الثّاني هو المعتمد.
ويردّ الأوّل التّصريح بالإذن فيها في الموطن المتأخّر عن الموطن الذي وقع التّصريح فيه بتحريمها كما في غزوة خيبر ثمّ الفتح.
وقال النّوويّ: الصّواب أنّ تحريمها وإباحتها وقعا مرّتين فكانت مباحة قبل خيبر ثمّ حرّمت فيها ثمّ أبيحت عام الفتح وهو عام أوطاس ثمّ حرّمت تحريماً مؤبّداً.
قال: ولا مانع من تكرير الإباحة.
ونقل غيره عن الشّافعيّ أنّ المتعة نسخت مرّتين.
وقد تقدّم حديث ابن مسعود ، في سبب الإذن في نكاح المتعة ، وأنّهم كانوا إذا غزوا اشتدّت عليهم العزبة فأذن لهم في الاستمتاع ، فلعل النّهي كان يتكرّر في كلّ مواطن بعد الإذن، فلمّا وقع في المرّة الأخيرة أنّها حرّمت إلى يوم القيامة لَم يقع بعد ذلك إذن. والله أعلم.
والحكمة في جمع عليٍّ بين النّهي عن الحمر والمتعة ، أنّ ابن عبّاس كان يرخّص في الأمرين معاً، وسيأتي النّقل عنه في الرّخصة في الحمر الأهليّة، فردّ عليه عليٌّ في الأمرين معاً وأنّ ذلك يوم خيبر.
فإمّا أن يكون على ظاهره ، وأنّ النّهي عنهما وقع في زمن واحد.
وإمّا أن يكون الإذن الذي وقع عام الفتح لَم يبلغ عليّاً لقصر مدّة الإذن. وهو ثلاثة أيّام. كما تقدّم.
والحديث في قصّة تبوك على نسخ الجواز في السّفر ، لأنّه نهى عنها في أوائل إنشاء السّفر مع أنّه كان سفراً بعيداً والمشقّة فيه شديدة كما صرّح به في الحديث في توبة كعب، وكان عِلَّة الإباحة وهي الحاجة الشّديدة انتهت من بعد فتح خيبر وما بعدها. والله أعلم.
والجواب عن قول السّهيليّ: أنّه لَم يكن في خيبر نساء يستمتع بهنّ ، ظاهر ممّا بيّنته من الجواب عن قول ابن القيّم. لَم تكن الصّحابة يتمتّعون باليهوديّات.
وأيضاً فيقال كما تقدّم: لَم يقع في الحديث التّصريح بأنّهم استمتعوا في خيبر، وإنّما فيه مجرّد النّهي، فيؤخذ منه أنّ التّمتّع من النّساء كان حلالاً.
وسبب تحليله ما أخرجه البخاري في حديث ابن مسعود حيث قال: كنّا نغزو وليس لنا شيء - ثمّ قال - فرخّص لنا أن ننكح المرأة بالثّوب " فأشار إلى سبب ذلك ، وهو الحاجة مع قلة الشّيء.
وكذا في حديث سهل بن سعد الذي أخرجه ابن عبد البرّ بلفظ " إنّما رخّص النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المتعة لعزبةٍ كانت بالنّاس شديدة، ثمّ نهى عنها ".
فلمّا فتحت خيبر وسّع عليهم من المال ومن السّبي فناسب النّهي
عن المتعة لارتفاع سبب الإباحة، وكان ذلك من تمام شكر نعمة الله على التّوسعة بعد الضّيق.
أو كانت الإباحة إنّما تقع في المغازي التي يكون في المسافة إليها بُعدٌ ومشقّة، وخيبر بخلاف ذلك ، لأنّها بقرب المدينة فوقع النّهي عن المتعة فيها إشارة إلى ذلك من غير تقدّم إذن فيها، ثمّ لَمَّا عادوا إلى سفرة بعيدة المدّة وهي غزاة الفتح وشقّت عليهم العزوبة أذن لهم في المتعة ، لكن مقيّداً بثلاثة أيّام فقط دفعاً للحاجة، ثمّ نهاهم بعد انقضائها عنها كما في صحيح مسلم من رواية سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثاً ثمّ نهى عنها.
وهكذا يجاب عن كلّ سفرةٍ ثبت فيها النّهي بعد الإذن.
وأمّا حجّة الوداع. فالذي يظهر أنّه وقع فيها النّهي مجرّداً إن ثبت الخبر في ذلك، لأنّ الصّحابة حجّوا فيها بنسائهم بعد أن وسّع عليهم فلم يكونوا في شدّة ولا طول عزبةٍ، وإلَّا فمخرج حديث سبرة راويه هو من طريق ابنه الرّبيع عنه، وقد اختلف عليه في تعيينها؛ والحديث واحد في قصّة واحدة فتعيّن التّرجيح.
والطّريق التي أخرجها مسلم مصرّحة بأنّها في زمن الفتح أرجح فتعيّن المصير إليها. والله أعلم.
قوله: (وعن لحوم الحمر الأهليّة) في رواية للشيخين " الحمر الأنسيّة " والإنسيّة بكسر الهمزة وسكون النّون منسوبة إلى الإنس.
ويقال فيه: أنسيّة بفتحتين، وزعم ابن الأثير: أنّ في كلام أبي موسى المدينيّ ما يقتضي أنّها بالضّمّ ثمّ السّكون لقوله الأنسيّة هي التي تألف البيوت، والأنس ضدّ الوحشة.
ولا حجّة في ذلك ، لأنّ أبا موسى إنّما قاله بفتحتين، وقد صرّح الجوهريّ. أنّ الأنس بفتحتين ضدّ الوحشة.
ولَم يقع في شيء من روايات الحديث بضمٍّ ثمّ سكون مع احتمال جوازه، نعم. زيّف أبو موسى الرّواية بكسر أوّله ثمّ السّكون.
فقال ابن الأثير: إن أراد من جهة الرّواية فعسى، وإلا فهو ثابت في اللغة. ونسبتها إلى الإنس.
وقد وقع في حديث أبي ثعلبة وغيره " الأهليّة " بدل الإنسيّة.
ويؤخذ من التّقييد بها جواز أكل الحمر الوحشيّة، وقد تقدّم صريحاً في حديث أبي قتادة في الحجّ (1).
(1) انظر حديث أبي قتادة برقم (255).
وسيأتي الكلام مستوفى إن شاء الله ، عن حكم أكل الحمر الأهليّة في شرح حديث جابر في الأطعمة (382).