المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الثالث والأربعون - فتح السلام شرح عمدة الأحكام من فتح الباري - جـ ٥

[عبد السلام العامر]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب البيوع

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب ما يُنهي عنه من البيوع

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌باب العرايا وغير ذلك

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌باب السّلم

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌باب الشروط في البيع

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌الحديث العشرون

- ‌الحديث الواحد والعشرون

- ‌باب الربا والصرف

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌الحديث الرابع والعشرون

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌باب الرهن وغيره

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌باب الحوالة

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌باب الفلس

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌باب الشفعة

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌باب الوقف

- ‌الحديث الواحد والثلاثون

- ‌باب الهبة

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌باب الحرث والمزارعة

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌الحديث السابع والثلاثون

- ‌باب العُمرى

- ‌الحديث الثامن والثلاثون

- ‌باب المظالم

- ‌الحديث التاسع والثلاثون

- ‌الحديث الأربعون

- ‌باب اللقطة

- ‌الحديث الواحد والأربعون

- ‌كتاب الوصايا

- ‌الحديث الثاني والأربعون

- ‌الحديث الثالث والأربعون

- ‌الحديث الرابع والأربعون

- ‌كتاب الفرائض

- ‌الحديث الخامس والأربعون

- ‌الحديث السادس والأربعون

- ‌الحديث السابع والأربعون

- ‌الحديث الثامن والأربعون

- ‌كتاب النكاح

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌باب الصّداق

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌الحديث السادس عشر

الفصل: ‌الحديث الثالث والأربعون

‌الحديث الثالث والأربعون

299 -

عن سعد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه ، قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجّة الوداع، من وجعٍ اشتدّ بي، فقلت: يا رسولَ الله، قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلَّا ابنةٌ، أفأتصدّق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: فالشطر، يا رسولَ الله؟ قال: لا، قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثيرٌ، إنك إن تذر ورثتك أغنياء، خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلَّا أجرت بها، حتى ما تجعل في فيّ امرأتك، قال: فقلت: يا رسولَ الله، أخلف بعد أصحابي، قال: إنك لن تخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله، إلَّا ازددت به درجةً ورفعةً، ولعلَّك أنْ تُخلَّف حتى ينتفع بك أقوامٌ، ويضّرّ بك آخرون، اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقباهم، لكن البائس سعد بن خولة، يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ مات بمكة. (1)

(1) أخرجه البخاري (56 ، 1233، 2591، 2593، 3721، 4147، 5039، 5344، 6012، 6352) ومسلم (1628) من طرق عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه.مختصراً ومطوّلاً.

وأخرجه البخاري (5335) من طريق عائشة بنت سعد ، ومسلم (1628) من طريق مصعب ين سعد عن أبيهما نحوه.

وأخرجه مسلم (1628) من طريق حميد بن عبد الرحمن الحميري، عن ثلاثةٍ من ولد سعد، كلهم يحدثه عن أبيه. نحوه.

ص: 379

قوله: (عن سعد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه) هو سعد بن مالك. (1)

قوله: (جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجّة الوداع، من وجعٍ اشتدّ بِي) في رواية لهما من طريق الزهري عن عامر بن سعد " من وجع أشفيت منه على الموت ". وزادا في رواية سعد بن إبراهيم عن عامر " وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها "

واتّفق أصحاب الزّهريّ على أنّ ذلك كان في حجّة الوداع، إلَّا ابن عيينة فقال " في فتح مكّة " أخرجه التّرمذيّ وغيره من طريقه.

واتّفق الحفّاظ على أنّه وهم فيه. وقد أخرجه البخاريّ من طريقه فقال " بمكّة " ولَم يذكر الفتح.

وقد وجدت لابن عيينة مستنداً فيه، وذلك فيما أخرجه أحمد والبزّار والطّبرانيّ والبخاريّ في " التّاريخ " وابن سعد من حديث عمرو بن القاري ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم فخلف سعداً مريضاً حيث خرج إلى حنينٍ، فلمّا قدم من الجعرّانة معتمراً دخل عليه - وهو مغلوب - فقال: يا رسولَ الله إنّ لي مالاً، وإنّي أورث كلالة، أفأوصي بمالي. الحديث، وفيه: قلت: يا رسولَ الله أميّت أنا بالدّار الذي خرجت منها مهاجراً؟ قال: لا، إنّي لأرجو أن يرفعك الله حتّى ينتفع بك أقوام. الحديث.

فلعل ابن عيينة انتقل ذهنه من حديث إلى حديث.

(1) ستأتي ترجمته إن شاء الله في حديث رقم (307).

ص: 380

ويمكن الجمع بين الرّوايتين: بأن يكون ذلك وقع له مرّتين مرّة عام الفتح ومرّة عام حجّة الوداع.

ففي الأولى. لَم يكن له وارث من الأولاد أصلاً.

وفي الثّانية. كانت له ابنة فقط، فالله أعلم.

وقوله " وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها " يحتمل: أن تكون الجملة حالاً من الفاعل أو من المفعول.

وكلٌ منهما محتمل، لأنّ كلاً من النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومن سعد كان يكره ذلك، لكن إن كان حالاً من المفعول وهو سعد ، ففيه التفات ، لأنّ السّياق يقتضي أن يقول:" وأنا أكره ".

وقد أخرجه مسلم من طريق حميد بن عبد الرّحمن عن ثلاثة من ولد سعد عن سعد بلفظ: فقال: يا رسولَ الله خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها ، كما مات سعد بن خولة.

وللنّسائيّ من طريق جرير بن يزيد عن عامر بن سعد " لكن البائس سعد بن خولة مات في الأرض التي هاجر منها " وله من طريق بكيرٍ بن مسمار عن عامر بن سعد في هذا الحديث " فقال سعد: يا رسولَ الله أموت بالأرض التي هاجرت منها؟ قال: لا إن شاء الله تعالى.

قوله: (فقلت: يا رسولَ الله، قد بلغ بي من الوجع ما ترى) فيه جواز إخبار المريض بشدّة مرضه وقوّة ألمه إذا لَم يقترن بذلك شيء ممّا يمنع أو يكره من التّبرّم وعدم الرّضا ، بل حيث يكون ذلك لطلب

ص: 381

دعاء أو دواء وربّما استحبّ، وأنّ ذلك لا ينافي الاتّصاف بالصّبر المحمود، وإذا جاز ذلك في أثناء المرض كان الإخبار به بعد البرء أجوز.

وروى البخاري في " الأدب المفرد " من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال: دخلت أنا وعبد الله بن الزّبير على أسماء - يعني بنت أبي بكر وهي أمّهما - وأسماء وجعة، فقال لها عبد الله: كيف تجدينك؟ قالت: وجعت " الحديث.

وأصرح منه ما روى صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرّحمن بن عوف عن أبيه قال: دخلت على أبي بكر رضي الله عنه في مرضه الذي توفّي فيه، فسلمت عليه وسألته: كيف أصبحت؟ فاستوى جالساً، فقلت: أصبحت بحمد الله بارئاً؟ قال: أما إنّي على ما ترى وجع " فذكر القصّة، أخرجه الطّبرانيّ.

قال القرطبيّ: اختلف النّاس في هذا الباب، والتّحقيق أنّ الألم لا يقدر أحد على رفعه، والنّفوس مجبولة على وجدان ذلك فلا يستطاع تغييرها عمّا جبلت عليه، وإنّما كلف العبد أن لا يقع منه في حال المصيبة ما له سبيل إلى تركه كالمبالغة في التّأوّه والجزع الزّائد كأنّ من فعل ذلك خرج عن معاني أهل الصّبر.

وأمّا مجرّد التّشكّي فليس مذموماً حتّى يحصل التّسخّط للمقدور، وقد اتّفقوا على كراهة شكوى العبد ربّه، وشكواه إنّما هو ذكره للنّاس على سبيل التّضجّر، والله أعلم.

ص: 382

وروى أحمد في " الزّهد " عن طاوسٍ أنّه قال: أنين المريض شكوى، وجزم أبو الطّيّب وابن الصّبّاغ وجماعة من الشّافعيّة: أنّ أنين المريض وتأوّهه مكروه.

وتعقّبه النّوويّ فقال: هذا ضعيف أو باطل، فإنّ المكروه ما ثبت فيه نهي مقصود، وهذا لَم يثبت فيه ذلك.

ثمّ احتجّ بحديث عائشة في البخاري أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: بل أنا وارأساه. ثمّ قال: فلعلهم أرادوا بالكراهة خلاف الأولى، فإنّه لا شكّ أنّ اشتغاله بالذّكر أولى. انتهى.

ولعلهم أخذوه بالمعنى من كون كثرة الشّكوى تدل على ضعف اليقين، وتشعر بالتّسخّط للقضاء، وتورث شماتة الأعداء. وأمّا إخبار المريض صديقه أو طبيبه عن حاله فلا بأس به اتّفاقاً.

قوله: (ولا يرثني إلَّا ابنةٌ) كذا في رواية الزّهريّ ، ونحوه في رواية عائشة بنت سعد عن أبيها ، وفي رواية سعد بن إبراهيم في البخاري " ولَم يكن له يومئذٍ إلَّا ابنة "

قال النّوويّ وغيره: معناه لا يرثني من الولد أو من خواصّ الورثة أو من النّساء، وإلا فقد كان لسعدٍ عَصَبَات ، لأنّه من بني زهرة ، وكانوا كثيراً.

وقيل: معناه لا يرثني من أصحاب الفروض، أو خصّها بالذّكر على تقدير لا يرثني ممّن أخاف عليه الضّياع والعجَزَ إلَّا هي، أو ظنّ أنّها ترث جميع المال، أو استكثر لها نصف التّركة.

ص: 383

وهذه البنت زعم بعض من أدركناه. أنّ اسمها عائشة، فإن كان محفوظاً فهي غير عائشة بنت سعد التي روت هذا الحديث في البخاري، وهي تابعيّة عُمّرت حتّى أدركها مالك ، وروى عنها. وماتت سنة مائة وسبعة عشر، لكن لَم يذكر أحدٌ من النّسّابين لسعدٍ بنتاً تسمّى عائشة غير هذه.

وذكروا أنّ أكبر بناته أمّ الحكم الكبرى وأمّها بنت شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة، وذكروا له بنات أخرى أمّهاتهنّ متأخّرات الإسلام بعد الوفاة النّبويّة.

فالظّاهر أنّ البنت المشار إليها هي أمّ الحكم المذكورة لتقدّم تزويج سعد بأمّها، ولَم أر من حرّر ذلك.

قوله: (أفأتصدّق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: فالشطر يا رسولَ الله؟ قال: لا) كذا وقع في رواية الزّهريّ، وفي رواية عائشة بنت سعد عن أبيها ، وفي رواية سعد بن إبراهيم عن عامر " قلت: يا رسولَ الله أوصي بمالي كله " فأمّا التّعبير بقوله: " أفأتصدّق ".

فيحتمل: التّنجيز والتّعليق بخلاف " أفأوصي " لكنّ المخرج متّحد فيحمل على التّعليق للجمع بين الرّوايتين.

وقد تمسّك بقوله: " أتصدّق " من جعل تبرّعات المريض من الثّلث، وحملوه على المنجّزة. وفيه نظرٌ لِما بيّنته.

وأمّا الاختلاف في السّؤال. فكأنّه سأل أوّلاً عن الكل ثمّ سأل عن الثّلثين ثمّ سأل عن النّصف ثمّ سأل عن الثّلث.

ص: 384

وقد وقع مجموع ذلك في رواية جرير بن يزيد عند أحمد ، وفي رواية بكير بن مسمار عند النّسائيّ كلاهما عن عامر بن سعد، وكذا لهما من طريق محمّد بن سعد عن أبيه ، ومن طريق هشام بن عروة عن أبيه عن سعد.

وقوله في هذه الرّواية " قلت: فالشّطر " هو بالجرّ عطفاً على قوله " بمالي كله " أي: فأوصي بالنّصف، وهذا رجّحه السّهيليّ.

وقال الزّمخشريّ: هو بالنّصب على تقدير فعل. أي: أسمّي الشّطر أو أعيّن الشّطر، ويجوز الرّفع على تقدير أيجوز الشّطر.

قوله: (قلت: الثّلث؟ قال: الثّلث، والثّلث كثير) كذا في أكثر الرّوايات، وفي رواية الزّهريّ عند البخاري " قال: الثّلث يا سعد، والثّلث كثير " وفي رواية مصعب بن سعد عن أبيه عند مسلم " قلت: فالثّلث؟ قال: نعم، والثّلث كثير " وفي رواية عائشة بنت سعد عن أبيها في البخاري " قال: الثّلث، والثّلث كبير أو كثير ".

وكذا للنّسائيّ من طريق أبي عبد الرّحمن السّلميّ عن سعد وفيه " فقال: أوصيت؟ فقلت: نعم. قال: بكم؟ قلت: بمالي كله. قال: فما تركت لولدك؟ وفيه. أوص بالعشر، قال فما زال يقول وأقول، حتّى قال: أوص بالثّلث والثّلث كثير أو كبير " يعني: بالمثلثة أو بالموحّدة، وهو شكّ من الرّاوي ، والمحفوظ في أكثر الرّوايات بالمثلثة، ومعناه كثير بالنّسبة إلى ما دونه.

ص: 385

وسأذكر الاختلاف فيه في الحديث الذي بعد هذا (1).

وقوله: " قال: الثّلث ، والثّلث كثير " بنصب الأوّل على الإغراء، أو بفعلٍ مضمر نحو عيّن الثّلث، وبالرّفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف أو المبتدأ ، والخبر محذوف والتّقدير يكفيك الثّلث أو الثّلث كافٍ.

ويحتمل: أن يكون قوله: " والثّلث كثير " مسوقاً لبيان الجواز بالثّلث ، وأنّ الأولى أن ينقص عنه ولا يزيد عليه ، وهو ما يبتدره الفهم.

ويحتمل: أن يكون لبيان أنّ التّصدّق بالثّلث هو الأكمل أي كثير أجره.

ويحتمل: أن يكون معناه كثير غير قليل. قال الشّافعيّ رحمه الله " وهذا أولى معانيه " يعني أنّ الكثرة أمر نسبيّ.

وعلى الأوّل عوّل ابن عبّاس كما سيأتي في حديث الباب الذي بعده.

تنبيهٌ: وقع في رواية للبخاري " قلت: أريد أن أوصى، وإنّما لى ابنةٌ قلت: أوصى بالنّصف قال: النّصف كثيرٌ. قلت فالثّلث. قال: الثّلث، والثّلث كثيرٌ أو كبيرٌ. قال: فأوصى النّاس بالثّلث، وجاز ذلك لهم " لَم أر في غيرها من طرقه وصف النّصف بالكثرة، وإنّما فيها " قال لا في كله، ولا في ثلثيه ".

(1) أي: حديث ابن عبّاس رضي الله عنه الآتي.

ص: 386

وليس في هذه الرّواية إشكال ، إلَّا من جهة وصف النّصف بالكثرة ووصف الثّلث بالكثرة ، فكيف امتنع النّصف دون الثّلث؟.

وجوابه: أنّ الرّواية الأخرى التي فيها جواب النّصف دلَّت على منع النّصف ، ولَم يأت مثلها في الثّلث بل اقتصر على وصفه بالكثرة، وعلَّل بأنّ إبقاء الورثة أغنياء أولى، وعلى هذا فقوله:" الثّلث " خبر مبتدأ محذوف تقديره مباح، ودلَّ قوله:" والثّلث كثير " على أنّ الأولى أن ينقص منه. والله أعلم.

قوله: (إنك أن تذر) في رواية سعد بن إبراهيم " إنّك أن تدع " بفتح " أن " على التّعليل وبكسرها على الشّرطيّة.

قال النّوويّ: هما صحيحان صوريّان.

وقال القرطبيّ: لا معنى للشّرط هنا لأنّه يصير لا جواب له ، ويبقى " خير " لا رافع له.

وقال ابن الجوزيّ: سمعناه من رواة الحديث بالكسر، وأنكره شيخنا عبد الله بن أحمد - يعني ابن الخشّاب - وقال: لا يجوز الكسر لأنّه لا جواب له لخلوّ لفظ " خير " من الفاء وغيرها ممّا اشترط في الجواب.

وتعقّب: بأنّه لا مانع من تقديره.

وقال ابن مالك: جزاء الشّرط قوله: " خير " أي فهو خير، حذف الفاء جائز وهو كقراءة طاوسٍ:" ويسألونك عن اليتامى قل أصلح لهم خير ".

ص: 387

قال: ومن خصّ ذلك بالشّعر بعد عن التّحقيق، وضيّق حيث لا تضييق، لأنّه كثير في الشّعر قليل في غيره، وأشار بذلك إلى ما وقع في الشّعر فيما أنشده سيبويه: من يفعل الحسنات الله يشكرها.

أي: فالله يشكرها.

وإلى الرّدّ على من زعم أنّ ذلك خاصّ بالشّعر قال: ونظيره قوله في حديث اللقطة " فإن جاء صاحبها وإلَّا استمتع بها " بحذف الفاء، وقوله في حديث اللعان " البيّنة وإلا حدّ في ظهرك ".

قوله: (ورثتك) كذا للأكثر، وللكشميهنيّ والقابسيّ " ذرّيّتك " ورواية الجماعة أولى.

قال الزّين بن المنير: إنّما عبّر له صلى الله عليه وسلم بلفظ الورثة ، ولَم يقل أن تدع بنتك مع أنّه لَم يكن له يومئذٍ إلَّا ابنة واحدة لكون الوارث حينئذٍ لَم يتحقّق، لأنّ سعداً إنّما قال ذلك بناء على موته في ذلك المرض وبقائها بعده حتّى ترثه، وكان من الجائز أن تموت هي قبله ، فأجاب صلى الله عليه وسلم بكلامٍ كليّ مطابق لكل حالة. وهي قوله " ورثتك " ولَم يخصّ بنتاً من غيرها.

وقال الفاكهيّ شارح العمدة: إنّما عبّر صلى الله عليه وسلم بالورثة ، لأنّه اطّلع على أنّ سعداً سيعيش ويأتيه أولاد غير البنت المذكورة فكان كذلك، وولد له بعد ذلك أربعة بنين ولا أعرف أسماءهم، ولعل الله أن يفتح بذلك.

قلت: وليس قوله: " أن تدع بنتك " متعيّناً ، لأنّ ميراثه لَم يكن

ص: 388

منحصراً فيها، فقد كان لأخيه عتبة بن أبي وقّاص أولاد إذ ذاك ، منهم هاشم بن عتبة الصّحابيّ الذي قتل بصفّين، فجاز التّعبير بالورثة لتدخل البنت وغيرها ممّن يرث لو وقع موته إذ ذاك أو بعد ذلك.

أمّا قول الفاكهيّ: إنّه ولد له بعد ذلك أربعة بنين. وإنّه لا يعرف أسماءهم ، ففيه قصور شديد، فإنّ أسماءهم في رواية هذا الحديث بعينه عند مسلم من طريق عامر ومصعب ومحمّد ثلاثتهم عن سعد، ووقع ذكر عمر بن سعد فيه في موضع آخر، ولَمَّا وقع ذكر هؤلاء في هذا الحديث عند مسلم. اقتصر القرطبيّ على ذكر الثّلاثة.

ووقع في كلام بعض شيوخنا تعقّب عليه: بأنّ له أربعة من الذّكور غير الثّلاثة وهم عمر وإبراهيم ويحيى وإسحاق، وعزا ذكرهم لابن المدينيّ وغيره، وفاته أنّ ابن سعد ذكر له من الذّكور غير السّبعة أكثر من عشرة ، وهم عبد الله وعبد الرّحمن وعمرو وعمران وصالح وعثمان وإسحاق الأصغر وعمر الأصغر وعمير مصغّراً وغيرهم، وذكر له من البنات ثنتي عشرة بنتاً.

وكأنّ ابن المدينيّ اقتصر على ذكر من روى الحديث منه والله أعلم

قوله: (عالَة) أي: فقراء وهو جمع عالٍ ، وهو الفقير والفعل منه عال يعيل إذا افتقر.

قوله: (يتكفّفون النّاس) زاد سعد بن إبراهيم " في أيديهم " أي: يسألون النّاس بأكفّهم، يقال تكفّف النّاس واستكفّ إذا بسط كفّه

ص: 389

للسّؤال، أو سأل ما يكفّ عنه الجوع، أو سأل كفّاً كفّاً من طعام.

وقوله " في أيديهم " أي: بأيديهم أو سألوا بأكفّهم وضع المسئول في أيديهم.

وقول سعد " وأنا ذو مال " وهذا اللفظ يؤذن بمالٍ كثير، وذو المال إذا تصدّق بثلثه أو بشطره وأبقى ثلثه بين ابنته وغيرها لا يصيرون عالة.

لكنّ الجواب: أنّ ذلك خرج على التّقدير ، لأنّ بقاء المال الكثير إنّما هو على سبيل التّقدير ، وإلَّا فلو تصدّق المريض بثلثيه مثلاً ثمّ طالت حياته ونقص وفني المال فقد تجحف الوصيّة بالورثة، فردّ الشّارع الأمر إلى شيء معتدل وهو الثّلث.

قوله: (وإنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله ، إلَّا أُجرتَ بها) في رواية سعد بن إبراهيم " وإنّك مهما أنفقت من نفقة فإنّها صدقة " هو معطوف على قوله: " إنّك أن تدع " وهو عِلَّة للنّهي عن الوصيّة بأكثر من الثّلث، كأنّه قيل لا تفعل لأنّك إن متّ تركت ورثتك أغنياء وإن عشت تصدّقت وأنفقت فالأجر حاصل لك في الحالين.

وقوله: " فإنّها صدقة " كذا أطلق في هذه الرّواية ، ورواية الباب مقيّدة بابتغاء وجه الله، وعلق حصول الأجر بذلك وهو المعتبر.

ويستفاد منه أنّ أجر الواجب يزداد بالنّيّة ، لأنّ الإنفاق على الزّوجة واجب وفي فعله الأجر، فإذا نوى به ابتغاء وجه الله ازداد أجره بذلك قاله ابن أبي جمرة، قال: ونبّه بالنّفقة على غيرها من وجوه

ص: 390

البرّ والإحسان.

قال القرطبيّ: أفاد منطوقه أنّ الأجر في الإنفاق إنّما يحصل بقصد القربة سواء كانت واجبة أو مباحة، وأفاد مفهومه أنّ من لَم يقصد القربة لَم يؤجر، لكن تبرأ ذمّته من النّفقة الواجبة لأنّها معقولة المعنى، وأطلق الصّدقة على النّفقة مجازاً والمراد بها الأجر، والقرينة الصّارفة عن الحقيقة الإجماع على جواز النّفقة على الزّوجة الهاشميّة التي حرّمت عليها الصّدقة. انتهى

واستنبط منه النّوويّ ، أنّ الحظّ إذا وافق الحقّ لا يقدح في ثوابه ، لأنّ وضع اللقمة في في الزّوجة يقع غالباً في حالة المداعبة، ولشهوة النّفس في ذلك مدخل ظاهر. ومع ذلك إذا وجّه القصد في تلك الحالة إلى ابتغاء الثّواب حصل له بفضل الله.

قلت: وجاء ما هو أصرح في هذا المراد من وضع اللقمة، وهو ما أخرجه مسلم عن أبي ذرّ فذكر حديثاً فيه " وفي بُضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسولَ الله أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟ قال: نعم، أرأيتم لو وضعها في حرام؟. الحديث.

قال (1): وإذا كان هذا بهذا المحل – مع ما فيه من حظّ النّفس - فما الظّنّ بغيره ممّا لا حظّ للنّفس فيه؟.

قال: وتمثيله باللقمة مبالغة في تحقيق هذه القاعدة؛ لأنّه إذا ثبت

(1) أي: النووي رحمه الله.

ص: 391

الأجر في لقمة واحدة لزوجةٍ غير مضطرّة فما الظّنّ بمن أطعم لقماً لمحتاجٍ، أو عمل من الطّاعات ما مشقّته فوق مشقّة ثمن اللقمة الذي هو من الحقارة بالمحل الأدنى. انتهى.

وتمام هذا أن يقال: وإذا كان هذا في حقّ الزّوجة مع مشاركة الزّوج لها في النّفع بما يطعمها ، لأنّ ذلك يؤثّر في حسن بدنها وهو ينتفع منها بذلك.

وأيضاً فالأغلب أنّ الإنفاق على الزّوجة يقع بداعية النّفس، بخلاف غيرها فإنّه يحتاج إلى مجاهدتها. والله أعلم.

قوله: (حتى ما تجعل في فيّ امرأتك) وفي رواية سعد بن إبراهيم " حتّى اللقمة " بالنّصب عطفاً على نفقة ويجوز الرّفع على أنّه مبتدأ. و " تجعلها " الخبر وفي رواية البخاري " في فم امرأتك " وللكشميهنيّ " في فيِّ امرأتك " وهي رواية الأكثر.

قال القاضي عياض: هي أصوب ، لأنّ الأصل حذف الميم بدليل جمعه على أفواه وتصغيره على فويه. قال: وإنّما يحسن إثبات الميم عند الإفراد. وأمّا عند الإضافة فلا إلَّا في لغة قليلة. انتهى

ووجه تعلق قوله: " وإنّك لن تنفق نفقة إلخ " بقصّة الوصيّة أنّ سؤال سعد يشعر بأنّه رغّب في تكثير الأجر فلمّا منعه الشّارع من الزّيادة على الثّلث قال له على سبيل التّسلية: إنّ جميع ما تفعله في مالك من صدقة ناجزة ومن نفقة - ولو كانت واجبة - تؤجر بها إذا ابتغيت بذلك وجه الله تعالى، ولعله خصّ المرأة بالذّكر لأنّ نفقتها

ص: 392

مستمرّة بخلاف غيرها.

قال ابن دقيق العيد: فيه أنّ الثّواب في الإنفاق مشروط بصحّة النّيّة وابتغاء وجه الله، وهذا عسر إذا عارضه مقتضى الشّهوة، فإنّ ذلك لا يحصل الغرض من الثّواب حتّى يبتغي به وجه الله، وسبق تخليص هذا المقصود ممّا يشوبه.

قال: وقد يكون فيه دليل على أنّ الواجبات إذا أدّيت على قصد أداء الواجب ابتغاء وجه الله أثيب عليها، فإنّ قوله " حتّى ما تجعل في في امرأتك " لا تخصيص له بغير الواجب. ولفظة " حتّى " هنا تقتضي المبالغة في تحصيل هذا الأجر بالنّسبة إلى المعنى، كما يقال جاء الحاجّ حتّى المشاة.

قال الطّبريّ ما ملخّصة: الإنفاق على الأهل واجب، والذي يعطيه يؤجر على ذلك بحسب قصده، ولا منافاة بين كونها واجبة وبين تسميتها صدقة، بل هي أفضل من صدقة التّطوّع.

وقال المُهلَّب: النّفقة على الأهل واجبة بالإجماع، وإنّما سمّاها الشّارع صدقة خشية أن يظنّوا أنّ قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وقد عرفوا ما في الصّدقة من الأجر فعرّفهم أنّها لهم صدقة، حتّى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلَّا بعد أن يكفوهم ترغيباً لهم في تقديم الصّدقة الواجبة قبل صدقة التّطوّع.

وقال ابن المنيّر: تسمية النّفقة صدقة من جنس تسمية الصّداق نحلة، فلمّا كان احتياج المرأة إلى الرّجل كاحتياجه إليها في اللذّة

ص: 393

والتّأنيس والتّحصين وطلب الولد. كان الأصل أن لا يجب لها عليه شيء، إلَّا أنّ الله خصّ الرّجل بالفضل على المرأة بالقيام عليها ورفعه عليها بذلك درجة، فمن ثَمّ جاز إطلاق النّحلة على الصّداق، والصّدقة على النّفقة.

قوله: (ولعلَّك أنْ تُخلَّف) وفي رواية سعد بن إبراهيم " وعسى الله أن يرفعك " أي: يطيل عمرك.

زاد أبو نعيم في " المستخرج " يعني يقيمك من مرضك " وكذلك اتّفق، فإنّه عاش بعد ذلك أزيد من أربعين سنة بل قريباً من خمسين، لأنّه مات سنة خمس وخمسين من الهجرة.

وقيل: سنة ثمان وخمسين وهو المشهور، فيكون عاش بعد حجّة الوداع خمساً وأربعين أو ثمانياً وأربعين.

قوله: (حتى ينتفع بك أقوامٌ، ويضّرّ بك آخرون) في رواية سعد " فينتفع بك ناس " أي: ينتفع بك المسلمون بالغنائم ممّا سيفتح الله على يديك من بلاد الشّرك، ويضرّ بك المشركون الذين يهلكون على يديك.

وزعم ابن التّين ، أنّ المراد بالنّفع به ما وقع من الفتوح على يديه كالقادسيّة وغيرها، وبالضّرر ما وقع من تأمير ولده عمر بن سعد على الجيش الذين قتلوا الحسين بن عليّ ومن معه.

وهو كلام مردود لتكلفه لغير ضرورة تحمل على إرادة الضّرر الصّادر من ولده، وقد وقع منه هو الضّرر المذكور بالنّسبة إلى الكفّار.

ص: 394

وأقوى من ذلك ما رواه الطّحاويّ من طريق بكير بن عبد الله بن الأشجّ عن أبيه ، أنّه سأل عامر بن سعد عن معنى قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم هذا. فقال: لَمَّا أُمِّر سعد على العراق أُتي بقومٍ ارتدّوا فاستتابهم فتاب بعضهم وامتنع بعضهم فقتلهم، فانتقع به من تاب ، وحصل الضّرر للآخرين.

قال بعض العلماء: " لعل " وإن كانت للتّرجّي ، لكنّها من الله للأمر الواقع، وكذلك إذا وردت على لسان رسوله غالباً.

قوله: (لكن البائس سعد بن خولة) خولة بفتح المعجمة وسكون الواو ، وفي رواية أبي نعيم عن سفيان عن سعد بن إبراهيم عند البخاري " قال: يرحم الله ابن عفراء " كذا وقع في هذه الرّواية ، في رواية أحمد والنّسائيّ من طريق عبد الرّحمن بن مهديٍّ عن سفيان "، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: يرحم الله سعد ابن عفراء ثلاث مرّات ".

قال الدّاوديّ: " ابن عفراء " غير محفوظ.

وقال الدّمياطيّ (1): هو وهم، والمعروف " ابن خولة ". قال: ولعل الوهم من سعد بن إبراهيم ، فإنّ الزّهريّ أحفظ منه ، وقال فيه " سعد بن خولة ". يشير إلى ما وقع في روايته بلفظ " لكنّ البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكّة ".

قلت: وقد ذكرت آنفاً من وافق الزّهريّ ، وهو الذي ذكره

(1) عبد المؤمن بن خلف الدمياطي المتوفى سنة 705 هـ تقدَّمت ترجمته (2/ 47).

ص: 395

أصحاب المغازي ، وذكروا أنّه شهد بدراً، ومات في حجّة الوداع.

وقال بعضهم في اسمه: " خوليّ " بكسر اللام وتشديد التّحتانيّة ، واتّفقوا على سكون الواو، وأغرب ابن التّين فحكى عن القابسيّ فتحها.

ووقع في رواية ابن عيينة في البخاري. قال سفيان: وسعد بن خولة رجلٌ من بني عامر بن لؤيّ. وذكر ابن إسحاق: أنّه كان حليفاً لهم ثمّ لأبي رهم بن عبد العزّى منهم.

وقيل: كان من الفرس الذين نزلوا اليمن.

وجزم الليث بن سعد في " تاريخه " عن يزيد بن أبي حبيب ، بأنّ سعد بن خولة مات في حجّة الوداع ، وهو الثّابت في الصّحيح، خلافاً لمَن قال إنّه مات في مدّة الهدنة مع قريش سنة سبع.

وجوّز أبو عبد الله بن أبي الخصال الكاتب المشهور في حواشيه على البخاريّ: أنّ المراد بابن عفراء عوف بن الحارث أخو معاذ ومعوّذ أولاد عفراء وهي أمّهم.

والحكمة في ذكره ما ذكره ابن إسحاق أنّه قال يوم بدر: ما يضحك الرّبّ من عبده؟ قال. أن يغمس يده في العدوّ حاسراً، فألقى الدّرع التي هي عليه فقاتل حتّى قتل.

قال: فيحتمل أن يكون لَمَّا رأى اشتياق سعد بن أبي وقّاص للموت ، وعلم أنّه يبقى حتّى يلي الولايات ، ذكر ابن عفراء وحبّه للموت ورغبته في الشّهادة كما يذكر الشّيء بالشّيء فذكر سعد بن خولة لكونه

ص: 396

مات بمكّة ، وهي دار هجرته. وذكر ابن عفراء مستحسناً لميتته. انتهى ملخّصاً.

وهو مردود بالتّنصيص على قوله " سعد ابن عفراء " فانتفى أن يكون المراد عوف ، وأيضاً فليس في شيء من طرق حديث سعد بن أبي وقّاص أنّه كان راغباً في الموت، بل في بعضها عكس ذلك. وهو أنّه بكى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ فقال: خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة. وهو عند النّسائيّ.

وأيضاً فمخرج الحديث متّحد والأصل عدم التّعدّد، فالاحتمال بعيد لو صرّح بأنّه عوف ابن عفراء. والله أعلم.

وقال التّيميّ: يحتمل: أن يكون لأمّه اسمان خولة وعفراء. انتهى.

ويحتمل: أن يكون أحدهما اسماً والآخر لقباً ، أو أحدهما اسم أمّه والآخر اسم أبيه ، أو والآخر اسم جدّة له، والأقرب أنّ عفراء اسم أمّه والآخر اسم أبيه لاختلافهم في أنّه خولة أو خوليّ.

قوله: (يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم) الرّثاء بكسر الرّاء وبالمثلثة بعدها مدّة مدح الميّت وذكر محاسنه، وليس هو المراد من الحديث حيث قال الرّاوي " يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم ". ولهذا اعترض الإسماعيليّ ترجمة البخاري " باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة " فقال: ليس هذا من مراثي الموتى ، وإنّما هو من التّوجّع، يقال: رثيته إذا مدحته بعد موته ، ورثيت له: إذا تحزّنت عليه.

ص: 397

ويمكن أن يكون مراد البخاريّ هذا بعينه. كأنّه يقول ما وقع من النّبيّ صلى الله عليه وسلم فهو من التّحزّن والتّوجّع وهو مباح، وليس معارضاً لنهيه عن المراثي التي هي ذكر أوصاف الميّت الباعثة على تهييج الحزن وتجديد اللوعة.

وهذا هو المراد بما أخرجه أحمد وابن ماجه وصحَّحه الحاكم من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراثي ، وهو عند ابن أبي شيبة بلفظ: نهانا أن نتراثى.

ولا شكّ أنّ الجامع بين الأمرين التّوجّع والتّحزّن.

قال ابن عبد البرّ: زعم أهل الحديث أنّ قوله: " يرثي إلخ " من كلام الزّهريّ، وقال ابن الجوزيّ وغيره: هو مدرج من قول الزّهريّ.

قلت: وكأنّهم استندوا إلى ما وقع في رواية أبي داود الطّيالسيّ عن إبراهيم بن سعد عن الزّهريّ فإنّه فصّل ذلك، لكن وقع عند البخاري عن موسى بن إسماعيل عن إبراهيم بن سعد في آخره " لكنّ البائس سعد بن خولة، قال سعد: رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ " فهذا صريح في وصله فلا ينبغي الجزم بإدراجه.

ووقع في رواية عائشة بنت سعد عن أبيها في البخاري من الزّيادة " ثمّ وضع يده على جبهتي ، ثمّ مسح وجهي وبطني ، ثمّ قال: اللهمّ اشف سعداً وأتمم له هجرته، قال: فما زلت أجد بردها ".

ولمسلمٍ من طريق حميدٍ بن عبد الرّحمن المذكورة: قلت: فادع الله

ص: 398

أن يشفيني، فقال: اللهمّ اشف سعداً ثلاث مرّات.

قوله: (أنْ مات بمكة) هو بفتح الهمزة للتّعليل.

وأغرب الدّاوديّ فتردّد فيه ، فقال: إن كان بالفتح ففيه دلالة على أنّه أقام بمكّة بعد الصّدر من حجّته ثمّ مات، وإن كان بالكسر ففيه دليل على أنّه قيل له: إنّه يريد التّخلف بعد الصّدر فخشي عليه أن يدركه أجله بمكّة.

قلت: والمضبوط المحفوظ بالفتح، لكن ليس فيه دلالة على أنّه أقام بعد حجّه، لأنّ السّياق يدل على أنّه مات قبل الحجّ.

والمعنى أنّ سعد بن خولة. وهو من المهاجرين من مكّة إلى المدينة ، وكانوا يكرهون الإقامة في الأرض التي هاجروا منها ، وتركوها مع حبّهم فيها لله تعالى، فمن ثَمّ خشي سعد بن أبي وقّاص أن يموت بها، وتوجّع رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن خولة لكونه مات بها.

وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدّم:

مشروعيّة زيارة المريض للإمام فمن دونه، وتتأكّد باشتداد المرض، وفيه وضع اليد على جبهة المريض ومسح وجهه ومسح العضو الذي يؤلمه والفسح له في طول العمر.

قال ابن بطّال: في وضع اليد على المريض تأنيس له وتعرّف لشدّة مرضه ليدعو له بالعافية على حسب ما يبدو له منه، وربّما رقاه بيده ومسح على ألمه بما ينتفع به العليل إذا كان العائد صالحاً.

قلت: وقد يكون العائد عارفاً بالعلاج فيعرف العلة فيصف له ما

ص: 399

يناسبه.

وفيه أنّ أعمال البرّ والطّاعة إذا كان منها ما لا يمكن استدراكه قام غيره في الثّواب والأجر مقامه، وربّما زاد عليه، وذلك أنّ سعداً خاف أن يموت بالدّار التي هاجر منها فيفوت عليه بعض أجر هجرته، فأخبره صلى الله عليه وسلم بأنّه إن تخلف عن دار هجرته فعمل عملاً صالحاً من حجّ أو جهاد أو غير ذلك كان له به أجر يعوّض ما فاته من الجهة الأخرى.

وفيه إباحة جمع المال بشرطه ، لأنّ التّنوين في قوله:" وأنا ذو مال " للكثرة وقد وقع في بعض طرقه صريحاً " وأنا ذو مال كثير " والحثّ على صلة الرّحم والإحسان إلى الأقارب، وأنّ صلة الأقرب أفضل من صلة الأبعد.

والإنفاق في وجوه الخير ، لأنّ المباح إذا قصد به وجه الله صار طاعة؛ وقد نبّه على ذلك بأقل الحظوظ الدّنيويّة العادية وهو وضع اللقمة في فم الزّوجة إذ لا يكون ذلك غالباً إلَّا عند الملاعبة والممازحة ، ومع ذلك فيؤجر فاعله إذا قصد به قصداً صحيحاً، فكيف بما هو فوق ذلك؟!.

وفيه منع نقل الميّت من بلد إلى بلد إذ لو كان ذلك مشروعاً لأمر بنقل سعد بن خولة. قاله الخطّابيّ.

وبأنّ من لا وارث له تجوز له الوصيّة بأكثر من الثّلث لقوله صلى الله عليه وسلم: أن تذر ورثتك أغنياء. فمفهومه أنّ من لا وارث له لا يبالي بالوصيّة

ص: 400

بما زاد لأنّه لا يترك ورثة يخشى عليهم الفقر.

وتعقّب: بأنّه ليس تعليلاً محضاً وإنّما فيه تنبيه على الأحظّ الأنفع، ولو كان تعليلاً محضاً لاقتضى جواز الوصيّة بأكثر من الثّلث لمن كانت ورثته أغنياء، ولنفذ ذلك عليهم بغير إجازتهم ولا قائل بذلك، وعلى تقدير أن يكون تعليلاً محضاً فهو للنّقص عن الثّلث لا للزّيادة عليه، فكأنّه لَمَّا شرع الإيصاء بالثّلث وأنّه لا يعترض به على الموصي إلَّا أنّ الانحطاط عنه أولى ، ولا سيّما لمن يترك ورثة غير أغنياء، فنبّه سعداً على ذلك.

وفيه سدّ الذّريعة لقوله صلى الله عليه وسلم " ولا تردّهم على أعقابهم " لئلا يتذرّع بالمرض أحد لأجل حبّ الوطن. قاله ابن عبد البرّ.

وفيه تقييد مطلق القرآن بالسّنّة ، لأنّه قال سبحانه وتعالى:(من بعد وصيّة يوصي بها أو دين) فأطلق، وقيّدت السّنّة الوصيّة بالثّلث، وأنّ من ترك شيئاً لله لا ينبغي له الرّجوع فيه ولا في شيء منه مختاراً.

وفيه التّأسّف على فوت ما يحصل الثّواب، وفيه حديث: من ساءته سيّئة. (1) وأنّ من فاته ذلك بادر إلى جبره بغير ذلك.

(1) أخرجه الإمام أحمد (1/ 26) والنسائي في " الكبرى "(8/ 284) وابن ماجه (2363) وأبو يعلى (143 ، 142) والطحاوي في " شرح معاني الآثار "(4/ 150) وغيرهم من طريق عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال: خطب عمر الناس بالجابية، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا، فقال: أحسنوا إلى أصحابي

فذكر الحديث. وفيه: ومن سرَّته حسنته وساءته سيئته، فهو مؤمن "

ورواه الترمذي (2165) والنسائي في " الكبرى "(7/ 146) والحاكم في " المستدرك "(1/ 197) وأحمد (114) وغيرهم من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنه. نحوه. وصحَّحه الحاكم. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجه.

وللحديث طرق أخرى. انظر علل الدارقطني (2/ 112)

ص: 401

وفيه تسلية من فاته أمر من الأمور بتحصيل ما هو أعلى منه لِما أشار صلى الله عليه وسلم لسعدٍ من عمله الصّالح بعد ذلك.

وفيه جواز التّصدّق بجميع المال لمن عرف بالصّبر ولَم يكن له من تلزمه نفقته.

وفيه الاستفسار عن المحتمل إذا احتمل وجوهاً ، لأنّ سعداً لَمَّا منع من الوصيّة بجميع المال احتمل عنده المنع فيما دونه والجواز فاستفسر عمّا دون ذلك، وفيه النّظر في مصالح الورثة.

وفيه أنّ خطاب الشّارع للواحد يعمّ من كان بصفته من المكلفين لإطباق العلماء على الاحتجاج بحديث سعد هذا. وإن كان الخطاب إنّما وقع له بصيغة الإفراد، ولقد أبعد مَن قال: إنّ ذلك يختصّ بسعدٍ ومن كان في مثل حاله ممّن يخلف وارثاً ضعيفاً أو كان ما يخلفه قليلاً ، لأنّ البنت من شأنها أن يطمع فيها، وإن كانت بغير مال لَم يرغب فيها.

وفيه أنّ من ترك مالاً قليلاً فالاختيار له ترك الوصيّة وإبقاء المال للورثة، واختلف السّلف في ذلك القليل كما تقدّم.

واستدل به التّيميّ لفضل الغنيّ على الفقير. وفيه نظرٌ.

ص: 402

وفيه مراعاة العدل بين الورثة ومراعاة العدل في الوصيّة، وفيه أنّ الثّلث في حدّ الكثرة، وقد اعتبره بعض الفقهاء في غير الوصيّة، ويحتاج الاحتجاج به إلى ثبوت طلب الكثرة في الحكم المعيّن.

واستدل بقوله: " ولا يرثني إلَّا ابنة لي " مَن قال بالرّدّ على ذوي الأرحام للحصر في قوله: لا يرثني إلَّا ابنة.

وتعقّب: بأنّ المراد من ذوي الفروض كما تقدّم، ومَن قال بالرّدّ لا يقول بظاهره لأنّهم يعطونها فرضها ثمّ يردّون عليها الباقي، وظاهر الحديث أنّها ترث الجميع ابتداء.

ص: 403