الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنَّ الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي التَّكَلُّمِ لَا فِي الْحُكْمِ بَلْ هُوَ فِي الْحُكْمِ أَصْلٌ.
ــ
[كشف الأسرار]
الِاسْتِعَارَةُ كَمَا فِي الْحُرِّ.
وَصَارَ هَذَا أَيْ عَدَمُ الْجَوَازِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْمَحِلِّ نَظِيرَ الْبَيْعِ الْمُسْتَعَارِ لِلنِّكَاحِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ أَيْ فِي مَحَلِّ النِّكَاحِ وَهِيَ الْمَحْرَمُ مِنْ النِّسَاءِ فَإِنَّهَا لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَحَلَّ حَقِيقَةِ النِّكَاحِ لَمْ تَكُنْ مَحَلًّا لِمَا يُسْتَعَارُ لِلنِّكَاحِ أَيْضًا وَهُوَ الْبَيْعُ فَكَذَلِكَ الْمَنَافِعُ لَمَّا لَمْ يَصْلُحْ لِإِضَافَةِ الْإِجَارَةِ إلَيْهَا لَمْ يَصْلُحْ لِإِضَافَةِ مَا يُسْتَعَارُ لِلْإِجَارَةِ أَيْضًا وَهُوَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ أَقْوَى مِنْ الْمُسْتَعَارِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْفَسَادَ لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ لَا لِفَسَادِ الِاسْتِعَارَةِ.
[الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ التَّكَلُّمِ لَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ]
قَوْلُهُ (الْمَجَازُ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي التَّكَلُّمِ) إلَى آخِرِهِ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا عِنْدَ فَوَاتِ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ وَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِ، وَلِهَذَا يَحْتَاجُ الْمَجَازُ إلَى الْقَرِينَةِ وَالْحَقِيقَةُ لَا تَحْتَاجُ إلَيْهَا.
وَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِثُبُوتِ الْخَلَفِ مِنْ تَصَوُّرِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْخَلَفَ مِنْ الْإِضَافِيَّاتِ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْأَصْلِ كَالِابْنِ مَعَ الْأَبِ. وَإِنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْمَجَازِ لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ كَمَا أَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْخَلَفِ لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ فَوَاتِ الْأَصْلِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ.
وَالْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ مِنْ أَوْصَافِ اللَّفْظِ لَا مِنْ أَوْصَافِ الْمَعَانِي، وَلِهَذَا قَالُوا الْحَقِيقَةُ لَفْظٌ اُسْتُعْمِلَ وَكَذَا وَالْمَجَازُ لَفْظٌ اُسْتُعْمِلَ فِي كَذَا. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْخَلَفِيَّةَ فِي التَّكَلُّمِ بِأَنْ صَارَ التَّكَلُّمُ بِلَفْظِ الْمَجَازِ خَلَفًا عَنْ التَّكَلُّمِ بِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ ثُمَّ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِنَاءً عَلَى صِحَّتِهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِبْدَادِ لَا خَلَفًا عَنْ حُكْمِ الْحَقِيقَةِ. أَوْ فِي الْحُكْمِ بِأَنْ تَعَذَّرَ حُكْمُ الْحَقِيقَةِ بِعَارِضٍ فَصَيَّرَ إلَى الْمَجَازِ لِإِثْبَاتِ لَازِمِ الْحَقِيقَةِ خَلَفًا عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهَا احْتِرَازًا عَنْ إلْغَاءِ الْكَلَامِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله الْمَجَازُ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي التَّكَلُّمِ وَقَالَا هُوَ خَلَفٌ عَنْهَا فِي الْحُكْمِ. وَيَتَّضِحُ لَك مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ لِلشُّجَاعِ هَذَا أَسَدٌ فَعِنْدَهُمَا هُوَ خَلَفٌ فِي إثْبَاتِ الشَّجَاعَةِ عَنْ قَوْلِهِ هَذَا أَسَدٌ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ لِإِثْبَاتِ الْهَيْكَلِ الْمَخْصُوصِ. وَمَا قَرَعَ سَمْعَك أَنَّ حُكْمَ الْمَجَازِ خَلَفٌ عَنْ حُكْمِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُمَا فَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْخَلَفِيَّةَ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ أَوْصَافِ اللَّفْظِ بِالِاتِّفَاقِ لَا بَيْنَ شَجَاعَةِ الشُّجَاعِ وَالْهَيْكَلِ الْمَعْلُومِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله التَّكَلُّمُ بِقَوْلِهِ هَذَا أَسَدٌ لِلشُّجَاعِ خَلَفٌ عَنْ التَّكَلُّمِ بِقَوْلِهِ هَذَا أَسَدٌ لِلْهَيْكَلِ الْمَعْلُومِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي ثُبُوتِ الْخَلَفِيَّةِ إلَى الْحُكْمِ ثُمَّ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهِ وَهُوَ الشَّجَاعَةُ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ التَّكَلُّمِ لَا خَلَفًا عَنْ شَيْءٍ كَمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْحَقِيقَةِ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ التَّكَلُّمِ.
وَقَوْلُهُ لِعَبْدِهِ الَّذِي يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ وَهُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ هَذَا ابْنِي فَعِنْدَهُمَا هُوَ خَلَفٌ فِي إثْبَاتِ الْعِتْقِ عَنْ قَوْلِهِ هَذَا ابْنِي لِابْنِهِ الْحَقِيقِيِّ فِي إثْبَاتِ الْبُنُوَّةِ وَالْعِتْقِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله نَفْسُ التَّكَلُّمِ بِقَوْلِهِ هَذَا ابْنِي خَلَفٌ عَنْ التَّكَلُّمِ بِقَوْلِهِ هَذَا ابْنِي فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ ثُمَّ يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ التَّكَلُّمِ كَمَا يَثْبُتُ الْبُنُوَّةُ وَالْعِتْقُ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْكَلَامِ. لَهُمَا أَمْ الْحُكْمُ هُوَ الْمَقْصُودُ لَا نَفْسُ الْعِبَارَةِ فَاعْتِبَارُ الْخَلَفِيَّةِ وَالْأَصَالَةِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِهِمَا فِيمَا هُوَ وَسِيلَةٌ وَهِيَ الْعِبَارَةُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ مِنْ أَوْصَافِ اللَّفْظِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَجَعْلُ الْمَجَازِ خَلَفًا عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي التَّكَلُّمِ الَّذِي هُوَ اسْتِخْرَاجُ اللَّفْظِ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرَا؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ لَا يَجْرِيَانِ فِي الْمَعَانِي. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ نَقْلٌ وَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى هُوَ تَمَامُ مَاهِيَّةِ الْمُسْتَعَارِ عَنْهُ وَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
النَّقْلَ إلَى الْمُسْتَعَارِ لَهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ عَيْنُهُ عَيْنَهُ.
وَكَذَا صِفَتُهُ لَا تَقْبَلُ الِانْتِقَالَ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الشَّيْءِ هِيَ الْقَائِمَةُ بِهِ فَكَيْفَ تَقْبَلُ النَّقْلَ عَنْهُ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الِانْتِقَالُ فِي اللَّفْظِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّجَاعَةَ الَّتِي فِي الْأَسَدِ لَا تَنْتَقِلُ إلَى الْإِنْسَانِ بِاسْتِعَارَةِ لَفْظِ الْأَسَدِ لَهُ وَلَكِنَّ اللَّفْظَ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْخَلَفِيَّةَ فِي التَّكَلُّمِ لَا غَيْرُ وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِهِ لِعَبْدِهِ الَّذِي لَا يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ هَذَا ابْنِي فَعَلَى قَوْلِهِمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ يَلْغُو هَذَا الْكَلَامُ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا.
وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ يَعْتِقُ هَذَا الْعَبْدُ وَيَصِيرُ هَذَا الْكَلَامُ عِبَارَةً عَنْ قَوْلِهِ عَتَقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مَلَكْته بِطَرِيقِ ذِكْرِ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةِ اللَّازِمِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يَنْعَقِدْ لِإِيجَابِ حُكْمِ الْحَقِيقَةِ أَصْلًا وَهُوَ الْبُنُوَّةُ فَيَلْغُو كَمَا لَوْ قَالَ أَعْتَقْتُك قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ أَوْ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ أَوْ قَالَ هَذَا أَخِي أَوْ قَالَ لِغُلَامٍ صَغِيرٍ لَهُ هَذَا جَدِّي أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ هَذِهِ بِنْتِي أَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ هَذَا غُلَامِي. وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ هَذَا ابْنِي أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِي، وَابْنُ خَمْسِينَ سَنَةً يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مِنْ مَاءِ ابْنِ عِشْرِينَ سَنَةً وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ عِبَارَةً عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْحُرِّيَّةِ مِنْ حِينِ مِلْكِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَلَا بُدَّ لِثُبُوتِ الْخَلَفِ مِنْ تَصَوُّرِ الْأَصْلِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ فِي مَخْرَجِهِ صَحِيحًا مُوجِبًا لِلْحُكْمِ عَلَى الِاحْتِمَالِ وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ الْعَمَلُ بِهِ بِعَارِضٍ فَيَخْلُفُهُ الْمَجَازُ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ لِإِيجَابِ حُكْمٍ أَصْلًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمَجَازُ خَلَفًا عَنْهُ فَيَلْغُو كَمَا فِي النَّظَائِرِ الْمَذْكُورَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِمَعْرُوفِ النَّسَبِ هَذَا ابْنِي حَيْثُ يَعْتِقُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ فِي مَخْرَجِهِ صَحِيحٌ مُوجِبٌ لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْبُنُوَّةُ لَوْلَا الْعَارِضُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مِنْ مَائِهِ بِالزِّنَا أَوْ بِالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ لَكِنَّهُ لَمَّا اُشْتُهِرَ نَسَبُهُ مِنْ الْغَيْرِ لِوُجُودِ ظَاهِرِ الدَّلِيلِ تَعَذَّرَ إثْبَاتُهُ مِنْهُ رِعَايَةً لِحَقِّ الْغَيْرِ فَيَصِحُّ أَنْ يَخْلُفَهُ الْمَجَازُ.
وَنَظِيرُ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْحَلِفُ عَلَى مَسِّ السَّمَاءِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ فَإِنَّ الْأَوَّلَ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ لِانْعِقَادِ السَّبَبِ مُوجِبًا لِلْأَصْلِ وَهُوَ الْبُرْهَانُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ السَّمَاءَ عَيْنٌ مَمْسُوسَةٌ فَيَصْلُحُ لِإِيجَابِ الْخَلَفِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعَارِضِ وَهُوَ الْعَجْزُ الْحَالِيُّ فَأَمَّا الْغَمُوسُ فَلَمْ تَنْعَقِدْ لِإِيجَابِ الْأَصْلِ وَهُوَ الْبِرُّ فَلَا تَصْلُحُ مُوجِبَةً لِلْخَلَفِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ وَمَا نَحْنُ فِيهِ نَظِيرُ الْغَمُوسِ عَلَى أَنَّا نَقُولُ فِي مَعْرُوفِ النَّسَبِ لَا يَعْتِقُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ بَلْ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ كَمَا ذَكَرْنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مِنْ مَائِهِ وَأَنَّ الْفِرَاشَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ فَيُصَدَّقُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ نَفْسِهِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّ النَّسَبَ ثَابِتٌ فَيَثْبُتُ أَحْكَامُهُ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ لَا بِاعْتِبَارِ الْمَجَازِ وَلِهَذَا صَارَتْ أُمُّ الْغُلَامِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لَوْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لِمَجْهُولِ النَّسَبِ وَثَبَتَتْ حَقِيقَةُ الْبُنُوَّةِ وَهَهُنَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِلِاسْتِحَالَةِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ أَصْغَرُ سِنًّا مِنْهُ هَذِهِ بِنْتِي وَهِيَ مَعْرُوفَةُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ وَلَوْ اُعْتُبِرَ النَّسَبُ ثَابِتًا فِي حَقِّهِ لَحَرُمَتْ عَلَيْهِ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّ الْمُقِرَّ إنَّمَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِهِ لَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِ وَكَلَامُهُ هَذَا إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّسَبِ فِي النِّكَاحِ لَيْسَ إزَالَةَ الْمِلْكِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَإِنَّمَا مُوجِبُهُ انْتِفَاءُ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ مِنْ الْأَصْلِ وَذَلِكَ حَقُّهَا لَا حَقُّهُ فَلَا يُصَدَّقُ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِبَارَةَ تَتَغَيَّرُ بِهِ دُونَ الْحُكْمِ فَكَانَ تَصَرُّفًا فِي التَّكَلُّمِ فَتُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْأَصْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مَوْضُوعٌ لِلْإِيجَابِ بِصِيغَتِهِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فَإِذَا وُجِدَ وَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِ
ــ
[كشف الأسرار]
عَلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ فَأَمَّا قَوْلُهُ هَذَا ابْنِي فَإِقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْبُنُوَّةِ بُطْلَانَ الْمِلْكِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ ابْنَهُ بِالشِّرَاءِ ثُمَّ يَبْطُلُ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ فَيُصَدَّقُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّهُ إنْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ كَلَامِهِ فَقَدْ أَمْكَنَ بِمَجَازِهِ فَيُعْمَلُ بِهِ كَمَا فِي مَعْرُوفِ النَّسَبِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ الْمَجَازِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ مِنْ حَيْثُ السَّبَبِيَّةُ مَوْجُودٌ؛ لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ مِنْ أَسْبَابِ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ لِمَنْ هُوَ يُولَدُ لِمِثْلِهِ وَهُوَ مَجْهُولُ النَّسَبِ هَذَا ابْنِي تَثْبُتُ الْبُنُوَّةُ وَتَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ بِوَاسِطَةِ الْبُنُوَّةِ فَكَانَ هَذَا اللَّفْظُ سَبَبًا لِلْبُنُوَّةِ وَالْبُنُوَّةُ سَبَبًا لِلْحُرِّيَّةِ مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ فِي الْمِلْكِ وَاسْتِعَارَةُ السَّبَبِ لِلْمُسَبَّبِ طَرِيقٌ مَعْهُودٌ فَيُجْعَلُ اللَّفْظُ مَجَازًا لِمُسَبِّبِهِ احْتِرَازًا عَنْ الْإِلْغَاءِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عَتَقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مَلَكْته وَلَا يُقَالُ الْعِتْقُ لَيْسَ مِنْ أَحْكَامِ الْبُنُوَّةِ بَلْ هُوَ حُكْمُ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي عِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ يُضَافُ إلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا وَهُوَ الْمِلْكُ هَهُنَا دُونَ الْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّهُ حَادِثٌ وَالْقَرَابَةُ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ فَثَبَتَ أَنَّ الْبُنُوَّةَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِلْعِتْقِ فَلَا تَصِحُّ اسْتِعَارَتُهَا لَهُ لِأَنَّا نَقُولُ الْمِلْكُ إذَا كَانَ ثَابِتًا وَلَا نَسَبٌ ثُمَّ ادَّعَاهُ كَانَ النَّسَبُ آخِرَهُمَا وُجُودًا فَتَصِحُّ اسْتِعَارَتُهُ لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ بَيْنَ وَارِثَيْنِ وَهُوَ مَجْهُولُ النَّسَبِ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا عَتَقَ وَيَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَلَا يَضْمَنُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَوْلَا أَنَّهُ صَارَ مُعْتَقًا بِهَذِهِ الدَّعْوَى لَمَا تَعَلَّقَ بِهِ ضَمَانٌ يَخْتَلِفُ بِالْإِيسَارِ وَالْإِعْسَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي التَّمْلِيكِ كَذَا فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَا بُدَّ لِلْخَلَفِ مِنْ تَصَوُّرِ الْأَصْلِ فَمُسَلَّمٌ وَلَكِنَّ الْخَلَفِيَّةَ فِي التَّكَلُّمِ دُونَ الْحُكْمِ فَيُشْتَرَطُ صِحَّةُ التَّكَلُّمِ وَهِيَ بِأَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ صَالِحًا لِإِفَادَةِ الْمَعْنَى فِي نَفْسِهِ بِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا مَوْضُوعًا لِلْإِيجَابِ أَيْ إثْبَاتِ مَعْنًى بِصِيغَتِهِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا ابْنِي مَوْضُوعٌ لِإِثْبَاتِ الْبُنُوَّةِ وَقَدْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِ وَلَهُ مَجَازٌ مُتَعَيِّنٌ فَيُعْمَلُ بِمَجَازِهِ.
وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالُوا مِنْ اشْتِرَاطِ احْتِمَالِ الْبُنُوَّةِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَاطِبَةً اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ لِلشُّجَاعِ هَذَا أَسَدٌ اسْتِعَارَةٌ صَحِيحَةٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشُّجَاعَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْهَيْكَلَ الْمَعْلُومَ بِوَجْهٍ وَلَكِنَّ قَوْلَهُ هَذَا أَسَدٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ مَعْنَى وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الْهَيْكَلِ الْمَعْلُومِ ثُمَّ اُسْتُعِيرَ لِإِثْبَاتِ لَازِمِهِ وَهُوَ الشَّجَاعَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي الشُّجَاعِ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْأَسَدِيَّةُ أَصْلًا فَكَذَا قَوْلُهُ هَذَا ابْنِي مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مَوْضُوعٌ لِلْإِخْبَارِ عَنْ الْبُنُوَّةِ فِي مَحَلٍّ وَهُوَ الِابْنُ الْحَقِيقِيُّ وَاسْتُعِيرَ لِإِثْبَاتِ لَازِمِهِ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ فِي الْأَكْبَرِ سِنًّا مِنْهُ فَيَصِحُّ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ أَيْضًا إذْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ.
قَوْلُهُ (أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِبَارَةَ تَتَغَيَّرُ بِهِ دُونَ الْحُكْمِ) يَعْنِي أَنَّ التَّغَيُّرَ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْمَجَازِ لِلْعِبَارَةِ دُونَ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمَوْضُوعَ لِمَعْنًى إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي مَوْضُوعِهِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ وَإِذَا نُقِلَ عَنْهُ وَاسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ اللَّفْظُ وَيَصِيرُ مَجَازًا فَأَمَّا الْحُكْمُ فَلَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ وَالتَّغَيُّرَ كَمَا ذَكَرْنَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْخَلَفِيَّةَ فِي التَّكَلُّمِ لَا فِي الْحُكْمِ وَزَعَمَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ مَحَلَّ الْمَجَازِ لَهُ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ يَكُونُ حَقِيقَةً كَلَفْظِ الشُّجَاعِ فِي مَوْضُوعِهِ فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ لَفْظٌ الْمَجَازِ وَهُوَ الْأَسَدُ تَغَيَّرَتْ تِلْكَ الْعِبَارَةُ فَأَمَّا الْحُكْمُ وَهُوَ إثْبَاتُ
وَلَهُ مَجَازٌ مُتَعَيِّنٌ صَارَ مُسْتَعَارًا لِحُكْمِهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ كَالنِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَقَالَا لَفْظُ الْهِبَةِ يَنْعَقِدُ لِحُكْمِهِ الْأَصْلِيِّ فِي الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ بَيْعِ الْحُرَّةِ وَهِبَتِهَا مِثْلُ احْتِمَالِ مَسِّ السَّمَاءِ وَأَمَّا هَذَا فَمُسْتَحِيلٌ بِمَرَّةٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله هَذَا تَصَرُّفٌ فِي التَّكَلُّمِ فَلَا يُتَوَقَّفُ عَلَى احْتِمَالِ الْحُكْمِ كَالِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْفًا إلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ أَنَّهُ تَقَعُ وَاحِدَةً ذَكَرَهُ فِي الْمُنْتَقَى وَإِيجَابُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ بَاطِلٌ لَكِنْ مِنْ طَرِيقِ التَّكَلُّمِ صَحِيحٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ تَصَرُّفٌ فِي التَّكَلُّمِ بِالْمَنْعِ فَصَحَّ فَكَذَلِكَ هَذَا لِمَا كَانَ تَصَرُّفًا فِي التَّكَلُّمِ صَحَّتْ الِاسْتِعَارَةُ بِهِ لِحُكْمِ حَقِيقَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْعَقِدْ لِإِيجَابِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ وَمِنْ حُكْمِ الْحَقِيقَةِ عِتْقُهُ مِنْ حِينِ مِلْكِهِ فَجُعِلَ إقْرَارًا بِهِ
ــ
[كشف الأسرار]
الشُّجَاعَةِ لَهُ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِالشُّجَاعِ وَالْأَسَدِ وَعَنْ هَذَا تَوَهَّمُوا أَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ هَذَا أَسَدٌ لِلشُّجَاعِ خَلَفٌ عَنْ قَوْلِهِ هَذَا شُجَاعٌ وَأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا ابْنِي فِي مَسْأَلَتِنَا خَلَفٌ عَنْ قَوْلِهِ هَذَا حُرٌّ مِنْ حِينِ مَلَكْته وَإِنَّ عِنْدَهُمَا ثُبُوتَ الشُّجَاعِ بِقَوْلِهِ هَذَا أَسَدٌ خَلَفٌ عَنْ ثُبُوتِ الْهَيْكَلِ الْمَعْلُومِ بِهِ وَثُبُوتَ الْحُرِّيَّةِ بِقَوْلِهِ هَذَا ابْنِي لِمَعْرُوفِ النَّسَبِ الَّذِي هُوَ أَصْغَرُ سِنًّا مِنْهُ خَلَفٌ عَنْ الْبُنُوَّةِ وَكُلُّ ذَلِكَ وَهْمٌ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ لَا يَكُونُ خَلَفًا إلَّا عَنْ حَقِيقَتِهِ الَّتِي نُقِلَتْ عَنْ مَحَلِّهَا إلَى مَحَلِّ الْمَجَازِ فَأَمَّا عَنْ الْحَقِيقَةِ الثَّابِتَةِ لِمَحَلِّ الْمَجَازِ فَلَا.
وَلَوْ كَانَ لَفْظُ الْأَسَدِ خَلَفًا عَنْ الشُّجَاعِ وَلَفْظُ هَذَا ابْنِي خَلَفًا عَنْ هَذَا حُرٌّ كَمَا زَعَمُوا لَا يَتَأَتَّى الْخِلَافُ فِي قَوْلِهِ هَذَا ابْنِي الْأَكْبَرِ سِنًّا مِنْهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ الَّتِي ثَبَتَتْ بِقَوْلِهِ هَذَا حُرٌّ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ فِي هَذَا الْمَحَلِّ بَلْ هُوَ مُتَصَوَّرٌ كَمَا فِي الْأَصْغَرِ سِنًّا مِنْهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَثْبُتَ الْعِتْقُ عِنْدَهُمَا أَيْضًا لِوُجُودِ شَرْطِ الْمَجَازِ وَهُوَ تَصَوُّرُ حُكْمِ الْأَصْلِ وَالْأَمْرِ بِخِلَافِهِ وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الشُّجَاعُ خَلَفًا عَنْ الْهَيْكَلِ الْمَعْلُومِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْخَلَفِيَّةَ إذْ ذَاكَ تَكُونُ بَيْنَ الْمَعَانِي لَا بَيْنَ الْأَلْفَاظِ وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازُ مِنْ أَوْصَافِ اللَّفْظِ بَلْ الْمُرَادُ مِنْ الْخَلَفِيَّةِ فِي الْحُكْمِ أَوْ فِي التَّكَلُّمِ مَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا يُقَالُ كَيْفَ يَكُونُ " هَذَا أَسَدٌ " خَلَفًا عَنْ " هَذَا أَسَدٌ " وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا تَغَايُرٌ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْخَلَفُ مُغَايِرًا لِلْأَصْلِ إذْ الشَّيْءُ لَا يَكُونُ خَلَفًا عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ غَيْرُهُ فِي مَحَلِّ الْمَجَازِ بِسَبَبِ اخْتِلَافٍ فِي الْمَحَلَّيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ آثَارَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ فَإِنَّ قَوْلَك هَذَا أَسَدٌ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ يَدُلُّ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ هُوَ فِي مَحَلِّ الْمَجَازِ وَكَذَا قَوْلُهُ هَذَا ابْنِي فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ يَدُلُّ عَلَى الْبُنُوَّةِ الَّتِي لَمْ تُوجَدْ فِي مَحَلِّ الْمَجَازِ فَصَحَّتْ الْخَلَفِيَّةُ.
قَوْلُهُ (وَلَهُ مَجَازٌ مُتَعَيِّنٌ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِهِ هَذَا أَخِي عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ صَارَ مُسْتَعَارًا لِحُكْمِهِ أَيْ لِلَازِمِ حُكْمِهِ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ إذْ هِيَ لَازِمَةُ الْبُنُوَّةِ عِنْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ.
قَوْلُهُ (كَالنِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ) يَعْنِي إذَا قَالَ وَهَبْت ابْنَتِي مِنْك أَوْ قَالَتْ وَهَبْت نَفْسِي مِنْك عَلَى وَجْهِ النِّكَاحِ يَصِيرُ هَذَا اللَّفْظُ مُسْتَعَارًا لِلنِّكَاحِ وَإِنْ لَمْ يَنْعَقِدْ لِإِيجَابِ حُكْمِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ الْحُرَّةَ لَا تَقْبَلُ ذَلِكَ أَصْلًا فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَقَالَا لَفْظُ الْهِبَةِ كَذَا يَعْنِي أَنَّهُمَا لَا يُسَلِّمَانِ عَدَمَ انْعِقَادِهِ لِحُكْمِهِ الْأَصْلِيِّ فِي هَذَا الْمَحَلِّ وَيَقُولَانِ إنَّ احْتِمَالَ بَيْعِ الْحُرَّةِ وَهِبَتِهَا ثَابِتٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا كَاحْتِمَالِ مَسِّ السَّمَاءِ. أَلَا تَرَى أَنَّ تَمَلُّكَ الْحُرِّ كَانَ مَشْرُوعًا فِي شَرِيعَةِ يَعْقُوبَ عليه السلام حَتَّى قَالَ بَنُوهُ {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75] فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحِيلٍ وَلَكِنَّهُ امْتَنَعَ لِعَارِضٍ وَهُوَ عَدَمُ جَوَازِ النَّسْخِ فَأَمَّا هَذَا أَيْ الْبُنُوَّةُ فِي الْأَكْبَرِ سِنًّا مِنْهُ فَمُسْتَحِيلٌ بِمَرَّةٍ أَيْ بِالْكُلِّيَّةِ عَقْلًا وَشَرْعًا عَلَى إنَّا لَمْ نُثْبِتْ النِّكَاحَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَإِنَّمَا نُثْبِتُهُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ بِحَقِيقَتِهَا تُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْعَيْنِ، وَمِلْكُ النِّكَاحِ عِنْدَنَا فِي حُكْمِ مِلْكِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْمَرْأَةِ تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِلزَّوْجِ فِي حَقِّ الْوَطْءِ إلَّا أَنَّهُ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَمِلْكُ الْيَمِينِ ثَابِتٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ ذَلِكَ أَحَقَّ فَإِنَّهُ أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ وَإِلَّا أَثْبَتْنَا مِلْكَ النِّكَاحِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ لَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ عَلَى مَا عُرِفَ وَمِلْكُ النِّكَاحِ عِبَارَةٌ عَنْ مِلْكِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ وَالْجَوَابُ أَنَّ بَعْدَمَا تَحَقَّقَتْ الِاسْتِحَالَةُ
فَعَتَقَ فِي الْقَضَاءِ
ــ
[كشف الأسرار]
فِي شَرِيعَتِنَا لَا تَصَوُّرَ لِانْعِقَادِهِ سَبَبًا لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ كَمَا لَوْ ثَبَتَتْ عَقْلًا أَلَا تَرَى أَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ لَمَّا انْتَسَخَ وَلَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِلْحِلِّ أَصْلًا لَمْ يَصِرْ حَتَّى شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عِنْدَهُمَا مَعَ بَقَاءِ الْمَحَلِّيَّةِ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ فَهُنَا أَوْلَى لِارْتِفَاعِ الْمَحَلِّيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْحَلِفِ عَلَى مَسِّ السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ مَسُّهُ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ فَيَنْعَقِدُ سَبَبًا.
وَمَا قَالَا: الْهِبَةُ تَعْمَلُ بِحَقِيقَتِهَا لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ مِنْ مِلْكِ الطَّلَاقِ وَصِحَّةِ الْإِيلَاءِ وَعَدَمِ صِحَّةِ النَّقْلِ إلَى الْغَيْرِ وَسَائِرِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النِّكَاحِ وَلَوْ كَانَتْ عَامِلَةً بِحَقِيقَتِهَا لَمَلَكَ النَّقْلَ إلَى الْغَيْرِ بِأَسْبَابِ الْمِلْكِ وَلَكَانَ الْعُقْرُ لَهُ فِيمَا إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ وَلَمَلَكَ تَزْوِيجَهَا مِنْ غَيْرِهِ كَالْأَمَةِ فَثَبَتَ أَنَّهَا عَامِلَةٌ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَإِنَّ تَصَوُّرَ ثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْمَجَازِ وَلَمَّا رَجَعَ الشَّيْخُ إلَى كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ أَعَادَ ذِكْرَهُ فَقَالَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَعْنِي مُجِيبًا لِكَلَامِهِمَا هَذَا تَصَرُّفٌ فِي التَّكَلُّمِ أَيْ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ تَصَرُّفٌ فِي اللَّفْظِ فَكَانَ الْخَلَفِيَّةُ فِي التَّكَلُّمِ فَلَا يُتَوَقَّفُ عَلَى تَصَوُّرِ الْحُكْمِ كَالِاسْتِثْنَاءِ لَمَّا كَانَ تَصَرُّفًا فِي التَّكَلُّمِ لَمْ يَتَوَقَّفْ صِحَّتُهُ عَلَى تَصَوُّرِ الْحُكْمِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْفًا إلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ صَحَّ الْإِيجَابُ وَالِاسْتِثْنَاءُ حَتَّى لَا يَقَعَ إلَّا وَاحِدَةً نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُنْتَقَى وَهُوَ اسْمُ كِتَابٍ لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ أَبِي الْفَضْلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ إيجَابَ مَا وَرَاءِ الثَّلَاثِ وَاسْتِثْنَاءَهُ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ بَاطِلٌ إذْ لَا مُزِيدَ لِلطَّلَاقِ عَلَى الثَّلَاثِ فَكَانَ هَذَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ وَيَقَعَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ مِنْ حَيْثُ التَّكَلُّمُ وَالِاسْتِثْنَاءُ تَصَرُّفٌ فِي التَّكَلُّمِ بِالْمَنْعِ مِنْ ثُبُوتِ الْمُسْتَثْنَى صَحَّ الْإِيجَابُ وَالِاسْتِثْنَاءُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا زَيْنَبُ وَفَاطِمَةُ وَهِنْدُ أَوْ خَدِيجَةُ أَوْ قَالَ عَبْدِي أَحْرَارٌ إلَّا سَالِمًا وَيَزِيعًا وَفَرْقَدَ أَوْ لَيْسَ لَهُ مِنْ الْعَبِيدِ غَيْرُهُمْ صَحَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ وَإِنْ كَانَ فِي الْحُكْمِ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ لِمَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هَذَا أَيْ الْمَجَازُ لَمَّا كَانَ تَصَرُّفًا فِي التَّكَلُّمِ صَحَّتْ الِاسْتِعَارَةُ بِهِ أَيْ بِقَوْلِهِ هَذَا ابْنِي أَوْ بِهَذَا الطَّرِيقِ لِحُكْمِ حَقِيقَتِهِ أَيْ لِلَازِمِ مَوْضُوعِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْعَقِدْ لِإِيجَابِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ أَيْ لِإِثْبَاتِ مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ فِي هَذَا الْمَحَلِّ وَمِنْ حُكْمِ الْحَقِيقَةِ أَيْ وَمِنْ لَوَازِمِ مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ الْعِتْقُ مِنْ حِينِ مِلْكِهِ فَجَعَلَ هَذَا الْكَلَامَ إقْرَارًا بِهِ أَيْ بِالْعِتْقِ مِنْ حِينِ مِلْكِهِ فَعَتَقَ الْعَبْدُ فِي الْقَضَاءِ.
قَوْلُهُ (فَعَتَقَ فِي الْقَضَاءِ) يَعْنِي لَمَّا صَارَ قَوْلُهُ هَذَا ابْنِي إقْرَارًا بِالْحُرِّيَّةِ مِنْ حِينِ مِلْكِهِ لَا إنْشَاءً لِعِتْقٍ فِي الْحَالِ يَحْكُمُ الْقَاضِي بِعِتْقِهِ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي إقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ صَرِيحًا كَاذِبًا وَكَلَامُ الشَّيْخِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الْإِقْرَارِ كَاذِبًا وَقَدْ صَرَّحَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ فِي طَرِيقَتِهِ بِمَا أَشَارَ الشَّيْخُ إلَيْهِ فَقَالَ.
فَإِنْ قِيلَ لَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِ هَذَا الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا لِإِنْشَاءِ الْحُرِّيَّةِ أَوْ لِلْإِقْرَارِ بِالْحُرِّيَّةِ لَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَقِيقَةِ إخْبَارُ الْإِنْشَاءِ وَقَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ مَعْنَاهُ عَتَقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مَلَكْته وَهَذَا إقْرَارٌ وَلَيْسَ بِإِنْشَاءٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَبْطُلُ بِالْإِكْرَاهِ وَالْهَزْلِ وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ وَحُكْمُ الْإِنْشَاءِ عَلَى خِلَافِهِ وَلَا وَجْهَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ مَحْضٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِالْبُنُوَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ وَلَمْ يُوجَدْ إعْتَاقٌ مِنْ جِهَةِ
بِخِلَافِ النِّدَاءِ؛ لِأَنَّهُ لِاسْتِحْضَارِ الْمُنَادَى بِصُورَةِ الِاسْمِ لَا بِمَعْنَاهُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَعْنَى مَطْلُوبًا لَمْ يَجِبْ الِاسْتِعَارَةُ لِتَصْحِيحِ مَعْنَاهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ بِأَجْرٍ فَإِنَّهُ يَسْتَوِي نِدَاؤُهُ وَخَبَرُهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلتَّحْرِيرِ فَصَارَ عَيْنُهُ قَائِمًا مَقَامَ مَعْنَاهُ فَصَارَ الْمَعْنَى مَطْلُوبًا بِكُلِّ حَالٍ.
ــ
[كشف الأسرار]
السَّيِّدِ وَالْإِقْرَارُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ دَلِيلُ الْكَذِبِ يَبْطُلُ كَالْإِكْرَاهِ وَالْهَزْلِ فَإِذَا كَانَ كَذِبًا بِيَقِينٍ أَوْلَى أَنْ يُبْطِلَ قُلْنَا هَذَا مَجَازٌ لِلْإِقْرَارِ بِالْحُرِّيَّةِ مِنْ حِينِ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ، وَلِهَذَا يَبْطُلُ بِالْكُرْهِ وَالْهَزْلِ وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ.
وَقَوْلُهُ إنَّهُ كَذِبٌ بِيَقِينٍ وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ قُلْنَا الِاسْتِحَالَةُ فِي الْبُنُوَّةِ لَا فِي الْحُرِّيَّةِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ عَتَقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مَلَكْته وَلَوْ نَصَّ عَلَى هَذَا لَمْ يَكُنْ مُحَالًا وَقَوْلُهُ لَمْ يُوجَدْ الْإِعْتَاقُ فَلَمْ يَصِحَّ هَذَا الْإِقْرَارُ قُلْنَا لَوْ صَرَّحَ بِهَذَا الْكَلَامِ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ عَبْدُهُ فِي الْقَضَاءِ ثُمَّ إنْ كَانَ صَادِقًا بِأَنْ سَبَقَ مِنْهُ إعْتَاقٌ يَعْتِقُ الْعَبْدُ فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ إعْتَاقٌ لَا يَعْتِقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَذَا هُنَا.
قَوْلُهُ (بِخِلَافِ النِّدَاءِ) جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ يَا ابْنِي لَا يَعْتِقُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَعَلَى مَا ذَكَرْت يَلْزَمُ أَنْ يُجْعَلَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ يَا حُرُّ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ كَمَا جَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ كَذَلِكَ فَقَالَ لَا يَلْزَمُ هَذَا؛ لِأَنَّ النِّدَاءَ فِي اللُّغَةِ مَوْضُوعٌ لِاسْتِحْضَارِ الْمُنَادَى بِصُورَةِ الِاسْمِ لَا لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الِاسْمِ فِي الْمُنَادَى أَلَا تَرَى أَنَّك تُنَادِي رَجُلًا فَتَقُولُ يَا حَسَنُ وَيَكُونُ قَبِيحًا وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعًا لِتَحْقِيقِ الْمَعْنَى فِي الْمُنَادَى لَمْ نَشْتَغِلْ بِتَصْحِيحِهِ بِإِثْبَاتِ مُوجِبِهِ اللُّغَوِيِّ الْحَقِيقِيِّ أَوْ الْمَجَازِيِّ فَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَدْ وُضِعَ لِتَحْقِيقِ الْمُخْبَرِ بِهِ فَيَجِبُ تَصْحِيحُهُ بِإِثْبَاتِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ أَوْ الْمَجَازِيِّ إنْ أَمْكَنَ.
قَوْلُهُ (بِخِلَافِ قَوْلِهِ يَا حُرُّ) جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ آخَرَ يَرُدُّ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ يَا حُرُّ أَوْ يَا عَتِيقُ يَعْتِقُ كَمَا لَوْ قَالَ هُوَ حُرٌّ فَاسْتَوَى النِّدَاءُ وَالْخَبَرُ وَعَلَى مَا ذَكَرْت يَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْتِقَ فِي النِّدَاءِ فَقَالَ إنَّمَا اسْتَوَى النِّدَاءُ وَالْخَبَرُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلتَّحْرِيرِ وَعَلَمٌ لِإِسْقَاطِ الرِّقِّ بِهِ فَكَأَنَّ عَيْنَهُ قَائِمَةٌ مَقَامَ مَعْنَاهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُسَبِّحَ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ عَبْدِي حُرٌّ يَعْتِقُ فَكَانَ الْمَعْنَى مَطْلُوبًا مِنْهُ بِكُلِّ حَالٍ فَلِهَذَا يَعْتِقُ فِي الْحَالَيْنِ.
وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ لَوْ جُعِلَ اسْمُ عَبْدِهِ حُرٌّ أَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا عِنْدَ النَّاسِ ثُمَّ نَادَاهُ بِهِ فَقَالَ يَا حُرُّ لَمْ يَعْتِقْ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الِاسْمُ مَعْرُوفًا لَهُ يَعْتِقُ بِهِ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَادَاهُ بِوَصْفٍ يَمْلِكُ إيجَابَهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ يَا ابْنِي فَإِنَّهُ نِدَاءٌ بِوَصْفٍ لَا يَمْلِكُ إيجَابَهُ فَيُنْظَرُ إلَى مَقْصُودِهِ فِيهِ وَهُوَ الْإِكْرَامُ دُونَ التَّحْقِيقِ فَصَارَ الضَّابِطُ أَنَّ النِّدَاءَ لِاسْتِحْضَارِ الْمُنَادَى بِوَصْفِهِ الْقَائِمِ بِهِ إنْ كَانَ ثَابِتًا كَقَوْلِهِ يَا طَوِيلُ يَا أَسْوَدُ وَهُوَ طَوِيلٌ أَوْ أَسْوَدُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بِهِ فَإِنْ كَانَ وَصْفًا يَصِحُّ ثُبُوتُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُنَادَى يَثْبُتُ اقْتِضَاءً كَقَوْلِهِ يَا حُرُّ يَا عَتِيقُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَانَ اسْتِحْضَارًا لِلْمُنَادَى بِصُورَةِ الِاسْمِ كَقَوْلِهِ يَا طَوِيلُ وَهُوَ قَصِيرٌ وَقَوْلِهِ يَا ابْنِي الْأَكْبَرَ سِنًّا مِنْهُ أَوْ الْأَصْغَرَ مِنْهُ وَهُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ وَبِمَا ذَكَرْنَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ أَعْتَقْتُك قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ أَوْ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ أَصْلًا فَلَمْ يَصِحَّ التَّكَلُّمُ بِهِ فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِجَعْلِهِ عِبَارَةً عَنْ لَازِمِ حَقِيقَتِهِ إذْ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ فَيَلْغُو ضَرُورَةً.
وَأَمَّا قَوْلُهُ هَذَا أَخِي فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ لِلْأُخُوَّةِ فِي مِلْكِهِ مُوجِبًا وَهُوَ الْعِتْقُ فَيُجْعَلُ كِنَايَةً عَنْ مُوجِبِهِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْأُخُوَّةَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ قَدْ يُرَادُ بِهَا الْأُخُوَّةُ فِي الدِّينِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] .