الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقِسْمٌ فِي بَيَانِ نَفْسِ الْخَبَرِ فَأَمَّا الِاتِّصَالُ بِرَسُولِ اللَّهِ عليه السلام فَعَلَى مَرَاتِبَ اتِّصَالٌ كَامِلٌ بِلَا شُبْهَةٍ وَاتِّصَالٌ فِيهِ ضَرْبُ شُبْهَةٍ صُورَةً، وَاتِّصَالٌ فِيهِ شُبْهَةٌ صُورَةً، وَمَعْنًى أَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى فَهُوَ الْمُتَوَاتِرُ.
وَهَذَا
(بَابُ الْمُتَوَاتِرِ)
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رحمه الله الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ الَّذِي اتَّصَلَ بِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اتِّصَالًا بِلَا شُبْهَةٍ حَتَّى صَارَ كَالْمُعَايَنِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ
ــ
[كشف الأسرار]
حَقِيقَةٌ فِي الْأَوَّلِ لِتَبَادُرِ الْفَهْمِ إلَيْهِ عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ الْخَبَرِ دُونَ الثَّانِي، وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِهِ فَقِيلَ إنَّهُ لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ ضَرُورِيُّ التَّصَوُّرِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَحْسُنُ فِيهِ الْخَبَرُ وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَحْسُنُ فِيهِ الْأَمْرُ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْحَقَائِقَ مُتَصَوَّرَةٌ ضَرُورَةً لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
وَرُدَّ بِأَنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا يَحْسُنُ فِيهِ الْأَمْرُ، وَمَا يَحْسُنُ فِيهِ الْخَبَرُ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمَا أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَقِيلَ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، وَقِيلَ يَدْخُلُهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ، وَقِيلَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذِهِ الْحُدُودِ بِأَنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى وَخَبَرَ رَسُولِهِ لَا يَدْخُلُهُمَا الْكَذِبُ، وَلَا التَّكْذِيبُ، وَلَا يَحْتَمِلَانِ الْكَذِبَ أَيْضًا فَلَا تَكُونُ جَامِعَةً؛ وَلِأَنَّ صَاحِبَ الْحَدِّ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْجُبَّائِيُّ، وَمَنْ تَابَعَهُ عَرَّفَ الصِّدْقَ بِأَنَّهُ الْخَبَرُ الْمُوَافِقُ لِمُخْبِرِهِ وَالْكَذِبُ نَقِيضُهُ فَكَانَ تَعْرِيفُهُ الْخَبَرَ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ دَوْرًا. وَقِيلَ هُوَ كَلَامٌ يُفِيدُ بِنَفْسِهِ إضَافَةَ مَذْكُورٍ إلَى مَذْكُورٍ بِالنَّفْيِ أَوْ بِالْإِثْبَاتِ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَانِعٍ لِدُخُولِ نَحْوِ قَوْلِك الْغُلَامُ الَّذِي لِزَيْدٍ أَوْ لَيْسَ لِزَيْدٍ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ عِنْدَ صَاحِبِ هَذَا الْحَدِّ، وَهُوَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إذْ الْكَلِمَةُ عِنْدَهُ كَلَامٌ. وَمُخْتَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْخَبَرَ هُوَ مَا تَرَكَّبَ مِنْ أَمْرَيْنِ حُكِمَ فِيهِ بِنِسْبَةِ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ نِسْبَةً خَارِجِيَّةً يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهَا.
وَإِنَّمَا قَالَ أَمْرَيْنِ دُونَ كَلِمَتَيْنِ أَوْ لَفْظَيْنِ لِيَشْمَلَ الْخَبَرَ النَّفْسَانِيَّ.، وَقَالَ حَكَمَ فِيهِ بِنِسْبَةٍ لِيُخْرِجَ مَا تَرَكَّبَ مِنْ غَيْرِ نِسْبَةٍ. وَقَالَ يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهَا لِيُخْرِجَ الْمُرَكَّبَاتِ التَّقْيِيدِيَّةَ، وَقَيَّدَ النِّسْبَةَ بِالْخَارِجِيَّةِ لِيُخْرِجَ الْأَمْرَ وَنَحْوَهُ إذْ الْمُرَادُ بِالْخَارِجِيَّةِ أَنْ يَكُونَ لِتِلْكَ النِّسْبَةِ أَمْرٌ خَارِجِيٌّ بِحَيْثُ يُحْكَمُ بِصِدْقِهَا إنْ طَابَقَتْهُ وَبِكَذِبِهَا إنْ خَالَفَتْهُ، وَلَيْسَ لِلْأَمْرِ وَنَحْوِهِ ذَلِكَ. ثُمَّ إنَّهُ يَنْقَسِمُ أَقْسَامًا ثَلَاثَةً خَبَرٌ يُعْلَمُ صِدْقُهُ بِيَقِينٍ مِثْلُ خَبَرِ الرَّسُولِ وَالْخَبَرُ الْمُوَافِقُ لِلْكِتَابِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَخَبَرٌ يُعْلَمُ كَذِبُهُ بِيَقِينٍ مَا بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَوْ نَظَرِهِ أَوْ الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ كَمَنْ أَخْبَرَ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ أَوْ أَخْبَرَ بِمَا يُحِسُّ بِخِلَافِهِ أَوْ أَخْبَرَ بِمَا يُخَالِفُ النَّصَّ الْقَاطِعَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَخَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَهُوَ عَلَى مَرَاتِبَ مَا تَرَجَّحَ جَانِبُ صِدْقِهِ كَخَبَرِ الْعَدْلِ، وَمَا تَرَجَّحَ جَانِبُ كَذِبِهِ كَخَبَرِ الْفَاسِقِ، وَمَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ كَخَبَرِ الْمَجْهُولِ.
[بَابُ الْمُتَوَاتِرِ]
فَمِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ، وَهُوَ خَبَرُ جَمَاعَةٍ مُفِيدٌ بِنَفْسِهِ الْعِلْمَ بِصِدْقِهِ، وَقَيَّدَ بِنَفْسِهِ لِيُخْرِجَ الْخَبَرَ الَّذِي عُرِفَ صِدْقُ الْقَائِلِينَ فِيهِ بِالْقَرَائِنِ الزَّائِدَةِ كَخَبَرِ جَمَاعَةٍ وَافَقَ دَلِيلَ الْعَقْلِ أَوْ دَلَّ قَوْلُ الصَّادِقِ عَلَى صِدْقِهِمْ. وَالتَّوَاتُرُ لُغَةً تَتَابُعُ أُمُورٍ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ مَأْخُوذٌ مِنْ الْوِتْرِ يُقَالُ تَوَاتَرَتْ الْكُتُبُ أَيْ جَاءَتْ بَعْضُهَا فِي إثْرِ بَعْضٍ وِتْرًا وِتْرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْقَطِعَ، وَمِنْهُ جَاءُوا تَتْرَى أَيْ مُتَتَابِعِينَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ.، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الشَّيْخُ الْمُتَوَاتِرَ بِقَوْلِهِ اتَّصَلَ بِك مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ السُّنَّةِ إذْ هُوَ فِي بَيَانِ أَقْسَامِهَا فَأَمَّا تَعْرِيفُ نَفْسِ الْمُتَوَاتِرِ بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا الْقَيْدِ كَالْخَبَرِ عَنْ الْبُلْدَانِ الْقَاصِيَةِ وَالْمُلُوكِ الْمَاضِيَةِ. ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ تَكَثُّرَ الْمُخْبِرِينَ كَثْرَةً تَمْنَعُ صُدُورَ الْكَذِبِ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّفَاقِ وَعَلَى سَبِيلِ الْمُوَاضَعَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يُتَوَهَّمُ تَوَاطُؤُهُمْ أَيْ تَوَافُقُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَأَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِمَا أَخْبَرُوا عِلْمًا يَسْتَنِدُ إلَى الْحِسِّ لَا إلَى غَيْرِهِ كَدَلِيلِ الْعَقْلِ مَثَلًا فَإِنَّ أَهْلَ بَغْدَادَ لَوْ أَخْبَرُوا عَنْ حَدَثِ الْعَالَمِ لَا يَحْصُلُ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ. وَأَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُونَ فِي الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ مُسْتَوِينَ فِي هَذِهِ الشُّرُوطِ أَعْنِي فِي الْكَثْرَةِ وَالِاسْتِنَادِ، وَإِلَيْهِ أُشِيرُ بِقَوْلِهِ وَيَدُومُ هَذَا الْحَدُّ وَاخْتَلَفُوا فِي أَقَلِّ عَدَدٍ يَحْصُلُ مَعَهُ الْعِلْمُ فَقِيلَ هُوَ خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّ
وَذَلِكَ أَنْ يَرْوِيَهُ قَوْمٌ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ، وَلَا يُتَوَهَّمُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لِكَثْرَتِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ وَتَبَايُنِ أَمَاكِنِهِمْ وَيَدُومُ هَذَا الْحَدُّ فَيَكُونُ آخِرُهُ كَأَوَّلِهِ، وَأَوْسَطُهُ كَطَرَفَيْهِ وَذَلِكَ مِثْلُ نَقْلِ الْقُرْآنِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ
ــ
[كشف الأسرار]
مَا دُونَهَا كَأَرْبَعَةٍ بَيِّنَةٌ شَرْعِيَّةٌ يَجُوزُ لِلْقَاضِي عَرْضُهَا عَلَى الْمُزَكِّينَ لِيَحْصُلَ غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ حَاصِلًا بِقَوْلِ الْأَرْبَعَةِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
وَقِيلَ اثْنَا عَشَرَ بِعَدَدِ نُقَبَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ فَإِنَّهُمْ خُصُّوا بِذَلِكَ الْعَدَدِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِمْ. وَقِيلَ أَرْبَعُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] .، وَكَانُوا أَرْبَعِينَ فَلَوْ لَمْ يُفْدِ قَوْلُهُمْ الْعِلْمَ لَمْ يَكُونُوا حَسَبًا لِاحْتِيَاجِهِ إلَى مَنْ يَتَوَاتَرُ بِهِ أَمْرُهُ. وَقِيلَ سَبْعُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 155] وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ لِمَا مَرَّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ تَحَكُّمَاتٌ فَاسِدَةٌ، وَأَنَّ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ لَيْسَ شُبْهَةً فَضْلًا عَنْ حُجَّةٍ؛ لِأَنَّهَا مَعَ تَعَارُضِهَا وَعَدَمِ مُنَاسَبَتِهَا الْمَطْلُوبَ مُضْطَرِبَةٌ إذْ مَا مِنْ عَدَدٍ يُفْرَضُ حُصُولُ الْعِلْمِ بِهِ لِقَوْمٍ إلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَحْصُلَ بِهِ لِآخَرِينَ وَلِلْأَوَّلِينَ فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْعَدَدُ هُوَ الضَّابِطُ لِحُصُولِ الْعِلْمِ لَمَا اخْتَلَفَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي عَدَدٍ مَخْصُوصٍ.
وَضَابِطُهُ مَا حَصَلَ الْعِلْمُ عِنْدَهُ فَبِحُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْعَدَدَ الَّذِي هُوَ كَامِلٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ تَوَافَقُوا عَلَى الْأَخْبَارِ لَا أَنَّا نَسْتَدِلُّ بِكَمَالِ الْعَدَدِ عَلَى حُصُولِ الْعِلْمِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِعَدَدٍ أَنَّا نَقْطَعُ بِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ أَصْلًا بَلْ لَوْ كَلَّفْنَا أَنْفُسَنَا مَعْرِفَةَ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْحَالَةَ الَّتِي يَكْمُلُ فِيهَا لَمْ نَجِدْ إلَيْهَا فِي الْعَادَةِ سَبِيلًا؛ لِأَنَّهَا تَحْصُلُ بِتَزَايُدِ الظُّنُونِ عَلَى تَدْرِيجٍ خَفِيٍّ كَمَا يَحْصُلُ كَمَالُ الْعَقْلِ بِالتَّدْرِيجِ، وَكَمَا يَحْصُلُ الشِّبَعُ بِالْأَكْلِ، وَالرَّيُّ بِالْمَاءِ وَالسُّكْرُ بِالْخَمْرِ بِالتَّدْرِيجِ وَالْقُوَّةُ الْبَشَرِيَّةُ قَاصِرَةٌ عَنْ الْوُقُوفِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ. ثُمَّ لَفْظُ الْكِتَابِ يُشِيرُ إلَى شُرُوطٍ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ بِقَوْلِهِ لَا يُتَوَهَّمُ تَوَاطُؤُهُمْ، وَقَوْلُهُ وَيَدُومُ هَذَا الْحَدُّ يُشِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ إلَى شَرْطٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَقَوْلُهُ وَذَلِكَ أَيْ صَيْرُورَتُهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْمُوعِ أَنْ يَرْوِيَهُ قَوْمٌ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ يُشِيرُ إلَى اشْتِرَاطِ خُرُوجِ عَدَدِ الْمُخْبِرِينَ عَنْ الْإِحْصَاءِ وَالْحَصْرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ قَوْمٌ؛ لِأَنَّهُمْ مَتَى كَانُوا مُحْصِينَ كَانَ لِإِمْكَانِ التَّوَاطُؤِ مَدْخَلٌ فِي خَبَرِهِمْ عَادَةً فَشُرِطَ خُرُوجُهُمْ عَنْ الْإِحْصَاءِ وَالْحَصْرِ دَفْعًا لِذَلِكَ الْإِمْكَانِ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَإِنَّ الْحَجِيجَ أَوْ أَهْلَ الْجَامِعِ لَوْ أَخْبَرُوا عَنْ وَاقِعَةٍ صَدَّتْهُمْ عَنْ الْحَجِّ أَوْ عَنْ الصَّلَاةِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ مَحْصُورِينَ.
وَقَوْلُهُ: وَعَدَالَتِهِمْ يُشِيرُ إلَى اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ وَالْعَدَالَةِ كَمَا قَالَهُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْعَدَالَةَ ضَابِطَا الصِّدْقِ وَالتَّحْقِيقِ، وَالْكُفْرَ وَالْفِسْقَ مَظِنَّتَا الْكَذِبِ وَالْمُجَازَفَةِ فَشُرِطَ عَدَمُهُمَا. وَعِنْدَ الْعَامَّةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْقَطْعِ، وَقَوْلُهُ وَتَبَايُنِ أَمَاكِنِهِمْ أَيْ تَبَاعُدِهَا يُشِيرُ إلَى اشْتِرَاطِ اخْتِلَافِ بُلْدَانِهِمْ أَوْ أَوْطَانِهِمْ وَمَحَلَّاتِهِمْ، وَهُوَ مُخْتَارُ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي دَفْعِ إمْكَانِ التَّوَاطُؤِ. وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ أَيْضًا لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ مُتَوَطِّنِي بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ؛ وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْكَثْرَةِ إلَى كَمَالِ الْعَدَدِ كَمَا بَيَّنَّا يَدْفَعُ هَذَا الْإِمْكَانَ. وَكَأَنَّ الشَّيْخَ إنَّمَا أَشَارَ إلَى هَذِهِ الْمَعَانِي؛ لِأَنَّهَا أَقْطَعُ لِلِاحْتِمَالِ، وَأَظْهَرُ فِي الْإِلْزَامِ عَلَى الْخُصُومِ، لَا لِأَنَّهَا شَرْطٌ حَقِيقَةً بِحَيْثُ يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْعِلْمِ بِالتَّوَاتُرِ عَلَيْهَا بَلْ الشَّرْطُ فِيهِ حَقِيقَةُ مَا ذَكَرْنَاهُ بَدْءًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَجَابَ عَنْ أَخْبَارِ الْمَجُوسِ، وَأَخْبَارِ الْيَهُودِ بِأَنَّ اسْتِوَاءَ الطَّرَفَيْنِ لَمْ يُوجَدْ، وَلَمْ يُجِبْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا كَفَرَةً فَلَا يَكُونُ تَوَاتُرُهُمْ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ حَتَّى صَارَ كَالْمُعَايَنِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ أَيْ حَتَّى صَارَ هَذَا الْخَبَرُ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا عَايَنْتَ الرَّسُولَ عليه السلام وَسَمِعْتَهُ مِنْهُ بِحَاسَّةِ سَمْعِكَ، وَلَيْسَ لَفْظُ الْمُعَايَنِ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْقِسْمُ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ بِمَنْزِلَةِ الْعِيَانِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ الْعِلْمَ، بِطَرِيقِ الْخَبَرِ أَصْلًا، وَهَذَا رَجُلٌ سَفِيهٌ لَمْ يَعْرِفْ نَفْسَهُ، وَلَا دِينَهُ، وَلَا دُنْيَاهُ وَلَا أُمَّهُ، وَلَا أَبَاهُ مِثْلُ مَنْ أَنْكَرَ الْعِيَانَ، وَقَالَ قَوْمٌ إنَّ الْمُتَوَاتِرَ يُوجِبُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ لَا يَقِينٍ
ــ
[كشف الأسرار]
وَالْمَذْكُورُ فِي التَّقْوِيمِ، وَمَتَى ارْتَفَعَتْ الشُّبْهَةُ ضَاهَى الْمُتَّصِلَ مِنْهُ بِكَ بِحَاسَّةِ سَمْعِك.، وَلَوْ قِيلَ كَالْمُعَايَنِ وَالْمَسْمُوعِ لَكَانَ أَحْسَنَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ لَفْظَ الْمُعَايَنِ؛ لِأَنَّ سَمَاعَ الْكَلَامِ مَعَ مُعَايَنَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَالنَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ أَقْرَبُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ السَّمَاعِ بِدُونِ مُعَايَنَتِهِ، وَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ يَصِفَ الْمُتَكَلِّمَ بِالْمُعَايَنِ دُونَ الْكَلَامِ إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ حَرَكَةَ الشَّفَةِ الَّتِي تُدْرَكُ بِالْبَصَرِ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ فَيَصِحُّ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَصْفُ الْكَلَامِ بِكَوْنِهِ مُعَايَنًا كَمَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ مَسْمُوعًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِثْلَ أُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَأَعْدَادِ الطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ.
قَوْلُهُ (وَهَذَا الْقِسْمُ) وَلَمَّا بَيَّنَ تَفْسِيرَ الْمُتَوَاتِرِ وَشُرُوطَهُ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِهِ فَقَالَ، وَهَذَا الْقِسْمُ أَيْ الْمُتَوَاتِرُ مِنْ الْأَخْبَارِ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ بِمَنْزِلَةِ الْعِيَانِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا. وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ وَذَهَبَتْ السُّمَنِيَّةُ، وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ. وَالْبَرَاهِمَةُ، وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ مُنْكِرِي الرِّسَالَةِ بِأَرْضِ الْهِنْدِ إلَى أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَكُونُ حُجَّةً أَصْلًا، وَلَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِهِ بِوَجْهٍ لَا عِلْمَ يَقِينٍ، وَلَا عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ بَلْ يُوجِبُ ظَنًّا. وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ يُوجِبُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ لَا عِلْمَ يَقِينٍ وَيُرِيدُونَ بِهِ أَنَّ جَانِبَ الصِّدْقِ يَتَرَجَّحُ فِيهِ بِحَيْثُ تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ الْقُلُوبُ مِثْلَ مَا يَثْبُتُ بِالدَّلِيلِ الظَّاهِرِ، وَلَكِنْ لَا يَنْتَفِي عَنْهُ تَوَهُّمُ الْكَذِبِ وَالْغَلَطِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ إلَّا مِنْ حَيْثُ إنَّ الطُّمَأْنِينَةَ أَقْرَبُ إلَى الْيَقِينِ مِنْ الظَّنِّ وَلِهَذَا كَانَ مُتَمَسَّكُ الْفَرِيقَيْنِ وَاحِدًا، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يُوجِبُ الْيَقِينَ اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ عَامَّتُهُمْ إلَى أَنَّهُ يُوجِبُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا. وَذَهَبَ أَبُو الْقَاسِمِ الْكَعْبِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَبُو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ يُوجِبُ عِلْمًا اسْتِدْلَالِيًّا وَسَنُبَيِّنُهُ فِي آخِرِ الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (وَهَذَا) أَيْ مَنْ أَنْكَرَ حُصُولَ الْعِلْمِ بِالْخَبَرِ أَصْلًا رَجُلٌ سَفِيهٌ، وَهُوَ الَّذِي يَشْتَغِلُ بِمَا لَيْسَ لَهُ عَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ وَيَلْحَقُهُ ضَرَرُ ذَلِكَ. لَمْ يَعْرِفْ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ لَا تَثْبُتُ لَهُ إلَّا بِالْخَبَرِ فَإِذَا أَنْكَرَ كَوْنَ الْخَبَرِ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ لَا يَحْصُلُ لَهُ مَعْرِفَةُ نَفْسِهِ. وَلَا يُقَالُ لَعَلَّ مَعْرِفَةَ كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً مِنْ الْمَاءِ حَصَلَتْ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالْوَلَدِ فَإِنَّهُ لَمَّا عَايَنَهُ أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ الْمَاءِ اعْتَبَرَ وُجُودَ نَفْسِهِ بِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إنْكَارِ الْخَبَرِ عَدَمُ مَعْرِفَةِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ مَآلُ ذَلِكَ إلَى الْخَبَرِ أَيْضًا فَإِنَّ كَوْنَهُ مَخْلُوقًا مِنْ الْمَاءِ لَيْسَ بِمَحْسُوسٍ، وَلَا مَعْقُولٍ إذْ الْفِعْلُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْخَبَرِ، وَلَا دِينِهِ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَتِهِ الْخَبَرُ وَالسَّمَاعُ أَيْضًا خُصُوصًا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْأَحْكَامِ، وَلَا دُنْيَاهُ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ تَحْصُلُ بِالْخَبَرِ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَا هُوَ مُهْلِكٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ نَافِعٌ وَالْعَقْلُ لَا يُطِقْ التَّجْرِبَةَ لِاحْتِمَالِ الْهَلَاكِ، وَكَذَا مَعْرِفَةُ الْأَبِ وَالْأُمِّ تَحْصُلُ بِالْخَبَرِ؛ لِأَنَّ التَّرْبِيَةَ وَالْقِيَامَ بِأُمُورِهِ يَحْصُلُ مِنْ الْمُلْتَقِطَةِ وَالظِّئْرِ كَمَا يَحْصُلُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ ثُمَّ كُلُّ أَحَدٍ يَجِدُ نَفْسَهُ سَاكِنَةً بِمَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَتَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِهَا قَطْعًا بِالْخَبَرِ بِمَنْزِلَةِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ لَهُ بِالْعِيَانِ وَالْمُشَاهَدَةِ فَكَانَ مُنْكِرُهُ كَالْمُنْكِرِ لِلْمُشَاهَدَاتِ مِنْ السُّوفِسْطَائِيَّة فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُكَالَمَةَ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله: لَا يَكُونُ الْكَلَامُ مَعَ هَذَا الْمُنْكِرِ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِجَاجِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ، وَمَا ثَبَتَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعِلْمِ دُونَ مَا يَثْبُتُ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا وَالِاسْتِدْلَالُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ مَعَهُ مِنْ حَيْثُ التَّقْرِيرُ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ بِمَا لَا يَشُكُّ هُوَ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ فِي أَنَّهُ مُكَابَرَةٌ وَجَحْدٌ لِمَا يُعْلَمُ اضْطِرَارًا بِمَنْزِلَةِ اللَّازِمِ مَعَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِلْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ. فَنَقُولُ إذَا رَجَعَ الْمَرْءُ إلَى نَفْسِهِ عَلِمَ أَنَّهُ مَوْلُودٌ اضْطِرَارًا بِالْخَبَرِ كَمَا عَلِمَ أَنَّ وَلَدَهُ مَوْلُودٌ بِالْمُعَايَنَةِ.
وَعَلِمَ أَنَّ أَبَوَيْهِ كَانَا مِنْ جِنْسِهِ بِالْخَبَرِ كَمَا عَلِمَ أَنَّ أَوْلَادَهُ مِنْ جِنْسِهِ بِالْعِيَانِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا ثُمَّ شَابَ
وَمَعْنَى الطُّمَأْنِينَةِ عِنْدَهُمْ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَخَالَجَهُ شَكٌّ أَوْ يَعْتَرِيَهُ وَهْمٌ قَالُوا إنَّ الْمُتَوَاتَرَ صَارَ جَمْعًا بِالْآحَادِ، وَخَبَرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُحْتَمَلٌ، وَالِاجْتِمَاعُ يَحْتَمِلُ التَّوَاطُؤَ وَذَلِكَ كَإِخْبَارِ الْمَجُوسِ قِصَّةَ زَرَادُشْتَ اللَّعِينِ، وَإِخْبَارِ الْيَهُودِ صَلْبَ عِيسَى عليه السلام، وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الزَّيْغِ بَعْدَ الْهُدَى. بَلْ الْمُتَوَاتِرُ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ ضَرُورَةً بِمَنْزِلَةِ الْعِيَانِ بِالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ بِالْأُذُنِ وَضْعًا وَتَحْقِيقًا أَمَّا الْوَضْعُ فَإِنَّا نَجِدُ الْمَعْرِفَةَ بِآبَائِنَا بِالْخَبَرِ مِثْلَ الْمَعْرِفَةِ بِأَوْلَادِنَا عِيَانًا وَنَجِدُ الْمَعْرِفَةَ بِأَنَّا مَوْلُودُونَ نَشَأْنَا عَنْ صِغَرٍ مِثْلَ مَعْرِفَتِنَا بِهِ فِي أَوْلَادِنَا وَتَجِدُ الْمَعْرِفَةَ بِجِهَةِ الْكَعْبَةِ خَبَرًا مِثْلَ مَعْرِفَتِنَا بِجِهَةِ مَنَازِلِنَا سَوَاءٌ، وَأَمَّا التَّحْقِيقُ فَلِأَنَّ الْخَلْقَ خُلِقُوا عَلَى هِمَمٍ مُتَفَاوِتَةٍ وَطَبَائِعَ مُتَبَايِنَةٍ لَا تَكَادُ تَقَعُ أُمُورُهُمْ إلَّا مُخْتَلِفَةً فَلَمَّا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ كَانَ ذَلِكَ لِدَاعٍ إلَيْهِ، وَهُوَ سَمَاعٌ أَوْ اخْتِرَاعٌ وَبَطَلَ الِاخْتِرَاعُ؛ لِأَنَّ تَبَايُنَ الْأَمَاكِنِ وَخُرُوجَهُمْ عَنْ الْإِحْصَاءِ مَعَ الْعَدَالَةِ يَقْطَعُ الِاخْتِرَاعَ فَتَعَيَّنَ الْوَجْهُ الْآخَرُ
ــ
[كشف الأسرار]
بِالْخَبَرِ كَمَا عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ وَلَدِهِ بِالْعِيَانِ. وَعَلِمَ أَنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ كَانَتَا قَبْلَهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ بِالْخَبَرِ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّهُمَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لِلْحَالِ بِالْعِيَانِ فَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَهُوَ مُكَابِرٌ جَاحِدٌ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَنْكَرَ الْعِيَانَ قَوْله (وَمَعْنَى الطُّمَأْنِينَةِ عِنْدَهُمْ مَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَخَالَجَهُ) أَيْ يَقَعَ فِيهِ شَكٌّ، أَوْ يَعْتَرِيَهُ أَيْ يَغْشَاهُ وَيَدْخُلَهُ وَهْمٌ أَيْ غَلَطٌ مِنْ وَهَمَ يَهِمُ إذَا غَلِطَ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّا نُوَافِقُهُمْ فِي أَنَّهُ يُوجِبُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ أَيْضًا، وَلَكِنَّا نَعْنِي بِالطُّمَأْنِينَةِ الْيَقِينَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الْيَقِينِ أَيْضًا لِاطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ إبْرَاهِيمَ عليه السلام:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] . أَرَادَ بِهِ كَمَالَ الْيَقِينِ فَقَالَ مَعْنَاهَا عِنْدَهُمْ كَذَا لِيَتَحَقَّقَ الْخِلَافُ قَالُوا؛ لِأَنَّ الْمُتَوَاتِرَ صَارَ جَمْعًا بِالْآحَادِ وَخَبَرُ كُلِّ وَاحِدٍ مُحْتَمِلٌ لِلْكَذِبِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ بِانْضِمَامِ الْمُحْتَمَلِ إلَى الْمُحْتَمَلِ لَا يَزْدَادُ إلَّا الِاحْتِمَالُ إذْ لَوْ انْقَطَعَ الِاحْتِمَالُ.
وَلَمْ يَجُزْ الْكَذِبُ عَلَيْهِمْ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ لَانْقَلَبَ الْجَائِزُ مُمْتَنِعًا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فَثَبَتَ أَنَّ الِاجْتِمَاعَ مُحْتَمَلٌ لِلتَّوَاطُؤِ عَلَى الْكَذِبِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا يَثْبُتُ عِلْمُ الْيَقِينِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُخْبِرِ غَيْرَ مَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ مَوْجُودٌ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ، وَإِذَا جَازَ الْكَذِبُ عَلَيْهِمْ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ انْتَفَى الْيَقِينُ عَنْ خَبَرِهِمْ عَلَى أَنَّ اجْتِمَاعَ الْجَمِّ الْغَفِيرِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْآرَاءِ، وَقَصْدَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَكْلِ طَعَامٍ وَاحِدٍ وَوُقُوعُ الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى تَصَوُّرِهِ لَا مَحَالَةَ ثُمَّ إذَا انْتَفَى الْيَقِينُ عَنْهُ فَأَمَّا أَنْ يَثْبُتَ بِهِ ظَنٌّ كَمَا قَالَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ أَوْ طُمَأْنِينَةٌ كَمَا قَالَ الْفَرِيقُ الثَّانِي وَذَلِكَ أَيْ الِاجْتِمَاعُ عَلَى التَّوَاطُؤِ عَلَى الْكَذِبِ مِثْلُ إخْبَارِ الْمَجُوسِ عَنْ زَرَادُشْتَ اللَّعِينِ فَإِنَّهُ خَرَجَ فِي زَمَنِ مَلِكٍ يُسَمَّى كشتاسب بِبَلْخٍ وَادَّعَى الرِّسَالَةَ مِنْ أَصْلَيْنِ قَدِيمَيْنِ وَآمَنَ بِهِ الْمَلِكُ، وَأَطْبَقَتْ الْمَجُوسُ عَلَى نَقْلِ مُعْجِزَاتِهِ، وَقَدْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنَّا عَدَدًا ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ كَذِبًا بِيَقِينٍ إذْ لَوْ كَانَ صِدْقًا لَزِمَ مِنْهُ صِحَّةُ دَعْوَاهُ، وَهِيَ بَاطِلَةٌ بِيَقِينٍ، وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ اتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِ عِيسَى عليه السلام وَصَلْبِهِ وَالنَّصَارَى وَافَقُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَنَقَلُوا ذَلِكَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، وَعَدَدُهُمْ لَا يَخْفَى كَثْرَةً وَوُفُورًا ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ كَذِبُهُمْ بِالنَّصِّ الْقَاطِعِ فَثَبَتَ أَنَّ احْتِمَالَ الْكَذِبِ لَا يَنْقَطِعُ بِالتَّوَاتُرِ، وَمَعَ بَقَائِهِ لَا يَثْبُتُ عِلْمُ الْيَقِينِ، وَلَكِنْ يَثْبُتُ بِهِ طُمَأْنِينَةٌ لِلْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْلَمُ حَيَاةَ رَجُلٍ ثُمَّ يَمُرُّ بِدَارِهِ فَيَسْمَعُ النَّوْحَ وَيَرَى آثَارَ التَّهَيُّؤِ لِغُسْلِ الْمَيِّتِ وَدَفْنِهِ فَيُخْبِرُونَهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ فَيَتَبَدَّلُ بِهَذَا الْحَادِثِ عِلْمُهُ بِحَيَاتِهِ بِعِلْمِهِ بِمَوْتِهِ عَلَى وَجْهِ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ حِيلَةٌ مِنْهُمْ وَتَلْبِيسٌ لِغَرَضٍ كَانَ لِأَهْلِهِ فِي ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ.
وَهَذَا أَيْ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُتَوَاتِرَ يُوجِبُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ لَا يَقِينٍ قَوْلٌ بَاطِلٌ يُؤَدِّي إلَى الْكُفْرِ فَإِنَّ وُجُودَ الْأَنْبِيَاءِ، وَمُعْجِزَاتِهِمْ لَا يَثْبُتُ خُصُوصًا فِي زَمَانِنَا إلَّا بِالنَّقْلِ فَإِذَا لَمْ يُوجِبْ الْمُتَوَاتِرُ يَقِينًا لَا يَثْبُتُ الْعِلْمُ لِأَحَدٍ فِي زَمَانِنَا بِنُبُوَّتِهِمْ وَحَقِّيَّتِهِمْ حَقِيقَةً، وَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ، وَضْعًا أَيْ يُوجِبُ بِوَضْعِهِ وَذَاتِهِ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى اسْتِدْلَالٍ، وَتَحْقِيقًا أَيْ يَدُلُّ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى أَنَّهُ يُوجِبُ الْيَقِينَ لَوْ رَجَعَتْ إلَى الِاسْتِدْلَالِ. وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ وَنَوْعٌ مِنْ الْمَعْقُولِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَقَعَ اتِّفَاقًا أَوْ لِلتَّدَيُّنِ أَوْ لِلْمُوَاضَعَةِ مِنْهُمْ عَلَيْهِ أَوْ لِدَاعٍ دَعَاهُمْ إلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ صُدُورَ الْكَذِبِ اتِّفَاقًا مِنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ خَرَجُوا عَنْ حَدِّ الْإِحْصَاءِ لَا يُتَصَوَّرُ عَادَةً كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى مَأْكَلٍ وَاحِدٍ، وَمَشْرَبٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ اتِّفَاقًا. وَكَذَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ مِثْلِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْكَذِبِ تَدَيُّنًا
وَالطُّمَأْنِينَةُ عَلَى مَا فَسَّرَهُ الْمُخَالِفُ إنَّمَا يَقَعُ بِغَفْلَةٍ مِنْ الْمُتَأَمِّلِ لَوْ تَأَمَّلَ حَقَّ تَأَمُّلِهِ لَوَضَحَ لَهُ فَسَادُ بَاطِنِهِ فَلَمَّا اطْمَأَنَّ بِظَاهِرِهِ كَانَ أَمْرًا مُحْتَمَلًا فَأَمَّا أَمْرٌ يُؤَكِّدُ بَاطِنُهُ ظَاهِرَهُ، وَلَا يَزِيدُ التَّأَمُّلُ إلَّا تَحْقِيقًا فَلَا كَالدَّاخِلِ عَلَى قَوْمٍ جَلَسُوا لِلْمَأْتَمِ يَقَعُ لَهُ الْعِلْمُ بِهِ عَنْ غَفْلَةٍ عَنْ التَّأَمُّلِ، وَلَوْ تَأَمَّلَ حَقَّ تَأَمُّلِهِ لَوَضَحَ لَهُ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ فَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْمُتَوَاتِرِ قَلَّمَا يَجِبُ عَنْ دَلِيلٍ أَوْجَبَ عِلْمًا بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ بِهِ لِمَعْنًى فِي الدَّلِيلِ لَا لِغَفْلَةٍ مِنْ الْمُتَأَمِّلِ، وَصَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا قَوْمًا عُدُولًا أَئِمَّةً لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ، وَلَا يَتَّفِقُ أَمَاكِنُهُمْ طَالَتْ صُحْبَتُهُمْ وَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ بَعْدَمَا تَفَرَّقُوا شَرْقًا وَغَرْبًا، وَهَذَا يَقْطَعُ الِاخْتِرَاعَ، وَلَمَا تُصُوِّرَ الْخَفَاءُ مَعَ بُعْدِ الزَّمَانِ وَلِهَذَا صَارَ الْقُرْآنُ مُعْجِزَةً؛ لِأَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ وَاشْتَغَلُوا بِبَذْلِ الْأَرْوَاحِ فَكَانَ خَبَرُهُمْ فِي نِهَايَةِ الْبَيَانِ قَاطِعًا احْتِمَالَ الْوَضْعِ يَقِينًا بِلَا شُبْهَةٍ إذْ لَوْ كَانَ شُبْهَةُ وَضْعٍ لَمَا خَفِيَ مَعَ كَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ وَاخْتِلَاطِ أَهْلِ النِّفَاقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] ذَلِكَ مِثْلُ سَلَامَةِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الْمُعَارَضَةِ وَعَجْزِ الْبَشَرِ عَنْ ذَلِكَ إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمَا خَفِيَ مَعَ كَثْرَةِ الْمُتَعَنِّتِينَ، وَهَذَا مِثْلُهُ.
ــ
[كشف الأسرار]
مَعَ كَوْنِ الْعَقْلِ صَارِفًا عَنْهُ وَدَاعِيًا إلَى الصِّدْقِ، وَعَدَمَ دَعْوَةِ الطَّبْعِ وَالْهَوَى إلَيْهِ لِعَدَمِ اللَّذَّةِ وَالرَّاحَةِ فِي نَفْسِ الْكَذِبِ أَمْرٌ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ عَادَةً.
وَكَذَا الثَّالِثُ؛ لِأَنَّ كَثْرَتَهُمْ وَتَفَرُّقَ أَمَاكِنِهِمْ وَاخْتِلَافَ هِمَمِهِمْ يَمْنَعُ عَنْ الْمُوَاضَعَةِ عَادَةً.، وَكَذَا الرَّابِعُ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إمَّا الرَّغْبَةُ أَوْ الرَّهْبَةُ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَرْءَ يُقَدَّمُ عَلَى الْكَذِبِ لِرَغْبَتِهِ إلَى الْجَاهِ وَالْمَالِ، وَأَنْوَاعِ النَّفْعِ أَوْ لِخَوْفِ الْإِضْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَالِهِ، وَأَهْلِهِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ مِمَّنْ يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ، وَهَذَا الدَّاعِي مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ شُمُولُهُ فِي الْجَمَاعَةِ الْعَظِيمَةِ لِاسْتِغْنَاءِ الْبَعْضِ عَلَى حِشْمَةِ الْأَمْرِ وَجَاهِهِ، وَمَالِهِ بِالْكَذِبِ لِكَمَالِ جَاهِهِ، وَكَثْرَةِ أَمْوَالِهِ، وَكَذَا احْتِمَالُ خَوْفِ الضَّرَرِ مَعْدُومٌ فِي حَقِّ الْبَعْضِ لِكَمَالِ قُوَّتِهِ بِنَفْسِهِ، وَأَتْبَاعِهِ نَحْوَ السَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا تَعَيَّنَ كَوْنُهُ صِدْقًا إذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الْأَخْبَارِ فَكَانَ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فَتْحَ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُفْضِي إلَى تَطْوِيلِ الْكَلَامِ وَيَزْدَادُ ذَاكَ إشْكَالَاتٍ وَاعْتِرَاضَاتٍ لَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ إلَّا بِالْجَوَابِ الْقَاطِعِ عَنْهَا، وَلَا يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهَا إلَّا بَعْدَ تَدْقِيقَاتٍ عَظِيمَةٍ، وَمِنْ الْبَيِّنِ لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنَّ عِلْمَهُ بِوُجُودِ مَكَّةَ، وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَظْهَرُ مِنْ عِلْمِهِ بِصِحَّةِ الِاسْتِدْلَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَالتَّمَسُّكُ بِالدَّلِيلِ الْخَفِيِّ مَعَ وُجُودِ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ، وَبِنَاءُ الْوَاضِحِ عَلَى الْخَفِيِّ غَيْرُ جَائِزٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ بِهِ ضَرُورِيٌّ وَالتَّشْكِيكُ وَالتَّرْدِيدُ فِي الضَّرُورِيَّاتِ بَاطِلٌ لَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ كَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ.
قَوْلُهُ (وَالطُّمَأْنِينَةُ عَلَى مَا فَسَّرَهُ الْمُخَالِفُ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ سَلَّمْنَا أَنَّ تَوَاطُؤَ مِثْلِ هَذَا الْجَمْعِ خِلَافُ الْعَادَةِ، وَلِذَلِكَ أَثْبَتْنَا عِلْمَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَوَهُّمَ الِاتِّفَاقِ مُنْقَطِعٌ بِالْكُلِّيَّةِ فَلِبَقَاءِ هَذَا التَّوَهُّمِ لَمْ يَثْبُتْ عِلْمُ الْيَقِينِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَالِ مَنْ رَأَى آثَارَ الْمَوْتِ فِي دَارِ إنْسَانٍ، وَأَخْبَرَ بِمَوْتِهِ. فَقَالَ الطُّمَأْنِينَةُ أَيْ الِاطْمِئْنَانُ عَلَى مَا فَسَّرَهُ الْمُخَالِفُ فَإِنَّهُ عِلْمٌ يَتَخَالَجُهُ شَكٌّ أَوْ يَعْتَرِيهِ وَهْمٌ. وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ عَلَى تَفْسِيرِ الْمُخَالِفِ إنَّمَا يَقَعُ فِيمَا يَقَعُ مِنْ الصُّوَرِ لِغَفْلَةٍ مِنْ الْمُتَأَمِّلِ حَيْثُ يُكْتَفَى بِالظَّاهِرِ، وَلَا يُتَأَمَّلُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَلَوْ تَأَمَّلَ فِي الْأَمْرِ حَقَّ تَأَمُّلِهِ وَجَدَّ فِي طَلَبِ حَقِيقَتِهِ لَوَضَحَ لَهُ فَسَادُ بَاطِنِهِ فَأَمَّا أَمْرٌ يُؤَكِّدُ بَاطِنُهُ ظَاهِرَهُ، وَلَا يَزِيدُهُ التَّأَمُّلُ إلَّا تَحْقِيقًا فَلَا أَيْ لَا يُوجِبُ طُمَأْنِينَةً عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ بَلْ يُوجِبُ يَقِينًا ثُمَّ بَيَّنَ نَظِيرَ مَا يُوجِبُ طُمَأْنِينَةً فَقَالَ كَالدَّاخِلِ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لَوَضَحَ لَهُ فَسَادُ بَاطِنِهِ، جَلَسُوا لِلْمَأْتَمِ أَيْ لِلْمُصِيبَةِ وَالْمَأْتَمُ عِنْدَ الْعَرَبِ النِّسَاءُ يَجْتَمِعْنَ فِي فَرَحٍ أَوْ حُزْنٍ وَالْجَمْعُ الْمَآتِمُ وَعِنْدَ الْعَامَّةِ الْمُصِيبَةُ يَقُولُونَ كُنَّا فِي مَأْتَمِ فُلَانٍ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ فِي مَنَاحَةِ فُلَانٍ كَذَا فِي الصِّحَاحِ. يَقَعُ لَهُ الْعِلْمُ أَيْ عِلْمُ الطُّمَأْنِينَةِ.
وَقَوْلُهُ فَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْمُتَوَاتِرِ نَظِيرُ قَوْلِهِ فَأَمَّا أَمْرٌ يُؤَكِّدُ بَاطِنُهُ ظَاهِرَهُ لِمَعْنًى فِي الدَّلِيلِ، وَهُوَ انْقِطَاعُ تَوَهُّمِ الْمُوَاطَأَةِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا كُلَّمَا زَادَ الْمَرْءُ تَأَمُّلًا ازْدَادَ يَقِينًا فَالتَّشْكِيكُ فِيهِ يَكُونُ دَلِيلُ نُقْصَانِ الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ التَّشْكِيكِ فِي حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ.
ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْمَعْنَى الَّذِي فِي الدَّلِيلِ بِقَوْلِهِ وَصَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ عَنْهُمْ كَانُوا كَذَا وَذَكَرَ أَوْصَافًا يُؤَثِّرُ كُلُّ وَاحِدٍ فِي قَطْعِ تَوَهُّمِ الْكَذِبِ مِنْ الْعَدَالَةِ، وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ وَطُولِ صُحْبَةِ الرَّسُولِ عليه السلام وَاتِّفَاقِ الْكَلِمَةِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ.
ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا أَيْ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا يَقْطَعُ الِاخْتِرَاعَ أَيْ الْإِنْشَاءَ وَالِابْتِدَاءَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ عَادَةً. وَقَوْلُهُ، وَلَمَا تُصُوِّرَ الْخَفَاءُ مَعَ بُعْدِ الزَّمَانِ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ إنْ صَحَّ ذَلِكَ أَيْ، وَلَوْ تُصُوِّرَ الِاخْتِرَاعُ مِنْهُمْ لَمَا تُصُوِّرَ خَفَاءُ اخْتِرَاعِهِمْ مَعَ بُعْدِ الزَّمَانِ. وَلَفْظُ بَعْضِ الْكُتُبِ، وَلَوْ كَانَ لَظَهَرَ لَنَا خُصُوصًا مَعَ بُعْدِ الزَّمَانِ، وَكَأَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَى قَوْلِهِ، وَهَذَا يَقْطَعُ الِاخْتِرَاعَ بِأَنْ يُقَالَ تَوَهُّمُ التَّوَاطُؤِ عَلَى الْكَذِبِ
فَأَمَّا أَخْبَارُ زَرَادُشْتَ فَتَخْيِيلٌ كُلُّهُ فَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ أَدْخَلَ قَوَائِمَ الْفَرَسِ فِي بَطْنِ الْفَرَسِ فَإِنَّمَا رَوَوْا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي خَاصَّةِ الْمَلِكِ وَحَاشِيَتِهِ وَذَلِكَ آيَةُ الْوَضْعِ وَالِاخْتِرَاعِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْمَلِكَ لَمَّا رَأَى شَهَامَتَهُ تَابَعَهُ عَلَى التَّزْوِيرِ وَالِاخْتِرَاعِ فَكَانَ الْعِلْمُ بِهِ لِغَفْلَةِ الْمُتَأَمِّلِ دُونَ صِحَّةِ الدَّلِيلِ
ــ
[كشف الأسرار]
غَيْرُ مُنْقَطِعٍ بِمَا ذَكَرْتُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تُصُوِّرَ مِنْهُمْ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الصِّدْقِ وَصُحْبَةُ الرَّسُولِ عليه السلام مَعَ تَبَايُنِ أَمَاكِنِهِمْ، وَكَثْرَتِهِمْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ الِاخْتِرَاعُ أَيْضًا. فَقَالَ لَوْ تُصُوِّرَ الِاخْتِرَاعُ مِنْهُمْ لَمْ يُتَصَوَّرْ خَفَاؤُهُ وَعَدَمُ ظُهُورِهِ مَعَ بُعْدِ الزَّمَانِ، وَكَثْرَةِ الْمُخَالِفِينَ وَالْمُعَانِدِينَ فِيهِمْ لِدَعْوَةِ الطِّبَاعِ إلَى إفْشَاءِ الْأَسْرَارِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَضِيقُ صَدْرُهُ عَنْ سِرِّهِ حَتَّى يُفْشِيَهُ إلَى غَيْرِهِ وَيَسْتَكْتِمَهُ ثُمَّ السَّامِعُ يُفْشِيَهُ إلَى غَيْرِهِ فَيَصِيرَ ظَاهِرًا عَنْ قَرِيبٍ فَلَوْ كَانَ هُنَا اخْتِرَاعٌ لَظَهَرَ ذَلِكَ خُصُوصًا عِنْدَ طُولِ الْمُدَّةِ، وَكَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ. وَلِهَذَا أَيْ؛ وَلِأَنَّ تَصَوُّرَ احْتِمَالِ الْخَفَاءِ مُنْقَطِعٌ.
صَارَ الْقُرْآنُ مُعْجِزَةً أَيْ تَحَقَّقَ وَظَهَرَ كَوْنُهُ مُعْجِزًا؛ لِأَنَّ إعْجَازَهُ تَوَقَّفَ عَلَى عَجْزِهِمْ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ عَجْزُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَدَرُوا عَلَيْهِ لَأَتَوْا بِهِ بَعْدَ تَحَدِّيهِمْ فِي مَحَافِلِهِمْ بِذَلِكَ، وَلَمَا اشْتَغَلُوا بِبَذْلِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ، وَلَوْ أَتَوْا بِهِ لَمَا خَفِيَ ذَلِكَ مَعَ كَثْرَةِ الْمُشْرِكِينَ وَتَبَاعُدِ الزَّمَانِ كَمَا لَمْ تَخْفَ خُرَافَاتُ مُسَيْلِمَةَ، وَهَذَيَانَاتُ الْمُتَنَبِّئِينَ قَاطِعًا احْتِمَالَ الْوَضْعِ أَيْ احْتِمَالَ الِاخْتِرَاعِ وَالتَّقَوُّلِ، وَذَلِكَ أَيْ انْقِطَاعُ احْتِمَالِ الِاخْتِرَاعِ. الْمُتَعَنِّتِينَ أَيْ الطَّالِبِينَ لِمَعَايِبِ الْإِسْلَامِ يُقَالُ جَاءَنِي فُلَانٌ مُتَعَنِّتًا إذَا جَاءَ يَطْلُبُ زَلَّتَكَ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا أَخْبَارُ زَرَادُشْتَ) جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِنَقْلِ الْمَجُوسِ قِصَّةَ زَرَادُشْتَ بِالتَّوَاتُرِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ مَا نَقَلَ الْمَجُوسُ عَنْهُ مِنْ أَفْعَالِهِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْعَادَةِ مِثْلُ عَدَمِ تَضَرُّرِهِ بِوَضْعِ طَسْتٍ مِنْ نَارٍ عَلَى صَدْرِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْمُشَعْوِذِينَ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَعَدَمُ تَضَرُّرِهِ بِالنَّارِ مِنْ بَابِ خَوَاصِّ الْأَشْيَاءِ لَا مِنْ بَابِ الْإِعْجَازِ فَأَنَّا قَدْ رَأَيْنَا الْمُشَعْوِذِينَ يَلْعَبُونَ بِالنَّارِ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ بِهِمْ، وَمِثْلُهُ فِي مَلَاعِبِهِمْ وَشَعْوَذَتِهِمْ كَثِيرٌ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ أَدْخَلَ قَوَائِمَ الْفَرَسِ فِي بَطْنِ الْفَرَسِ فَبَقِيَ مُعَلَّقًا فِي الْهَوَاءِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ فَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ شَرْطُ التَّوَاتُرِ، وَهُوَ اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ؛ لِأَنَّهُمْ رَوَوْا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي خَاصَّةِ الْمَلِكِ وَحَاشِيَتِهِ أَيْ صِغَارِ قَوْمِهِ لَا فِي كِبَارِهِمْ وَلَا فِي الْأَسْوَاقِ، وَمَجَامِعِ النَّاسِ، وَقَدْ يُتَصَوَّرُ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْقَوْمِ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ التَّوَاتُرُ، وَلَا حَقِيقَةُ دَعْوَاهُ، إلَّا أَنَّ أَيْ: لَكِنَّ ذَلِكَ الْمَلِكَ، وَهُوَ كشتاسب لَمَّا رَأَى شَهَامَتَهُ أَيْ دَهَاءَهُ وَذَكَاءَهُ تَابَعَهُ عَلَى التَّزْوِيرِ وَالِاخْتِرَاعِ وَوَاطَأَهُ عَلَى أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ وَيَجْعَلَهُ أَحَدَ أَرْكَانِ مَمْلَكَتِهِ لِيَدْعُوَ النَّاسَ إلَى تَعْظِيمِ الْمُلُوكِ وَتَحْسِينِ أَفْعَالِهِمْ، وَمُرَاعَاةِ حُقُوقِهِمْ فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، وَيَكُونُ الْمَلِكُ مِنْ وَرَائِهِ بِالسَّيْفِ يُجْبِرُ النَّاسَ عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِهِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى هَذِهِ الْمُوَاطَأَةِ حَاجَتُهُ إلَيْهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْتٌ قَدِيمٌ فِي الْمُلْكِ، وَكَانَ النَّاسُ لَا يُعَظِّمُونَهُ فَاحْتَالُوا بِهَذِهِ الْحِيلَةِ ثُمَّ نَقَلُوا عَنْهُ أُمُورًا لَا أَصْلَ لَهَا تَرْوِيجًا لِأَمْرِهِ وَتَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْمِلْكِ.
وَقَدْ سَمِعْتُ عَنْ بَعْضِ الثِّقَاتِ أَنَّهُ كَانَ لِلْمَلِكِ أُخْتٌ جَمِيلَةٌ فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ، وَقَدْ شَغَفَ بِهَا الْمَلِكُ، وَكَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لَكِنَّهُ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ انْقِلَابِ الرَّعِيَّةِ وَالْمُلْكِ وَاحْتِرَازًا عَنْ الْمَلَامَةِ فَتَفَرَّسَ زَرَادُشْتُ اللَّعِينُ مِنْهُ وَادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَأَبَاحَ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ فَوَافَقَ ذَلِكَ رَأْيَ الْمَلِكِ فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِمُتَابَعَتِهِ فَفَشَا أَمْرُهُ بَيْنَ النَّاسِ وَنَقَلُوا عَنْهُ أُمُورًا كُلُّهَا كَذِبٌ لَا أَصْلَ لَهَا.
وَالثَّانِي أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا تَسْلِيمَ جَدَلٍ أَنَّ مَا نُقِلَ عَنْهُ مِنْ أَفْعَالِهِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْعَادَةِ لَمْ يَكُنْ كَذِبًا لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ
وَكَذَلِكَ أَخْبَارُ الْيَهُودِ مَرْجِعُهَا إلَى الْآحَادِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ دَخَلُوا عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَصْلُوبُ فَلَا يُتَأَمَّلُ عَادَةً مَعَ تَغَيُّرِ هَيْئَاتِهِ وَعَلَى أَنَّهُ أُلْقِيَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ عِيسَى عليه السلام شَبَهُهُ كَمَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى، {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]
ــ
[كشف الأسرار]
عَلَى صِدْقِ دَعْوَاهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ظُهُورَ خِلَافِ الْعَادَةِ لَا يَجُوزُ عَلَى يَدِ الْمُتَنَبِّي إذَا ادَّعَى شَيْئًا لَا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ أَدَّى إلَى اشْتِبَاهِ أَمْرِ النُّبُوَّةِ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى مَا يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلَى كَذِبِهِ وَبُطْلَانِهِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَظْهَرَ عَلَى يَدِهِ خِلَافُ الْعَادَةِ اسْتِدْرَاجًا كَمَا يَجُوزُ ظُهُورُهُ عَلَى يَدِ الْمُتَأَلِّهِ لِعَدَمِ تَأْدِيَتِهِ حِينَئِذٍ إلَى اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ فَإِنَّ مَنْ ادَّعَى أَنَّ الْخَمْسَةَ ثُلُثُ الْعَشَرَةِ، وَظَهَرَ عَلَى يَدِهِ خِلَافُ عَادَةٍ لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ لِظُهُورِ كَذِبِهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ ثُمَّ إنَّ اللَّعِينَ ادَّعَى أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ أَصْلَيْنِ قَدِيمَيْنِ يزدان وآهرمن، وَهَذَا قَوْلٌ بَيِّنُ التَّنَاقُضِ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ عُرِفَ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ فَسَادُهُ وَبُطْلَانُهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَظْهَرَ عَلَى يَدَيْهِ خِلَافُ الْعَادَةِ اسْتِدْرَاجًا لِظُهُورِ كَذِبِ دَعْوَاهُ كَمَا يَجُوزُ ظُهُورُهُ عَلَى يَدَيْ الدَّجَّالِ اللَّعِينِ كَمَا جَاءَ بِهِ الْأَثَرُ قَوْلُهُ.
(وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ أَخْبَارِ الْمَجُوسِ أَخْبَارُ الْيَهُودِ مَرْجِعُهَا إلَى الْآحَادِ فَإِنَّ الَّذِينَ دَخَلُوا عَلَى عِيسَى عليه السلام وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ كَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ أَوْ سِتَّةً، وَاحْتِمَالُ التَّوَطُّؤِ عَلَى الْكَذِبِ فِيهِمْ ثَابِتٌ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ الْمَسِيحَ بِحِلْيَتِهِ، وَإِنَّمَا جَعَلُوا لِرَجُلٍ جُعَلًا فَدَلَّهُمْ عَلَى شَخْصٍ فِي بَيْتٍ فَهَجَمُوا عَلَيْهِ، وَقَتَلُوهُ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوا عِيسَى، وَأَشَاعُوا الْخَبَرَ وَبِمِثْلِهِ لَا يَحْصُلُ التَّوَاتُرُ. وَكَذَلِكَ أَخْبَارُ النَّصَارَى بِقَتْلِهِ لَمْ تَثْبُتْ بِالتَّوَاتُرِ فَإِنَّ خَبَرَ قَتْلِهِ مِنْهُمْ مُسْنَدٌ إلَى أَرْبَعَةٍ مِنْهُمْ يُوحَنَّا، وَمَتَى وَلُوقَا، وَمَرْعَشُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ يُوحَنَّا وَيُوَفِّنَا، وَمَتَى، وَمَارْقِيشَ وَيَتَحَقَّقُ الْكَذِبُ مِنْهُمْ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمَصْلُوبُ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الصَّلْبُ أَمْرٌ مُعَايَنٌ، وَقَدْ شَاهَدَهُ جَمَاعَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ فَقَالَ الْمَصْلُوبُ يُنْظَرُ مِنْ بَعِيدٍ، وَلَا يُتَأَمَّلُ فِيهِ عَادَةً؛ لِأَنَّ الطِّبَاعَ تَنْفِرُ عَنْ التَّأَمُّلِ فِيهِ مَعَ أَنَّ الْحِلْيَةَ وَالْهَيْئَةَ تَتَغَيَّرُ بِهِ أَيْضًا فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّوَاتُرَ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي صَلْبِهِ كَمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي قَتْلِهِ عَلَى أَنَّ الْعِيسَوِيَّةَ مِنْ النَّصَارَى، وَهُوَ فِرْقَةٌ كَثِيرَةٌ تُوَافِقُنَا أَنَّ عِيسَى عليه السلام لَمْ يُقْتَلْ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ عز وجل وَعَلَيْهِ نَصَارَى الْحَبَشَةِ، وَفِي الْيَهُودِ مَنْ يَقُولُ بِهِ أَيْضًا كَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ.
وَقَوْلُهُ عَلَى أَنَّهُ أُلْقِيَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ عِيسَى عليه السلام شَبَهُهُ جَوَابٌ آخَرُ لِلسُّؤَالِ الْمُقَدَّرِ يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ التَّوَاتُرَ فِي قَتْلِ رَجُلٍ ظَنُّوهُ عِيسَى وَصَلْبُهُ قَدْ وُجِدَ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ عِيسَى، وَإِنَّمَا كَانَ مُشَبَّهًا بِهِ كَمَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:{وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] . وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ «أَنَّ عِيسَى عليه السلام قَالَ لِمَنْ كَانَ مَعَهُ مَنْ يُرِيدُ مِنْكُمْ أَنْ يُلْقِيَ اللَّهُ شَبَهِي عَلَيْهِ فَيُقْتَلَ، وَلَهُ الْجَنَّةُ فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا فَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى شَبَهَ عِيسَى عليه السلام فَقُتِلَ الرَّجُلُ وَرُفِعَ عِيسَى عليه السلام إلَى السَّمَاءِ» .
ثُمَّ يَرِدُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ بِإِلْقَاءِ الشَّبَهِ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْحَقَائِقِ كَمَا قَالَهُ السُّوفِسْطَائِيَّة فَإِنَّهُ لَمَّا جَازَ إلْقَاءُ شَبَهِ عِيسَى عَلَى غَيْرِهِ جَازَ إلْقَاءُ شَبَهِ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى غَيْرِهِ. وَيُؤَدِّي أَيْضًا إلَى أَنَّ مَا نُقِلَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ السَّامِعِينَ تَلَقَّوْهُ مِنْ رَجُلٍ ظَنُّوهُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ بَلْ أُلْقِيَ شَبَهُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ. وَيُؤَدِّي أَيْضًا إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ لَا يَتَحَقَّقُ لِمَنْ يُعَايِنُهُمْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ شَبَهُهُمْ مُلْقًى عَلَى غَيْرِهِمْ كَيْفَ وَالْإِيمَانُ بِالْمَسِيحِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَمَنْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُ الْمَسِيحُ كَانَ الْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبًا عَلَى زَعْمِكُمْ، وَفِي هَذَا قَوْلٌ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ عَلَى عِبَادِهِ
وَذَلِكَ جَائِزٌ اسْتِدْرَاجًا، وَمَكْرًا عَلَى قَوْمٍ مُتَعَنِّتِينَ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَكَانَ مُحْتَمَلًا مَعَ أَنَّ الرُّوَاةَ أَهْلُ تَعَنُّتٍ وَعَدَاوَةٍ فَبَطَلَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ بِالتَّوَاتُرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَصَارَ مُنْكِرُ الْمُتَوَاتِرِ، وَمُخَالِفُهُ كَافِرًا.
ــ
[كشف الأسرار]
الْكُفْرَ بِالْحُجَّةِ، وَهِيَ الْمُعْجِزَةُ الَّتِي جَرَتْ عَلَى يَدِ عِيسَى عليه السلام فَكَانَ بَاطِلًا.
فَأَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ اسْتِدْرَاجًا يَعْنِي إلْقَاءُ الشَّبَهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْرَاجِ جَائِزٌ فِي حَقِّ قَوْمٍ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ لِيَزْدَادُوا طُغْيَانًا، وَمَرَضًا إلَى مَرَضِهِمْ، وَلَكِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّ قَوْمِ الرَّسُولِ لِيُؤْمِنُوا بِهِ حَتَّى لَوْ جَاءَهُ قَوْمٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِيُؤْمِنُوا بِهِ رَفَعَ اللَّهُ الشَّبَهَ مِنْهُ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى التَّلْبِيسِ فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ لَوْ ادَّعَى أَحَدٌ النُّبُوَّةَ بَيْنَ قَوْمٍ، وَفِي يَدِهِ حَجَرُ الْمِغْنَاطِيسِ، وَلَمْ يَعْرِفْ الْقَوْمُ الْحَجَرَ، وَقَالَ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَايَ أَنْ يَجْذِبَ هَذَا الْحَجَرُ الْحَدِيدَ رَفَعَ اللَّهُ تِلْكَ الْخَاصِّيَّةَ عَنْ ذَلِكَ الْحَجَرِ لِئَلَّا يَصِيرَ تَلْبِيسًا. ثُمَّ فِيهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، وَهِيَ دَفْعُ شَرِّ الْأَعْدَاءِ عَنْ الْمَسِيحِ بِوَجْهٍ لَطِيفٍ وَلِلَّهِ تَعَالَى لَطَائِفُ فِي دَفْعِ الْمَكَارِهِ عَنْ الرُّسُلِ كَمَا دَفَعَ شَرَّ أَبِي لَهَبٍ عَنْ الرَّسُولِ عليه السلام بِمَنْعِهِ عَنْ رُؤْيَةِ الرَّسُولِ، وَقَدْ كَانَ جَالِسًا مَعَ أَبِي بَكْرٍ حَيْثُ قَالَ أَبُو لَهَبٍ أَيْنَ صَاحِبُك الَّذِي هَجَانِي أَرَادَ بِهِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] . وَقَوْلُهُ فَكَانَ أَيْ خَبَرُهُمْ مُحْتَمِلًا لِلْكَذِبِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ مَرْجِعُهَا إلَى الْآحَادِ.
مَعَ أَنَّ الرُّوَاةَ يَعْنِي السَّبْعَةَ الدَّاخِلِينَ عَلَى عِيسَى عليه السلام فَبَطَلَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْمُخَالِفُ مِنْ قِصَّةِ زَرَادُشْتَ، وَأَخْبَارِ الْيَهُودِ عَنْ قَتْلِ عِيسَى وَصَلْبِهِ بِالْمُتَوَاتِرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَخْيِيلٍ، وَلَا مِنْ خَاصَّةِ مِلْكٍ، وَلَيْسَ مَرْجِعُهُ إلَى الْآحَادِ أَيْضًا يَعْنِي لَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ هَذِهِ الْوُجُوهِ تَمَكُّنُ الشُّبْهَةِ فِي الْمُتَوَاتِرِ؛ لِأَنَّ مَا نَشَأَ مِنْهُ فَسَادُهَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْمُتَوَاتِرِ أَصْلًا. أَوْ مَعْنَاهُ لَمَّا كَانَتْ قِصَّةُ زَرَادُشْتَ، وَأَخْبَارُ الْيَهُودِ مَبْنِيَّةً عَلَى التَّخْيِيلِ وَرَاجِعَةً إلَى الْآحَادِ كَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلْكَذِبِ، وَقَدْ وَرَدَتْ نُصُوصٌ قَاطِعَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ بِخِلَافِهَا مِثْلَ قَوْله تَعَالَى:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} [النساء: 157] . وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ بَطَلَتْ تِلْكَ الْأَخْبَارُ الْمُحْتَمَلَةُ أَيْ ظَهَرَ كَذِبُهَا وَبُطْلَانُهَا بِهَذِهِ النُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي لَا مَدْخَلَ لِلِاحْتِمَالِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمُحْتَمَلَ لَا يَبْقَى مُعْتَبَرًا إذَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ كَمَنْ أَخْبَرَ بِهَلَاكِ زَيْدٍ ثُمَّ رَآهُ بَعْدُ حَيًّا. وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ فَسَيَأْتِي جَوَابُهُ. ثُمَّ مَنْ قَالَ الْمُتَوَاتِرُ يُوجِبُ عِلْمًا اسْتِدْلَالِيًّا تَمَسَّكَ بِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ لَيْسَ إلَّا تَرْتِيبُ مُقَدِّمَاتٍ صَادِقَةٍ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ أَمْرٌ مَحْسُوسٌ، وَأَنَّ الْمُخْبِرِينَ جَمَاعَةٌ لَا حَامِلَ لَهُمْ عَلَى التَّوَاطُؤِ عَلَى الْكَذِبِ، وَأَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ كَذِبًا فَيَلْزَمُ مِنْهُ الصِّدْقُ لِعَدَمِ الْوَاسِطَةِ وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ضَرُورِيًّا لَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَمَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الشَّيْءَ أَعْظَمُ مِنْ جُزْئِهِ، وَأَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَكُونُ مَعْدُومًا وَحَيْثُ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ مُكْتَسَبٌ بِمَنْزِلَةِ مَا يَثْبُتُ مِنْ الْعِلْمِ بِالنُّبُوَّةِ عِنْدَ مَعْرِفَةِ الْمُعْجِزَاتِ.
وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ اسْتِدْلَالِيًّا لَاخْتَصَّ بِهِ مَنْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِدْلَالِ، وَقَدْ رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهِمْ فَإِنَّ وَاحِدًا فِي صِغَرِهِ يَعْلَمُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ بِالْخَبَرِ كَمَا يَعْلَمُهُمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الِاسْتِدْلَالَ أَصْلًا. وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ اسْتِدْلَالِيًّا لَجَازَ الْخِلَافُ فِيهِ عَقْلًا؛ لِأَنَّ شَأْنَ الْعُلُومِ الِاسْتِدْلَالِيَّة كَذَلِكَ. قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ: الْعِلْمُ بِالْمُلُوكِ الْمَاضِيَةِ وَالْبُلْدَانِ النَّائِيَةِ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ وَصُنْعٍ مِنْ جِهَةِ الْعَالِمِ بِهِ، وَهُوَ حَدُّ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، وَإِنَّمَا اشْتَغَلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِالِاسْتِدْلَالِ لِلْإِلْزَامِ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ الضَّرُورَةَ تَعَنُّتًا، وَمُكَابَرَةً، وَهُوَ يَعْتَقِدُ الْعِلْمَ الِاسْتِدْلَالِيَّ فَيَقُومُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ هَذَا مَعْلُومًا لَمَا خَالَفْنَاكُمْ قُلْنَا مَنْ يُخَالِفُ فِي هَذَا فَإِنَّمَا يُخَالِفُ بِلِسَانِهِ أَوْ لِخَبْطٍ فِي عَقْلِهِ أَوْ عِنَادٍ، وَلَوْ تَرَكْنَا مَا عَلِمْنَا ضَرُورَةً بِقَوْلِكُمْ لَلَزِمَكُمْ تَرْكُ الْمَحْسُوسَاتِ بِسَبَبِ