المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الثامن والأربعون - فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري - جـ ٥

[عبد السلام العامر]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب البيوع

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب ما يُنهي عنه من البيوع

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌باب العرايا وغير ذلك

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌باب السّلم

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌باب الشروط في البيع

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌الحديث العشرون

- ‌الحديث الواحد والعشرون

- ‌باب الربا والصرف

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌الحديث الرابع والعشرون

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌باب الرهن وغيره

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌باب الحوالة

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌باب الفلس

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌باب الشفعة

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌باب الوقف

- ‌الحديث الواحد والثلاثون

- ‌باب الهبة

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌باب الحرث والمزارعة

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌الحديث السابع والثلاثون

- ‌باب العُمرى

- ‌الحديث الثامن والثلاثون

- ‌باب المظالم

- ‌الحديث التاسع والثلاثون

- ‌الحديث الأربعون

- ‌باب اللقطة

- ‌الحديث الواحد والأربعون

- ‌كتاب الوصايا

- ‌الحديث الثاني والأربعون

- ‌الحديث الثالث والأربعون

- ‌الحديث الرابع والأربعون

- ‌كتاب الفرائض

- ‌الحديث الخامس والأربعون

- ‌الحديث السادس والأربعون

- ‌الحديث السابع والأربعون

- ‌الحديث الثامن والأربعون

- ‌كتاب النكاح

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌باب الصّداق

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌الحديث السادس عشر

الفصل: ‌الحديث الثامن والأربعون

‌الحديث الثامن والأربعون

304 -

عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان في بريرة ثلاث سنن، خيّرت على زوجها حين عتقت، وأهدي لها لحمٌ، فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والبُرمة على النار، فدعا بطعام، فأتي بخبز وأدمٍ من أدم البيت، فقال: ألَمْ أر البُرمة على النار فيها لحمٌ؟ فقالوا: بلى يا رسولَ الله، ذلك لحمٌ تصدّق به على بريرة، فكرهنا أن نطعمك منه، فقال: هو عليها صدقةٌ، وهو لنا منها هديّةٌ، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها: إنما الولاء لمن أعتق. (1)

قوله: (كان في بريرة) تقدّم ذكرها وضبط اسمها (2).

وقيل: إنّها نبطيّة بفتح النّون والموحّدة:

وقيل: إنّها قِبطة بكسر القاف وسكون الموحّدة.

وقيل: إنّ اسم أبيها صفوان ، وأنّ له صحبة.

(1) أخرجه البخاري (4809 ، 4975) ومسلم (1504 ، 1075) من طريق مالك عن عبد الرحمن بن أبي ربيعة عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها.

وأخرجه البخاري (5114) من طريق إسماعيل بن جعفر عن ربيعة عن القاسم مرسلاً. وسيأتي التنبيه عليه في الشرح إن شاء الله.

وأخرجه البخاري (2439) ومسلم (1504 ، 1075) من رواية عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه نحوه.

وأخرجه البخاري (1422 ، 4980 ، 6339 ، 6370 ، 6373 ، 6377 ، 6379) ومسلم (1075) من طريق إبراهيم عن الأسود عن عائشة نحوه.

(2)

في حديث عائشة بنت الصديق في (باب الشروط في البيع) في العمدة برقم (275).

ص: 451

واختلف في مواليها. ففي رواية أسامة بن زيد عن عبد الرّحمن بن القاسم (1) عن القاسم عن عائشة ، أنّ بريرة كانت لناسٍ من الأنصار.

وكذا عند النّسائيّ من رواية سماك (2) عن عبد الرّحمن.

ووقع في بعض الشّروح لآل أبي لهب ، وهو وهمٌ من قائله. انتقل وهمه من أيمن (3) أحد رواة قصّة بريرة عن عائشة إلى بريرة.

وقيل: لآل بني هلال. أخرجه التّرمذيّ من رواية جرير عن هشام بن عروة.

قوله: (ثلاث سنن) في رواية هشام بن عروة عن عبد الرّحمن بن القاسم عن أبيه عند مسلم " ثلاث قضيّات ".

وفي حديث ابن عبّاس عند أحمد وأبي داود " قضى فيها النّبيّ صلى الله عليه وسلم أربع قضيّات " فذكر نحو حديث عائشة. وزاد " وأمرَهَا أن تعتدّ عدّة الحرّة " أخرجه الدّارقطنيّ.

وهذه الزّيادة لَم تقع في حديث عائشة. فلذلك اقتصرت على ثلاث، لكن أخرج ابن ماجه من طريق الثّوريّ عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: أُمرت بريرة أن تعتدّ بثلاث حيض.

(1) كذا قال الشارح. والصواب أنَّه عن أسامة عن القاسم مباشرة كما قال الشارح نفسه كما تقدّم قريباً في التخريج. كذا وقع عند مَن أخرجه كأحمد (25468) وابن ماجه (2076) وأبي يعلى (4436) والبيهقي (7/ 539).

(2)

رواية سماك. أخرجها مسلم أيضاً (1504).

(3)

رواية أيمن عن عائشة. أخرجها البخاري في " صحيحه "(2565 - 2726). وقد تقدّم ذكر روايات أيمن في شرح حديث عائشة برقم (275).

ص: 452

وهذا مثل حديث ابن عبّاس في قوله " تعتدّ عدّة الحرّة ".

ويخالف ما وقع في رواية أخرى عن ابن عبّاس " تعتدّ بحيضةٍ " ، ومَن قال الخلع فسخ ، قال: تعتدّ بحيضةٍ، وهنا ليس اختيار العتيقة نفسها طلاقاً فكان القياس أن تعتدّ بحيضةً، لكنّ الحديث الذي أخرجه ابن ماجه على شرط الشّيخين ، بل هو في أعلى درجات الصّحّة.

وقد أخرج أبو يعلى والبيهقيّ من طريق أبي معشر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعل عدّة بريرة عدّة المطلقة. وهو شاهدٌ قويٌّ، لأنّ أبا معشر - وإن كان فيه ضعف - لكن يصلح في المتابعات.

وأخرج ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن عثمان وابن عمر وزيد بن ثابت وآخرين ، أنّ الأمة إذا أعتقت تحت العبد فطلاقها طلاق عبد ، وعدّتها عدّة حرّة.

وقد صنّف العلماء في قصّة بريرة تصانيف، وبعضهم أوصلها إلى أربعمائة فائدة، ولا يخالف ذلك قول عائشة " ثلاث سنن " ، لأنّ مراد عائشة ما وقع من الأحكام فيها مقصوداً خاصّة، لكن لَمَّا كان كلّ حكم منها يشتمل على تقعيد قاعدة يستنبط العالم الفطن منها فوائد جمّة ، وقع التّكثّر من هذه الحيثيّة.

وانضمّ إلى ذلك ما وقع في سياق القصّة غير مقصود، فإنّ في ذلك أيضاً فوائد تؤخذ بطريق التّنصيص أو الاستنباط، أو اقتصر على

ص: 453

الثّلاث أو الأربع لكونها أظهر ما فيها وما عداها إنّما يؤخذ بطريق الاستنباط، أو لأنّها أهمّ والحاجة إليها أمسّ.

قال القاضي عياض: معنى ثلاث أو أربع أنّها شرعت في قصّتها، وما يظهر فيها ممّا سوى ذلك فكان قد علم من غير قصّتها، وهذا أولى من قول مَن قال: ليس في كلام عائشة حصرٌ، ومفهوم العدد ليس بحجّةٍ وما أشبه ذلك من الاعتذارات التي لا تدفع سؤال ما الحكمة في الاقتصار على ذلك.

قوله: (خيّرت على زوجها حين عتقت) في رواية ربيعة عن القاسم عند البخاري " أنّها أعتقت فخيّرت " زاد في رواية إسماعيل بن جعفر عن ربيعة عند البخاري " في أن تقرّ تحت زوجها أو تفارقه ". وتقرّ بفتح وتشديد الرّاء. أي: تدوم.

قال ابن التّين: يصحّ أن يكون أصله من وقر فتكون الرّاء مخفّفة يعني والقاف مكسورة، يقال وقرت أقرّ إذا جلست مستقرّاً ، والمخذوف فاء الفعل.

قال: ويصحّ أن تكون القاف مفتوحة - يعني مع تشديد الرّاء - من قولهم قررت بالمكان أقرّ، يقال: بفتح القاف ويجوز بكسرها من قريقر. انتهى ملخّصاً.

والثّالث هو المحفوظ في الرّواية.

وللبخاري من طريق الأسود عن عائشة: فدعاها النّبيّ صلى الله عليه وسلم فخيّرها من زوجها فاختارت نفسها. وفي رواية للدّارقطنيّ من طريق

ص: 454

أبان بن صالح عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لبريرة: اذهبي فقد عتق معك بضعك.

زاد ابن سعد من طريق الشّعبيّ مرسلاً " فاختاري " ولمسلم من رواية سماك عن عبد الرحمن بن القاسم " وخيّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان زوجها عبداً "

وللبخاري في " الفرائض " عن حفص بن عمر عن شعبة عن الحكم عن النخعي عن الأسود بن يزيد عن عائشة. وزاد في آخره " قال الحكم: وكان زوجها حرّاً ".

ثمّ أورده بعده من طريق منصور عن إبراهيم عن الأسود ، أنّ عائشة فساق نحو سياق الباب. وزاد فيه " وخيّرت فاختارت نفسها ، وقالت: لو أعطيت كذا وكذا ما كنت معه، قال الأسود: وكان زوجها حرّاً ".

قال البخاريّ: قول الأسود منقطع، وقول ابن عبّاس " رأيته عبداً "(1) أصحّ. وقال في الذي قبله في قول الحكم نحو ذلك، ورواه البخاري عن آدم عن شعبة. ولَم يسق لفظه ، لكن قال " وزاد: فخيّرت من زوجها ".

وقد أورده في الزّكاة عن آدم بهذا الإسناد. فلم يذكر هذه الزّيادة.

(1) أخرجه البخاري في " صحيحه "(5280 ، 5281 ، 5282 ، 5283) من طرق عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان زوج بريرة عبداً أسود. يقال له مغيث

" الحديث.

وسيأتي نقل الاتفاق في حديث ابن عباس هذا أنه كان عبداً.

ص: 455

وقد أخرجه البيهقيّ من وجه آخر عن آدم - شيخ البخاريّ فيه - فجعل الزّيادة من قول إبراهيم. ولفظه في آخره " قال الحكم: قال إبراهيم: وكان زوجها حرّاً فخيّرت من زوجها ".

فظهر أنّ هذه الزّيادة مدرجة وحَذَفَها في الزّكاة لذلك، وإنّما أوردها في الطلاق مشيراً إلى أنّ أصل التّخيير في قصّة بريرة ثابت من طريق أخرى.

وقد قال الدّارقطنيّ في " العلل ": لَم يختلف على عروة عن عائشة أنّه كان عبداً، وكذا قال جعفر بن محمّد بن عليّ عن أبيه عن عائشة، وأبو الأسود وأسامة بن زيد عن القاسم.

قلت: وقع لبعض الرّواة فيه غلطٌ، فأخرج قاسم بن أصبغ في " مصنّفه " وابن حزم من طريقه ، قال: أنبأنا أحمد بن يزيد المعلم حدّثنا موسى بن معاوية عن جرير عن هشام عن أبيه عن عائشة " كان زوج بريرة حرّاً ".

وهذا وهْمٌ من موسى أو من أحمد، فإنّ الحفّاظ من أصحاب هشام ، ومن أصحاب جرير قالوا: كان عبداً، منهم إسحاق بن راهويه. وحديثه عن النّسائيّ، وعثمان بن أبي شيبة. وحديثه عند أبي داود، وعليّ بن حجر. وحديثه عند التّرمذيّ، وأصله عند مسلم. وأحال به على رواية أبي أسامة عن هشام. وفيه " أنّه كان عبداً ".

قال الدّارقطنيّ: وكذا قال أبو معاوية عن هشّام بن عروة عن عبد الرّحمن بن القاسم عن أبيه.

ص: 456

قلت: ورواه شعبة عن عبد الرّحمن. فقال: كان حرّا، ثمّ رجع عبد الرّحمن فقال: ما أدري، كما عند البخاري.

قال الدّارقطنيّ: وقال عمران بن حدير عن عكرمة عن عائشة: كان حرّاً. وهو وهْمٌ.

قلت: في شيئين ، في قوله " حرّ " وفي قوله " عائشة "، وإنّما هو من رواية عكرمة عن ابن عبّاس، ولَم يختلف على ابن عبّاس في أنّه كان عبداً، وكذا جزم به التّرمذيّ عن ابن عمر ، وحديثه عند الشّافعيّ والدّارقطنيّ وغيرهما. وكذا أخرجه النّسائيّ من حديث صفيّة بنت أبي عبيد ، قالت: كان زوج بريرة عبداً. وسنده صحيح.

وقال النّوويّ: يؤيّد قول مَن قال إنّه " كان عبداً " قول عائشة " كان عبداً، ولو كان حرّاً لَم يخيّرها "، فأخبرت وهي صاحبة القصّة بأنّه كان عبداً، ثمّ علَّلت بقولها " ولو كان حرّاً لَم يخيّرها " ومثل هذا لا يكاد أحدٌ يقوله إلَّا توقيفاً.

وتعقّب: بأنّ هذه الزّيادة في رواية جرير عن هشام بن عروة في آخر الحديث، وهي مدرجة من قول عروة (1)، بيّن ذلك في رواية مالك وأبي داود والنّسائيّ.

نعم. وقع في رواية أسامة بن زيد عن عبد الرّحمن بن القاسم (2)

(1) أخرج هذه الرواية مسلم في " الصحيح "(1504) من طريق جرير به. مدرجة في الخبر.

(2)

تقدّم التنبيه على وهْم الشارح ، وأنه عن أسامة عن القاسم. وقد تقدّم نقلُ الشارح عن الدارقطني. أن أسامة رواه عن القاسم. فجلَّ من لا يسهو.

ص: 457

عن أبيه عن عائشة قالت: كانت بريرة مكاتبة لأناسٍ من الأنصار ، وكانت تحت عبد .. الحديث. أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقيّ، وأسامة فيه مقال.

وأمّا دعوى أنّ ذلك لا يقال إلَّا بتوقيفٍ ، فمردودة فإنّ للاجتهاد فيه مجالاً.

قال الدّارقطنيّ: وقال إبراهيم عن الأسود عن عائشة: كان حرّاً.

قلت: وأصرح ما رأيته في ذلك رواية أبي معاوية حدّثنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: كان زوج بريرة حرّاً فلمّا عتقت خيّرت. لحديث. أخرجه أحمد عنه.

وأخرج ابن أبي شيبة عن إدريس عن الأعمش بهذا السّند عن عائشة قالت: كان زوج بريرة حرّاً. ومن وجه آخر عن النّخعيّ عن الأسود ، أنّ عائشة حدّثته ، أنّ زوج بريرة كان حرّاً حين أعتقت.

فدلَّت الرّوايات المفصّلة التي قدّمتها آنفاً على أنّه مدرج من قول الأسود أو من دونه ، فيكون من أمثلة ما أدرج في أوّل الخبر وهو نادر ، فإنّ الأكثر أن يكون في آخره ودونه أن يقع في وسطه.

وعلى تقدير أن يكون موصولاً فترجّح رواية مَن قال: كان عبداً بالكثرة، وأيضاً فآلُ المرء أعرف بحديثه، فإنّ القاسم ابن أخي عائشة وعروة ابن أختها وتابعهما غيرهما. فروايتهما أولى من رواية الأسود

ص: 458

فإنّهما أقعد بعائشة ، وأعلم بحديثها. والله أعلم.

ويترجّح أيضاً: بأنّ عائشة كانت تذهب إلى أنّ الأمة إذا عتقت تحت الحرّ لا خِيَار لها، وهذا بخلاف ما روى العراقيّون عنها ، فكان يلزم على أصل مذهبهم أن يأخذوا بقولها ويدعوا ما روي عنها لا سيّما وقد اختلف عنها فيه.

وادّعى بعضهم: أنّه يمكن الجمع بين الرّوايتين بحمل قول مَن قال كان عبداً على اعتبار ما كان عليه ثمّ أعتق، فلذلك قال مَن قال: كان حرّاً.

ويردّ هذا الجمع ما تقدّم من قول عروة: كان عبداً ولو كان حرّاً لَم تخيّر " وأخرجه التّرمذيّ بلفظ " أنّ زوج بريرة كان عبداً أسود يوم أعتقت ". فهذا يعارض الرّواية المتقدّمة عن الأسود.

ويعارض الاحتمال المذكور احتمال أن يكون مَن قال: كان حرّاً. أراد ما آل إليه أمره، وإذا تعارضا إسناداً واحتمالاً احتيج إلى التّرجيح ، ورواية الأكثر يرجّح بها ، وكذلك الأحفظ وكذلك الألزم، وكلّ ذلك موجود في جانب مَن قال: كان عبداً.

وقد اختلف العلماء في الأمة إذا كانت تحت حرّ فعتقت.

القول الأول: ذهب الجمهور إلى عدم الخِيَار.

القول الثاني: ذهب الكوفيّون إلى إثبات الخِيَار لمن عتقت سواء كانت تحت حرّ أم عبد.

وتمسّكوا بحديث الأسود بن يزيد عن عائشة " أنّ زوج بريرة كان

ص: 459

حرّاً " ، وقد اختلف فيه على راويه. هل هو من قول الأسود أو رواه عن عائشة أو هو قول غيره؟ كما تقدّم.

قال إبراهيم بن أبي طالب أحدُ حفّاظ الحديث - وهو من أقران مسلم - فيما أخرجه البيهقيّ عنه: خالف الأسودُ النّاسَ في زوج بريرة.

وقال الإمام أحمد: إنّما يصحّ أنّه كان حرّاً عن الأسود وحده، وما جاء عن غيره فليس بذاك، وصحّ عن ابن عبّاس وغيره أنّه كان عبداً، ورواه علماء المدينة، وإذا روى علماء المدينة شيئاً وعملوا به فهو أصحّ شيء، وإذا عتقت الأمة تحت الحرّ فعقدها المتّفق على صحّته لا يفسخ بأمرٍ مختلف فيه. انتهى

وحاول بعض الحنفيّة ترجيح رواية مَن قال " كان حرّاً " على رواية مَن قال " كان عبداً " فقال: الرّقّ تعقبه الحرّيّة بلا عكس. انتهى

وهو كما قال، لكنّ محلّ طريق الجمع إذا تساوت الرّوايات في القوّة ، أمّا مع التّفرّد في مقابلة الاجتماع ، فتكون الرّواية المنفردة شاذّة والشّاذّ مردود، ولهذا لَم يعتبر الجمهور طريق الجمع بين الرّوايتين ، مع قولهم: إنّه لا يصار إلى التّرجيح مع إمكان الجمع.

والذي يتحصّل من كلام محقّقيهم ، وقد أكثر منه الشّافعيّ ومن تبعه ، أنّ محلّ الجمع إذا لَم يظهر الغلط في إحدى الرّوايتين.

ومنهم من شرط التّساوي في القوّة.

قال ابن بطّالٍ: أجمع العلماء أنّ الأمة إذا عتقت تحت عبد فإنّ لها

ص: 460

الخِيَار، والمعنى فيه ظاهر ، لأنّ العبد غير مكافئ للحرّة في أكثر الأحكام، فإذا عتقت ثبت لها الخِيَار من البقاء في عصمته أو المفارقة لأنّها في وقت العقد عليها لَم تكن من أهل الاختيار.

واحتجّ مَن قال: إنّ لها الخِيَار ولو كانت تحت حرّ ، بأنّها عند التّزويج لَم يكن لها رأي لاتّفاقهم على أنّ لمولاها أن يزوّجها بغير رضاها ، فإذا عتقت تجدّد لها حال لَم يكن قبل ذلك.

وعارضهم الآخرون: بأنّ ذلك لو كان مؤثّراً لثبت الخِيَار للبكر إذا زوّجها أبوها ثمّ بلغت رشيدة ، وليس كذلك. فكذلك الأمة تحت الحرّ ، فإنّه لَم يحدث لها بالعتق حال ترتفع به عن الحرّ فكانت كالكتابيّة تسلم تحت المسلم.

واختلف في التي تختار الفراق. هل يكون ذلك طلاقاً أو فسخاً؟.

القول الأول: قال مالك والأوزاعيّ والليث: تكون طلقةً بائنةً، وثبت مثله عن الحسن وابن سيرين. أخرجه ابن أبي شيبة.

القول الثاني: قال الباقون: يكون فسخاً لا طلاقاً.

قوله: (ودخل عليّ صلى الله عليه وسلم) زاد في رواية إسماعيل بن جعفر " بيت عائشة ".

قوله: (والبُرمة على النار، فدعا بطعام، فأتي بخبز وأدمٍ من أدم البيت) في رواية ربيعة " والبرمة تفور بلحمٍ، فقرّب إليه خبز وأدم " وفي رواية إسماعيل بن جعفر " فدعا بالغداء فأتي بخبزٍ ".

والأدم: بضمّ الهمزة والدّال المهملة ويجوز إسكانها، جمع إدام.

ص: 461

وقيل: هو بالإسكان المفرد ، وبالضّمّ الجمع.

وحكى ابن بطّالٍ عن الطّبريّ قال: دلَّت القصّة على إيثاره صلى الله عليه وسلم اللحم إذا وجد إليه السّبيل. ثمّ ذكر حديث بريدة (1) رفعه " سيّد الإدام في الدّنيا والآخرة اللحم ".

وأمّا ما ورد عن عمر وغيره من السّلف من إيثار أكل غير اللحم على اللحم ، فإمّا لقمع النّفس عن تعاطي الشّهوات والإدمان عليها، وإمّا لكراهة الإسراف والإسراع في تبذير المال لقلة الشّيء عندهم إذ ذاك.

ثمّ ذكر حديث جابر: لَمَّا أضاف النّبيّ صلى الله عليه وسلم وذبح له الشّاة، فلمّا قدّمها إليه قال له: كأنّك قد علمت حبّنا للحم. وكان ذلك لقلة الشّيء عندهم فكان حبّهم له لذلك. انتهى ملخّصاً.

وحديث بريدة. أخرجه ابن ماجه (2)، وحديث جابر. أخرجه أحمد مطوّلاً من طريق نبيح العنزيّ عنه، وأصله في " الصّحيح " بدون الزّيادة.

وقد اختلف النّاس في الأدم:

(1) وقع في مطبوع الفتح (بريرة) وكذا بعد ثلاثة أسطر وهو تصحيف. والصواب بريدة ، بالدال

(2)

كذا عزاه الشارح رحمه الله. وإنما أخرجه ابن ماجه في " السنن "(3305) من حديث أبي الدرداء مرفوعاً بلفظ " سيد طعام أهل الدنيا وأهل الجنة اللحم "

أمّا حديث بريدة ، فأخرجه الطبراني في " الأوسط "(7477) وتمام في " فوائده "(298) وأبو نعيم في " الطب "(847) بلفظه. وسندهما ضعيف

ص: 462

فالجمهور أنّه ما يؤكل به الخبز بما يطيّبه. سواء كان مرقاً أم لا.

واشترط أبو حنيفة وأبو يوسف الاصطباغ (1).

قال ابن بطّال: دلَّ هذا الحديث على أنّ كلّ شيء في البيت ممّا جرت العادة بالائتدام به يسمّى أدماً ، مائعاً كان أو جامداً. وكذا حديث " تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة وإدامهم زائدة كبد الحوت " (2). وحديث يوسف بن عبد الله بن سلام: رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ كسرةً من خبز شعيرٍ فوضع عليها تمرة، وقال: هذه إدام هذه. أخرجه أبو داود والتّرمذيّ بسندٍ حسنٍ.

قال ابن القصّار: لا خلاف بين أهل اللسان ، أنّ من أكل خبزاً بلحمٍ مشويٍّ أنّه ائتدم به، فلو قال: أكلت خبزاً بلا إدامٍ كذب، وإن قال: أكلت خبزاً بإدامٍ صدق، وأمّا قول الكوفيّين: الإدام اسمٌ للجمع بين الشّيئين فدلَّ على أنّ المراد أن يستهلك الخبز فيه بحيث يكون تابعاً له بأن تتداخل أجزاؤه في أجزائه، وهذا لا يحصل إلَّا بما يصطبغ به.

فقد أجاب من خالفهم: بأنّ الكلام الأوّل مسلَّمٌ ، لكنّ دعوى

(1) وقع في المطبوع من الفتح (الاصطناع) وهو تصحيف. والصواب ما أثبتّه.

(2)

أخرجه البخاري (6520) ومسلم (2792) من حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة، يكفؤها الجبار بيده، كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر، نُزلا لأهل الجنة ، وفيه فقال: ألا أخبرك بإدامهم؟ قال: بلى. قال: إدامهم بالام ونون، قالوا: وما هذا؟ قال: ثور ونون، يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفاً.

ص: 463

التّداخل لا دليل عليه قبل التّناول، وإنّما المراد الجمع ثمّ الاستهلاك بالأكل فيتداخلان حينئذٍ.

قوله: (أَلَم أر البرمة على النار فيها لحمٌ؟ فقالوا: بلى يا رسولَ الله، ذلك لحمٌ تصدّق به على بريرة، فكرهنا أن نطعمك منه) في رواية ربيعة " ولكن ذاك لحم تصدّق به على بريرة ، وأنت لا تأكل الصّدقة ".

ووقع في رواية الأسود عن عائشة في البخاري " وأتي النّبيّ صلى الله عليه وسلم بلحمٍ ، فقالوا: هذا ما تصدّق به على بريرة " وكذا في حديث أنس في البخاري.

ويجمع بينهما: بأنّه لَمَّا سأل عنه ، أُتي به وقيل له ذلك.

ووقع في رواية عبد الرّحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة عند البخاري " فأهدي لها لحمٌ فقيل هذا تصدّق به على بريرة " فإن كان الضّمير لبريرة ، فكأنّه أطلق على الصّدقة عليها هديّة لها، وإن كان لعائشة فلأنّ بريرة لَمَّا تصدّقوا عليها باللحم أهدت منه لعائشة.

ويؤيّده ما وقع في رواية أسامة بن زيد عن القاسم عند أحمد وابن ماجه " ودخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمِرجل يفور بلحمٍ، فقال: من أين لك هذا؟ قلت: أهدته لنا بريرة وتصدّق به عليها ".

وعند أحمد ومسلم من طريق أبي معاوية عن هشام بن عروة عن عبد الرّحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة " وكان النّاس يتصدّقون عليها فتهدي لنا ".

ص: 464

واللحم المذكور وقع في بعض الشّروح أنّه كان لحم بقر.

وفيه نظرٌ. (1)

بل جاء عن عائشة " تصدّق على مولاتي بشاةٍ من الصّدقة "(2) فهو أولى أن يؤخذ به، ووقع بعد قوله " هو عليها صدقة ولنا هديّة " من رواية أبي معاوية المذكورة " فكلوه ".

قوله: (فقال: هو عليها صدقةٌ، وهو لنا منها هديّةٌ) قال ابن بطّال: إنّما كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يأكل الصّدقة لأنّها أوساخ النّاس، ولأنّ أخذ الصّدقة منزلة ضعة، والأنبياء منزّهون عن ذلك ، لأنّه صلى الله عليه وسلم كان كما وصفه الله تعالى:(ووجدك عائلاً فأغنى) والصّدقة لا تحل للأغنياء. وهذا بخلاف الهديّة فإنّ العادة جارية بالإثابة عليها، وكذلك كان شأنه.

وفيه أنّ الصّدقة يجوز فيها تصرّف الفقير الذي أعطيها بالبيع والهديّة وغير ذلك.

(1) وقع هذا في صحيح مسلم (1075) من طريق محمد بن جعفر ومعاذ كلاهما عن شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: وأُتي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم بقر. الحديث.

لكن أخرجه البخاري (6370) من حديث حفص بن غياث عن شعبة. وفيه قالت عائشة: وأهدي لها شاة، فقال: هو لها صدقة .. الحديث ".

ورواية الشاة أكثر فقد جاءت من طرق أخرى عن عائشة وابن عباس ، وقد ذكر الشارح بعض الأحاديث التي صرّحت بكونها شاة ، إلا أن يُحمل على أنه أُهدي لها لحم بقر وشاة جميعاً. والله أعلم

(2)

انظر التعليق السابق.

ص: 465

وفيه إشارة إلى أنّ أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا تحرم عليهنّ الصّدقة كما حرمت عليه، لأنّ عائشة قبلت هديّة بريرة مع علمها بأنّها كانت صدقة عليهما، وظنّت استمرار الحكم بذلك عليها ، ولهذا لَم تُقدّمها للنّبيّ صلى الله عليه وسلم لِعلمها أنّه لا تحل له الصّدقة، وأقرّها صلى الله عليه وسلم على ذلك الفهم ، ولكنّه بيّن لها أنّ حكم الصّدقة فيها قد تحوّل فحلَّت له صلى الله عليه وسلم أيضاً.

قوله: (إنما الولاء لمن أعتق) تقدّم بيان سببها مستوفىً (1).

وللبخاري من رواية سفيان عن منصورٍ عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة بلفظ " الولاء لمن أعطى الورق، وولي النّعمة " وقد ذكره أصحاب منصور كأبي عوانة بلفظ " إنّما الولاء لمن أعتق " وكذلك ذكره أصحاب إبراهيم كالحكم والأعمش ، وأصحاب الأسود ، وأصحاب عائشة. وكلّها في الكتب السّتّة.

وتفرّد الثّوريّ. وتابعه جرير عن منصور بهذا اللفظ.

فيحتمل: أن يكون منصور رواه لهما بالمعنى. وقد تفرّد الثّوريّ بزيادة قوله " وولي النّعمة ".

ومعنى قوله " أعطى الورق " أي: الثّمن، وإنّما عبّر بالورق ، لأنّه الغالب، ومعنى قوله " وولي النّعمة " أعتق، ومطابقته لقوله " الولاء لمن أعتق " أنّ صحّة العتق تستدعي سبق ملكٍ ، والملك يستدعي ثبوت العوض

(1) انظر حديث عائشة في العمدة برقم (275)

ص: 466

قال ابن بطّال: هذا الحديث يقتضي أنّ الولاء لكل معتق ذكرًا كان أو أنثى وهو مجمعٌ عليه، وأمّا جرّ الولاء فقال الأبهريّ:

ليس بين الفقهاء اختلاف أنّه ليس للنّساء من الولاء إلَّا ما أعتقن أو أولاد من أعتقن، إلَّا ما جاء عن مسروقٍ أنّه قال: لا يختصّ الذّكور بولاء من أعتق آباؤهم بل الذّكور والإناث فيه سواءٌ كالميراث.

ونقل ابن المنذر عن طاوسٍ مثله، وعليه اقتصر سحنون فيما نقله ابن التّين.

وتعقّب: الحصر الذي ذكره الأبهريّ تبعًا لسحنون وغيره ، بأنّه يرد عليه ولد الإناث من ولد من أعتقن.

قال: والعبارة السّالمة أن يقال إلَّا ما أعتقن أو جرّه إليهنّ من أعتقن بولادةٍ أو عتقٍ، احترازًا ممّن لها ولد من زنًا ، أو كانت ملاعنة ، أو كان زوجها عبدًا. فإنّ ولاء ولد هؤلاء كلهنّ لمعتق الأمّ.

والحجّة للجمهور اتّفاق الصّحابة، ومن حيث النّظر ، أنّ المرأة لا تستوعب المال بالفرض الذي هو آكد من التّعصيب، فاختصّ بالولاء من يستوعب المال وهو الذّكر ، وإنّما ورثن من أعتقن؛ لأنّه عن مباشرةٍ لا عن جرّ الإرث.

واستدل بقوله " الولاء لمن أعطى الورق " على مَن قال فيمن أعتق عن غيره بوصيّةٍ من المعتق عنه أنّ الولاء للمعتق عملاً بعموم قوله " الولاء لمن أعتق ".

ص: 467

وموضع الدّلالة منه قوله " الولاء لمن أعطى الورق " فدلَّ على أنّ المراد بقوله " لمن أعتق " لمن كان من عتق في ملكه حين العتق لا لمن باشر العتق فقط.

ويستفاد منه أنّ كلمة " إنّما " تفيد الحصر. وإلَّا لَمَا لزم من إثبات الولاء للمعتق نفيه عن غيره وهو الذي أريد من الخبر.

ويؤخذ منه أنّه لا ولاء للإنسان على أحد بغير العتق فينتفي من أسلم على يده أحدٌ.

وقد أخرج البخاريّ في " تاريخه " وأبو داود وابن أبي عاصم والطّبرانيّ والباغنديّ في " مسند عمر بن عبد العزيز " بالعنعنة كلّهم من طريق عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: سمعت عبيد الله بن موهب يحدّث عمر بن عبد العزيز عن قبيصة بن ذؤيب عن تميم الدّاريّ قال: قلت: يا رسولَ الله. ما السُّنّة في الرّجل يسلم على يدي رجل من المسلمين؟ قال: هو أولى النّاس بمحياه ومماته.

قال البخاريّ: قال بعضهم: عن ابن موهب سمع تميماً. ولا يصحّ ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم " الولاء لمن أعتق "

وقال الشّافعيّ: هذا الحديث ليس بثابتٍ ، إنّما يرويه عبد العزيز بن عمر عن ابن موهب، وابن موهب ليس بالمعروف ولا نعلمه لقي تميماً ، ومثل هذا لا يثبت.

وقال الخطّابيّ: ضعّف أحمدُ هذا الحديث.

وأخرجه أحمد والدّارميّ والتّرمذيّ والنّسائيّ من رواية وكيع

ص: 468

وغيره عن عبد العزيز عن ابن موهب عن تميم. وصرّح بعضهم بسماع ابن موهب من تميم.

وأمّا التّرمذيّ فقال: ليس إسناده بمتّصلٍ. قال: وأدخل بعضهم بين ابن موهب وبين تميم قبيصةَ. رواه يحيى بن حمزة.

قلت: ومن طريقه أخرجه مَن بدأت بذكره، وقال بعضهم: إنّه تفرّد فيه بذكر قبيصة، وقد رواه أبو إسحاق السّبيعيّ عن ابن موهب بدون ذكر تميم. أخرجه النّسائيّ أيضاً.

وقال ابن المنذر: هذا الحديث مضطربٌ: هل هو عن ابن موهب عن تميم أو بينهما قبيصة؟ وقال بعض الرّواة فيه: عن عبد الله بن موهب ، وبعضهم: ابن موهب، وعبد العزيز راويه ليس بالحافظ.

قلت: هو من رجال البخاريّ ، ولكنّه ليس بالمكثر، وأمّا ابن موهب فلم يدرك تميماً، وقد أشار النّسائيّ إلى أنّ الرّواية التي وقع التّصريح فيها بسماعه من تميم خطأ.

ولكن وثّقه بعضهم، وكان عمر بن عبد العزيز ولاه القضاء، ونقل أبو زرعة الدّمشقيّ في " تاريخه " بسندٍ له صحيحٍ عن الأوزاعيّ ، أنّه كان يدفع هذا الحديث، ولا يرى له وجهاً.

وصحّح هذا الحديث أبو زرعة الدّمشقيّ ، وقال: هو حديث حسن المخرج متّصل. وإلى ذلك أشار البخاريّ بقوله: واختلفوا في صحّة هذا الخبر، وجزم في " التّاريخ " بأنّه لا يصحّ لمعارضته حديث " إنّما الولاء لمن أعتق "

ص: 469

ويؤخذ منه ، أنّه لو صحّ سنده لَمَا قاوم هذا الحديث، وعلى التّنزّل فتردّد في الجمع ، هل يخصّ عموم الحديث المتّفق على صحّته بهذا فيستثنى منه من أسلم أو تؤوّل الأولويّة في قوله " أولى النّاس " بمعنى النّصرة والمعاونة وما أشبه ذلك لا بالميراث ، ويبقى الحديث المتّفق على صحّته على عمومه؟.

جنح الجمهور إلى الثّاني ، ورجحانه ظاهرٌ، وبه جزم ابن القصّار فيما حكاه ابن بطّال فقال: لو صحّ الحديث لكان تأويله أنّه أحقّ بموالاته في النّصر والإعانة والصّلاة عليه إذا مات ونحو ذلك، ولو جاء الحديث بلفظ أحقّ بميراثه لوجب تخصيص الأوّل. والله أعلم.

قال ابن المنذر: قال الجمهور بقول الحسن في ذلك.

وقال حمّاد وأبو حنيفة وأصحابه ، وروي عن النّخعيّ: أنّه يستمرّ إن عقل عنه، وإن لَم يعقل عنه فله أن يتحوّل لغيره ، واستحقّ الثّاني وهلمّ جرّاً.

وعن النّخعيّ قولٌ آخر: ليس له أن يتحوّل.

وعنه. إن استمرّ إلى أن مات تحوّل عنه، وبه قال إسحاق وعمر بن عبد العزيز.

ووقع ذلك في طريق الباغنديّ التي أسلفتها، وفي غيرها أنّه أعطى رجلاً أسلم على يديه رجل فمات وترك مالاً وبنتاً نصف المال الذي بقي بعد نصيب البنت.

ويؤخذ منه. أنّه لا ولاء للملتقط وهو قول الجمهور خلافاً

ص: 470

لإسحاق، لأنّ من لَم يعتق لا ولاء له ، لأنّ العتق يستدعي سبق ملكٍ واللقيط من دار الإسلام لا يملكه الملتقط؛ لأنّ الأصل في النّاس الحرّيّة؛ إذ لا يخلو المنبوذ أن يكون ابن حرّةٍ فلا يسترقّ أو ابن أمة قومٍ فميراثه لهم، فإذا جهل وضع في بيت المال، ولا رقّ عليه للذي التقطه.

وجاء عن عليّ " أنّ اللقيط مولى من شاء "، وبه قال الحنفيّة: إلى أن يعقل عنه فلا ينتقل بعد ذلك عمّن عقل عنه.

ويؤخذ منه أنه ولاء لمن حالف إنساناً خلافاً لطائفةٍ من السّلف، وبه قال أبو حنيفة

ويؤخذ من عمومه ، أنّ الحربيّ لو أعتق عبداً ثمّ أسلما ، أنّه يستمرّ ولاؤه له ، وبه قال الشّافعيّ.

وقال ابن عبد البرّ: إنّه قياس قول مالك، ووافق على ذلك أبو يوسف، وخالف أصحابه. فإنّهم قالوا للعتيق في هذه الصّورة: أن يتولى من يشاء.

تنبيهٌ: أورد البخاريّ هذا الحديث في الأطعمة من طريق إسماعيل بن جعفر عن ربيعة عن القاسم بن محمّد قال: كان في بريرة ثلاث سنن. وساق الحديث. وليس فيه أنّه أسنده عن عائشة.

وتعقّبه الإسماعيليّ فقال: هذا الحديث الذي صحَّحه مرسل.

وهو كما قال من ظاهر سياقه، لكنّ البخاريّ اعتمد على إيراده موصولاً من طريق مالك عن ربيعة عن القاسم عن عائشة في النّكاح

ص: 471

والطّلاق، لكنّه جرى على عادته من تجنّب إيراد الحديث على هيئته ، ومالكٌ أحفظ من إسماعيل وأتقن، وقد وافقه أسامة بن زيد وغير واحد عن القاسم.

وكذلك رواه عبد الرّحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة، لكن صدّره بقصّة اشتراط الذين باعوها على عائشة أن يكون لهم الولاء.

وقد تقدّم مستوفىً.

وكذا رواه عروة وعمرة والأسود وأيمن المكّيّ عن عائشة، وكذا رواه نافع عن ابن عمر ، أنّ عائشة، ومنهم مَن قال: عن ابن عمر عن عائشة.

وروى قصّةَ البرمة واللحم أنسٌ في البخاري، وروى ابن عبّاس قصّة تخييرها لَمَّا عتقت ، وطرقه كلها صحيحةٌ.

وفي الحديث من الفوائد ، أنَّ بيع الأمة المزوّجة ليس طلاقًا.

قال ابن بطّالٍ: اختلف السّلف هل يكون بيع الأمة طلاقًا؟.

القول الأول: فقال الجمهور: لا يكون بيعها طلاقًا.

القول الثاني: روي عن ابن مسعود وابن عبّاس وأبيّ بن كعب ، ومن التّابعين عن سعيد بن المسيّب والحسن ومجاهد قالوا: يكون طلاقًا. وتمسّكوا بظاهر قوله تعالى (والمحصنات من النّساء إلَّا ما ملكت أيمانكم).

وحجّة الجمهور حديث الباب، وهو أنّ بريرة عتقت فخيّرت في زوجها، فلو كان طلاقها يقع بمجرّد البيع لَم يكن للتّخيير معنىً.

ص: 472

ومن حيث النّظر: أنّه عقد على منفعة فلا يبطله بيع الرّقبة كما في العين المؤجّرة، والآية نزلت في المسبيّات فهنّ المراد بملك اليمين على ما ثبت في الصّحيح من سبب نزولها. انتهى ملخّصًا.

وما نقله عن الصّحابة. أخرجه ابن أبي شيبة بأسانيد فيها انقطاع، وفيه عن جابر وأنس أيضًا، وما نقله عن التّابعين فيه بأسانيد صحيحة، وفيه أيضًا عن عكرمة والشّعبيّ نحوه، وأخرجه سعيد بن منصور عن ابن عبّاس بسندٍ صحيحٍ.

وروى حمّاد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه قال: إذا زوّج عبده بأمته فالطّلاق بيد العبد وإذا اشترى أمة لها زوج فالطّلاق بيد المشتري.

وأخرج سعيد بن منصور من طريق الحسن قال: إباق العبد طلاقه.

وفيه أنّ عتقها ليس طلاقًا ولا فسخًا لثبوت التّخيير، فلو طلقت بذلك واحدة لكان لزوجها الرّجعة ولَم يتوقّف على إذنها، أو ثلاثًا لَم يقل لها لو راجعتيه لأنّها ما كانت تحلّ له إلَّا بعد زوج آخر.

وفيه اعتبار الكفاءة في الحرّيّة ، وفيه سقوط الكفاءة برضا المرأة التي لا وليّ لها ، وأنّ من خيّر امرأته فاختارت فراقه وقع وانفسخ النّكاح بينهما ، وأنّها لو اختارت البقاء معه لَم ينقص عدد الطّلاق.

وأكثَرَ بعض من تكلم على حديث بريرة هنا في سرد تفاريع التّخيير ، وأنّ بيعها لا يبيح لمشتريها وطأها ، لأنّ تخييرها يدلّ على بقاء علقة

ص: 473

العصمة.

وفيه تحريم الصّدقة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم مطلقًا ، وجواز التّطوّع منها على ما يلحق به في تحريم صدقة الفرض كأزواجه ومواليه ، وأنّ موالي أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا تحرم عليهنّ الصّدقة وإن حرمت على الأزواج.

وجواز أكل الغنيّ ما تصدّق به على الفقير إذا أهداه له وبالبيع أولى.

وجواز قبول الغنيّ هديّة الفقير ، وفيه الفرق بين الصّدقة والهديّة في الحكم.

وفيه نصح أهل الرّجل له في الأمور كلها ، وجواز أكل الإنسان من طعام من يسرّ بأكله منه ولو لَم يأذن له فيه بخصوصه.

وبأنّ الأمة إذا عتقت جاز لها التّصرّف بنفسها في أمورها ولا حجر لمعتقها عليها إذا كانت رشيدةً ، وأنّها تتصرّف في كسبها دون إذن زوجها إن كان لها زوجٌ.

وفيه جواز الصّدقة على من يمونه غيره ، لأنّ عائشة كانت تمون بريرة ولَم ينكر عليها قبولها الصّدقة.

وأنّ لمن أهدي لأهله شيءٌ أن يشرك نفسه معهم في الإخبار عن ذلك لقوله " وهو لنا هديّةٌ ".

وأنّ من حرمت عليه الصّدقة جاز له أكل عينها إذا تغيّر حكمها.

وأنّه يجوز للمرأة أن تدخل إلى بيت زوجها ما لا يملكه بغير علمه وأن تتصرّف في بيته بالطّبخ وغيره بآلاته ووقوده.

ص: 474

وجواز أكل المرء ما يجده في بيته إذا غلب الحل في العادة وأنّه ينبغي تعريفه بما يخشى توقّفه عنه.

وفيه. استحباب السّؤال عمّا يستفاد به علمٌ أو أدبٌ أو بيان حكمٍ أو رفع شبهةٍ وقد يجب ، وسؤال الرّجل عمّا لَم يعهده في بيته ، وأنّ هديّة الأدنى للأعلى لا تستلزم الإثابة مطلقًا ، وقبول الهديّة وإن نزر قدرها جبرٌ للمهدي.

وأنّ الهديّة تملك بوضعها في بيت المهدي له ولا يحتاج إلى التّصريح بالقبول.

وأنّ لمن تصدّق عليه بصدقةٍ أن يتصرّف فيها بما شاء ولا ينقص أجر المتصدّق ، وأنّه لا يجب السّؤال عن أصل المال الواصل إذا لَم يكن فيه شبهةٌ ، ولا عن الذّبيحة إذا ذبحت بين المسلمين ، وأنّ من تصدّق عليه قليلٌ لا يتسخّطه.

وفيه مشاورة المرأة زوجها في التّصرّفات ، وسؤال العالم عن الأمور الدّينيّة وإعلام العالم بالحكم لمن رآه يتعاطى أسبابه ولو لَم يسأل ، ومشاورة المرأة إذا ثبت لها حكم التّخيير في فراق زوجها أو الإقامة عنده ، وأنّ على الذي يشاور بذل النّصيحة ، وفيه جواز مخالفة المشير فيما يشير به في غير الواجب.

وفيه ثبوت الخِيَار للأَمَة إذا عتقت على التّفصيل المتقدّم ، وأنّ خِيَارها يكون على الفور لقوله في بعض طرقه " إنّها عتقت فدعاها ، فخيّرها فاختارت نفسها ".

ص: 475

وللعلماء في ذلك أقوال:

أحدها: وهو قول الشّافعيّ ، أنّه على الفور ، وعنه: يمتدّ خِيَارها ثلاثًا.

وقيل: بقيامها من مجلس الحاكم ، وقيل: من مجلسها ، وهما عن أهل الرّأي.

وقيل: يمتدّ أبدًا ، وهو قول مالكٍ والأوزاعيّ وأحمد وأحد أقوال الشّافعيّ

واتّفقوا على أنّه إن مكّنته من وطئها سقط خِيَارها.

وتمسّك مَن قال به ، بما جاء في بعض طرقه. وهو عند أبي داود من طريق ابن إسحاق بأسانيد عن عائشة ، أنّ بريرة أعتقت. فذكر الحديث .. وفي آخره " إنْ قربكِ فلا خِيَار لك.

وروى مالكٌ بسندٍ صحيحٍ عن حفصة ، أنّها أفتت بذلك. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عمر مثله.

قال بن عبد البرّ: لا أعلم لهما مخالفًا من الصّحابة ، وقال به جمعٌ من التّابعين منهم الفقهاء السّبعة.

واختلف فيما لو وطئها قبل علمها بأنّ لها الخِيَار ، هل يسقط أو لا؟. على قولين للعلماء.

أصحّهما: عند الحنابلة لا فرق ، وعند الشّافعيّة تعذر بالجهل ، وفي رواية الدّارقطنيّ " إن وطئك فلا خِيَار لك ".

ويؤخذ من هذه الزّيادة ، أنّ المرأة إذا وجدت بزوجها عيبًا ، ثمّ

ص: 476

مكّنته من الوطء بطل خِيَارها.

وفيه أنّ الخِيَار فسخٌ لا يملك الزّوج فيه رجعةٌ ، وتمسّك مَن قال له الرّجعة بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: لو راجعته.

ولا حجّة فيه وإلا لَمَا كان لها اختيارٌ ، فتعيّن حمل المراجعة في الحديث على معناها اللغويّ والمراد رجوعها إلى عصمته ، ومنه قوله تعالى (فلا جناح عليهما أن يتراجعا) مع أنّها في المطلق ثلاثًا

وفيه تسمية الأحكام سننًا وإن كان بعضها واجبًا ، وأنّ تسمية ما دون الواجب سنّةً اصطلاحٌ حادثٌ.

وفيه أنّ للمعتق أن يقبل الهديّة من معتقه ولا يقدح ذلك في ثواب العتق ، وجواز الهديّة لأهل الرّجل بغير استئذانه ، وقبول المرأة ذلك حيث لا ريبة.

وفيه سؤال الرّجل عمّا لَم يعهده في بيته.

ولا يردُ على هذا ما رواه الشيخان في قصّة أمّ زرعٍ حيث وقع في سياق المدح " ولا يسأل عمّا عهد ". لأنّ معناه ولا يسأل عن شيءٍ عهده وفات فلا يقول لأهله: أين ذهب؟ وهنا سألهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ رآه وعاينه ثمّ أحضر له غيره فسأل عن سبب ذلك ، لأنّه يعلم أنّهم لا يتركون إحضاره له شحًّا عليه ، بل لتوهّم تحريمه فأراد أن يبيّن لهم الجواز.

وقال بن دقيق العيد: فيه دلالة. على تبسط الإنسان في السّؤال عن أحوال منزله ، وما عهده فيه قبل. انتهى.

ص: 477

والأوّل أظهر ، وعندي أنّه مبنيٌّ على خلاف ما انبنى عليه الأوّل ، لأنّ الأوّل بني على أنّه علم حقيقة الأمر في اللحم ، وأنّه ممّا تصدّق به على بريرة.

والثّاني بني على أنّه لَم يتحقّق من أين هو؟ ، فجائزٌ أن يكون ممّا أهدي لأهل بيته من بعض إلزامها كأقاربها مثلاً ولَم يتعيّن الأوّل.

وفيه أنّه لا يجب السّؤال عن أصل المال الواصل إليه إذا لَم يظنّ تحريمه أو تظهر فيه شبهةٌ ، إذ لَم يسأل صلى الله عليه وسلم عمّن تصدّق على بريرة ، ولا عن حاله كذا قيل. وقد جاء أنّه صلى الله عليه وسلم هو الذي أرسل إلى بريرة بالصّدقة فلم يتم هذا.

ص: 478