المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌بَابُ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ)

- ‌أَلْفَاظُ الْعُمُومِ قِسْمَانِ

- ‌[الْقَسْم الْأَوَّل عَامٌّ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ وَعَامٌّ بِمَعْنَاهُ دُونَ صِيغَتِهِ]

- ‌ مَا هُوَ فَرْدٌ وُضِعَ لِلْجَمْعِ

- ‌[أَنْوَاع الْعَامُّ بِمَعْنَاهُ دُونَ صِيغَتِهِ]

- ‌ كَلِمَةُ كُلٍّ

- ‌[كَلِمَةُ الْجَمِيعِ]

- ‌كَلِمَةُ مَا

- ‌ كَلِمَةُ الَّذِي

- ‌ النَّكِرَةُ إذَا اتَّصَلَ بِهَا دَلِيلُ الْعُمُومِ

- ‌[الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الْعَامِّ مَعْنًى لَا صِيغَةً]

- ‌ لَامُ التَّعْرِيفِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْرِيفَ بِعَيْنِهِ لِمَعْنَى الْعَهْدِ

- ‌[النَّكِرَةِ إذَا اتَّصَلَ بِهَا وَصْفٌ عَامٌّ]

- ‌ كَلِمَةُ أَيُّ

- ‌ النَّكِرَةُ الْمُفْرَدَةُ فِي مَوْضِعِ إثْبَاتٍ

- ‌[بَابُ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الظَّاهِرُ وَالنَّصُّ وَالْمُفَسَّرُ وَالْمُحْكَمُ]

- ‌(بَابُ أَحْكَامِ الْحَقِيقَةِ) (وَالْمَجَازِ وَالصَّرِيحِ) (وَالْكِنَايَةِ)

- ‌[تعارض الْحَقِيقَة وَالْمَجَاز]

- ‌طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ

- ‌ الِاتِّصَالَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ قِبَلِ حُكْمِ الشَّرْعِ يَصْلُحُ طَرِيقًا لِلِاسْتِعَارَةِ

- ‌[يُسْتَعَارَ الْأَصْلُ لِلْفَرْعِ وَالسَّبَبُ لِلْحُكْمِ]

- ‌ الِاسْتِعَارَةُ لِلْمُنَاسَبَةِ فِي الْمَعَانِي

- ‌[الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ التَّكَلُّمِ لَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ]

- ‌ الْعَمَلَ بِالْحَقِيقَةِ مَتَى أَمْكَنَ سَقَطَ الْمَجَازُ

- ‌إِذَا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُتَعَذِّرَةٌ أَوْ مَهْجُورَةٌ صِيرَ إلَى الْمَجَازِ

- ‌قَدْ يَتَعَذَّرُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ مَعًا إذَا كَانَ الْحُكْمُ مُمْتَنِعًا

- ‌ الْكَلَامَ إذَا كَانَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ وَمَجَازٌ مُتَعَارَفٌ

- ‌(بَابُ جُمْلَةِ مَا يُتْرَكُ بِهِ الْحَقِيقَةُ)

- ‌دَلَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْعَادَةِ

- ‌ الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي نَفْسِهِ

- ‌ الثَّابِتُ بِسِيَاقِ النَّظْمِ

- ‌ الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ مَحَلِّ الْكَلَامِ

- ‌(بَابُ حُرُوفِ) (الْمَعَانِي)

- ‌[معانى الْوَاوُ]

- ‌[معانى الْفَاءُ]

- ‌[معانى ثُمَّ]

- ‌[معانى بَلْ]

- ‌[معانى لَكِنْ]

- ‌[معانى أَوْ]

- ‌بَابُ حَتَّى) :

- ‌بَابُ حُرُوفِ الْجَرِّ)

- ‌[مَعْنَى الْبَاءُ]

- ‌[مَعْنَى عَلَى]

- ‌[مَعْنَى مِنْ]

- ‌[مَعْنَى إلَى]

- ‌[مَعْنَى فِي]

- ‌[حُرُوفِ الْقَسَمِ]

- ‌ اَيْمُ اللَّهِ

- ‌ أَسْمَاءُ الظُّرُوفِ

- ‌ حُرُوفُ الِاسْتِثْنَاءِ

- ‌ حُرُوفِ الشَّرْطِ

- ‌(بَابُ الصَّرِيحِ) (وَالْكِنَايَةِ)

- ‌بَابُ وُجُوهِ) (الْوُقُوفِ عَلَى) (أَحْكَامِ النَّظْمِ)

- ‌مَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ وَأُرِيدَ بِهِ الْقَصْدُ أَوْ الْإِشَارَةُ

- ‌ دَلَالَةُ النَّصِّ

- ‌[دَلَالَة الْمُقْتَضِي]

- ‌الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ

- ‌ الْحُكْمَ إذَا أُضِيفَ إلَى مُسَمًّى بِوَصْفٍ خَاصٍّ كَانَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِهِ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الْوَصْفِ

- ‌ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ

- ‌ الْعَامَّ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ

- ‌ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ مُوجِبٌ الْعَدَمَ

- ‌ مَنْ حَمَلَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ

- ‌(بَابُ الْعَزِيمَةِ) (وَالرُّخْصَةِ)

- ‌[أَقْسَام الْعَزِيمَةُ]

- ‌[أَقْسَام الرُّخَصُ]

- ‌{بَابُ حُكْمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي أَضْدَادِهِمَا}

- ‌(بَابُ بَيَانِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ)

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الصَّوْمِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الْعُشْرِ

- ‌[سَبَبُ وُجُوبِ الْحَجِّ]

- ‌ سَبَبُ الْخَرَاجِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ

- ‌سَبَبُ الْكَفَّارَاتِ

- ‌سَبَبُ الْمُعَامَلَاتِ

- ‌(بَابُ بَيَانِ أَقْسَامِ) (السُّنَّةِ)

- ‌(بَابُ الْمُتَوَاتِرِ)

- ‌(بَابُ الْمَشْهُورِ)

- ‌(بَابُ خَبَرِ الْوَاحِدِ)

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ الرَّاوِي الَّذِي جُعِلَ خَبَرُهُ حُجَّةً)

- ‌[الرَّاوِي الْمَعْرُوفُ]

- ‌[الرَّاوِي الْمَجْهُولُ]

- ‌بَابُ بَيَانِ شَرَائِطِ الرَّاوِي)

- ‌[بَابُ تَفْسِيرِ شُرُوطِ الرَّاوِي وَتَقْسِيمِهَا]

الفصل: ‌ الثابت بدلالة محل الكلام

عَلَى الْفَوْرِ لِمَا قُلْنَا وَمِثَالُهُ كَثِيرٌ.

وَأَمَّا‌

‌ الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ مَحَلِّ الْكَلَامِ

فَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [غافر: 58] سَقَطَ عُمُومُهُ وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ لِأَنَّ مَحَلَّ الْكَلَامِ وَهُوَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ لَا يَحْتَمِلُهُ لِأَنَّ وُجُوهَ الِاسْتِوَاءِ قَائِمَةٌ فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْكَلَامِ

ــ

[كشف الأسرار]

الْمُتَكَلِّمِ لِأَنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ لِكَلَامِ الدَّاعِي وَأَنَّهُ قَدْ دَعَاهُ إلَى تَغَدِّي الْفِدَاءِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ لَا إلَى غَيْرِهِ فَيُقَيَّدُ بِهِ وَإِذَا تَقَيَّدَ كَلَامُ الدَّاعِي بِهِ يُقَيَّدُ الْجَوَابُ بِهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَتَغَدَّى الْفِدَاءَ الَّذِي دَعَوْتنِي إلَيْهِ وَقِسْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَسْأَلَةَ الْخُرُوجِ.

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا لَوْ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ إنَّك تَغْتَسِلُ فِي هَذِهِ الدَّارِ اللَّيْلَةَ مِنْ الْجَنَابَةِ فَقَالَ إنْ اغْتَسَلْت فَعَبْدِي حُرٌّ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْيَمِينِ سَبَقَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله وَلَمْ يُسْبَقْ بِهِ وَكَانُوا يَقُولُونَ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَمِينُ مُؤَبَّدَةٌ كَقَوْلِهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَمُؤَقَّتَةٌ كَقَوْلِهِ لَا أَفْعَلُ الْيَوْمَ كَذَا فَأَخْرَجَ أَبُو حَنِيفَةَ قِسْمًا ثَالِثًا وَهُوَ مَا يَكُونُ مُؤَبَّدًا لَفْظًا وَمُوَقَّتًا مَعْنًى وَأَخَذَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِهِ حَيْثُ دُعِيَا إلَى نُصْرَةِ إنْسَانٍ فَحَلَفَا أَنْ لَا يَنْصُرَاهُ ثُمَّ نَصَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يَحْنَثَا وَبِنَاءُ الْكَلَامِ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ مَقْصُودِ الْمُتَكَلِّمِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ لِمَا بَيَّنَّا فِي قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ} [الإسراء: 64] إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِقْدَارِ وَالتَّمْكِينِ لِاسْتِحَالَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْصِيَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الدَّاعِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي الْتِمَاسٌ لَا أَمْرٌ لِمَعْنًى فِي الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الِالْتِمَاسَ ضَرُورَةً قَوْلُهُ (عَلَى الْفَوْرِ) أَيْ عَلَى الْحَالِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ فَارَتْ الْقِدْرُ إذَا غَلَتْ فَاسْتُعِيرَ لِلسُّرْعَةِ ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهِ الْحَالَةُ الَّتِي لَا رَيْثَ فِيهَا وَلَا لُبْثَ فَقِيلَ جَاءَ فُلَانٌ مِنْ فَوْرِهِ أَيْ مِنْ سَاعَتِهِ وَفِي الصِّحَاحِ ذَهَبْت فِي حَاجَةٍ ثُمَّ أَتَيْت فُلَانًا مِنْ فَوْرِي أَيْ قَبْلَ أَنْ أَسْكُنَ وَالتَّحْقِيقُ الْأَوَّلُ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ.

[الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ مَحَلِّ الْكَلَامِ]

قَوْلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [غافر: 58] حَقِيقَةٌ لِلْعُمُومِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الثَّابِتَ بِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ لُغَةً نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ إلَّا أَنَّ الْعَمَلَ بِعُمُومِهَا مُتَعَذِّرٌ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الصِّفَاتِ مِثْلُ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْعَقْلِ وَالذُّكُورَةِ وَغَيْرِهَا فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْبَعْضِ لِنُبُوَّةِ الْمَحَلِّ عَنْ قَبُولِ الْعُمُومِ ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى أَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ فَحَوَى الْكَلَامِ وَهُوَ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْبَصَرِ فِي هَذَا النَّظِيرِ وَنَفْيُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْفَوْزِ فِي قَوْله تَعَالَى {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] وَذَهَبَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ إلَى نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا عَلَى الْعُمُومِ فِيمَا أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِهِ مُتَمَسِّكِينَ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْعُمُومِ وَاجِبٌ مَهْمَا أَمْكَنَ فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ سُقُوطُ الْعَمَلِ بِهِ فِيمَا بَقِيَ كَالْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ فَإِنَّ ذَاتَ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتَهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَهُ بَقِيَ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ وَلَنَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمَّا لَمْ يَقْبَلْ الْعُمُومَ لِعَدَمِ صُدُورِهِ فِي مَحَلِّ الْعُمُومِ لَمْ يَنْعَقِدْ لِلْعُمُومِ أَصْلًا لِأَنَّ الشَّيْءَ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ مَحَلِّهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قِيلَ إنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ فَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ النَّصِّ وَعَلَى مَا يَتَيَقَّنُ بِهِ أَنَّهُ مُرَادٌ بِخِلَافِ الْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ انْعَقَدَ لِلْعُمُومِ ثُمَّ خُصَّ بَعْضُ الْأَفْرَادِ بِعَارِضٍ لَحِقَهُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ الْمُعَارِضِ فَيَبْقَى مَا وَرَاءَهُ عَلَى الْعُمُومِ.

وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ عِنْدَهُ وَأَنَّ دِيَتَهُ لَا يَكُونُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ وَأَنَّ اسْتِيلَاءَ الْكَافِرِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ سَبَبَ الْمِلْكِ كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَالِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] وَالْقَوْلُ

ص: 103

وَهُوَ التَّغَايُرُ فِي الْبَصَرِ وَكَذَلِكَ كَافُ التَّشْبِيهِ لَا يُوجِبُ الْعُمُومَ لِمَا قُلْنَا مِنْ قِيَامِ الْمُغَايَرَةِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ حَتَّى إذَا قِيلَ زَيْدٌ مِثْلُك لَمْ يَثْبُتْ عُمُومُهُ إلَّا أَنْ يَقْبَلَ الْمَحَلُّ الْعُمُومَ مِثْلُ قَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِيَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا فَإِنَّ هَذَا عَامٌّ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْمَحَلَّ يَحْتَمِلُهُ.

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ النَّبِيِّ عليه السلام «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَرُفِعَ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ سَقَطَتْ حَقِيقَتُهُ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ غَيْرَ الْخَطَأِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ بَلْ هُوَ مُتَصَوَّرٌ فَسَقَطَ حَقِيقَتُهُ وَصَارَ ذِكْرُ الْخَطَأِ وَالْعَمَلِ مَجَازًا عَنْ حُكْمِهِ وَمُوجَبِهِ وَمُوجَبُهُ نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ أَحَدُهُمَا الثَّوَابُ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ وَالْمَأْثَمُ فِي الْحُرُمَاتِ وَالثَّانِي الْحُكْمُ الْمَشْرُوعُ فِيهِ مِنْ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَانِ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ

ــ

[كشف الأسرار]

بِانْتِفَاءِ الْمُسَاوَاةِ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مُمْكِنٌ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَعِنْدَنَا نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ مُخْتَصٌّ بِالْفَوْزِ بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20] فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [غافر: 58] لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ حَتَّى يَقْتَصِرَ الْبَصِيرُ بِالْأَعْمَى وَيَسْتَوِيَانِ فِي الدِّيَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْبَصَرِ فَكَذَا هَذَا قَوْلُهُ (وَهُوَ التَّغَايُرُ فِي الْبَصَرِ) الْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَمَى الْقَلْبِ وَبَصَرُهُ لِأَنَّ ذِكْرَ الْقَضِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ فِي ذِهْنِ كُلِّ أَحَدٍ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذُكِرَ فِي التَّفْسِيرِ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى أَيْ الْمُشْرِكُ الَّذِي لَا يُبْصِرُ الرُّشْدَ وَالْبَصِيرُ أَيْ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُبْصِرُهُ.

قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ كَافُ التَّشْبِيهِ) يَعْنِي كَمَا أَنَّ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ وَالْمُمَاثَلَةِ لَا يُوجِبُ الْعُمُومَ عِنْدَ نَبْوَةِ الْمَحَلِّ عَنْهُ فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الْمُمَاثَلَةِ بِذِكْرِ حَرْفِ التَّشْبِيهِ أَوْ بِلَفْظِ الْمِثْلِ أَوْ بِغَيْرِهِمَا لَا يُوجِبُ الْعُمُومَ عِنْدَ نَبْوَةِ الْمَحَلِّ أَيْضًا فَيُحْمَلُ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَيَقَّنُ مِثَالُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ سَارِقُ أَمْوَاتِنَا كَسَارِقِ أَحْيَائِنَا لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ فِيهِ بِالْعُمُومِ لِانْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَيَقَّنُ وَهُوَ الْإِثْمُ فِي الْآخِرَةِ دُونَ حُكْمِ الدُّنْيَا وَهُوَ الْقَطْعُ وَإِلَّا إذَا قَبِلَ الْمَحَلُّ الْعُمُومَ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِهِ حِينَئِذٍ لِارْتِفَاعِ الْمَانِعِ لِأَنَّ الْمَحَلَّ يَحْتَمِلُهُ إذْ الْمُمَاثَلَةُ ثَابِتَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حِسًّا وَطَبْعًا وَكَذَا يَثْبُتُ حُكْمًا لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ التَّشْبِيهِ إثْبَاتُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْحُكْمِ فَيَكُونُ عَامًّا وَرَأَيْت فِي حَاشِيَةٍ أَنَّا إنَّمَا عَمِلْنَا بِالْعُمُومِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه لِأَنَّ فِيهِ حَقْنَ الدَّمِ وَلَمْ نَعْمَلْ بِالْعُمُومِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها لِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ الْحَدِّ وَالْحَدُّ يُحْتَالُ لِدَرْئِهِ لَا لِإِثْبَاتِهِ قَوْلُهُ (وَمِنْ هَذَا الْبَابِ) أَيْ وَمِمَّا تُرِكَتْ الْحَقِيقَةُ فِيهِ بِدَلَالَةِ مَحَلِّ الْكَلَامِ قَوْلُهُ عليه السلام «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» .

وَقَوْلُهُ عليه السلام «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُوجَدَ الْعَمَلُ إلَّا بِالنِّيَّةِ نَظَرًا إلَى كَلِمَةِ الْحَصْرِ وَأَنْ لَا يُوجَدَ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَالْإِكْرَاهُ أَصْلًا نَظَرًا إلَى اسْتِنَادِ الِارْتِفَاعِ إلَى مَا هُوَ مُحَلًّى بِاللَّامِ الْمُسْتَغْرِقِ لِلْجِنْسِ وَقَدْ نَرَى أَنَّ الْعَمَلَ يُوجَدُ بِلَا نِيَّةٍ وَكَذَا يُوجَدُ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَالْإِكْرَاهُ فَعَرَفْنَا بِنَبْوَةِ مَحَلِّ الْكَلَامِ وَهُوَ الْعَمَلُ وَالْخَطَأُ وَاخْتَارَهُ عَنْ قَبُولِ الْحَقِيقَةِ أَنَّهَا سَاقِطَةٌ وَلَيْسَتْ بِمُرَادَةٍ وَأَنَّ الْعَمَلَ فِي حَدِيثِ النِّيَّةِ وَالْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَالْإِكْرَاهَ فِي حَدِيثِ الرَّفْعِ مَجَازٌ وَكِنَايَةٌ عَنْ الْحُكْمِ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الشَّيْءِ عَلَى مُوجَبِهِ أَوْ بِطَرِيقِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامَهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] فَصَارَ كَأَنَّهُ قِيلَ حُكْمُ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَاتِ وَرُفِعَ حُكْمُ الْخَطَأِ ثُمَّ مَا صَارَ هَذَا الْكَلَامُ عِبَارَةً عَنْهُ وَهُوَ الْحُكْمُ لَهُ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ أَحَدُهُمَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ وَهُوَ الثَّوَابُ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ وَالْإِثْمُ فِي الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الثَّانِي فَإِنَّهُ وَارِدٌ فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَالثَّانِي مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا وَهُوَ الْحُكْمُ الْمَشْرُوعُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ مِثْلُ الْجَوَازِ فِي الْأَعْمَالِ الْمَنْوِيَّةِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْإِسَاءَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ أَنَّ الثَّوَابَ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ عِبَادَةٌ وَالْإِثْمَ فِي الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ مُحَرَّمٌ

ص: 104

أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَوَازَ وَالصِّحَّةَ يَتَعَلَّقُ بِرُكْنِهِ وَشَرْطِهِ وَالثَّوَابُ أَوْ الْمَأْثَمُ يَتَعَلَّقُ بِصِحَّةِ عَزِيمَتِهِ فَإِنَّ مَنْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ نَجِسٍ وَلَمْ يَعْلَمْ حَتَّى صَلَّى وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ مُقَصِّرًا لَمْ يَجُزْ فِي الْحُكْمِ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَاسْتَحَقَّ الثَّوَابَ لِصِحَّةِ عَزِيمَتِهِ وَإِذَا صَارَا مُخْتَلِفَيْنِ صَارَ الِاسْمُ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ مَجَازًا مُشْتَرَكًا فَسَقَطَ الْعَمَلُ بِهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَيَصِيرُ مُؤَوَّلًا وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمَأْثَمِ عَلَى هَذَا فَصَارَ هَذَا كَاسْمِ الْمَوْلَى وَالْقُرْءِ وَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ.

ــ

[كشف الأسرار]

يَبْتَنِي عَلَى الْعَزِيمَةِ وَالْقَصْدِ، وَالْفَسَادَ الَّذِي هُوَ حُكْمٌ يَبْتَنِي عَلَى الْأَدَاءِ بِالْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.

وَإِذَا ثَبَتَ اخْتِلَافُ الْمَعْنَيَيْنِ صَارَ هَذَا اللَّفْظُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَكِ كَاسْمِ الْمَوْلَى وَالْقُرْءِ فَلَا يَجُوزُ احْتِجَاجُ الْخَصْمِ بِهِ عَلَيْنَا فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ وَفِي عَدَمِ فَسَادِ الصَّوْمِ بِالْخَطَأِ وَالْإِكْرَاهِ حَتَّى يُقِيمَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ لَيْسَ إلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا مِنْ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ وَهُوَ الثَّوَابُ وَالْمَأْثَمُ مُرَادٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَزْمِ وَالْإِثْمَ فِي الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ مَرْفُوعٌ بِالِاتِّفَاقِ أَوْ يُقِيمُ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الْعُمُومِ فِي الْمُشْتَرَكِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ أَيْضًا لِمَا مَرَّ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ (فَإِنْ قِيلَ) لَوْ كَانَ الْمُرَادُ حُكْمَ الْآخِرَةِ لَا غَيْرُ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ مِنْ أُمَّتِي فَائِدَةٌ لِأَنَّ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأُمَمِ إذْ لَا يَجُوزُ فِي الْحِكْمَةِ تَعْذِيبُهُمْ (قُلْنَا) ذَلِكَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ فَأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فَهِيَ جَائِزَةٌ فِي الْحِكْمَةِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ جَائِزَيْ الْمُؤَاخَذَةِ كَانَ مَعْنَى الدُّعَاءِ لَا تُجِرْ عَلَيْنَا بِالْمُؤَاخَذَةِ فِيهِمَا إذْ الْمُؤَاخَذَةُ فِيمَا لَا تَجُوزُ الْمُؤَاخَذَةُ فِيهِ جَوْرٌ.

وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ قَوْلُهُ (صَارَ الِاسْمُ) أَيْ اسْمُ الْعَمَلِ وَالْخَطَأِ وَأُخْتَيْهِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ مَجَازًا حَيْثُ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُهُ وَهُوَ الْحُكْمُ مُشْتَرَكًا أَيْ فِي مَعْنَى الْمُشْتَرَكِ لِأَنَّ مَا هُوَ مُرَادٌ مِنْهُ وَهُوَ الْحُكْمُ مُشْتَرَكٌ قَوْلُهُ (وَحُكْمُ الْمَأْثَمِ) أَيْ حُكْمٌ هُوَ مَأْثَمٌ عَلَى هَذَا يَعْنِي كَمَا أَنَّ الثَّوَابَ يَنْفَصِلُ عَنْ الْجَوَازِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمَاءِ النَّجِسِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَكَذَلِكَ الْإِثْمُ يَنْفَصِلُ عَنْ الْفَسَادِ كَمَنْ صَلَّى مُرَائِيًا مُرَاعِيًا لِلشُّرُوطِ وَالْأَرْكَانِ يَسْتَوْجِبُ الْإِثْمَ مِنْ غَيْرِ فَسَادٍ وَكَالْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا تَحَقَّقَ الْفَسَادُ مِنْ غَيْرِ إثْمٍ هَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِ الشَّيْخِ وَفِيهِ نَوْعُ اشْتِبَاهٍ فَإِنَّ الِاشْتِرَاكَ الَّذِي لَا يَجْرِي الْعُمُومُ فِيهِ هُوَ الِاشْتِرَاكُ اللَّفْظِيُّ بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعَانِي الدَّاخِلَةِ تَحْتَهُ قَصْدًا كَاسْمِ الْقُرْءِ وَالْعَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ دُونَ الِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ فَإِنَّ الْعُمُومَ يَجْرِي فِيهِ بِلَا خِلَافٍ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ مَعْنًى يَعُمُّ ذَلِكَ الْمَعْنَى أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً كَاسْمِ الْحَيَوَانِ يَتَنَاوَلُ الْإِنْسَانَ وَالْفَرَسَ وَسَائِرَ أَنْوَاعِهِ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ وَهُوَ التَّحَرُّكُ بِالْإِرَادَةِ وَكَاسْمِ الشَّيْءِ يَتَنَاوَلُ الْمُتَضَادَّاتِ بِمَعْنَى الْوُجُودِ وَكَاسْمِ اللَّوْنِ يَتَنَاوَلُ السَّوَادَ وَالْبَيَاضَ وَغَيْرَهُمَا بِاعْتِبَارِ مَعْنَى اللَّوْنِيَّةِ وَالْحُكْمُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ هُوَ الْأَثَرُ الثَّابِتُ بِهِ فَيَتَنَاوَلُ الْجَوَازَ وَالْفَسَادَ وَالثَّوَابَ وَالْمَأْثَمَ بِهَذَا الْمَعْنَى الْعَامِّ لَا بِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعَانِي الْمُنْتَظِمَةِ تَحْتَهُ فَكَانَ مِنْ قَبِيلِ الشَّيْءِ وَالْحَيَوَانِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْعَيْنِ وَالْقُرْءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الثَّوَابَ أَوْ الْمَأْثَمَ لَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ ثَوَابًا أَوْ إثْمًا بَلْ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ أَثَرًا ثَابِتًا بِالْفِعْلِ كَالشَّيْءِ يَتَنَاوَلُ الْمَاءَ وَالنَّارَ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ لَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُرَطِّبًا أَوْ مُحْرِقًا.

وَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْعَيْنِ لِلْيَنْبُوعِ وَالشَّمْسِ لَا مِنْ قَبِيلِ الشَّيْءِ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَنَاوَلُ الْجَوَازَ وَالْفَسَادَ وَالثَّوَابَ وَالْمَأْثَمَ قَصْدًا لِأَنَّ هَذِهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ كَالْعَيْنِ يَتَنَاوَلُ الْيَنْبُوعَ وَالشَّمْسَ قَصْدًا فَكَانَ مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا تَحَكُّمٌ إذْ لَا نَقْلَ فِيهِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ الْإِمَامَ أَبَا زَيْدٍ رحمه الله لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُقْتَضَى وَالْمَحْذُوفِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ أَهْلِ الْأُصُولِ

ص: 105

وَمِنْ النَّاسِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ التَّحْرِيمَ الْمُضَافَ إلَى الْأَعْيَانِ مِثْلِ الْمَحَارِمِ وَالْخَمْرِ مَجَازٌ لِمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ فَيَصِيرُ وَصْفُ الْعَيْنِ بِهِ مَجَازًا وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا أُضِيفَ إلَى الْعَيْنِ

ــ

[كشف الأسرار]

وَجَعَلَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ نَظَائِرِ الْمُقْتَضَى فَقَالَ فِي حَدِيثِ الرَّفْعِ عَيْنُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ غَيْرُ مَرْفُوعَةٍ إذْ لَوْ أُرِيدَ عَيْنُهَا لَصَارَ كَذِبًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ فَاقْتَضَى ضَرُورَةَ زِيَادَةٍ وَهِيَ الْحُكْمُ لِيَصِيرَ مُفِيدًا وَصَارَ الْمَرْفُوعُ حُكْمَهَا وَثَبَتَ رَفْعُ الْحُكْمِ عَامًّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَتَّى بَطَلَ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْطِئِ وَلَمْ يَفْسُدْ الصَّوْمُ بِالْأَكْلِ مُخْطِئًا لِأَنَّ الْمُقْتَضَى لَهُ عُمُومٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا يَرْتَفِعُ حُكْمُ الْآخِرَةِ لَا غَيْرُ لِأَنَّ بِذَلِكَ الْقَدْرِ يَصِيرُ مُفِيدًا فَيَزُولُ الضَّرُورَةُ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى حُكْمٍ آخَرَ لِأَنَّ الْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ وَقَالَ فِي حَدِيثِ النِّيَّةِ لَمَّا ثَبَتَ حُكْمُ الْآخِرَةِ مُرَادًا وَبِهِ يَصِيرُ الْكَلَامُ مُفِيدًا لَمْ يَتَعَدَّ إلَى مَا وَرَاءَهُ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إنَّمَا ثَوَابُ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ رحمه الله وَلَمَّا خَالَفَهُ الشَّيْخُ الْمُصَنِّفُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْمَحْذُوفِ وَفَرَّقَا بَيْنَ الْمَحْذُوفِ وَالْمُقْتَضَى وَجَوَّزَا عُمُومَ الْمَحْذُوفِ دُونَ الْمُقْتَضَى وَالْحَدِيثَانِ مِنْ قَبِيلِ الْمَحْذُوفِ دُونَ الْمُقْتَضَى عَلَى أَصْلِهِمَا اُضْطُرَّا إلَى تَخْرِيجِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى مَا اخْتَارَا مِنْ جَوَازِ عُمُومِ الْمَحْذُوفِ فَبَنَيَا انْتِفَاءَ الْعُمُومِ فِيهِمَا عَلَى الِاشْتِرَاكِ دُونَ الِاقْتِضَاءِ وَفِيهِ مِنْ التَّمَحُّلِ مَا تَرَى.

وَقَدْ كُنْت فِيهِ بُرْهَةً مِنْ الزَّمَانِ فَلَمْ يَتَّضِحْ لِي وَجْهٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَرَاجَعْت الْفُحُولَ فَلَمْ يُشِيرُوا عَلَيَّ بِجَوَابٍ شَافٍ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْحَقِيقَةِ

قَوْلُهُ (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ ظَنَّ) اخْتَلَفُوا فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ الْمُضَافَيْنِ إلَى الْأَعْيَانِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] .

وَقَوْلُهُ عليه السلام «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا» «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ» عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فَذَهَبَ الشَّيْخُ الْمُصَنِّفُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَصَاحِبُ الْمِيزَانِ وَمَنْ تَابَعَهُمْ إلَى أَنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ كَالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ الْمُضَافَيْنِ إلَى الْفِعْلِ فَيُوصَفُ الْمَحَلُّ أَوَّلًا بِالْحُرْمَةِ ثُمَّ ثَبَتَتْ حُرْمَةُ الْفِعْلِ بِنَاءً عَلَيْهِ فَيَثْبُتُ التَّحْرِيمُ عَامًّا وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ أَوْ تَحْلِيلُهُ لَا غَيْرُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَامَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ.

وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ نَوَابِتِ الْقَدَرِيَّةِ كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَأَصْحَابِ أَبِي هَاشِمٍ إلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ وَأَنَّ الِاحْتِجَاجَ فِي تَحْرِيمِ وَطْءِ الْأُمَّهَاتِ وَتَحْرِيمِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَإِبَاحَةِ أَكْلِ لُحُومِ الْأَنْعَامِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ غَيْرُ صَحِيحٍ. تَمَسَّكَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ بِأَنَّ الْقَوْلَ بِثُبُوتِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ عَلَى الْعُمُومِ بِحَيْثُ يُوصَفُ الْعَيْنُ وَالْفِعْلُ جَمِيعًا بِهِمَا مُتَعَذِّرٌ وَبِهَذِهِ النِّسْبَةِ أَوْرَدَ الشَّيْخُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي هَذَا الْبَابِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ لَا يَكُونَانِ وَصْفَيْنِ لِلْأَعْيَانِ لِأَنَّهُمَا مِنْ التَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْقُدْرَةِ وَلِهَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَالْأَعْيَانُ لَيْسَتْ بِمَقْدُورَةٍ لَنَا فَلَا تَصْلُحُ مُتَعَلَّقَةً لِلتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقَانِ بِالْأَفْعَالِ الْمَقْدُورَةِ لَنَا وَهِيَ الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ إضْمَارِ فِعْلٍ يَكُونُ هُوَ مُتَعَلَّقَ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ حَذَرًا مِنْ إهْمَالِ الْخِطَابِ وَلَا يُمْكِنُ إضْمَارُ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَيْنِ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِمَا دُونَ الْجَمِيعِ فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْبَعْضِ ثُمَّ ذَلِكَ الْبَعْضُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ لِعَدَمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ فَكَانَ مُجْمَلًا وَتَمَسَّكَ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِأَنَّ الْعُرْفَ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ فَإِنَّ مَنْ

ص: 106

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[كشف الأسرار]

اطَّلَعَ عَلَى أَعْرُفْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَمَارَسَ أَلْفَاظَ الْعَرَبِ لَا يَتَبَادَرُ إلَى فَهْمِهِ عِنْدَ قَوْلِ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ حَرَّمْت عَلَيْك الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَحَرَّمْت عَلَيْك النِّسَاءَ سِوَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَتَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ فِي النِّسَاءِ وَلَا يَتَخَالَجُهُ شَكٌّ فِي أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ لَيْسَ بِتَحْرِيمٍ لِنَفْسِ الْعَيْنِ وَأَنَّهُ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ الْمَقْصُودِ فَلَا يَكُونُ مُجْمَلًا وَصَارَ كَأَنَّهُ قِيلَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ نِكَاحُ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِنَّ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَأُحِلَّ لَكُمْ أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ شُرْبُ الْخَمْرِ لِعَيْنِهِ.

قَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إنَّ الْأُمَّةَ بِأَسْرِهَا أَجْمَعَتْ قَبْلَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى قَدْ دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ وَطْءِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَتَحْلِيلِ أَكْلِ النَّعَمِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ إجْمَاعًا لَا رَيْبَ فِيهِ وَيُكَفِّرُونَ الْمُتَأَوِّلَ لَهَا وَيَقُولُونَ إنَّمَا حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ لِتَأْوِيلِهِ نَصًّا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَلَا يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ إلَّا بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْمُخَالِفُ فِي أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ ثَابِتٌ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ مُكَذِّبٌ الْأُمَّةَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مُخَالَفَةِ الْأُمَّةِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مَا ذَكَرْنَا وَبَيْنَ خِلَافِهَا فِي تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَمَنْ أَجَازَ أَحَدَهُمَا لَزِمَهُ تَجْوِيزُ الْآخَرِ قَالَ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّفْظَ إذَا احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ وَبَطَلَ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ أَحَدُهُمَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْآخَرِ وَلَمْ يَجُزْ التَّوَقُّفُ فِيهِ وَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ مُتَعَلِّقًا بِالْأَعْيَانِ الَّتِي لَا يَصِحُّ كَوْنُهَا مِنْ أَفْعَالِنَا وَلَا يَصِحُّ النَّهْيُ عَنْهَا لِوُجُودِهَا تَعَيَّنَ الْقِسْمُ الْآخَرُ وَهُوَ رُجُوعُ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ إلَى تَصَرُّفِنَا فِيهَا وَلَمْ يَكُنْ لِلتَّوَقُّفِ فِيهِمَا مَعْنًى مَعَ صِحَّةِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ بِبُطْلَانِ الْآخَرِ وَلَكِنَّا نَقُولُ يَصِحُّ وَصْفُ الْعَيْنِ بِالْحُرْمَةِ حَقِيقَةً كَمَا يَصِحُّ وَصْفُ الْفِعْلِ بِهَا وَمَعْنَى اتِّصَافِهَا بِهَا خُرُوجُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْفِعْلِ شَرْعًا كَمَا أَنَّ مَعْنَى وَصْفِ الْفِعْلِ بِالْحُرْمَةِ خُرُوجُهُ مِنْ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا فَإِذَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِ لَا مَعْنَى لِلْإِضْمَارِ لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَنْعِ قَالَ تَعَالَى {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص: 12] أَيْ مَنَعْنَا وَقَالَ جل جلاله.

{قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 50] أَيْ مَنَعَهُمْ شَرَابَ الْجَنَّةِ وَطَعَامَهَا وَمِنْهُ حَرَمُ مَكَّةَ لِمَنْعِ النَّاسِ عَنْ الِاصْطِيَادِ فِيهِ وَغَيْرِهِ وَحَرِيمُ الْبِئْرِ لِمَنْعِ الْغَيْرِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي حَوَالَيْهَا فَيُوصَفُ الْفِعْلُ بِالْحُرْمَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْعَبْدَ مُنِعَ عَنْ اكْتِسَابِهِ وَتَحْصِيلِهِ فَيَصِيرُ الْعَبْدُ مَمْنُوعًا وَالْفِعْلُ مَمْنُوعًا عَنْهُ وَتُوصَفُ الْعَيْنُ بِالْحُرْمَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْعَيْنَ مُنِعَتْ عَنْ الْعَبْدِ تَصَرُّفًا فِيهَا فَيَصِيرُ الْعَيْنُ مَمْنُوعَةً وَالْعَبْدُ مَمْنُوعًا عَنْهَا فَعَرَفْنَا أَنَّ وَصْفَ الْعَيْنِ بِالْحُرْمَةِ صَحِيحٌ وَأَنَّ الْمَنْعَ نَوْعَانِ مَنْعُ الرَّجُلِ عَنْ الشَّيْءِ كَقَوْلِك لِغُلَامِك لَا تَأْكُلْ هَذَا الْخُبْزَ وَهُوَ مَوْضُوعٌ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَنْعُ الشَّيْءِ عَنْ الرَّجُلِ بِأَنْ رَفَعَ الْخُبْزَ مِنْ يَدَيْهِ أَوْ أَكَلَ فَإِذَا أُضِيفَ التَّحْرِيمُ إلَى الْفِعْلِ كَانَ مِنْ قَبِيلِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَإِذَا أُضِيفَ إلَى الْعَيْنِ كَانَ مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي وَنَظِيرُهُمَا الْحِفْظُ وَالْحِمَايَةُ فَإِنَّ الْحِمَايَةَ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهَا فِي الْحِمَى بِدَفْعِ الْأَغْيَارِ عَنْهُ وَيَكُونُ فِعْلُ الْحَامِي فِي الْقَاصِدِ لِذَلِكَ الْمَحْمِيّ لَا فِي عَيْنِهِ فَيَبْقَى الْمَحْمِيّ عَلَى أَصْلِ الصِّيَانَةِ. وَالْحِفْظُ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْمَحْفُوظِ بِصُنْعٍ فِي الْمَحْفُوظِ لَا فِي دَفْعِ الْقَاصِدِ إلَّا أَنَّ انْدِفَاعَ الْقَاصِدِ عَنْهُ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْوُصُولِ إلَيْهِ فَيَحْصُلُ الصِّيَانَةُ.

وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

أَلَا ذَهَبَ الْمُحَافِظُ وَالْمُحَامِي

وَمَانِعُ ضَيْمِنَا يَوْمَ الْخِصَامِ

ذَكَرَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا فَكَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا فِي الْحَالَيْنِ وَهُوَ الصِّيَانَةُ وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ لَكِنْ بِطَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ كَذَا فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّحْرِيمِ فِي غَايَةِ التَّوْكِيدِ لِانْتِفَاءِ الْفِعْلِ فِيهِ

ص: 107