الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقال معاوية: والله لا كنت عليه في هذه الليلة من الحوادث، ثم رجع من حيث أتى.
رجعنا إلى الأصل:
وكتب الكيا فصلا طويلا ثم قلب الورقة وكتب: " لو " مددت ببياض لمددت العنان في مخازي هذا الرجل، وكتب فلان ابن فلان.
وقد أفتى الغزالي رحمه الله تعالى بخلاف ذلك، فإنه سئل عمن صرح بلعن يزيد: هل يحكم بفسقه؟ فأجاب: لا يجوز لعن المسلم أصلا، ومن لعن مسلما فهو الملعون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" المسلم ليس بلعان "، وكيف يجوز لعن المسلم ولا يجوز لعن البهائم، وقد ورد النهي عن ذلك، وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنص النبي صلى الله عليه وسلم؛ ويزيد صح إسلامه، وما صح قتله الحسين رضي الله عنه ولا أمره ولا رضاه بذلك، ومهما لم يصح ذلك منه لا يجوز أن يظن ذلك به، فإن إساءة الظن بالمسلم حرام، وقد قال الله تعالى " اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم " " الحجرات: 12 " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله حرم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن السوء. ومن زعم أن يزيد أمر بقتل الحسين أو رضي به فينبغي أن يعلم غاية حمقه (1) ، فإن كان من عصره من الأكابر والوزراء والسلاطين لو أراد أن يعلم حقيقة من الذي أمر بقتله أو رضي به أو كرهه لم يقدر على ذلك، وإن كان قد قتل في جواره وزمانه وهو يشاهده، فكيف لو كان في بلد بعيد وزمن بعيد وقد انقضى، فكيف نعلم ذلك في ما انقضى عليه قريب من أربعمائة سنة في مكان بعيد؟ وقد تطرق التعصب في الواقعة فكثرت فيها الأحاديث، فهذا أمر لا تعرف حقيقته أصلا، وإذا لم تعرف وجب إحسان الظن بكل
(1) ابن خلكان: يعلم به غاية حماقة.
مسلم، ومع هذا فلو ثبت على مسلم أنه قتل مسلما فمذهب أهل الحق أنه ليس بكافر، والقتل ليس بكفر بل هو معصية، فإذا مات القاتل ربما مات بعد التوبة، والكافر لو تاب من كفره لم تجز لعنته، فكيف بمن تاب عن قتل؟ وكيف نعرف أن قاتل الحسين رضي الله عنه مات قبل التوبة، " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده "" الشورى 25 " فإذن لا يجوز لعن أحد ممن مات من المسلمين، ومن لعنه كان فاسقاً عاصياً لله عز وجل ولو جاز لعنه فسكت لم يكن عاصياً بالإجماع، بل لو لم يلعن إبليس طول عمره لا يقال له في القيامة: لم لم تلعن إبليس، ويقال للاعن: لم لعنت؟ ومن أين عرفت أنه ملعون مطرود؟ والملعون هو المبعود من الله عز وجل، ولك عيب ولا يعرف إلا في من مات كافراً، فإن ذلك علم بالشرع، وأما الترحم عليه فهو جائز، بل هو مستحب، بل هو داخل في قولنا كل صلاة: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، فإنه كان مؤمنا، والله أعلم، كتبه الغزالي.
وحكى ابن القفطي أن يزيد كان له قرد يجعله بين يديه ويكنيه أباقيس، ويقول: هذا شيخ من بني إسرائيل أصاب خطيئة فمسخ، وكان يسقيه النبيذ ويضحك منه، وكان يحمله على أتان، فحمله يوما وجعل يقول:
تمسك أبا قيس بفضل عنانها
…
فليس عليها إن هلكت ضمان
فقد سبقت خيل الجماعة كلها
…
وخيل أمير المؤمنين أتان وجاء أبا قيس في ذلك اليوم ريح فمال ميتا والأتان، فحزن عليه وأمر بدفنه بعد أن كفنه، وأمر أهل الشام أن يعزوه فيه وأنشأ يقول:
لم يبق قرم (1) كريم ذو محافظة
…
إلا أتانا يعزي في أبي قيس
شيخ العشيرة أمضاها وأحملها
…
له المساعي مع القربوس والديس
(1) ص: قرماً.
لا يبعد الله قبرا أنت ساكنه
…
فيه الجمال وفيه لحية التيس ومن شعره:
شربت على الجوزاء كأسا روية
…
وأخرى إذا الشعرى العبور استهلت
معتقة كانت قريش تعافها
…
فلما استحلوا دم عثمان حلت ومنه:
أقول لصحب ضمت الكاس شملهم
…
وداعي صبابات الهوى يترنم
خذوا بنصيب من نعيم ولذة
…
فكل وإن طال المدى يتصرم
ولا تتركوا يوم السرور إلى غد
…
فرب غد يأتي بما ليس يعلم
ألا إن أهنأ العيش ما سمحت به
…
صروف الليالي والحوادث نوم
لقد كادت الدنيا تقول لأهلها
…
خذوا لذة، لو أنها تتكلم
وسيارة ضلوا (1) عن القصد بعدما
…
تداركهم جنح من الليل مظلم
أناخوا على قوم ونحن عصابة
…
وفينا فتى من سكره يترنم
أضاءت لهم منا على البعد قهوة
…
كأن سناها ضوء نار تضرم
إذا ما حسوناها أناخوا مطيهم
…
وإن مزجت حثوا الركاب ويمموا وقال أيضا:
ولقد طعنت الليل في أعجازه
…
بالكاس بين غطارف كالأنجم
يتمايلون على النعيم كأنهم
…
قضب من الهندي لم تتثلم
ولقد شربناها بخاتم ربها
…
بكرا وليس البكر مثل الأيم
ولها سكون في الإناء ودونه
…
شغب يطوح بالكمي المعلم وقال أيضا:
ولي ولها إذا الكاسات دارت
…
رقى سحر يحل عرى الهموم
(1) ص: ظلوا.
محادثة ألذ من الأماني
…
وبث جوى أرق من النسيم وقال أيضا:
وساق أتاني والثريا كأنها
…
قلائص قد أعنقن خلف فنيق
وناولني كأسا كأن بنانه
…
مخلفة من نورها بخلوق
وقال اغتنم من دهرنا غفلاته
…
فعقد وداد الدهر غير وثيق
وإني من لذات دهري لقانع
…
بحلو حديث أم بمر عتيق
هما ما هما لم يبق شيء سواهما
…
حديث صديق أم عتيق رحيق
إذا شجها الساقي حسبت حبابها
…
نجوما (1) تبدت في سماء عقيق ويقال إنه لما أتي برأس الحسين رضي الله عنه صاح بنات معاوية وعيالهم وسمعهم يزيد فذرفت عيناه وقال:
يا صيحة تحمد من صوائح
…
ما أهون الموت على النوائح ثم قال: إذا قضى الله أمرا كان مفعولا، كنا نرضى من أهل العراق بدون قتل الحسين. وعرض عليه في من عرض علي بن الحسين رضي الله عنهما فأراد قتله والأمن من غائلته ثم كف وارعوى وقال:
هممت بنفسي همة لو فعلتها
…
لكان قليلا بعدها ما ألومها
ولكنني من عصبة أموية
…
إذا هي زلت أدركتها حلومها ولما تحقق معاوية أن يزيد يشرب الخمر عز عليه ذلك وأنكر عليه وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر، وإنك تقدر على بلوغ لذتك في ستر؛ فتماسك عن الشرب ثم دعته نفسه لما اعتاده، فجلس على شرابه، فلما استخفه الخمر وداخله الطرب قال يشير إلى أبيه:
(1) ص: نجوم.