الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السابع والعشرون
283 -
عن عائشة رضي الله عنها، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهوديٍّ طعاماً، ورهنه درعاً من حديدٍ. (1)
قوله: (اشترى من يهوديٍّ) وللبخاري من طريق هشام الدّستوائيّ عن قتادة عن أنسٍ رضي الله عنه قال: رهن النّبيّ صلى الله عليه وسلم درعاً له بالمدينة عند يهوديٍّ. وأَخذَ منه شعيراً لأهله ".
وهذا اليهوديّ هو أبو الشّحم (2)، بيّنه الشّافعيّ ، ثمّ البيهقيّ من طريق جعفر بن محمّد عن أبيه ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رهن درعاً له عند أبي الشّحم اليهوديّ رجلٍ من بني ظفر في شعير.
وأبو الشّحم - بفتح المعجمة وسكون المهملة - اسمه كنيته، وظفر - بفتح الظّاء والفاء - بطن من الأوس ، وكان حليفاً لهم.
وضبطه بعض المتأخّرين بهمزةٍ موحّدةٍ ممدودة ومكسورة اسم الفاعل من الإباء، وكأنّه التبس عليه بأبي اللحم الصّحابيّ.
وكان قدر الشّعير المذكور ثلاثين صاعاً كما في البخاري من حديث
(1) أخرجه البخاري (1962 ، 1990، 2088، 2133، 2134، 2256، 2374، 2378، 2759، 4197) ومسلم (1603) من طرق عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
هذا مصير من الشارح رحمه الله بأنَّ حديث أنس وعائشة متّحدان ، ولذا لَمَّا جاء إلى شرح حديث عائشة في اسم اليهودي ، قال: تقدّم التعريف به في الباب الذي قبله (أي حديث أنس).
عائشة ، وكذلك رواه أحمد وابن ماجه والطّبرانيّ وغيرهم من طريق عكرمة عن ابن عبّاس. وأخرجه التّرمذيّ والنّسائيّ من هذا الوجه فقالا:" بعشرين " ولعله كان دون الثّلاثين فجبر الكسر تارةً ، وألغى أخرى.
ووقع لابن حبّان من طريق شيبان عن قتادة عن أنس " أنّ قيمة الطّعام كانت ديناراً " ، وزاد أحمد من طريق شيبان في آخره " فما وجد ما يفتكّها به حتّى مات ".
قوله: (طعاماً) زاد الشيخان في رواية لهما " إلى أجل ". ولهما أيضاً " بنسيئةٍ " بكسر المهملة والمدّ. أي: بالأجل. وفي صحيح ابن حبّان من طريق عبد الواحد بن زياد عن الأعمش ، أنّه سنة.
وللبخاري من طريق سفيان عن الأعمش ، قالت: توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونةٌ عند يهوديٍّ بثلاثين صاعاً من شعيرٍ.
قال ابن بطّال: الشّراء بالنّسيئة جائز بالإجماع. انتهى
تكميل: قال البخاري " باب من اشترى بالدّين وليس عنده ثمنه أو ليس بحضرته " أي: فهو جائز، وكأنّه يشير إلى ضعف ما جاء عن ابن عبّاس مرفوعاً " لا أشتري ما ليس عندي ثمنه " وهو حديث أخرجه أبو داود والحاكم من طريق سماك عن عكرمة عنه ، في أثناء حديث تفرّد به شريك عن سماك ، واختلف في وصله وإرساله.
ثمّ أورد فيه حديث جابر " في شراء النّبيّ صلى الله عليه وسلم منه جمله في السّفر
وقضائه ثمنه في المدينة (1)، وهو مطابقٌ للرّكن الثّاني من التّرجمة. وحديث عائشة في شرائه صلى الله عليه وسلم من اليهوديّ الطّعام إلى أجل، وهو مطابقٌ للرّكن الأوّل.
قال ابن المنير: وجه الدّلالة منه أنّه صلى الله عليه وسلم لو حضره الثّمن ما أخّره ، وكذا ثمن الطّعام لو حضره لَم يرتّب في ذمّته ديناً، لِمَا عُرف من عادته الشّريفة من المبادرة إلى إخراج ما يلزمه إخراجه.
قوله: (ورهنه درعاً من حديدٍ) الدّرع بكسر المهملة يذكّر ويؤنّث ، وجمعه أدراع. وهو القميص المتّخذ من الزّرد. (2)
ووقع في البخاري من طريق الثّوريّ عن الأعمش بلفظ: توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونةٌ. وفي حديث أنسٍ عند أحمد " فما وجد ما يفتكّها به "
وفيه دليلٌ على أنّ المرادَ بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: نفس المؤمن معلقةٌ بدينه حتّى يقضى عنه ". وهو حديث صحَّحه ابن حبّان وغيره ، مَن لَم يترك عند صاحب الدّين ما يحصل له به الوفاء ، وإليه جنح الماورديّ.
(1) حديث جابر رضي الله عنه تقدّم برقم (278)
(2)
الزَّرْد والزَّرَد حِلَقُ المِغْفَر والدرع والزَّرَدةُ حَلْقَة الدرع والسَّرْدُ ثقْبها ، والجمع زرود ، والزَّرَّادُ صانعها ، وقيل: الزاي في ذلك كله بدل من السين في السَّرْد والسَّرَّاد ، والزَّرْد مثل السَّرْد وهو تداخل حِلَق الدرع بعضها في بعض ، والزرَد بالتحريك الدرع. اللسان (3/ 194)
وقيل: هذا محله في غير نفس الأنبياء. فإنّها لا تكون معلقةً بدينٍ فهي خصوصيّةٌ.
وذكر ابن الطّلاع في " الأقضية النّبويّة " أنّ أبا بكر افتكّ الدّرع بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن روى ابن سعد عن جابر ، أنّ أبا بكر قضى عِدات النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأنّ عليّاً قضى ديونه.
وروى إسحاق بن راهويه في " مسنده " عن الشّعبيّ مرسلاً ، أنّ أبا بكر افتكّ الدّرع ، وسلَّمها لعليّ بن أبي طالب.
وأمّا من أجاب: بأنّه صلى الله عليه وسلم افتكّها قبل موته ، فمعارَض بحديث عائشة رضي الله عنها.
وفي الحديث الرّدّ على مَن قال: إنّ الرّهن في السّلم لا يجوز، وقد أخرج الإسماعيليّ من طريق ابن نمير عن الأعمش " أنّ رجلاً قال لإبراهيم النّخعيّ: إن سعيد بن جبير يقول: إنّ الرّهن في السّلم هو الرّبا المضمون، فردّ عليه إبراهيم بهذا الحديث.
قال المُوفّق: رويت كراهة ذلك عن ابن عمر والحسن والأوزاعيّ وإحدى الرّوايتين عن أحمد، ورخّص فيه الباقون. والحجّة فيه قوله تعالى (إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمّىً فاكتبوه - إلى أن قال - فرهانٌ مقبوضةٌ) ، واللفظ عامّ فيدخل السّلم في عمومه ، لأنّه أحد نوعي البيع.
واستدل لأحمد بما رواه أبو داود من حديث أبي سعيد: من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره.
ووجه الدّلالة منه أنّه لا يأمن هلاك الرّهن في يده بعدوانٍ فيصير مستوفياً لحقّه من غير المسلم فيه.
وروى الدّارقطنيّ من حديث ابن عمر رفعه: من أسلف في شيء فلا يشترط على صاحبه غير قضائه. وإسناده ضعيف ، ولو صحّ فهو محمول على شرط ينافي مقتضى العقد.
وفيه جواز معاملة الكفّار فيما لَم يتحقّق تحريم عين المتعامل فيه ، وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم، واستنبط منه جواز معاملة من أكثر ماله حرام.
وفيه جواز بيع السّلاح ورهنه وإجارته وغير ذلك من الكافر ما لَم يكن حربيّاً.
وفيه ثبوت أملاك أهل الذّمّة في أيديهم ، وجواز الشّراء بالثّمن المؤجّل واتّخاذ الدّروع والعدد وغيرها من آلات الحرب وأنّه غير قادحٍ في التّوكّل، وأنّ قنية آلة الحرب لا تدل على تحبيسها. قاله ابن المنير.
وأنّ أكثر قوت ذلك العصر الشّعير. قاله الدّاوديّ.
وأنّ القول قول المرتهن في قيمة المرهون مع يمينه. حكاه ابن التّين.
وفيه ما كان عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم من التّواضع والزّهد في الدّنيا والتّقلل منها مع قدرته عليها، والكرم الذي أفضى به إلى عدم الادّخار حتّى احتاج إلى رهن درعه، والصّبر على ضيق العيش والقناعة باليسير، وفضيلة لأزواجه لصبرهنّ معه على ذلك، وفيه غير ذلك ممّا مضى
ويأتي.
قال العلماء: الحكمة في عدوله صلى الله عليه وسلم عن معاملة مياسير الصّحابة إلى معاملة اليهود إمّا لبيان الجواز، أو لأنّهم لَم يكن عندهم إذ ذاك طعام فاضل عن حاجة غيرهم ، أو خشي أنّهم لا يأخذون منه ثمناً ، أو عوضاً. فلم يرد التّضييق عليهم، فإنّه لا يبعد أن يكون فيهم إذ ذاك من يقدر على ذلك وأكثر منه ، فلعله لَم يطلعهم على ذلك ، وإنّما أطلع عليه من لَم يكن موسراً به ممّن نقل ذلك. والله أعلم.