الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب المظالم
المظالم: جمع مظلمة مصدر ظلم يظلم ، واسمٌ لِما أخذ بغير حق.
والظلم وضع الشيء في غير موضعه الشرعي ، والغصب أخذ حق الغير بغير حق.
الحديث التاسع والثلاثون
295 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يَمنعنَّ جارٌ جاره، أن يغرز خشبه في جداره، ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأَرمينّ بها بين أكتافكم. (1)
قوله: (ولا يمنع) بالجزم على أنّ " لا " ناهية، ولأبي ذرّ بالرّفع على أنّه خبر بمعنى النّهي، ولأحمد " لا يمنعنّ " بزيادة نون التّوكيد. وهي تؤيّد رواية الجزم.
قوله: (جارٌ جاره .. إلخ). استُدل به.
وهو القول الأول: على أنّ الجدار إذا كان لواحدٍ وله جارٌ فأراد أن
(1) أخرجه البخاري (2331) من طريق عبد الله بن مسلمة ، ومسلم (1609) من طريق يحيى بن يحيى كلاهما عن مالك عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم (1609) من طرق أخرى عن الزهري به.
وللبخاري (5304) من طريق عكرمة عن أبي هريرة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من فم القربة أو السقاء، وأنْ يمنع جارَه أن يغرز خشبه في داره.
يضع جذعه عليه جاز. سواء أذن المالك أم لا، فإن امتنع أجبر.
وبه قال أحمد وإسحاق وغيرهما من أهل الحديث ، وابن حبيب من المالكيّة والشّافعيّ في القديم.
القول الثاني: عن الشافعي في الجديد قولان. أشهرهما اشتراط إذن المالك ، فإن امتنع لَم يجبر. وهو قول الحنفيّة.
وحملوا الأمر في الحديث على النّدب، والنّهي على التّنزيه جمعاً بينه وبين الأحاديث الدّالة على تحريم مال المسلم إلَّا برضاه.
وفيه نظرٌ كما سيأتي.
وجزم التّرمذيّ وابن عبد البرّ عن الشّافعيّ بالقول القديم ، وهو نصّه في البويطيّ.
قال البيهقيّ: لَم نجد في السّنن الصّحيحة ما يعارض هذا الحكم إلَّا عمومات لا يستنكر أن نخصّها ، وقد حمله الرّاوي على ظاهره، وهو أعلم بالمراد بما حدث به، يشير إلى قول أبي هريرة " ما لي أراكم عنها معرضين ".
قوله: (أن يغرز خشبه في جداره) بصيغة الجمع ، ولمسلم " خشبةً ".
قال ابن عبد البرّ: روي اللفظان في " الموطّأ "(1) والمعنى واحد ، لأنّ المراد بالواحد الجنس. انتهى
(1) انظر تخريج حديث الباب.
وهذا الذي يتعيّن للجمع بين الرّوايتين، وإلَّا فالمعنى قد يختلف باعتبار أنّ أمر الخشبة الواحدة أخفّ في مسامحة الجار بخلاف الخشب الكثير.
وروى الطّحاويّ عن جماعةٍ من المشايخ أنّهم رووه بالإفراد.
وأنكر ذلك عبد الغنيّ بن سعيد فقال: النّاس كلهم يقولونه بالجمع إلَّا الطّحاويّ، واختلاف الرّواة في الصّحيح يردّ على عبد الغنيّ بن سعيد إلَّا إن أراد خاصّاً من النّاس كالذين روى عنهم الطّحاويّ. فله اتّجاه.
قوله: (ثمّ يقول أبو هريرة) في رواية ابن عيينة عن الزهري عند أبي داود " فنكّسوا رءوسهم " ولأحمد " فلمّا حدّثهم أبو هريرة بذلك طأطئوا رءوسهم ".
قوله: (عنها) أي: عن هذه السّنّة أو عن هذه المقالة.
قوله: (لأرمينّ بها) في رواية أبي داود " لألقينّها " أي: لأشيعنّ هذه المقالة فيكم ولأقرّعنّكم بها كما يضرب الإنسان بالشّيء بين كتفيه ليستيقظ من غفلته.
قوله: (بين أكتافكم) قال ابن عبد البرّ: رويناه في " الموطّأ " بالمثنّاة وبالنّون. والأكناف بالنّون جمع كنف بفتحها وهو الجانب.
قال الخطّابيّ: معناه إن لَم تقبلوا هذا الحكم ، وتعملوا به راضين لأجعلنّها. أي: الخشبة على رقابكم كارهين. قال: وأراد بذلك المبالغة.
وبهذا التّأويل جزم إمام الحرمين تبعاً لغيره ، وقال: إنّ ذلك وقع من أبي هريرة حين كان يلي إمرة المدينة.
وقد وقع عند ابن عبد البرّ من وجهٍ آخر " لأرمينّ بها بين أعينكم وإن كرهتم " وهذا يرجّح التّأويل المتقدّم.
واستدل المُهلَّب من المالكيّة بقول أبي هريرة " ما لي أراكم عنها معرضين " بأنّ العمل كان في ذلك العصر على خلاف ما ذهب إليه أبو هريرة، قال: لأنّه لو كان على الوجوب لَمَا جهل الصّحابة تأويله ، ولا أعرضوا عن أبي هريرة حين حدّثهم به، فلولا أنّ الحكم قد تقرّر عندهم بخلافه لَمَا جاز عليهم جهل هذه الفريضة فدلَّ على أنّهم حملوا الأمر في ذلك على الاستحباب. انتهى.
وما أدري من أين له أنّ المعرضين كانوا صحابةً ، وأنّهم كانوا عدداً لا يجهل مثلهم الحكم، ولِمَ لا يجوِّز أن يكون الذين خاطبهم أبو هريرة بذلك كانوا غير فقهاء، بل ذلك هو المتعيّن، وإلَّا فلو كانوا صحابةً أو فقهاء ما واجههم بذلك.
وقد قوّى الشّافعيّ في القديم القول بالوجوب: بأنّ عمر قضى به ، ولَم يخالفه أحد من أهل عصره فكان اتّفاقاً منهم على ذلك. انتهى.
ودعوى الاتّفاق هنا أولى من دعوى المُهلَّب، لأنّ أكثر أهل عصر عمر كانوا صحابة، وغالب أحكامه منتشرة لطول ولايته، وأبو هريرة إنّما كان يلي إمرة المدينة نيابة عن مروان في بعض الأحيان.
وأشار الشّافعيّ إلى ما أخرجه مالكٌ. ورواه هو عنه بسندٍ صحيحٍ
، أنّ الضّحّاك بن خليفة سأل محمّد بن مسلمة أن يسوق خليجاً له فيمرّ به في أرض محمّد بن مسلمة، فكلَّمه عمر في ذلك فأبى، فقال: والله ليمرّنّ به ولو على بطنك.
فحمل عمر الأمر على ظاهره وعدّاه إلى كل ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من دار جاره وأرضه.
وفي دعوى العمل على خلافه نظرٌ. فقد روى ابن ماجه والبيهقيّ من طريق عكرمة بن سلمة ، أنّ أخوين من بني المغيرة أعتق أحدهما. إنْ غَرَزَ أحدٌ في جداره خشباً ، فأقبل مجمّع بن جارية ورجال كثيرٌ من الأنصار فقالوا: نشهد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال .. الحديث. فقال الآخر: يا أخي قد علمتُ أنّك مقضيٌّ لك عليّ وقد حلفت، فاجعل أسطواناً دون جداري فاجعل عليه خشبك.
وروى إسحاق (1) في " مسنده " والبيهقيّ من طريقه عن يحيى بن جعدة أحد التّابعين قال: أراد رجلٌ أن يضع خشبةً على جدار صاحبه بغير إذنه فمنعه، فإذا مَن شئتَ من الأنصار يحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه نهاه أن يمنعه فجُبر على ذلك.
وقيّد بعضهم الوجوب: بما إذا تقدّم استئذان الجار في ذلك. مستنداً إلى ذكر الإذن في بعض طرقه ، وهو في رواية ابن عيينة عند أبي
(1) أي: ابن راهويه. والأثر في سنن البيهقي (6/ 114) من طريقه.
تنبيه: وقع في المطبوع (ابن إسحاق) وهو خطأٌ
داود وعقيلٍ أيضاً وأحمد عن عبد الرّحمن بن مهديّ عن مالك " من سأله جاره " وكذا لابن حبّان من طريق الليث عن مالك ، وكذا لأبي عوانة من طريق زياد بن سعد عن الزّهريّ، وأخرجه البزّار من طريق عكرمة عن أبي هريرة.
ومنهم: من حمل الضّمير في جداره على صاحب الجذع. أي: لا يمنعه أن يضع جذعه على جدار نفسه ولو تضرّر به من جهة منع الضّوء مثلاً.
ولا يخفى بُعدُه.
وقد تعقّبه ابن التّين: بأنّه إحداث قولٍ ثالثٍ في معنى الخبر ، وقد ردّه أكثر أهل الأصول.
وفيما قال نظرٌ؛ لأنّ لهذا القائل أن يقول: هذا ممّا يستفاد من عموم النّهي ، لا أنّه المراد فقط. والله أعلم.
ومحل الوجوب عند مَن قال به. أن يحتاج إليه الجار ، ولا يضع عليه ما يتضرّر به المالك ، ولا يقدّم على حاجة المالك، ولا فرق بين أن يحتاج في وضع الجذع إلى نقب الجدار أو لا، لأنّ رأس الجذع يسدّ المنفتح ويقوّي الجدار.