المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الْكَلَامُ مُتَّسِقٌ فَيَصِحُّ الْوَصْلُ لِبَيَانِ أَنَّهُ نَفْيُ السَّبَبِ لَا الْوَاجِبِ.   وَأَمَّا - كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي - جـ ٢

[علاء الدين عبد العزيز البخاري - فخر الإسلام البزدوي]

فهرس الكتاب

- ‌بَابُ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ)

- ‌أَلْفَاظُ الْعُمُومِ قِسْمَانِ

- ‌[الْقَسْم الْأَوَّل عَامٌّ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ وَعَامٌّ بِمَعْنَاهُ دُونَ صِيغَتِهِ]

- ‌ مَا هُوَ فَرْدٌ وُضِعَ لِلْجَمْعِ

- ‌[أَنْوَاع الْعَامُّ بِمَعْنَاهُ دُونَ صِيغَتِهِ]

- ‌ كَلِمَةُ كُلٍّ

- ‌[كَلِمَةُ الْجَمِيعِ]

- ‌كَلِمَةُ مَا

- ‌ كَلِمَةُ الَّذِي

- ‌ النَّكِرَةُ إذَا اتَّصَلَ بِهَا دَلِيلُ الْعُمُومِ

- ‌[الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الْعَامِّ مَعْنًى لَا صِيغَةً]

- ‌ لَامُ التَّعْرِيفِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْرِيفَ بِعَيْنِهِ لِمَعْنَى الْعَهْدِ

- ‌[النَّكِرَةِ إذَا اتَّصَلَ بِهَا وَصْفٌ عَامٌّ]

- ‌ كَلِمَةُ أَيُّ

- ‌ النَّكِرَةُ الْمُفْرَدَةُ فِي مَوْضِعِ إثْبَاتٍ

- ‌[بَابُ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الظَّاهِرُ وَالنَّصُّ وَالْمُفَسَّرُ وَالْمُحْكَمُ]

- ‌(بَابُ أَحْكَامِ الْحَقِيقَةِ) (وَالْمَجَازِ وَالصَّرِيحِ) (وَالْكِنَايَةِ)

- ‌[تعارض الْحَقِيقَة وَالْمَجَاز]

- ‌طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ

- ‌ الِاتِّصَالَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ قِبَلِ حُكْمِ الشَّرْعِ يَصْلُحُ طَرِيقًا لِلِاسْتِعَارَةِ

- ‌[يُسْتَعَارَ الْأَصْلُ لِلْفَرْعِ وَالسَّبَبُ لِلْحُكْمِ]

- ‌ الِاسْتِعَارَةُ لِلْمُنَاسَبَةِ فِي الْمَعَانِي

- ‌[الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ التَّكَلُّمِ لَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ]

- ‌ الْعَمَلَ بِالْحَقِيقَةِ مَتَى أَمْكَنَ سَقَطَ الْمَجَازُ

- ‌إِذَا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُتَعَذِّرَةٌ أَوْ مَهْجُورَةٌ صِيرَ إلَى الْمَجَازِ

- ‌قَدْ يَتَعَذَّرُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ مَعًا إذَا كَانَ الْحُكْمُ مُمْتَنِعًا

- ‌ الْكَلَامَ إذَا كَانَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ وَمَجَازٌ مُتَعَارَفٌ

- ‌(بَابُ جُمْلَةِ مَا يُتْرَكُ بِهِ الْحَقِيقَةُ)

- ‌دَلَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْعَادَةِ

- ‌ الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي نَفْسِهِ

- ‌ الثَّابِتُ بِسِيَاقِ النَّظْمِ

- ‌ الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ مَحَلِّ الْكَلَامِ

- ‌(بَابُ حُرُوفِ) (الْمَعَانِي)

- ‌[معانى الْوَاوُ]

- ‌[معانى الْفَاءُ]

- ‌[معانى ثُمَّ]

- ‌[معانى بَلْ]

- ‌[معانى لَكِنْ]

- ‌[معانى أَوْ]

- ‌بَابُ حَتَّى) :

- ‌بَابُ حُرُوفِ الْجَرِّ)

- ‌[مَعْنَى الْبَاءُ]

- ‌[مَعْنَى عَلَى]

- ‌[مَعْنَى مِنْ]

- ‌[مَعْنَى إلَى]

- ‌[مَعْنَى فِي]

- ‌[حُرُوفِ الْقَسَمِ]

- ‌ اَيْمُ اللَّهِ

- ‌ أَسْمَاءُ الظُّرُوفِ

- ‌ حُرُوفُ الِاسْتِثْنَاءِ

- ‌ حُرُوفِ الشَّرْطِ

- ‌(بَابُ الصَّرِيحِ) (وَالْكِنَايَةِ)

- ‌بَابُ وُجُوهِ) (الْوُقُوفِ عَلَى) (أَحْكَامِ النَّظْمِ)

- ‌مَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ وَأُرِيدَ بِهِ الْقَصْدُ أَوْ الْإِشَارَةُ

- ‌ دَلَالَةُ النَّصِّ

- ‌[دَلَالَة الْمُقْتَضِي]

- ‌الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ

- ‌ الْحُكْمَ إذَا أُضِيفَ إلَى مُسَمًّى بِوَصْفٍ خَاصٍّ كَانَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِهِ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الْوَصْفِ

- ‌ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ

- ‌ الْعَامَّ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ

- ‌ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ مُوجِبٌ الْعَدَمَ

- ‌ مَنْ حَمَلَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ

- ‌(بَابُ الْعَزِيمَةِ) (وَالرُّخْصَةِ)

- ‌[أَقْسَام الْعَزِيمَةُ]

- ‌[أَقْسَام الرُّخَصُ]

- ‌{بَابُ حُكْمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي أَضْدَادِهِمَا}

- ‌(بَابُ بَيَانِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ)

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الصَّوْمِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الْعُشْرِ

- ‌[سَبَبُ وُجُوبِ الْحَجِّ]

- ‌ سَبَبُ الْخَرَاجِ

- ‌سَبَبُ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ

- ‌سَبَبُ الْكَفَّارَاتِ

- ‌سَبَبُ الْمُعَامَلَاتِ

- ‌(بَابُ بَيَانِ أَقْسَامِ) (السُّنَّةِ)

- ‌(بَابُ الْمُتَوَاتِرِ)

- ‌(بَابُ الْمَشْهُورِ)

- ‌(بَابُ خَبَرِ الْوَاحِدِ)

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ الرَّاوِي الَّذِي جُعِلَ خَبَرُهُ حُجَّةً)

- ‌[الرَّاوِي الْمَعْرُوفُ]

- ‌[الرَّاوِي الْمَجْهُولُ]

- ‌بَابُ بَيَانِ شَرَائِطِ الرَّاوِي)

- ‌[بَابُ تَفْسِيرِ شُرُوطِ الرَّاوِي وَتَقْسِيمِهَا]

الفصل: الْكَلَامُ مُتَّسِقٌ فَيَصِحُّ الْوَصْلُ لِبَيَانِ أَنَّهُ نَفْيُ السَّبَبِ لَا الْوَاجِبِ.   وَأَمَّا

الْكَلَامُ مُتَّسِقٌ فَيَصِحُّ الْوَصْلُ لِبَيَانِ أَنَّهُ نَفْيُ السَّبَبِ لَا الْوَاجِبِ.

وَأَمَّا أَوْ فَإِنَّهَا تَدْخُلُ بَيْنَ اسْمَيْنِ أَوْ فِعْلَيْنِ فَيَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ هَذَا مَوْضُوعَهَا الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ يُقَالُ جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو أَيْ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُوضَعْ لِلشَّكِّ وَلَيْسَ الشَّكُّ بِأَمْرٍ مَقْصُودٍ يُقْصَدُ بِالْكَلَامِ وَضْعًا لَكِنَّهَا وُضِعَتْ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْخَبَرِ تَنَاوَلَتْ أَحَدَهُمَا غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَأَفْضَى إلَى الشَّكِّ وَإِذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الِابْتِدَاءِ وَالْإِنْشَاءِ تَنَاوَلَتْ أَحَدَهُمَا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ تَقُولُ رَأَيْت زَيْدًا أَوْ عَمْرًا فَيَكُونُ لِلتَّخْيِيرِ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ لَا يَحْتَمِلُ الشَّكَّ فَعَلِمْت أَنَّ الشَّكَّ إنَّمَا جَاءَ مِنْ قِبَلِ مَحَلِّ الْكَلَامِ

ــ

[كشف الأسرار]

عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْقَرْضِ حَيْثُ لَا تُقْبَلُ وَإِنْ اتَّفَقَا فِي الْأَصْلِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَصِيرُ مُكَذِّبًا أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ فِي بَعْضِ مَا شَهِدَ بِهِ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلشَّهَادَةِ فَأَمَّا تَكْذِيبُ الْمُقَرِّ لَهُ لِلْمُقِرِّ فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ فَلَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْإِقْرَارِ فَافْتَرَقَا وَقَوْلُهُ الْكَلَامُ مُتَّسِقٌ أَيْ كَلَامُ الْمُقَرِّ لَهُ مَعَ كَلَامِ الْمُقِرِّ مُتَوَافِقَانِ لَا مُتَنَافِيَانِ لِأَنَّهُمَا تَوَافَقَا فِي أَصْلِ الْوَاجِبِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ.

[معانى أَوْ]

قَوْلُهُ (وَأَمَّا أَوْ) اعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ تَدْخُلُ بَيْنَ اسْمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ كَقَوْلِك جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو أَوْ بَيْنَ فِعْلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] وَقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} [النساء: 66] وَكَقَوْلِك كُلْ السَّمَكَ أَوْ اشْرَبْ اللَّبَنَ فَيَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ هَذَا مُوجَبُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْوَضْعِ لِأَنَّهَا فِي مَوَاضِعِ اسْتِعْمَالِهَا لَا تَخْلُو عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فَعَرَفْنَا أَنَّهَا وُضِعَتْ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] وَالْوَاجِبُ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ حَتَّى لَوْ كَفَّرَ بِالْأَنْوَاعِ كُلِّهَا كَانَ مُؤَدِّيًا بِأَحَدِ الْأَنْوَاعِ لَا بِالْجَمِيعِ كَمَا قَالَهُ الْبَعْضُ.

وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] الْوَاجِبُ وَاحِدٌ مِنْهَا وَكَذَا الْجَائِي فِي قَوْلِك جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو أَحَدُهُمَا لَا كِلَاهُمَا قَوْلُهُ (وَلَمْ يُوضَعْ لِلشَّكِّ) نَفْيٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ رحمه الله فِي التَّقْوِيمِ أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ عِنْدَ عَامَّةِ النَّاسِ لِلتَّخْيِيرِ فِي الْإِثْبَاتِ وَلِلنَّفْيِ فِي النَّفْيِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ كَلِمَةُ تَشْكِيكٍ فَإِنَّك إذَا قُلْت رَأَيْت زَيْدًا أَوْ عَمْرًا لَا تَكُونُ مُخْبِرًا عَنْ رُؤْيَتِهِمَا جَمِيعًا وَلَكِنَّك تَكُونُ مُخْبِرًا عَنْ رُؤْيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الشَّكِّ فَإِنَّك قَدْ رَأَيْت أَحَدَهُمَا وَلَكِنَّك شَكَكْت فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ مِنْهُمَا حَتَّى احْتَمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَرْئِيُّ وَأَنْ لَا يَكُونَ إلَّا أَنَّهَا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْإِيجَابَاتِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي لَمْ تُوجِبْ شَكًّا لِأَنَّ الشَّكَّ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْتِبَاسِ الْعِلْمِ بِشَيْءٍ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْإِخْبَارَاتِ فَأَمَّا الْإِنْشَاءَاتُ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا شَكٌّ وَلَا الْتِبَاسٌ لِأَنَّهَا لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ ابْتِدَاءً وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ مَذْهَبُ عَامَّةِ النُّحَاةِ وَخَالَفَهُ الشَّيْخُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ لَيْسَتْ لِلتَّشْكِيكِ لِأَنَّ الشَّكَّ لَيْسَ بِمَعْنًى يُقْصَدُ بِالْكَلَامِ وَضْعًا أَيْ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي الْمُخَاطَبَاتِ بِحَيْثُ يُوضَعُ كَلِمَةً تُوجِبُ تَشْكِيكَ السَّامِعِ فِي مَعْنَى الْكَلَامِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّكَّ لَيْسَ بِمَعْنًى يُوضَعُ لَهُ لَفْظٌ لِأَنَّ لَفْظَ الشَّكِّ قَدْ وُضِعَ لِمَعْنَاهُ بَلْ الْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا.

وَذَلِكَ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْكَلَامِ إفْهَامُ السَّامِعِ لَا تَشْكِيكُهُ فَلَا يَكُونُ الشَّكُّ مِنْ مَقَاصِدِهِ فَلَا يَكُونُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مَوْضُوعَةً لِذَلِكَ بَلْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِأَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ غَيْرِ عَيْنٍ كَمَا قُلْنَا إلَّا أَنَّهَا فِي الْإِخْبَارَاتِ يُفْضِي إلَى الشَّكِّ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ مَجِيءِ أَحَدِهِمَا فِي قَوْلِهِ جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِعْلَ الْمَجِيءِ وُجِدَ مِنْ أَحَدِهِمَا عَيْنًا لَا نَكِرَةً إذْ لَا تَصَوُّرَ لِصُدُورِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ الْعَيْنِ وَبِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إلَى أَحَدِهِمَا غَيْرِ عَيْنٍ لَا يَنْتَقِلُ الْفِعْلُ مِنْ الْعَيْنِ إلَى النَّكِرَةِ بَلْ يَبْقَى مُضَافًا إلَى الْعَيْنِ كَمَا وُجِدَ وَإِنَّمَا جَهِلَهُ السَّامِعُ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الَّذِي وُجِدَ مِنْهُ فِعْلُ الْمَجِيءِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّشْكِيكَ إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمًا وَاتِّفَاقًا بِكَوْنِ الْكَلَامِ خَبَرًا لَا مَقْصُودًا بِحَرْفِ أَوْ كَالْهِبَةِ وُضِعَتْ لِإِفَادَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ثُمَّ إذَا أُضِيفَ إلَى الدَّيْنِ يَكُونُ إسْقَاطًا حُكْمًا وَاتِّفَاقًا لَا مَقْصُودًا بِالْهِبَةِ أَلَا تَرَى

ص: 143

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[كشف الأسرار]

أَنَّهَا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْإِنْشَاءِ لَا تُؤَدِّي مَعْنَى الشَّكِّ أَصْلًا مَعَ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِيهِ لَا مَجَازٌ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تَخْلُو عَنْ مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ فَثَبَتَ أَنَّهَا لَمْ تُوضَعْ لِلتَّشْكِيكِ وَكَذَا التَّخْيِيرُ يَثْبُتُ بِمَحَلِّ الْكَلَامِ أَيْضًا لِأَنَّهَا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الِابْتِدَاءِ كَقَوْلِك اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا تَنَاوَلْت أَحَدَهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ وَالْأَمْرُ لِلِائْتِمَارِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الِائْتِمَارُ بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ فَيَثْبُتُ التَّخْيِيرُ ضَرُورَةَ التَّمَكُّنِ مِنْ الِائْتِمَارِ وَلِهَذَا لَوْ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا قَوْلًا لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ الْفِعْلِ وَكَذَا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْإِنْشَاءِ كَقَوْلِهِ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا.

وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ الشَّيْخَيْنِ مَا ذُكِرَ فِي الْمُفَصَّلِ أَنَّ (أَوْ) وَ (أَمْ) وَأَمَّا ثَلَاثَتُهَا لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِأَحَدِ الْمَذْكُورِينَ إلَّا أَنَّ (أَوْ) وَ (أَمَّا) يَقَعَانِ فِي الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَ (أَمْ) لَا يَقَعُ إلَّا فِي الِاسْتِفْهَامِ إذَا كَانَتْ مُتَّصِلَةً إلَى آخِرِهِ وَمَا ذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي الْإِيضَاحِ أَنَّ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوْ الْأَشْيَاءِ فِي الْخَبَرِ وَغَيْرِهِ تَقُولُ كُلْ السَّمَكَ أَوْ اشْرَبْ اللَّبَنَ أَيْ افْعَلْ أَحَدَهُمَا وَلَا تَجْمَعْ بَيْنَهُمَا وَمَا ذَكَرَ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي التَّلْخِيصِ أَنَّ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوْ الْأَشْيَاءِ بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّك تَقُولُ جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّك أَثْبَتّ الْمَجِيءَ لِأَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ فَهَذَا أَصْلُهُ ثُمَّ إنْ كَانَ الْكَلَامُ خَبَرًا كَانَتْ أَوْ لِلشَّكِّ كَمَا رَأَيْت وَإِنْ كَانَ أَمْرًا كَانَتْ لِلتَّخْيِيرِ كَقَوْلِك اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا فَقَدْ أَمَرْته بِأَنْ يَضْرِبَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ خَيَّرْته فِي ذَلِكَ فَأَيُّهُمَا ضَرَبَ كَانَ مُطِيعًا وَمَا ذَكَرَ أَيْضًا فِي الْمُقْتَصِدِ أَنَّ أَوْ لَهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا الشَّكُّ نَحْوُ قَوْلِهِ ضَرَبْت زَيْدًا أَوْ عَمْرًا أَرَدْت أَنْ تُخْبِرَ بِضَرْبِك زَيْدًا فَاعْتَرَضَك شَكٌّ صَوَّرْت لَهُ أَنْ تَكُونَ ضَرَبْت عَمْرًا فَأَثْبَتَّ بِأَوْ وَعَطَفْتَ عَمْرًا عَلَى زَيْدٍ فَصَارَ كَلَامُك مُفِيدًا أَنَّك ضَرَبْت وَاحِدًا مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي التَّخْيِيرُ كَقَوْلِك اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا فَقَدْ أَمَرْته بِضَرْبِ أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَضْرِبَهُمَا مَعًا فَلَيْسَ فِي هَذَا شَكٌّ وَإِنَّمَا هُوَ تَخْيِيرٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْآمِرَ إذَا قَالَ اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ مَوْجُودٌ قَدْ شَكَّ فِيهِ كَمَا يَكُونُ فِي الْخَبَرِ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ الْإِبَاحَةُ نَحْوَ قَوْلِهِمْ جَالِسْ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِينَ فَهَذَا يُشْبِهُ التَّخْيِيرَ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَنَّهُ جَالَسَ أَحَدَهُمَا كَانَ مُطِيعًا وَيُفَارِقُهُ مِنْ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ إنْ جَالَسَهُمَا مَعًا كَانَ جَائِزًا.

وَلَوْ قُلْت اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا فَضَرَبَهُمَا جَمِيعًا لَمْ يَجُزْ قَالَ وَلَمَّا كَانَ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوْ الْأَشْيَاءِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا قَالُوا زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو قَامَ وَلَمْ يَقُولُوا قَامَا لِأَنَّ الْمَعْنَى أَحَدُهُمَا قَامَ فَإِنْ قِيلَ أَوَّلُ هَذَا الْكَلَامِ يُؤَيِّدُ الْمَذْهَبَ الْأَوَّلَ وَكَذَا مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُفَصَّلِ وَيُقَالُ فِي أَوْ وَأَمَّا فِي الْخَبَرِ أَنَّهُمَا لِلشَّكِّ وَفِي الْأَمْرِ أَنَّهُمَا لِلتَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ وَمَا ذُكِرَ فِي الْمِفْتَاحِ أَنَّ أَوْ فِي الْخَبَرِ لِلشَّكِّ وَفِي الْأَمْرِ لِلتَّخْيِيرِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ عَنْ الْجَمْعِ أَوْ الْإِبَاحَةِ وَهِيَ تَجْوِيزُ الْجَمْعِ وَفِي الِاسْتِفْهَامِ لِأَحَدِ مَا يُذْكَرُ لَا عَلَى التَّعْيِينِ قُلْنَا هَذَا مِنْهُمْ تَسَامُحٌ فِي الْعِبَارَةِ وَبَيَانٌ لِمَوَاضِعِ الِاسْتِعْمَالِ وَتَقْسِيمٌ لَهُ بِحَسَبِ الْعَوَارِضِ وَالتَّحْقِيقُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَرَأَيْت فِي كِتَابِ بَيَانِ حَقَائِقِ الْحُرُوفِ أَنَّ مَعْنَى أَوْ إثْبَاتُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوْ الْأَشْيَاءِ مُبْهَمًا مَعَ إفْرَادِهِ عَنْ غَيْرِهِ فِي الْمَعْنَى بِلَا تَرْتِيبٍ لِأَنَّهَا فِي حُرُوفِ الْعَطْفِ بِمَنْزِلَةِ الْوَاوِ وَفِي أَنَّهَا لَا تُرَتِّبُ إلَّا أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ وَأَوْ لِلْإِفْرَادِ وَهِيَ تَجِيءُ عَلَى سِتَّةِ أَوْجُهٍ إبْهَامُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوْ الْأَشْيَاءِ وَالشَّكُّ وَالتَّخْيِيرُ وَالْإِبَاحَةُ وَالتَّفْصِيلُ وَمَعْنَى الْإِفْرَادِ فَقَطْ، وَبِمَعْنَى إلَّا أَنَّ.

وَالْأَصْلُ فِي الْجَمِيعِ هُوَ الْأَوَّلُ فَقَطْ لِرُجُوعِهَا فِي الْجَمِيعِ إلَيْهِ

ص: 144

وَعَلَى هَذَا قُلْنَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا وَهَذِهِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَحَدُكُمَا وَهَذَا الْكَلَامُ إنْشَاءٌ يَحْتَمِلُ الْخَبَرَ فَأَوْجَبَ التَّخْيِيرَ عَلَى احْتِمَالِ أَنَّهُ بَيَانٌ حَتَّى جُعِلَ الْبَيَانُ إنْشَاءً مِنْ وَجْهٍ وَإِظْهَارًا مِنْ وَجْهٍ

عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي مَسَائِلِ الْعَتَاقِ فِي الْجَامِعِ وَالزِّيَادَاتِ

ــ

[كشف الأسرار]

إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ مَا يُوجِبُ زِيَادَةً عَلَيْهِ

قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى أَنَّهَا يَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ قُلْنَا فِي قَوْلِهِ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا أَوْ هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ أَوْ أَحَدَيْكُمَا طَالِقٌ وَهَذَا الْكَلَامُ أَيْ قَوْلُهُ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا أَوْ قَوْلُهُ أَحَدُكُمَا حُرٌّ إنْشَاءٌ يَحْتَمِلُ الْخَبَرَ أَيْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِأَنَّهُ فِي وَضْعِهِ الْأَصْلِيِّ خَبَرٌ كَقَوْلِك لِلرَّجُلَيْنِ أَحَدُكُمَا عَالِمٌ إلَّا أَنَّ الْإِخْبَارَ يَقْتَضِي تَقَدُّمَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَلَى مَا عَلَيْهِ وَضْعُهُ فَاقْتَضَى الْإِخْبَارُ عَنْ الْحُرِّيَّةِ وُجُودَ الْحُرِّيَّةِ سَابِقًا عَلَيْهِ لِيَصِحَّ الْإِخْبَارُ عَنْهَا فَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْحُرِّيَّةُ ثَابِتَةً جَعَلْنَا هَذَا الْكَلَامَ إنْشَاءً كَأَنَّهُ قَالَ أُنْشِئُ الْحُرِّيَّةَ احْتِرَازًا عَنْ الْإِلْغَاءِ وَالْكَذِبِ أَوْ جَعَلْنَا الْحُرِّيَّةَ ثَابِتَةً قُبَيْلَ هَذَا الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ تَصْحِيحًا لَهُ لِأَنَّ إثْبَاتَهَا فِي وِلَايَتِهِ فَصَارَ إنْشَاءً شَرْعًا وَعُرْفًا إخْبَارًا حَقِيقَةً وَلِهَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ يُجْعَلُ إخْبَارًا حَتَّى لَا يَعْتِقَ الْعَبْدُ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِمَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الْإِخْبَارُ.

وَإِذَا كَانَ إنْشَاءً يَحْتَمِلُ الْخَبَرَ أَوْجَبَ التَّخْيِيرَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنْشَاءٌ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الْعِتْقَ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ بِأَنْ يُبَيِّنَ الْعِتْقَ فِي أَحَدِهِمَا كَمَا كَانَ لِلْمَأْمُورِ فِي قَوْلِهِ اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا أَنْ يَخْتَارَ الضَّرْبَ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ خَبَرٌ يُوجِبُ الْبَيَانَ أَيْ الْإِظْهَارَ لَا التَّخْيِيرَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا عَيْنًا ثُمَّ نَسِيَهُ فَأَخْبَرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُبَيِّنَ الْعِتْقَ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ بَلْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ الْعِتْقَ فِي الَّذِي أَوْقَعَهُ فِيهِ إذَا تَذَكَّرَ ثُمَّ إنَّهُ إذَا تَبَيَّنَ الْعِتْقُ فِي أَحَدِهِمَا كَانَ لَهُ حُكْمُ الْإِنْشَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْإِيجَابَ الْأَوَّلَ إنْشَاءٌ وَهُوَ غَيْرُ نَازِلٍ فِي الْعَيْنِ لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَهُ إلَّا فِي النَّكِرَةِ وَالنَّكِرَةُ ضِدُّ الْمَعْرِفَةِ لُغَةً فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ فِي غَيْرِ مَا أَوْجَبَهُ كَمَا إذَا أَوْقَعَهُ فِي سَالِمٍ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ فِي بَزِيعٍ وَالْعِتْقُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعَيْنِ بِالْبَيَانِ فَكَانَ لَهُ حُكْمُ الْإِنْشَاءِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلِهَذَا شُرِطَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْإِنْشَاءِ وَصَلَاحِيَّةُ الْمَحَلِّ لِلْإِنْشَاءِ حَتَّى لَوْ مَاتَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ فَبَيَّنَ الْعِتْقَ فِي الْمَيِّتِ لَا يَصِحُّ وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْإِيجَابَ يَحْتَمِلُ الْخَبَرَ يَكُونُ الْبَيَانُ إظْهَارًا أَيْ هَذَا هُوَ الَّذِي أَخْبَرْتُ بِحُرِّيَّتِهِ أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّ الَّذِي أَوْقَعَ الْعِتْقَ فِيهِ مَعْرِفَةٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُ لَا يَعْدُوهُمَا بِيَقِينٍ كَانَ الْعِتْقُ وَاقِعًا فِيهِ فَكَانَ الْبَيَانُ إظْهَارًا وَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ إنْشَاءً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَمَا أُجْبِرَ عَلَيْهِ وَإِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ جِهَتَا الْإِنْشَاءِ وَالْإِظْهَارِ عَمِلَ بِهِمَا فِي الْأَحْكَامِ فَاعْتُبِرَتْ جِهَةُ الْإِنْشَاءِ فِي مَوْضِعِ التُّهْمَةِ وَجِهَةُ الْإِظْهَارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ.

فَإِذَا طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ الْأَرْبَعِ وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهِنَّ فَتَزَوَّجَ خَامِسَةً أَوْ أُخْتَ إحْدَاهُنَّ ثُمَّ بَيَّنَ الطَّلَاقَ فِي أُخْتِ الْمُتَزَوِّجَةِ جَازَ لَهُ نِكَاحُ الْخَامِسَةِ وَنِكَاحُ الْأُخْتِ فَاعْتُبِرَ الْبَيَانُ إظْهَارًا لِعَدَمِ التُّهْمَةِ إذْ يُمْكِنُ لَهُ إنْشَاءُ الطَّلَاقِ فِي الَّتِي عَيَّنَهَا وَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا فِي الْحَالِ وَلَوْ كَانَ دَخَلَ بِهِنَّ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْخَامِسَةِ وَالْأُخْتِ فَاعْتُبِرَ إنْشَاءً فِي حَقِّ الْعِدَّةِ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بِإِنْشَاءِ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ أَحَدَيْكُمَا طَالِقٌ فَمَاتَتْ أَحَدَيْهِمَا قَبْلَ الْبَيَانِ تَعَيَّنَتْ الْبَاقِيَةُ لِلطَّلَاقِ لِزَوَالِ الْمُزَاحَمَةِ بِخُرُوجِ الْمَيِّتَةِ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الطَّلَاقِ فَإِنْ قَالَ عَنَيْت الْمَيِّتَةَ حِينَ تَكَلَّمْتُ صُدِّقَ فِي حَقِّ بُطْلَانِ مِيرَاثِهِ عَنْهَا وَلَا يُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ طَلَاقٍ لِأَنَّ الطَّلَاقَ تَعَيَّنَ فِيهَا شَرْعًا فَلَا يَمْلِكُ صَرْفَ الطَّلَاقِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ وَلَوْ كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَأَمَةٌ قَدْ دَخَلَ بِهِمَا فَقَالَ أَحَدَيْكُمَا طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ ثُمَّ أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ

ص: 145

وَلِهَذَا قُلْنَا فِيمَنْ قَالَ وَكَّلْت فُلَانًا أَوْ فُلَانًا بِبَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ إنَّهُ صَحِيحٌ وَيَبِيعُ أَيَّهمَا شَاءَ لِأَنَّ أَوْ فِي مَوْضِعِ الِابْتِدَاءِ تَخْيِيرٌ وَالتَّوْكِيلُ صَحِيحٌ اسْتِحْسَانًا وَأَيُّهُمَا بَاعَهُ صَحَّ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ وَكَّلْت بِهِ أَحَدَ هَذَيْنِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ بِعْ هَذَا أَوْ هَذَا إنَّهُ صَحِيحٌ وَيَبِيعُ أَيَّهمَا شَاءَ لِأَنَّ أَوْ فِي مَوْضِعِ الِابْتِدَاءِ لِلتَّخْيِيرِ وَالتَّوْكِيلُ إنْشَاءٌ وَالتَّخْيِيرُ لَا يَمْنَعُ الِامْتِثَالَ

وَقُلْنَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ إذَا دَخَلَتْ أَوْ فِي الْمَبِيعِ أَوْ فِي الثَّمَنِ فَسَدَ الْعَقْدُ

ــ

[كشف الأسرار]

ثُمَّ مَرِضَ الزَّوْجُ وَبَيَّنَ الطَّلَاقَ فِي الْمُعْتَقَةِ فَإِنَّهَا تَحْرُمُ حُرْمَةً غَلِيظَةً وَيَصِيرُ الزَّوْجُ فَارًّا حَتَّى تَرِثَ هِيَ فَاعْتُبِرَ إظْهَارًا فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ وَإِنْشَاءً فِي حَقِّ الْإِرْثِ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ لِأَنَّ حَقَّهَا تَعَلَّقَ بِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ فَهُوَ بِالْبَيَانِ فِيهَا يُرِيدُ إبْطَالَ حَقِّهَا.

وَلَوْ قَالَ لِعَبْدَيْنِ لَهُ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا أَلْفٌ وَقِيمَةُ الْآخَرِ مِائَةٌ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ مَرِضَ فَبَيَّنَ الْعِتْقَ فِي كَثِيرِ الْقِيمَةِ يَصِحُّ وَيُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ فَاعْتُبِرَ جِهَةُ الْإِظْهَارِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَعْتِقَ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَعْتِقَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْفِرَارِ لِتَحَقُّقِ التُّهْمَةِ هُنَاكَ فَاعْتُبِرَ إنْشَاءً وَعَلَى هَذَا فَقِسْ الْمَسَائِلَ فِي الزِّيَادَاتِ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ أَوْ يَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ قُلْنَا إذَا قَالَ وَكَّلْت هَذَا أَوْ هَذَا بِبَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ صَحَّ التَّوْكِيلُ وَلَمْ يُشْتَرَطْ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى الْبَيْعِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ وَهَذَا وَإِذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا نَفَذَ الْبَيْعُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَبِيعَهُ وَإِنْ عَادَ إلَى مِلْكِ مُوَكِّلِهِ وَقِيلَ الْبَيْعَ يُبَاحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَهُ وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِجَهَالَةِ مَنْ وُكِّلَ بِبَيْعِهِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ فَتُحْمَلُ فِيمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ بِعْ هَذَا أَوْ هَذَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ اسْتِحْسَانًا أَيْضًا وَلَمْ يَنُصَّ مُحَمَّدٌ رحمه الله عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَصْلِ كَمَا نَصَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ فَقَالُوا الْجَهَالَةُ فِيمَا تَنَاوَلَتْهُ الْوَكَالَةُ بِالْبَيْعِ دُونَ الْجَهَالَةِ فِيمَنْ هُوَ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ كَمَا فِي الْإِقْرَارِ جَهَالَةُ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ وَجَهَالَةُ الْمُقَرِّ لَهُ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْفَصْلَيْنِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا.

وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ الْبَيْعِ وَإِيجَابُ الْبَيْعِ فِي أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا يَصِحُّ لِلْجَهَالَةِ فَكَذَلِكَ التَّوْكِيلُ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مَبْنَى الْوَكَالَةِ عَلَى التَّوَسُّعِ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ اللُّزُومُ بِنَفْسِهَا وَهَذِهِ جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى هَذَا لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَّ الْعَبْدَيْنِ يُرَوِّجُ فَيُوَكِّلُهُ بِبَيْعِ أَحَدِهِمَا تَوْسِعَةً لِلْأَمْرِ عَلَيْهِ وَتَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ نَفْسِهِ فِي الثَّمَنِ (قَوْلُهُ وَالتَّخْيِيرُ لَا يَمْنَعُ الِامْتِثَالَ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّ مَا أَمَرَهُ بِبَيْعِ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ وَهُوَ مَجْهُولٌ فَلَا يُمْكِنُهُ الِامْتِثَالُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ التَّوْكِيلُ فَقَالَ هَذَا الْأَمْرُ يُوجِبُ التَّخْيِيرَ وَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ عَنْ الِامْتِثَالِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِأَحَدِهِمَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89]

قَوْلُهُ (وَقُلْنَا) مَعْطُوفٌ عَلَى قُلْنَا الْأَوَّلِ أَيْ وَلِأَنَّ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ قُلْنَا كَذَا وَقُلْنَا أَيْضًا إذَا دَخَلَتْ أَوْ فِي الْمَبِيعِ بِأَنْ قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا الثَّوْبَ أَوْ هَذَا بِعَشَرَةٍ أَوْ فِي الثَّمَنِ بِأَنْ قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا الثَّوْبَ بِعَشَرَةٍ أَوْ بِعِشْرِينَ فَقَالَ قَبِلْت أَوْ فِي الْمُسْتَأْجَرِ بِأَنْ قَالَ آجَرْت الْيَوْمَ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ هَذَا بِدِرْهَمٍ أَوْ فِي الْأُجْرَةِ بِأَنْ قَالَ آجَرْت هَذَا الْعَبْدَ الْيَوْمَ بِدِرْهَمٍ أَوْ بِدِرْهَمَيْنِ فَسَدَ الْعَقْدُ فِي الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَوْ أَوْجَبَتْ التَّخْيِيرَ وَمَنْ لَهُ الْخِيَارُ مِنْهُمَا غَيْرُ مَعْلُومٍ فَبَقِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَوْ الْمَعْقُودُ بِهِ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُؤَدِّيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ وَهِيَ مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ مَعْلُومًا فِي اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ بِأَنْ قَالَ بِعْت هَذَا أَوْ هَذَا عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ تَأْخُذُ أَيَّهمَا شِئْت فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ الْعَقْدُ اسْتِحْسَانًا.

وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ الْمَبِيعَ أَحَدُ الثَّوْبَيْنِ أَوْ الْأَثْوَابِ وَأَنَّهُ مَجْهُولٌ

ص: 146

إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ مَعْلُومًا فِي اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَيَصِحُّ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا أَوْجَبَ جَهَالَةً وَمُنَازَعَةً وَإِذَا كَانَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ مَعْلُومًا لَمْ يُوجِبْ مُنَازَعَةً لَكِنَّهُ يُوجِبُ خَطَرًا فَاحْتُمِلَ فِي الثَّلَاثِ اسْتِحْسَانًا

ــ

[كشف الأسرار]

مُتَفَاوِتٌ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ كَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ مَعْلُومًا وَكَمَا لَوْ اشْتَرَى أَحَدَ الْأَثْوَابِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهَا شَاءَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ بَعْدَ تَعَيُّنِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ يَسْتَبِدُّ بِالتَّعْيِينِ فَلَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَكِنْ بَقِيَ فِي هَذَا الْعَقْدِ مَعْنَى الْحَظْرِ لِتَرَدُّدِ عَاقِبَتِهِ إذْ يَحْتَمِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّوْبَيْنِ أَنْ يَسْتَقِرَّ الْعَقْدُ فِيهِ وَأَنْ لَا يَسْتَقِرَّ وَالْحَظْرُ مُفْسِدٌ كَالشَّرْطِ فَلَمَّا اُحْتُمِلَ الشَّرْطُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ فِي الْمَحَلِّ الْوَاحِدِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ يُتَحَمَّلُ الْحَظْرُ هَهُنَا أَيْضًا فِي الثَّلَاثَةِ اعْتِبَارًا لِلْمَحَلِّ بِالزَّمَانِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ مُتَحَقِّقَةٌ هَهُنَا أَيْضًا لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى اخْتِيَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَوْ اخْتِيَارِ مَنْ يَشْتَرِيهِ لِأَجْلِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ مِنْ الْحَمْلِ إلَيْهِ إلَّا بِالتَّبَعِ فَكَانَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ وَلَمَّا لَمْ يُتَحَمَّلْ فِي الشَّرْطِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ لِانْدِفَاعِ الْحَاجَةِ بِمَا دُونَهُ غَالِبًا لَمْ يُتَحَمَّلْ هَهُنَا أَيْضًا فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ لِانْدِفَاعِ الْحَاجَةِ بِمَا دُونَهُ إذْ الثَّلَاثَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى كُلِّ الْأَوْصَافِ جَيِّدٍ وَوَسَطٍ وَرَدِيءٍ فَيَصِيرُ الزِّيَادَةُ لَغْوًا وَصْفًا كَذَا فِي الْأَسْرَارِ فَإِنْ قِيلَ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ الْمُعَلَّقُ هُوَ الْحُكْمُ دُونَ الْعَقْدِ وَهَهُنَا الْمُعَلَّقُ نَفْسُ الْعَقْدِ وَهَذَا فَوْقَ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْإِلْحَاقُ بِهِ.

قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنَّ الْحُكْمَ ثَمَّةَ غَيْرُ ثَابِتٍ أَصْلًا وَهَهُنَا الْحُكْمُ ثَبَتَ فِي أَحَدِهِمَا نَكِرَةً فَفِي حَقِّ الْحُكْمِ تَأْثِيرُ شَرْطِ الْخِيَارِ أَكْثَرُ وَفِي حَقِّ الْعَقْدِ تَأْثِيرُ الشَّرْطِ هَهُنَا أَكْثَرُ فَاسْتَوَيَا فَجَازَ الْإِلْحَاقُ وَلَا يُقَالُ لَمَّا جَازَ خِيَارُ الشَّرْطِ عِنْدَهُمَا فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ خِيَارُ التَّعْيِينِ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَيْضًا لِأَنَّا نَقُولُ إنَّهُمَا إنَّمَا جَوَّزَا خِيَارَ الشَّرْطِ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ بِالْأَثَرِ غَيْرِ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلَا يُمْكِنُ الْإِلْحَاقُ بِهِ.

وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ مَعْلُومًا يُشِيرُ بِعُمُومِهِ إلَى ثُبُوتِ خِيَارِ التَّعْيِينِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ فِي جَانِبِ الْمُشْتَرِي اعْتِبَارًا بِخِيَارِ الشَّرْطِ يَثْبُتُ فِي جَانِبِ الْبَائِعِ أَيْضًا اعْتِبَارًا بِهِ وَذَكَرَ فِي الْمُجَرَّدِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْجَوَازَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي ثَبَتَ لِدَفْعِ الْحَاجَةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ مَا هُوَ الْأَرْفَقُ بِحَضْرَةِ مَنْ يَقَعُ الشِّرَاءُ لَهُ وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ فِي جَانِبِ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ قَدْ كَانَ مَعَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إلَى فَصْلِ الْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ حَتَّى لَوْ كَانَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ مَعْلُومًا فِي فَصْلِ الثَّمَنِ بِأَنْ قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا الثَّوْبَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ بِدِينَارٍ عَلَى أَنْ آخُذَ مِنْك أَيَّهمَا شِئْت أَوْ عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَ إلَيَّ أَيَّهمَا شِئْت لَا يَصِحُّ لِأَنَّ جَوَازَهُ ثَبَتَ إلْحَاقًا لَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهِ فِي الثَّمَنِ لَيْسَتْ مِثْلَ الْحَاجَةِ فِي الْمَبِيعِ فَيُرَدُّ إلَى الْقِيَاسِ

وَكَذَا حُكْمُ الْأُجْرَةِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَأَمَّا الْمُسْتَأْجَرُ فِيهِ فَمِثْلُ الْمَبِيعِ فِي خِيَارِ التَّعْيِينِ لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ وَخِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَخِيَارَ الْعَيْبِ تَجْرِي فِيهِ فَيَجْرِي خِيَارُ التَّعْيِينِ أَيْضًا وَذَكَرَ فِي الْفَصْلِ السَّادِسِ مِنْ إجَارَاتِ الْمُحِيطِ الْأَصْلُ أَنَّ الْإِجَارَةَ إذَا وَقَعَتْ عَلَى أَحَدِ شَيْئَيْنِ وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ أَجْرًا مَعْلُومًا بِأَنْ قَالَ آجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ بِخَمْسَةٍ أَوْ هَذِهِ الْأُخْرَى بِعَشَرَةٍ أَوْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ فِي حَانُوتَيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ أَوْ مَسَافَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ إلَى وَاسِطَ بِكَذَا أَوْ إلَى الْكُوفَةِ بِكَذَا فَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا.

وَكَذَا إذَا خَيَّرَهُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ

ص: 147

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْمَهْرِ إذَا دَخَلَهُ أَوَانُ التَّخْيِيرَ إذَا كَانَ مُفِيدًا أَوْجَبَ التَّخْيِيرَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْجَامِعِ تَزَوَّجْتُك عَلَى أَلْفٍ حَالَّةٍ أَوْ أَلْفَيْنِ إلَى سَنَةٍ أَوْ أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ مِائَةِ دِينَارٍ أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُعْطِيَ أَيَّ الْمَهْرَيْنِ شَاءَ وَإِذَا لَمْ يُفِدْ التَّخْيِيرَ مِثْلُ أَلْفٍ أَوْ أَلْفَيْنِ لَزِمَهُ الْأَقَلُّ إلَّا أَنْ يُعْطِيَ الزِّيَادَةَ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى التَّسْمِيَةِ اُعْتُبِرَتْ التَّسْمِيَةُ بِالْإِقْرَارِ بِالْمَالِ مُفْرَدًا وَبِالْوَصَايَا وَبِبَدَلِ الْخُلْعِ وَالْعِتْقِ وَالصُّلْحِ عَنْ الْقَوَدِ وَصَارَ مَنْ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ أَوْلَى بِالْبَيَانِ وَالتَّخْيِيرِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله يُصَارُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِطَرِيقِ التَّخْيِيرِ غَيْرُ مَعْلُومٍ إلَّا بِشَرْطِ الِاخْتِيَارِ فَلَا يَقْطَعُ الْمُوجِبُ الْمُتَعَيِّنَ بِخِلَافِ الْعِتْقِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ الْقَوَدِ لِأَنَّهُ لَا يُعَارِضُهُ مُوجِبٌ مُتَعَيَّنٍ لِأَنَّهُ جَائِزٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَأَمَّا النِّكَاحُ فَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِمَهْرِ الْمِثْلِ

ــ

[كشف الأسرار]

وَإِنْ ذَكَرَ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ لَمْ يَجُزْ وَكَذَا هَذَا فِي أَنْوَاعِ الصِّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ إذَا ذَكَرَ ثَلَاثَةً جَازَ وَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ اسْتِدْلَالًا بِالْبَيْعِ إلَّا أَنَّ فَرْقَ مَا بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ أَنَّ الْإِجَارَةَ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْخِيَارِ حَتَّى أَنَّ مَنْ بَاعَ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَإِجَارَةُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْخِيَارِ

(قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ) إلَى آخِرِهِ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَلْفٍ حَالَّةً أَوْ عَلَى أَلْفَيْنِ إلَى سَنَةٍ أَوْ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ مِائَةِ دِينَارٍ أَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ أَوْ أَلْفَيْنِ أَوْ عَلَى أَلْفٍ حَالَّةً أَوْ أَلْفٍ نَسِيئَةً لَا يُحْكَمُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ عِنْدَهُمَا بِحَالٍ بَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلزَّوْجِ إذَا كَانَ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا بِأَنْ كَانَ الْمَالَانِ مُخْتَلِفَيْنِ وَصْفًا كَمَا فِي الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ إلَى سَنَةٍ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ أَنْقَصُ مِنْ الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ وَأَزْيَدُ مِنْ وَجْهٍ أَوْ جِنْسًا كَمَا فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَيُعْطِي أَيَّ الْمَهْرَيْنِ شَاءَ لِأَنَّ مُوجَبَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ التَّخْيِيرُ وَقَدْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا كَمَا فِي الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ أَوْ الْأَلْفِ الْحَالَّةِ وَالْأَلْفِ الْمُؤَجَّلَةِ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ لَزِمَهُ الْأَقَلُّ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْمَالِ فِي النِّكَاحِ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الْعَقْدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ الْعَقْدُ عَلَى ذِكْرِهِ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْتِزَامِ الْمَالِ بِغَيْرِ عَقْدٍ فَيَجِبُ الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ اُعْتُبِرَتْ التَّسْمِيَةُ بِالْإِقْرَارِ بِالْمَالِ مُفْرَدًا أَيْ صَارَ كَأَنَّهُ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِأَلْفٍ أَوْ أَلْفَيْنِ أَوْ أَوْصَى لِفُلَانٍ بِأَلْفٍ أَوْ أَلْفَيْنِ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِهِ وَالتَّخْيِيرَ بَيْنَ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ فَكَانَ قِيَاسَ الطَّلَاقِ بِمَالٍ وَالْعِتْقِ بِمَالٍ وَهُنَاكَ إذَا سَمَّى الْأَلْفَ وَالْأَلْفَيْنِ يَجِبُ الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ فَكَذَا هَهُنَا وَلَا وَجْهَ لِلرُّجُوعِ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ مُوجَبُ نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ وَبِالتَّخْيِيرِ لَا تَنْعَدِمُ التَّسْمِيَةُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.

وَقَوْلُهُ وَصَارَ مَنْ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ رَدٌّ لِمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ إنَّ الْخِيَارَ لِلْمَرْأَةِ إذَا كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَقَالَا مَنْ اُسْتُفِيدَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ جِهَتِهِ أَيْ صَدَرَ هَذَا الْإِيجَابُ مِنْهُ أَوْلَى بِبَيَانِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُجْمِلُ فَكَانَ الْخِيَارُ لَهُ بِكُلِّ حَالٍ قَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُصَارُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ) أَيْ يُحْكَمُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ فِي النِّكَاحِ كَالْقِيمَةِ فِي بَابِ الْبَيْعِ وَأَجْرِ الْمِثْلِ فِي الْإِجَارَةِ وَإِنَّمَا يُعْدَلُ عَنْهُ إذَا كَانَتْ التَّسْمِيَةُ مَعْلُومَةً قَطْعًا وَلَمْ يُوجَدْ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ إنَّ الْخِلَافَ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ مَا مُوجَبُهُ وَمُوجَبُهُ الْمُسَمَّى فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ مَا أَمْكَنَ وَقَدْ وُجِدَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ تَسْمِيَتَانِ أَحَدَيْهِمَا لَا شَكَّ فِيهَا وَالْأُخْرَى فِيهَا شَكٌّ فَتَثْبُتُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهَا فَلَمْ يَجِبْ مَهْرُ الْمِثْلِ.

قُلْنَا النِّكَاحُ لِمَا صَحَّ بِمَهْرِ الْمِثْلِ صَارَ هُوَ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ لِأَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ فَكَانَتْ التَّسْمِيَةُ زِيَادَةً لَا مَحَالَةَ فَحَلَّ مَحَلَّ أَجْرِ الْمِثْلِ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ فَلَا يَجِبُ الْعُدُولُ عَنْهُ بِالشَّكِّ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ فَصَارَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ الْمُوجَبَ الْأَصْلِيَّ فِي النِّكَاحِ هُوَ الْمُسَمَّى فَلَا يُمْكِنُ الْمَصِيرُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ إلَّا إذَا فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله يَقُولُ لَمَّا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَاجِبًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ كَانَ هُوَ الْأَصْلُ فَالْعُدُولُ إلَى الْمُسَمَّى حِينَ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَلَمْ يَثْبُتْ ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْأَلْفِ الْحَالَّةِ وَالْأَلْفَيْنِ

ص: 148

وَعَلَى هَذَا قُلْنَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] إنَّ الْوَاجِبَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يَتَعَيَّنُ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا ذُكِرَتْ فِي مَوْضِعِ الْإِنْشَاءِ

ــ

[كشف الأسرار]

إلَى سَنَةٍ إنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ فَالْخِيَارُ لِلْمَرْأَةِ إنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ الْأَلْفَ الْحَالَّةَ وَإِنْ شَاءَتْ كَانَ لَهَا الْأَلْفَانِ إلَى سَنَةٍ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ أَحَدَ وَجْهَيْ الْحَظِّ إمَّا الْقَدْرُ وَإِمَّا الْأَجَلُ وَالْمَقَاصِدُ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ فَوَجَبَ التَّخْيِيرُ وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ الْخِيَارُ لِلزَّوْجِ يُعْطِيهَا أَيَّهمَا شَاءَ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ هُوَ الْحَكَمُ وَقَدْ الْتَزَمَ الزَّوْجُ أَحَدَ وَجْهَيْنِ مِنْ الزِّيَادَةِ إمَّا الزِّيَادَةُ إلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ لَكِنْ بِصِفَةِ الْأَجَلِ وَإِمَّا أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ أَجَلٍ وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ فَيَخْتَارُ أَيَّهمَا شَاءَ كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِلْمُصَنِّفِ رحمه الله

قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا قُلْنَا) أَيْ عَلَى أَنَّ أَوْ يَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ فَيُوجِبُ التَّخْيِيرَ فِي مَوْضِعِ الْإِنْشَاءِ قُلْنَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مَا الْوَاجِبَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الْآيَةَ وَكَفَّارَةُ الْحَلْقِ الْوَاجِبَةُ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وَجَزَاءُ الصَّيْدِ الثَّابِتُ بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] الْآيَةَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا وَفِي أَمْثَالِهَا وَاحِدٌ مِنْ الْجُمْلَةِ غَيْرُ عَيْنٍ وَالْمُكَلَّفُ مُخَيَّرٌ فِي تَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنْهَا فِعْلًا لَا قَوْلًا فَيَتَعَيَّنُ فِي ضِمْنِ الْفِعْلِ وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَيُسَمَّى هَذَا وَاجِبًا مُخَيَّرًا وَذَهَبَتْ شِرْذِمَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّ الْكُلَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فَإِذَا فَعَلَ أَحَدَهَا سَقَطَ وُجُوبُ بَاقِيهَا.

ثُمَّ إنَّهُ إذَا أَتَى بِالْكُلِّ كَانَ الْوَاجِبُ وَاحِدًا مِنْهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ أَعْلَاهَا قِيمَةً وَلَوْ تَرَكَ الْكُلَّ كَانَ مُعَاقَبًا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا وَهُوَ الَّذِي كَانَ أَدْنَاهَا قِيمَةً لِأَنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ بِالْأَدْنَى وَاخْتَلَفَ الْمُخَالِفُونَ فِي ذَلِكَ فَعَامَّتُهُمْ وَافَقُونَا فِيهِ فَكَانَ الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ لَفْظِيًّا لَا مَعْنَوِيًّا كَمَا قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إنَّهُمْ يَعْنُونَ بِوُجُوبِ الْجَمِيعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِجَمِيعِهَا وَلَا يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِهِ وَلِلْمُكَلَّفِ اخْتِيَارُ أَيِّ وَاحِدٍ كَانَ وَهُوَ بِعَيْنِهِ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّهُ إذَا أَتَى بِالْجَمِيعِ يُثَابُ ثَوَابَ الْوَاجِبِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَلَوْ تَرَكَ الْجَمِيعَ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ كُلِّ وَاحِدٍ فَعَلَى هَذَا كَانَ الْخِلَافُ مَعْنَوِيًّا قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ فَرْعُ مَسْأَلَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ التَّكْلِيفَ يُبْتَنَى عَلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ عِنْدَهُمْ دُونَ السَّبَبِ الْمُوَصِّلِ إلَيْهِ وَإِيجَابُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ غَيْرِ عَيْنِ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا عِلْمَ لِلْمُكَلَّفِ بِهِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مَجْهُولٌ حَالَةَ التَّكْلِيفِ فَيَكُونُ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ.

وَعِنْدَنَا التَّكْلِيفُ يُبْتَنَى عَلَى سَبَبِ الْعِلْمِ لَا عَلَى حَقِيقَتِهِ كَمَا يُبْتَنَى عَلَى سَبَبِ الْقُدْرَةِ لَا عَلَى حَقِيقَتِهَا وَهَهُنَا طَرِيقُ الْعِلْمِ قَائِمٌ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ فَلَا يَكُونُ تَكْلِيفَ الْعَاجِزِ تَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ إيجَابَ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُوجَبُهُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا عَيْنًا أَوْ فِي وَاحِدٍ غَيْرِ عَيْنٍ أَوْ فِي الْكُلِّ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ لِأَنَّهُ خِلَافُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ كَيْفَ وَالتَّخْيِيرُ يُنَافِيهِمَا وَلَا لِلثَّانِي لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِمَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْمُكَلَّفِ وَقْتَ التَّكْلِيفِ وَالتَّكْلِيفُ بِإِتْيَانِ الْمَجْهُولِ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ وَهُوَ بَاطِلٌ فَتَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْكُلِّ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ وَهُوَ طَرِيقٌ مَشْرُوعٌ مُوَافِقٌ لِلْأُصُولِ فَإِنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ مِثْلَ الْجِهَادِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ يَجِبُ عَلَى الْكُلِّ بِطَرِيقِ الْبَدَلِ حَتَّى إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ وَلِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْأَمْرَ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ لَمَّا صَحَّ حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْكُلَّ أَثِمَ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِأَحَدِهَا عَيْنًا وَلَا بِالْكُلِّ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا بِالْكُلِّ عَلَى سَبِيلِ

ص: 149

فَأَوْجَبَ التَّخْيِيرَ عَلَى احْتِمَالِ الْإِبَاحَةِ حَتَّى إذَا فَعَلَ الْكُلَّ جَازَ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ وَاجِبًا فَلَا عَلَى مَا زَعَمَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] فَقَدْ جَعَلَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِلتَّخْيِيرِ فَأَوْجَبُوا التَّخْيِيرَ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَقُلْنَا نَحْنُ هَذِهِ ذُكِرَتْ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ بِالْمُحَارَبَةِ وَالْمُحَارَبَةُ مَعْلُومَةٌ بِأَنْوَاعِهَا عَادَةً بِتَخْوِيفٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ قَتْلٍ وَأَخْذِ مَالٍ فَاسْتَغْنَى عَنْ بَيَانِهَا وَاكْتَفَى بِإِطْلَاقِهَا بِدَلَالَةِ تَنْوِيعِ الْجَزَاءِ فَصَارَتْ أَنْوَاعُ الْجَزَاءِ مُقَابَلَةً بِأَنْوَاعِ الْمُحَارَبَةِ فَأَوْجَبَ التَّفْضِيلَ وَالتَّقْسِيمَ عَلَى حَسَبِ أَحْوَالِ الْجِنَايَةِ وَتَفَاوُتِ الْأَجْزِيَةِ

ــ

[كشف الأسرار]

الْبَدَلِ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْكُلَّ لَا يَأْثَمُ إلَّا إثْمَ الْوَاحِدِ وَلَوْ أَتَى بِالْكُلِّ لَا يُثَابُ ثَوَابَ الْوَاجِبِ إلَّا عَلَى الْوَاحِدِ وَذَلِكَ يُخَالِفُ حَدَّ الْوَاجِبِ تَعَيَّنَ أَنَّهُ أَمْرٌ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ غَيْرِ عَيْنٍ وَهُوَ جَائِزٌ عَقْلًا فَإِنَّ السَّيِّدَ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَوْجَبْت عَلَيْك خِيَاطَةَ هَذَا الثَّوَابِ أَوْ بِنَاءَ هَذَا الْحَائِطِ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَيُّهُمَا فَعَلْت اكْتَفَيْت بِهِ وَأَثَبْتُكَ بِهِ وَإِنْ تَرَكْتهمَا عَاقَبْتُك وَلَسْت أُوجِبُ الْجَمِيعَ وَإِنَّمَا أُوجِبُ وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ أَيَّ وَاحِدٍ أَرَدْت كَانَ هَذَا كَلَامًا مَعْقُولًا وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ إيجَابُ الْجَمِيعِ لِلتَّصْرِيحِ بِنَقِيضِهِ فَكَذَا إذَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَلَيْسَ هَذَا تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ لِقِيَامِ سَبَبِ حُصُولِ الْعِلْمِ بِالْوَاجِبِ عَيْنًا بِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ وَشُرُوعِهِ فِي الْفِعْلِ وَذَلِكَ كَافٍ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ.

قَوْلُهُ (فَأَوْجَبَ التَّخْيِيرَ عَلَى احْتِمَالِ الْإِبَاحَةِ) التَّخْيِيرُ الثَّابِتُ بِكَلِمَةِ أَوْ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَثْبُتَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْكُلِّ كَقَوْلِك اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا كَانَ لَهُ أَنْ يَضْرِبَ أَيَّهمَا شَاءَ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْحَظْرُ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ بِعَارِضِ الْأَمْرِ وَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ وَاحِدًا مِنْ الْجُمْلَةِ فَتُقْصَرُ عَلَيْهِ وَالثَّانِي أَنْ يَثْبُتَ عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْكُلِّ كَقَوْلِك جَالِسْ الْفُقَهَاءَ أَوْ الْمُحَدِّثِينَ كَانَ لَهُ أَنْ يُجَالِسَ أَيَّ فَرِيقٍ شَاءَ وَأَنْ يُجَالِسَهُمْ جَمِيعًا لِأَنَّ إبَاحَةَ مُجَالَسَتُهُمْ وَمُجَالَسَةُ غَيْرِهِمْ قَدْ كَانَتْ ثَابِتَةً قَبْلَ الْأَمْرِ فَبِالْأَمْرِ اقْتَصَرَتْ عَلَى الْمَذْكُورَيْنِ وَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ اقْتَصِرْ عَلَى مُجَالَسَةِ هَؤُلَاءِ وَلَا تُجَالِسْ غَيْرَهُمْ ثُمَّ إنْ كَانَ الْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ كَمَا فِي النَّظِيرِ الْمَذْكُورِ يَحْصُلُ الِامْتِثَالُ بِالْجَمِيعِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْوَاحِدِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ الِاقْتِصَارُ حَاصِلٌ بِالْجَمِيعِ كَمَا هُوَ حَاصِلٌ بِالْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ لِلْوُجُوبِ كَانَ الِامْتِثَالُ بِالْوَاحِدِ لَا غَيْرُ وَإِنْ أَتَى بِالْجَمِيعِ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا وَاحِدًا مِنْ الْجُمْلَةِ وَلَكِنْ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِالْجَمِيعِ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً قَبْلَ الْأَمْرِ فَتَبْقَى عَلَى مَا كَانَتْ.

فَمِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ قَوْلُ الرَّجُلِ لِآخَرَ طَلِّقْ مِنْ نِسَائِي فُلَانَةَ أَوْ فُلَانَةَ أَوْ أَعْتِقْ مِنْ عَبِيدِي فُلَانًا أَوْ فُلَانًا أَوْ بِعْ مِنْهُمْ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا وَقَوْلُ الْمَرْأَةِ الطَّالِبَةِ لِلنِّكَاحِ مِنْ أَحَدِ الْكُفُوَيْنِ لِوَلِيِّهَا زَوِّجْنِي فُلَانًا أَوْ فُلَانًا يَثْبُتُ التَّخْيِيرُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَانَتْ مَحْظُورَةً عَلَى الْمَأْمُورِ قَبْلَ الْأَمْرِ وَمِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي خِصَالُ الْكَفَّارَةِ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ فَيَثْبُتُ التَّخْيِيرُ فِيهَا عَلَى وَجْهٍ يُجَوِّزُ الْجَمْعَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَانَتْ مُبَاحَةً قَبْلَ الْأَمْرِ فَبَقِيَتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ فَاتَّضَحَ بِمَا ذَكَرْنَا مَعْنَى قَوْلِهِ فَأَوْجَبَ التَّخْيِيرَ عَلَى احْتِمَالِ الْإِبَاحَةِ وَظَهَرَ أَنَّهُ احْتِرَازٌ عَنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] أَيْ يُحَارِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمَوَدَّةُ إذَا اسْتَحْكَمَتْ يُضِيفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحِبِّينَ فِعْلَ صَاحِبِهِ إلَى نَفْسِهِ وَفِي الْخَبَرِ الْإِلَهِيِّ «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ» أَوْ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ لِلتَّبَرُّكِ وَتَشْرِيفِ الرَّسُولِ عليه السلام كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] وَالْمُرَادُ مُحَارَبَةُ رَسُولِ اللَّهِ وَمُحَارَبَةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي حُكْمِ مُحَارَبَتِهِ {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] أَيْ مُفْسِدِينَ أَوْ لِأَنَّ سَعْيَهُمْ لَمَّا كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْفَسَادِ نَزَلَ مَنْزِلَةَ وَيُفْسِدُونَ فَانْتَصَبَ فَسَادًا عَلَى الْمَعْنَى.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ أَيْ لِلْفَسَادِ وَالسَّعْيُ هُوَ الْمَشْيُ بِسُرْعَةٍ وَاسْتُعِيرَ فِي الْكَسْبِ وَالتَّصَرُّفِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ غَالِبًا وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] ذَهَبَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٌ إلَى أَنَّ الْإِمَامَ بِالْخِيَارِ فِي الْعُقُوبَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَقِّ كُلِّ قَاطِعِ طَرِيقٍ

ص: 150

وَقَدْ وَرَدَ بَيَانُهُ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ بِالسُّنَّةِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عليه السلام حِينَ نَزَلَ بِالْحَدِّ عَلَى أَصْحَابِ أَبِي بُرْدَةَ عَلَى التَّفْصِيلِ فَأَمَّا فِيمَا سَبَقَ فَلَا أَنْوَاعَ لِلْجِنَايَةِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَجْزِيَةِ فَأَوْجَبَ التَّخْيِيرَ وَهَذَا لِأَنَّ مُقَابَلَةَ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ يُوجِبُ التَّقْسِيمَ لَا مَحَالَةَ وَالْجِنَايَةُ بِأَنْوَاعِهَا لَا تَقَعُ إلَّا مَعْلُومَةً فَكَذَلِكَ الْجَزَاءُ

ــ

[كشف الأسرار]

كَذَا فِي الْكَشَّافِ وَالْمَبْسُوطِ وَأُشِيرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ إلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَالْقَطْعِ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ قَطْعِ الطَّرِيقِ عِنْدَهُمْ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى النَّفْيِ لِأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ التَّخْيِيرَ لَمْ يَجْعَلْ النَّفْيَ جَزَاءً عَلَى حِدَةٍ بَلْ حَمَلَ كَلِمَةَ أَوْ فِي قَوْلِهِ {أَوْ يُنْفَوْا} [المائدة: 33] عَلَى الْوَاوِ وَالنَّفْيَ عَلَى الْقَتْلِ فَكَانَ بِمَعْنَاهُ وَيُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ بِالْقَتْلِ وَالصَّلْبِ قَالُوا كَلِمَةُ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ بِحَقِيقَتِهَا فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا إلَى أَنْ يَقُومَ دَلِيلُ الْمَجَازِ لِأَنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ فِي ذَاتِهِ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ وَهَذِهِ الْأَجْزِيَةُ ذُكِرَتْ بِمُقَابَلَتِهَا فَيَصْلُحُ كُلُّ وَاحِدٍ جَزَاءً لَهُ فَيَثْبُتُ التَّخْيِيرُ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالتَّخْيِيرِ هَهُنَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى حَسَبِ الْجِنَايَةِ يَزْدَادُ بِزِيَادَتِهَا وَيَنْتَقِصُ بِنُقْصَانِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ عِنْدَ غِلَظِ الْجِنَايَةِ يُعَاقَبُ بِأَخَفِّ الْأَنْوَاعِ وَعِنْدَ خِفَّتِهَا بِأَغْلَظِ الْأَنْوَاعِ تَقْرِيرُهُ أَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ أَوْ آخِذَ الْمَالِ لَا يُجَازَى بِالنَّفْيِ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْأَجْزِيَةِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْكُلِّ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ التَّخْيِيرِ كَذَا فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ

1 -

ثُمَّ الْمُحَارَبَةُ أَنْوَاعٌ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا مَعْلُومٌ مِنْ تَخْوِيفٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ أَوْ جَمْعٍ بَيْنَ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ تَتَفَاوَتُ فِي صِفَةِ الْجِنَايَةِ وَالْمَذْكُورُ أَجْزِيَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي مَعْنَى التَّشْدِيدِ فَوَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ بِتِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ عَنْ بَيَانِ تَقْسِيمِ الْأَجْزِيَةِ عَلَى أَنْوَاعِ الْجِنَايَةِ نَصًّا وَهَذَا التَّقْسِيمُ ثَابِتٌ بِأَصْلٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ أَنَّ الْجُمْلَةَ إذَا قُوبِلَتْ بِالْجُمْلَةِ يَنْقَسِمُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يَسْأَلُ عَنْ حُدُودِ الْكَبَائِرِ هِيَ جَلْدٌ مِائَةً أَوْ ثَمَانِينَ أَوْ الرَّجْمُ أَوْ الْقَطْعُ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّقْسِيمُ وَالتَّفْصِيلُ لَا التَّخْيِيرُ فَكَذَا هَهُنَا وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى النَّصِّ أَنَّ جَزَاءَ الْمُحَارِبِينَ لَا يَخْلُو عَنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ إمَّا أَنْ يُقَتَّلُوا مِنْ غَيْرِ صَلْبٍ إنْ أَفْرَدُوا الْقَتْلَ أَوْ يُصَلَّبُوا مَعَ الْقَتْلِ إنْ جَمَعُوا بَيْنَ الْأَخْذِ وَالْقَتْلِ {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] إنْ أَفْرَدُوا الْأَخْذَ قَطْعُ الْيَدِ لِأَخْذِ الْمَالِ وَالرِّجْلِ لِإِخَافَةِ السَّبِيلِ أَوْ لِتَغَلُّظِ الْجِنَايَةِ بِالْمُجَاهَرَةِ {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] بِالْحَبْسِ إنْ أَفْرَدُوا الْإِخَافَةَ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ رحمه الله فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ مَتَى ذُكِرَتْ بَيْنَ الْأَجْزِيَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَسْبَابِ يُرَادُ بِهَا التَّرْتِيبُ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَإِلَّا فَهِيَ لِلتَّخْيِيرِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ.

قَوْلُهُ (وَقَدْ وَرَدَ بَيَانُهُ) أَيْ بَيَانُ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ وَهُوَ التَّقْسِيمُ عَلَى أَحْوَالِ الْجِنَايَةِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عليه السلام وَهُوَ مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَادَعَ أَبَا بُرْدَةَ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَبَا بَرْزَةَ هِلَالَ بْنَ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ عَلَى أَنْ لَا يُعِينَهُ وَلَا يُعِينَ عَلَيْهِ فَجَاءَ أُنَاسٌ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ فَقَطَعَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُهُ الطَّرِيقَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام بِالْحَدِّ فِيهِمْ أَنَّ مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ قُتِلَ وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ وَمَنْ جَاءَ مُسْلِمًا هَدَمَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الشِّرْكِ» وَفِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ عَنْهُ «وَمَنْ أَخَافَ الطَّرِيقَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ نُفِيَ» فَفِي هَذَا الْخَبَرِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ هَهُنَا لِلتَّفْصِيلِ دُونَ التَّخْيِيرِ (فَإِنْ قِيلَ) فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ قَطَعُوا عَلَى أُنَاسٍ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ وَبِنَفْسِ الْإِرَادَةِ لَا يَثْبُتُ الْإِسْلَامُ وَلَا يَخْرُجُ الْكَافِرُ عَنْ كَوْنِهِ حَرْبِيًّا وَقَدْ ثَبَتَ

ص: 151

حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فِيمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ إنَّ الْإِمَامَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ أَوْ صَلَبَهُ وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُ ابْتِدَاءً أَوْ صَلَبَهُ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَحْتَمِلُ الِاتِّحَادَ وَالتَّعَدُّدَ فَكَذَلِكَ الْجَزَاءُ

ــ

[كشف الأسرار]

بِالدَّلِيلِ أَنَّ مَنْ قَطَعَ عَلَى حَرْبِيٍّ طَرِيقًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا قُلْنَا قَدْ قِيلَ إنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا فَجَاءُوا يُرِيدُونَ الْهِجْرَةَ لِتَعَلُّمِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ يُرِيدُونَ تَعَلُّمَ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ.

وَقِيلَ بَلْ جَاءُوا عَلَى قَصْدِ أَنْ يُسْلِمُوا وَمَنْ جَاءَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ فَوَصَلَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْحَدُّ يَجِبُ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ كَمَا يَجِبُ بِالْقَطْعِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِينَ (فَإِنْ قِيلَ) دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ صُلِبَ وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ قُتِلَ وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ فَقَدْ أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ فَرِيقٍ حَدًّا عَلَى حِدَةٍ بِسَبَبِ قَطْعِ طَرِيقٍ وَاحِدٍ وَمَتَى قَطَعَ الطَّرِيقَ جَمَاعَةٌ فَقَتَلَ الْبَعْضُ مِنْهُمْ وَأَخَذَ الْمَالَ فَإِنَّ الصَّلْبَ يَجِبُ عَلَى الْكُلِّ بِلَا تَفْصِيلٍ قُلْنَا الْحَدُّ ذُكِرَ مُطْلَقًا فِي الْحَدِيثِ إذْ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ أَنَّ مَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ مِنْهُمْ صُلِبَ فَيَنْصَرِفُ كُلُّ حَدٍّ إلَى نَوْعٍ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ عَلَى حِدَةٍ وَلَا يَنْصَرِفُ كُلُّهُ إلَى أَصْحَابِ أَبِي بُرْدَةَ فَكَانَ أَصْحَابُهُ سَبَبًا لِبَيَانِ الْحُكْمِ فِي كُلِّ نَوْعٍ لَا أَنْ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِمْ عَلَى التَّفْصِيلِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِمْ وَالْعِبْرَةُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ كَذَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ رحمه الله قَوْلُهُ (حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ) يَعْنِي لَمَّا انْقَسَمَتْ أَنْوَاعُ الْجَزَاءِ عَلَى أَنْوَاعِ الْجِنَايَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْأَخْذِ وَالْقَتْلِ كَانَ لِلْإِمَامِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ قَطَعَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ أَوْ صَلَبَهُ وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُ أَوْ صَلَبَهُ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ جِهَةُ الِاتِّحَادِ وَجِهَةُ التَّعَدُّدِ أَمَّا جِهَةُ التَّعَدُّدِ فَلِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْقَطْعِ قَدْ وُجِدَ وَالسَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْقَتْلِ قَدْ وُجِدَ فَيَلْزَمُهُ حُكْمُ السَّبَبَيْنِ.

وَأَمَّا جِهَةُ الِاتِّحَادِ فَلِأَنَّ الْكُلَّ قَطْعُ الْمَادَّةِ وَهُوَ وَاحِدٌ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْقَتْلِ أَوْ الصَّلْبِ وَهَذَا نَظِيرُ مَا قَالَ فِيمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا إنْ شَاءَ الْوَلِيُّ قَطَعَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ لِاجْتِمَاعِ جِهَتَيْ التَّعَدُّدِ وَالِاتِّحَادِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رحمهم الله يَصْلُبُهُ الْإِمَامُ لَا غَيْرُ لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ يَدُلُّ عَلَى مَا قَالُوا وَلِأَنَّ هَذَا الْحَدَّ شُرِعَ جَزَاءَ قَطْعِ الطَّرِيقِ الْآمِنِ بِأَمَانِ اللَّهِ تَعَالَى لِإِجْرَاءِ أَخْذِ الْمَالِ وَقَتْلِ النَّفْسِ مُجَاهَرَةً إذْ الْحَقُّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ لِصَاحِبِهِ إلَّا أَنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ يَتَقَوَّى إذَا خَوَّفَ النَّاسَ بِالْقَتْلِ وَالْأَخْذِ جَمِيعًا فَيَزْدَادُ الْحَدُّ كَمَا ازْدَادَ الْجِنَايَةُ فَيَزْدَادُ حَدُّ الزَّانِي الْمُحْصَنِ عَلَى حَدِّ الْبِكْرِ لِقُوَّةِ جِنَايَتِهِ بِزِيَادَةِ الْحُرْمَةِ بِاجْتِمَاعِ الْمَوَانِعِ مِنْ الزِّنَا كَذَا فِي الْأَسْرَارِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَنَا وَذَكَرَ الْإِمَامُ خُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ الْجَوَابَ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَنْ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَرْوِيَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا ذَكَرْنَا وَقَدْ رُوِيَ فِي رِوَايَةِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ وَصُلِبَ فَقَدْ تَعَارَضَتْ الرِّوَايَاتُ فِي حَدِيثِهِ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَوَجَبَ التَّمَسُّكُ بِمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ عليه السلام لِلْعُرَنِيِّينَ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَارَضْ فِيهِ الرِّوَايَاتُ.

وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام أَمَرَ بِقَطْعِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ وَأَمَرَ بِتَرْكِهِمْ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا» فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ فَأَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذَا لَمَّا تَعَارَضَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ فِي جَانِبِ الْجَوَابِ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إلَى أَنَّ قَوْلَهُ

ص: 152

وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ وَدَابَّتِهِ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا إنَّهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِأَحَدِهِمَا غَيْرُ عَيْنٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مَحَلٍّ لِلْعِتْقِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه هُوَ كَذَلِكَ لَكِنْ عَلَى احْتِمَالِ التَّعْيِينِ حَتَّى لَزِمَهُ التَّعْيِينُ فِي مَسْأَلَةِ الْعَبْدَيْنِ وَالْعَمَلُ بِالْمُحْتَمَلِ أَوْلَى مِنْ الْإِهْدَارِ فَجُعِلَ مَا وُضِعَ لِحَقِيقَتِهِ مَجَازًا عَمَّا يَحْتَمِلُهُ وَإِنْ اسْتَحَالَتْ حَقِيقَتُهُ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَصْلِهِ فِيمَا مَضَى وَهُمَا يُنْكِرَانِ الِاسْتِعَارَةَ عِنْدَ اسْتِحَالَةِ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْكَلَامَ لِلْحُكْمِ وُضِعَ عَلَى مَا سَبَقَ وَلِهَذَا قُلْنَا فِيمَنْ قَالَ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا وَهَذَا إنَّ الثَّالِثَ يَعْتِقُ وَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْأَوَّلَيْنِ لِأَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ تَنَاوَلَ أَحَدَهُمَا عَمَلًا بِكَلِمَةِ التَّخْيِيرِ وَالْوَاوُ تُوجِبُ الشَّرِكَةَ فِيمَا سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ فَيَصِيرُ عَطْفًا عَلَى الْمُعْتَقِ مِنْ الْأَوَّلَيْنِ كَقَوْلِهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ وَهَذَا ثُمَّ يُسْتَعَارُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ لِلْعُمُومِ

ــ

[كشف الأسرار]

مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ بَيَانُ مَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْحَالَةِ لَا بَيَانُ مَا يَخْتَصُّ هَذِهِ الْحَالَةَ بِهِ فَلَا يَجُوزُ الصَّلْبُ إلَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَكِنْ يَجُوزُ فِيهَا غَيْرُهُ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ وَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ الْقَطْعِ وَلَمْ يُوجَدْ عَنْهُ مَانِعٌ فَيَجُوزُ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قَالَ) أَيْ وَلِأَنَّ أَوْ لِأَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَوْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَدَابَّتِهِ فَقَالَ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا لَغَا كَلَامُهُ لِأَنَّ أَوْ لَمَّا كَانَ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ كَانَ مَحَلُّ الْإِيجَابِ أَحَدَهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْمَذْكُورَيْنِ مَحَلًّا لِلْإِيجَابِ فَغَيْرُ الْمُعَيَّنِ مِنْهُمَا لَا يَكُونُ صَالِحًا وَبِدُونِ صَلَاحِيَةِ الْمَحَلِّ لَا يَصِحُّ الْإِيجَابُ أَصْلًا كَذَا فِي أُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ.

وَهَذَا الْكَلَامُ وَسِيَاقُ كَلَامِ الشَّيْخِ يُشِيرَانِ إلَى أَنَّهُ لَوْ نَوَى عَبْدَهُ بِهَذَا الْإِيجَابِ لَا يَعْتِقُ عِنْدَهُمَا أَيْضًا لِأَنَّ اللَّغْوَ وَالْبَاطِلَ لَا حُكْمَ لَهُ أَصْلًا وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ مَا يُخَالِفُهُ فَقَالَ إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَبَيْنَ مَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْعِتْقُ مِنْ مَيِّتٍ أَوْ أُسْطُوَانَةٍ أَوْ حِمَارٍ فَقَالَ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا أَوْ قَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ لَا يَعْتِقُ عَبْدُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إلَّا أَنْ يُعَيِّنَهُ لِأَنَّهُ رَدَّدَ الْكَلَامَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَغَيْرِهِ فَلَا يَتَعَيَّنُ عَبْدُهُ إلَّا بِنِيَّتِهِ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ وَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا ضَمَّ إلَيْهِ مَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْعِتْقُ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ أَوْ لَا وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَمْ يَعْتِقْ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَكَذَا هَهُنَا قَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ) نَعَمْ هُوَ كَذَلِكَ أَيْ سَلَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ هَذَا الْإِيجَابَ يَتَنَاوَلُ أَحَدَهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَأَنَّ غَيْرَ الْعَيْنِ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْعِتْقِ فِي مَسْأَلَتِنَا وَلَكِنْ لَا يُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعَيُّنَ بَلْ يَقُولُ يَحْتَمِلُهُ فَإِنَّ الْمَذْكُورَيْنِ لَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ لَهُ يَتَنَاوَلُ الْإِيجَابُ أَحَدَهُمَا عَلَى احْتِمَالِ التَّعْيِينِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ التَّعْيِينُ وَأُجْبِرَ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْإِقْرَارِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمَلَ كَلَامِهِ لَمَا أُجْبِرَ عَلَيْهِ وَكَذَا إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ بَاعَ أَحَدَهُمَا يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ فَعُلِمَ أَنَّ التَّعْيِينَ يَحْتَمِلُهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِحَقِيقَتِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ لِأَكْبَرَ سِنًّا مِنْهُ هَذَا ابْنِي لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْمُحْتَمَلِ أَوْلَى مِنْ الْإِلْغَاءِ وَيَلْغُو ذِكْرُ مَا ضَمَّ إلَيْهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِهِ هَذَا حُرٌّ وَسَكَتَ كَمَا إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ كُلُّهَا لِلْحَيِّ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَسَكَتَ وَهَذَا بِخِلَافِ عَبْدِ الْغَيْرِ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِإِيجَابِ الْعِتْقِ.

وَلَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ فَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ عَبْدُهُ هُنَاكَ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَأُسْطُوَانَةٍ فَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ عَتَقَ عَبْدُهُ لِأَنَّ كَلَامَهُ إيجَابٌ لِلْحُرِّيَّةِ وَلَوْ قَالَ هَذَا حُرٌّ وَهَذَا لَمْ يَعْتِقْ عَبْدُهُ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَيْسَ بِإِيجَابٍ لِلْحُرِّيَّةِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لِعَبْدِهِ هَذَا حُرٌّ أَوْ لَا قَوْلُهُ (وَلِهَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ أَوْ لِإِيجَابِ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ قُلْنَا إذَا قَالَ لِعَبِيدِهِ الثَّلَاثَةِ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا وَهَذَا أَنَّهُ يُخَيَّرُ فِي الْأَوَّلَيْنِ وَيَعْتِقُ الثَّالِثُ فِي الْحَالِ.

وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الطَّلَاقِ إذَا قَالَ هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ وَعِنْدَ الْفَرَّاءِ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَبَيْنَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ إنْ شَاءَ أَوْقَعَ الْعِتْقَ عَلَى الْأَوَّلِ وَإِنْ شَاءَ عَلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَلَا يَعْتِقُ أَحَدٌ فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْجَمْعَ بِحَرْفِ الْوَاوِ فِي مُخْتَلِفَيْ اللَّفْظِ كَالْجَمْعِ بِكِنَايَةِ الْجَمْعِ فِي مُتَّفِقَيْ اللَّفْظِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَانِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ هَذَا أَوْ هَذَا وَهَذَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَا أُكَلِّمُ هَذَا أَوْ هَذَيْنِ حَتَّى أَنَّهُ إنْ كَلَّمَ الْأَوَّلَ حَنِثَ وَإِنْ كَلَّمَ الْآخَرَيْنِ حَنِثَ وَإِنْ كَلَّمَ الثَّانِيَ وَحْدَهُ أَوْ الثَّالِثَ وَحْدَهُ لَمْ يَحْنَثْ كَذَا فِي الْجَامِعِ وَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرْتُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إلَّا بِأَنْ يَجْمَعَ فِي التَّكَلُّمِ بَيْنَ أَحَدِ

ص: 153

بِدَلَالَةٍ تَقْتَرِنُ فَيَصِيرُ شَبِيهًا بِوَاوِ الْعَطْفِ لَا عَيْنَهُ فَمِنْ ذَلِكَ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي النَّفْيِ صَارَتْ بِمَعْنَى الْعُمُومِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] أَيْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْجَامِعِ فِي رَجُلٍ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا إنَّ مَعْنَاهُ فُلَانًا وَلَا فُلَانًا

ــ

[كشف الأسرار]

الْأَوَّلَيْنِ وَبَيْنَ الثَّالِثِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَا أُكَلِّمُ أَحَدَ هَذَيْنِ وَهَذَا.

وَلَكِنَّا نَقُولُ سَوْقُ الْكَلَامِ لِإِيجَابِ الْعِتْقِ فِي أَحَدِهِمَا وَالْعَطْفُ لِإِثْبَاتِ الشَّرِكَةِ فِيمَا سَبَقَ لَهُ الْكَلَامُ فَصَارَ قَوْلُهُ وَهَذَا مَعْطُوفًا عَلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْمُعْتَقُ مِنْهُمَا لَا عَلَى الْأَوَّلِ بِعَيْنِهِ وَلَا عَلَى الثَّانِي إذْ لَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْنًا حَظٌّ مِنْ الْإِيجَابِ فَلَمْ يَصْلُحْ الْعَطْفُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الْحَظُّ لِأَحَدِهِمَا غَيْرِ عَيْنٍ فَصَارَ عَطْفًا عَلَيْهِ كَأَنَّهُ قَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ وَهَذَا فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْيَمِينِ فَالْقِيَاسُ فِيهَا مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رحمه الله وَلَكِنَّا اخْتَرْنَا الْجَوَابَ الَّذِي ذَكَرْنَا لِأَنَّ الثَّابِتَ بِكَلِمَةِ أَوْ هُنَا نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَأَوْجَبَتْ الْعُمُومَ عَلَى طَرِيقِ الْإِفْرَادِ فَكَانَ تَقْدِيرُ صَدْرِ الْكَلَامِ لَا أُكَلِّمُ هَذَا وَلَا هَذَا فَلَمَّا قَالَ وَهَذَا فَقَدْ عَطَفَ بِوَاوِ الْجَمْعِ وَقَضِيَّتُهَا الْجَمْعُ فَصَارَ جَامِعًا لَهُ إلَى الثَّانِي بِنَفْيِ وَاحِدٍ فَشَارَكَ الثَّانِيَ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَا أُكَلِّمُ هَذَا وَلَا هَذَيْنِ وَالْجَمْعُ فِي النَّفْيِ يُوجِبُ الِاتِّحَادَ فِي الْحِنْثِ وَالتَّفْرِيقُ يُوجِبُ الِافْتِرَاقَ تَقُولُ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا وَفُلَانًا فَلَا تَحْنَثُ حَتَّى تُكَلِّمَهُمَا وَتَقُولُ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا وَلَا فُلَانًا فَأَيُّهُمَا كَلَّمْته وَجَبَ الْحِنْثُ فَلِذَلِكَ صَارَ الْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِلْمُصَنِّفِ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِ مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ لِأَنَّ خَبَرَ الْمُثَنَّى غَيْرُ خَبَرِ الْوَاحِدِ لَفْظًا يُقَالُ لِلْوَاحِدِ حُرٌّ وَلِلِاثْنَيْنِ حُرَّانِ وَالْمَذْكُورُ فِي كَلَامِهِ مِنْ الْخَبَرِ قَوْلُهُ حُرٌّ وَهُوَ لَا تَصْلُحُ خَبَرًا لِلِاثْنَيْنِ وَلَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِ خَبَرٍ آخَرَ لِأَنَّ الْعَطْفَ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ أَوْ لِإِثْبَاتِ خَبَرٍ مِثْلِ الْأَوَّلِ لَفْظًا لِإِثْبَاتِ خَبَرٍ آخَرَ مُخَالِفًا لَهُ لَفْظًا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمَذْكُورَ يَصْلُحُ لِلْمُثَنَّى كَمَا يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ فَإِنَّهُ يَقُولُ لَا أُكَلِّمُ هَذَا لَا أُكَلِّمُ هَذَيْنِ فَلِذَلِكَ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَا أُكَلِّمُ هَذَا أَوْ هَذَيْنِ.

وَلَا يَخْلُو هَذَا الْكَلَامُ عَنْ اشْتِبَاهٍ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى كَلَامِ الشَّيْخِ قَوْلُهُ (بِدَلَالَةٍ تَقْتَرِنُ) أَيْ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ بِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِالْكَلَامِ وَقَوْلُهُ فَيَصِيرُ شَبِيهًا بِوَاوِ الْعَطْفِ تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ الْعُمُومِ أَيْ يَصِيرُ حَرْفٌ شَبِيهًا بِوَاوِ الْعَطْفِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْكُورَيْنِ مُرَادٌ مِنْ الْكَلَامِ لَا عَيْنَهُ أَيْ عَيْنَ الْوَاوِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ مَقْصُودٌ وَالِاجْتِمَاعُ لَيْسَ بِحَتْمٍ فِيهِ بِخِلَافِ الْوَاوِ فَبَقِيَ فِيهِ شَبَهُ الْحَقِيقَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ إنَّ أَوْ فِي النَّهْيِ آكَدُ مِنْ الْوَاوِ لِأَنَّك لَوْ قُلْت لَا تُطِعْ زَيْدًا وَعَمْرًا جَازَ لِلْمَنْهِيِّ أَنْ يُطِيعَ أَحَدَهُمَا وَلَوْ قُلْت لَا تُطِعْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُطِيعَ أَحَدَهُمَا كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُطِيعَهُمَا فَمِنْ ذَلِكَ أَيْ مِنْ الْمَذْكُورِ يَعْنِي مِنْ الدَّلَالَاتِ الْمُقْتَرِنَةِ بِهَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عُمُومِهَا اسْتِعْمَالُهَا فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] أَيْ وَلَا كَفُورًا فَحَرُمَ عَلَى النَّبِيِّ عليه السلام طَاعَتُهُمَا جَمِيعًا وَلَكِنْ بِصِفَةِ الِانْفِرَادِ.

فَإِنْ قِيلَ كَانُوا كُلُّهُمْ كَفَرَةً فَمَا مَعْنَى الْقِسْمَةِ فِي قَوْلِهِ {آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] قُلْنَا مَعْنَاهُ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ رَاكِبًا لِمَا هُوَ إثْمٌ دَاعِيًا لَك إلَيْهِ أَوْ فَاعِلًا لِمَا هُوَ كُفْرٌ دَاعِيًا لَك إلَيْهِ لِأَنَّهُمْ إمَّا أَنْ يَدْعُوهُ إلَى مُسَاعَدَتِهِمْ إلَى فِعْلٍ هُوَ إثْمٌ أَوْ كُفْرٌ أَوْ غَيْرُ إثْمٍ وَلَا كُفْرٍ فَنُهِيَ أَنْ يُسَاعِدَهُمْ عَلَى الِاثْنَيْنِ دُونَ الثَّالِثِ وَقِيلَ الْآثِمُ عُتْبَةُ وَالْكَفُورُ الْوَلِيدُ لِأَنَّ عُتْبَةَ كَانَ رَكَّابًا لِلْمَأْثَمِ مُتَعَاطِيًا لِأَنْوَاعِ الْفُسُوقِ وَكَانَ الْوَلِيدُ غَالِبًا فِي الْكُفْرِ شَدِيدَ الشَّكِيمَةِ فِي الْعُتُوِّ كَذَا فِي الْكَشَّافِ وَإِنَّمَا يَعُمُّ فِي النَّفْيِ لِأَنَّ أَوْ لَمَّا تَنَاوَلَ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ غَيْرَ عَيْنٍ كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ صِدْقِ الْكَلَامِ إذْ نَفَاهُ انْتَفَى الْجَمِيعُ إنْ كَانَ خَبَرًا كَمَا مَرَّ تَحْقِيقُهُ وَإِنْ كَانَ نَهْيًا وَلَيْسَ فِي وُسْعِ الْعَبْدِ

ص: 154

حَتَّى إذَا كَلَّمَ أَحَدَهُمَا يَحْنَثُ وَلَوْ كَلَّمَهُمَا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ اسْتَعْمَلَ هَذَا فِي الْإِيلَاءِ بَانَتَا جَمِيعًا وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ لَمَّا تَنَاوَلَتْ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ كَانَ ذَلِكَ نَكِرَةً وَقَدْ قَامَتْ فِيهَا دَلَالَةُ الْعُمُومِ وَهُوَ النَّفْيُ عَلَى مَا سَبَقَ فَلِذَلِكَ صَارَ عَامًّا إلَّا أَنَّهَا أَوْجَبَتْ الْعُمُومَ عَلَى الْإِفْرَادِ لِمَا أَنَّ الْإِفْرَادَ أَصْلُهَا حَتَّى أَنَّ مَنْ قَالَ لَا تُطِعْ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا فَأَطَاعَ أَحَدَهُمَا كَانَ عَاصِيًا وَلَوْ قَالَ وَفُلَانًا لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا حَتَّى يُطِيعَهُمَا وَإِذَا حَلَفَ رَجُلٌ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا وَفُلَانًا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يُكَلِّمُهُمَا وَلَوْ قَالَ أَوْ فُلَانًا حَنِثَ إذَا كَلَّمَ أَحَدَهُمَا لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ عَلَى سَبِيلِ الشَّرِكَةِ وَالْجَمْعِ دُونَ الْإِفْرَادِ وَمِنْ ذَلِكَ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ تَصِيرُ عَامَّةً لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ دَلِيلُ الْعُمُومِ فَعَمَّتْ بِهَا النَّكِرَةُ كَمَا يُقَالُ: جَالِسْ الْفُقَهَاءَ أَوْ الْمُحَدِّثِينَ. أَيْ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا إنْ شِئْت

وَفَرْقٌ مَا بَيْنَ التَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي التَّخْيِيرِ يَجْعَلُ الْمَأْمُورَ مُخَالِفًا وَفِي الْإِبَاحَةِ مُوَافِقًا

ــ

[كشف الأسرار]

الِانْتِهَاءُ عَنْ أَحَدِهِمَا غَيْرِ عَيْنٍ كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ حُصُولِ الِانْتِهَاءِ عَنْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وُجُوبُ الِانْتِهَاءِ عَنْهُمَا وَلِهَذَا عَمَّتْ فِي الْإِبَاحَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَ الْمُجَالَسَةَ مَثَلًا فِي قَوْلِهِ جَالِسْ الْفُقَهَاءَ أَوْ الْمُحَدِّثِينَ مَعَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَمُجَالَسَةُ أَحَدِهِمَا غَيْرُ عَيْنٍ لَا يُتَصَوَّرُ ثَبَتَ الْعُمُومُ ضَرُورَةَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعَمَلِ بِحُكْمِ الْإِطْلَاقِ قَوْلُهُ (حَتَّى إذَا كَلَّمَ أَحَدَهُمَا يَحْنَثُ) بِخِلَافِ الْوَاوِ فَإِنَّهُ فِي قَوْلِهِ وَفُلَانًا لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُكَلِّمْهُمَا وَلَوْ كَلَّمَهُمَا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَمَا فِي الْوَاوِ وَكَأَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَمَّا دَخَلَ كَلَامُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْيَمِينِ عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ يَمِينَيْنِ فَيَحْنَثُ بِالْكَلَامِ مَعَهُمَا مَرَّتَيْنِ فَقَالَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ لِأَنَّ تَعَدُّدَ الْحِنْثِ بِتَعَدُّدِ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا هَتْكٌ وَاحِدٌ.

وَقَوْلُهُ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ بَيَانُ الْعُمُومِ يَعْنِي لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعُمُومِ بَقِيَ لَهُ الْخِيَارُ كَمَا فِي قَوْلِهِ لَأُكَلِّمَنَّ الْيَوْمَ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ تَكَلُّمَ أَحَدِهِمَا لِلْبِرِّ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّكَلُّمُ مَعَ الْآخَرِ وَلَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُ الْيَوْمَ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الِامْتِنَاعَ عَنْ تَكَلُّمِ أَحَدِهِمَا مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الِامْتِنَاعُ عَنْ تَكَلُّمِهِمَا جَمِيعًا قَوْلُهُ (لَوْ)(اسْتَعْمَلَ هَذَا) أَيْ الْحَرْفَ أَوْ فِي الْإِيلَاءِ بِأَنْ قَالَ لَا أَقْرَبُ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَصِيرُ مُولِيًا مِنْهُمَا حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْرَبْهُمَا فِي الْمُدَّةِ بَانَتَا جَمِيعًا (فَإِنْ قِيلَ) لَمَّا كَانَتْ كَلِمَةُ أَوْ لِأَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَا أَقْرَبُ أَحَدَيْكُمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ أَحَدَيْكُمَا كَانَ مُولِيًا مِنْ أَحَدَيْهِمَا لَا مِنْهُمَا جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ حَتَّى لَوْ مَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَقْرَبْهُمَا بَانَتْ أَحَدَيْهِمَا وَالْخِيَارُ إلَيْهِ فِي التَّعْيِينِ وَالْمَسْأَلَةُ فِي إيمَانِ الْجَامِعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَمَّمَ هَهُنَا أَيْضًا (قُلْنَا) كَانَ الْقِيَاسُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ مُولِيًا مِنْهُمَا أَيْضًا لِأَنَّ إحْدَى كَلِمَةٌ تُنْبِئُ عَنْ غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ فَكَانَتْ فِي مَعْنَى النَّكِرَةِ وَقَدْ وَقَعَتْ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَيُوجِبُ التَّعْمِيمَ كَمَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ وَاحِدَةً مِنْكُمَا إلَّا أَنَّهَا كَلِمَةٌ خَاصَّةٌ صِيغَةً وَمَعْنًى لِأَنَّهَا لَا تَعُمُّ بِسَائِرِ دَلَائِلِ الْعُمُومِ فَكَذَا بِوُقُوعِهَا فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا كَلِمَةُ الْإِحَاطَةِ وَالْعُمُومِ فَلَا يُقَالُ كُلُّ أَحَدَيْكُمَا وَأَنَّهَا لَا تُوصَلُ بِكَلِمَةِ التَّبْعِيضِ فَلَا يُقَالُ إحْدَى مِنْكُمَا فَكَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَعَارِفِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا التَّعْمِيمُ بِالنَّفْيِ أَيْضًا بِخِلَافِ كَلِمَةِ أَوْ فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْعُمُومَ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ فَكَذَلِكَ تُوجِبُهُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ وَبِخِلَافِ الْوَاحِدَةِ فَإِنَّهَا تَعُمُّ بِكَلِمَةِ الْإِحَاطَةِ فَكَذَلِكَ بِالنَّفْيِ كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِلْمُصَنِّفِ رحمه الله عَلَى مَا سَبَقَ أَيْ فِي بَابِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ أَنَّ النَّفْيَ مِنْ دَلَائِلِ الْعُمُومِ فِي النَّكِرَةِ لَمَّا أَنَّ الْإِفْرَادَ أَصْلُهَا لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ لِتَنَاوُلِ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ وَالْعُمُومُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيهِ بِعَارِضٍ يَقْتَرِنُ بِهِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْعُمُومِ الِاجْتِمَاعُ بَلْ يَثْبُتُ الْعُمُومُ بِصِفَةِ الْإِفْرَادِ أَيْضًا كَمَا فِي كَلِمَةِ كُلُّ وَكَلِمَةِ مَنْ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِهِ رِعَايَةً لِلْحَقِيقَةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.

قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ) أَيْ مِنْ الْقَرَائِنِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عُمُومِهَا اسْتِعْمَالُهَا فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ دَلِيلُ الْعُمُومِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِبَاحَةَ هِيَ الْإِطْلَاقُ وَرَفْعُ الْمَانِعِ وَذَلِكَ فِي شَيْءٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ يُوجِبُ الْعُمُومُ ضَرُورَةَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ فَإِذَا قِيلَ جَالِسْ الْفُقَهَاءَ أَوْ الْمُحَدِّثِينَ يُفْهَمُ مِنْهُ جَالِسْ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا إنْ شِئْت أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146]

ص: 155

وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْإِبَاحَةُ مِنْ التَّخْيِيرِ بِحَالٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْجَامِعِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ أَحَدًا إلَّا فُلَانًا أَوْ فُلَانًا إنَّ لَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا جَمِيعًا وَكَذَلِكَ قَالَ لَا أَقْرَبُكُنَّ إلَّا فُلَانَةَ أَوْ فُلَانَةَ فَلَيْسَ بِمُولٍ مِنْهُمَا وَقَالُوا فِيمَنْ قَالَ بَرِئَ فُلَانٌ مِنْ كُلِّ حَقٍّ لِي قِبَلَهُ إلَّا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ إنَّ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ الْمَالَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ الْإِبَاحَةِ فَصَارَ عَامًّا أَلَا تَرَى أَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ الْحَظْرِ فَكَانَ إبَاحَةً وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ عَلَى مَعْنَى الْإِبَاحَةِ أَيْ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا

ــ

[كشف الأسرار]

أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَمَّا كَانَ مِنْ التَّحْرِيمِ حَتَّى أَوْجَبَ الْإِبَاحَةَ تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَمَا ثَبَتَتْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَإِلَى قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور: 31] الْآيَةَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَمَّا كَانَ مُوجِبًا لِلْإِبَاحَةِ جَازَ لَهُنَّ إبْدَاءُ مَوَاضِعِ الزِّينَةِ لِجَمِيعِ الْمُسْتَثْنَيَيْنِ كَمَا جَازَ ذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَعَرَفْنَا أَنَّ مُوجَبَهَا فِي الْإِبَاحَةِ الْعُمُومُ بِمَنْزِلَةِ وَاوِ الْعَطْفِ قَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ إنَّ أَوْ فِي قَوْلِك جَالِسْ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِينَ لِلْإِبَاحَةِ وَمَعْنَاهُ أَبَحْت لَك هَذَا النَّوْعَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاوِ مِنْ وَجْهٍ وَمُفَارِقٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.

أَمَّا مُوَافَقَتُهُ لِلْوَاوِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ مُجَالَسَتَهُمَا جَمِيعًا مِمَّا لَا يَكُونُ فِيهِ عِصْيَانٌ كَمَا أَنَّك إذَا قُلْت جَالِسْ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ كَانَ كَذَلِكَ وَأَمَّا مُفَارَقَتُهُ لِلْوَاوِ فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ جَالَسَ وَاحِدًا مِنْهُمَا وَلَمْ يُجَالِسْ الْآخَرَ كَانَ جَائِزًا وَلَوْ قَالَ جَالِسْ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُجَالِسَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَوْ يُفِيدُ إبَاحَةَ الْجَمْعِ وَالْوَاوُ يُوجِبُهُ

قَوْلُهُ (وَفَرْقٌ مَا بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالتَّخْيِيرِ) أَيْ الْفَرْقُ بَيْنَ وُقُوعِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ وَبَيْنَ وُقُوعِهَا فِي مَوْضِعِ التَّخْيِيرِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الْإِبَاحَةِ يَجُوزُ كَمَا ذَكَرْنَا وَفِي التَّخْيِيرِ لَا يَجُوزُ فَفِي قَوْلِك اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا لَوْ ضَرَبَهُمَا جَمِيعًا لَمْ يَجُزْ وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ كَانَ مُمْتَثِلًا بِأَحَدِهَا لَا بِالْجَمِيعِ لِأَنَّهَا لَا يُوجِبُ الْعُمُومَ فِي مَوْضِعِ التَّخْيِيرِ قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْإِبَاحَةُ مِنْ التَّخْيِيرِ بِحَالٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَيْهَا أَيْ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَعَلَى هَذَا أَيْ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ عُرِفَتْ بِدَلَالَةِ الْحَالِ قَالَ أَصْحَابُنَا أَنَّهَا تُوجِبُ الْعُمُومَ فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ لَا أُكَلِّمُ أَحَدًا وَقَوْلِهِ لَا أَقْرَبُكُنَّ لِلْحَظْرِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْحَظْرِ إبَاحَةٌ فَكَانَتْ كَلِمَةُ أَوْ فِي قَوْلِهِ إلَّا فُلَانًا أَوْ فُلَانًا وَإِلَّا فُلَانَةَ أَوْ فُلَانَةَ وَاقِعَةٌ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ فَأَوْجَبَتْ الْعُمُومَ كَمَا فِي قَوْلِهِ لَا آكُلُ طَعَامًا إلَّا خُبْزًا أَوْ لَحْمًا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُمَا فَكَذَلِكَ هَهُنَا.

قَالَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الِاسْتِثْنَاءُ نَفْيٌ فِي اللُّغَةِ وَلَكِنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ الْإِثْبَاتِ كَانَ نَفْيًا وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّفْيِ كَانَ إثْبَاتًا لِأَنَّ نَفْيَ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَالنَّفْيُ مِنْ دَلَالَاتِ الْعُمُومِ فَيَعُمُّ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ أَيْضًا.

وَكَذَا فِي قَوْلِهِ قَدْ بَرِئَ فُلَانٌ مِنْ كُلِّ حَقٍّ لِي قِبَلَهُ يُوجِبُ حَطَّ الدَّعْوَى فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ فَكَانَ قَوْلُهُ إلَّا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ اسْتِثْنَاءً مِنْ الْحَظْرِ مَعْنًى فَيَصْلُحُ دَلَالَةً عَلَى الْعُمُومِ قَوْلُهُ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ) إلَى آخِرِهِ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي شُرُوطِ الْأَصْلِ إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَشْتَرِيَ دَارًا كَتَبَ هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَسَاقَ الْكَلَامَ إلَى أَنْ قَالَ اشْتَرَاهَا بِحُدُودِهَا وَمَرَافِقِهَا وَطَرِيقِهَا وَكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا وَكُلِّ حَقٍّ هُوَ فِيهَا دَاخِلٍ فِيهَا وَخَارِجٍ مِنْهَا بِكَذَا كَذَا دِرْهَمًا.

قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ ثُمَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَعْنِي كِتَابَ الشُّرُوطِ يَقُولُ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَفِي كِتَابِ الْوَقْفِ وَالشُّفْعَةِ قَالَ بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَاَلَّذِي ذَكَرَ هَهُنَا أَحْسَنُ لِأَنَّ أَوْ لِلشَّكِّ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ عِنْدَ ذِكْرِ حَرْفِ أَوْ أَحَدُ الْمَذْكُورَيْنِ لَا كِلَاهُمَا فَأَشَارَ الشَّيْخُ إلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْعُمُومَ هَهُنَا لِأَنَّهَا لِلْإِبَاحَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إذْ الْأَصْلُ حُرْمَةُ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَهَذَا الْكَلَامُ لِإِطْلَاقِ التَّصَرُّفِ فِي الْحُقُوقِ وَإِبَاحَتِهِ فَلِذَلِكَ أَوْجَبَتْ الْعُمُومَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى مَعْنَى الْإِبَاحَةِ أَيْ ذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ عَلَى مَعْنَى إبَاحَةِ

ص: 156

وَكَذَلِكَ دَاخِلٌ فِيهَا أَوْ خَارِجٌ أَيْ دَاخِلًا أَوْ خَارِجًا وَيَجُوزُ الْوَاوُ فِيهِمَا

وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي الْأَفْعَالِ إنْ دَخَلَتْ فِي الْخَبَرِ أَفْضَتْ إلَى الشَّكِّ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْجَبَتْ التَّخْيِيرَ مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ وَاَللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ إنَّ لَهُ الْخِيَارَ وَلَهَا وَجْهٌ آخَرُ هُنَا وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ بِمَعْنَى حَتَّى أَوْ إلَّا أَنْ

ــ

[كشف الأسرار]

التَّصَرُّفِ وَمَعْنَاهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ أَيْ مِنْ الْمَبِيعِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا فَيُوجِبُ الْعُمُومَ ضَرُورَةً أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُذْكَرُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الْبَائِعِ عَنْ الْمَبِيعِ وَعَمَّا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِ الثَّمَرَةُ وَالزَّرْعُ وَكَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْأَمْتِعَةُ إنْ كَانَ قَالَ أَوْ فِيهَا وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَكْتُبُ هَذَا اللَّفْظَ يَعْنِي قَوْلَهُ بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ لِأَنَّهُ إذَا كَتَبَ هَذَا دَخَلَ فِيهِ الْأَمْتِعَةُ الْمَوْضُوعَةُ فِيهَا لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ أَرَى أَنْ يُقَيِّدَ ذَلِكَ الْكِتَابَ فَيَقُولَ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا مِنْ حُقُوقِهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حَرْفُ أَوْ مُسَاوِيًا لِلْوَاوِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَا يُقَالُ لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي فِي الطَّرِيقِ وَالشُّرْبِ بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ لَأَمْكَنَ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِيهَا لِأَنَّا نَقُولُ لَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ لِأَنَّهَا يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ عَقْدٍ لَازِمٍ وَهُوَ الْبَيْعُ فَأَعْطَى لَهَا حُكْمَ الْمُتَضَمَّنِ فِي اللُّزُومِ (قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ دَاخِلٌ فِيهَا أَوْ خَارِجٌ) يَعْنِي أَوْ لِلْعُمُومِ فِي هَذَا الْكَلَامِ كَهُوَ فِي الْكَلَامِ الْأَوَّلِ فَكَانَ مُسَاوِيًا لِلْوَاوِ قَالَ الطَّحَاوِيَّ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنْ يَكْتُبَ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا دَاخِلٍ فِيهَا وَكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا خَارِجٍ مِنْهَا لِأَنَّهُ إذَا قَالَ وَخَارِجٍ مِنْهَا فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ هَذَا شَيْئًا وَاحِدًا مَنْعُوتًا بِالنَّعْتَيْنِ جَمِيعًا وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ وَالْمَشْرُوطُ فِي الْعَقْدِ بِنَعْتَيْنِ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ بِأَحَدِ النَّعْتَيْنِ خَاصَّةً فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا دَاخِلٍ فِيهَا وَكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا خَارِجٍ مِنْهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ لِأَنَّ الْقَلِيلَ جُزْءٌ مِنْ الْكَثِيرِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يَقُولَ وَكُلِّ قَلِيلٍ وَكُلٍّ كَثِيرٍ وَهَهُنَا الْحُقُوقُ الدَّاخِلَةُ غَيْرُ الْحُقُوقِ الْخَارِجَةِ فَلِهَذَا يَذْكُرُهُمَا جَمِيعًا عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَمَّا ذَكَرَ الطَّحَاوِيَّ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُتَصَوَّرْ اجْتِمَاعُ الْوَصْفَيْنِ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ اقْتَضَى الْكَلَامُ إضْمَارَ مَنْعُوتٍ آخَرَ بِدَلَالَةِ الْعَطْفِ كَمَا فِي قَوْلِك جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو لَمَّا لَمْ يُتَصَوَّرْ اشْتِرَاكُهُمَا فِي مَجِيءِ وَاحِدٍ اقْتَضَى إعَادَةَ الْفِعْلِ حَتَّى كَانَ التَّقْدِيرُ جَاءَ زَيْدٌ جَاءَ عَمْرٌو فَلَا يَحْتَاجُ إلَى التَّكَلُّفِ الْمَذْكُورِ

قَوْلُهُ (وَإِنْ دَخَلَتْ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْجَبَتْ التَّخْيِيرَ) يَعْنِي كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ تَحْقِيقًا لِمُوجَبِ الْكَلَامِ حَتَّى كَانَ لَهُ فِي قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الْيَوْمَ أَوْ لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ أَنْ يَخْتَارَ دُخُولَ أَيَّهمَا شَاءَ لِلْبِرِّ وَلَا يُشْتَرَطُ دُخُولُهُمَا لِأَنَّهُ الْتَزَمَ دُخُولَ أَحَدَيْهِمَا فَلَوْ لَمْ يَبَرَّ بِدُخُولِ أَحَدَيْهِمَا لَصَارَ مُلْتَزِمًا دُخُولَهُمَا وَلَيْسَ ذَلِكَ مُوجَبَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي الْإِثْبَاتِ فَأَمَّا فِي النَّفْيِ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَلَا يُوجِبُ التَّخْيِيرَ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ عَدَمَ دُخُولِ إحْدَى الدَّارَيْنِ لِلْبِرِّ بَلْ يُوجِبُ الْعُمُومَ عَلَى سَبِيلِ الْإِفْرَادِ حَتَّى يُشْتَرَطَ لِلْبِرِّ عَدَمُ دُخُولِهِمَا جَمِيعًا وَيَحْنَثُ بِدُخُولِ أَيَّتِهِمَا وُجِدَ إذْ لَوْ لَمْ يَحْنَثْ بِدُخُولِ أَحَدَيْهِمَا لَصَارَتْ الْيَمِينُ وَاقِعَةً عَلَيْهِمَا جَمِيعًا وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَذَا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْجَبَتْ التَّخْيِيرَ مُخْتَصٌّ بِحَالَةِ الْإِثْبَاتِ وَأَنَّ.

قَوْلَهُ أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ

1 -

قَوْلُهُ (وَلَهَا) أَيْ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَجْهٌ آخَرُ هَهُنَا أَيْ مَعْنًى آخَرُ فِي الْأَفْعَالِ لَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْأَسْمَاءِ وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ بِمَعْنَى حَتَّى أَوْ إلَّا أَنْ اعْلَمْ أَنَّ أَوْ حَرْفُ عَطْفٍ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فَإِذَا وُجِدَ الْفِعْلُ بَعْدَهُ مَنْصُوبًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجَدَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ مَنْصُوبٌ كَقَوْلِك لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تُعْطِينِي حَقِّي فَذَلِكَ بِإِضْمَارِ أَنْ كَأَنَّك قُلْت لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ أَنْ تُعْطِيَنِي

ص: 157

وَمَوْضِعُ ذَلِكَ أَنْ يَفْسُدَ الْعَطْفُ لِاخْتِلَافِ الْكَلَامِ وَيُحْتَمَلُ ضَرْبُ الْغَايَةِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128] أَيْ حَتَّى يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، أَوْ إلَّا أَنْ فِي بَعْضِ الْأَقَاوِيلِ، لِأَنَّ الْعَطْفَ لَمْ يُحْسِنْ الْفِعْلَ عَلَى الِاسْمِ وَلِلْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْمَاضِي فَسَقَطَتْ حَقِيقَتُهُ وَاسْتُعِيرَ لِمَا يَحْتَمِلُهُ وَهُوَ الْغَايَةُ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَوْ لَمَّا تَنَاوَلَتْ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ كَانَ احْتِمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَنَاهِيًا بِوُجُودِ صَاحِبِهِ فَشَابَهَ الْغَايَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَاسْتُعِيرَ لِلْغَايَةِ وَالْكَلَامُ يَحْتَمِلُهُ لِأَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ وَكَذَلِكَ يُقَالُ وَاَللَّهِ لَا أُفَارِقُك أَوْ تَقْضِيَنِي حَقِّي مَعْنَاهُ حَتَّى تَقْضِيَنِي حَقِّي أَوْ إلَّا أَنْ تَقْضِيَنِي حَقِّي وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَا يُحْصَى

ــ

[كشف الأسرار]

حَقِّي وَذَلِكَ أَنَّك لَوْ قُلْت لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تُعْطِينِي بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الْأَوَّلِ لَكُنْت قَدْ أَثْبَتّ الْإِعْطَاءَ كَمَا أَثْبَتّ اللُّزُومَ وَلَمْ تُقَدِّرْ أَنَّ اللُّزُومَ لِأَجْلِ الْإِعْطَاءِ وَنُزُولِ قَوْلِك مَنْزِلَةَ قَوْلِ الرَّجُلِ اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا فَلَمَّا كَانَ الْقَصْدُ أَنَّ اللُّزُومَ لِأَجْلِ الْإِعْطَاءِ حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ لَأَلْزَمَنَّكَ لِتُعْطِيَنِي وَجَبَ إضْمَارُ أَنْ لِيُعْلَمَ أَنَّ الثَّانِيَ لَمْ يَدْخُلْ فِي حُكْمِ الْأَوَّلِ وَقُدِّرَ مَا قَبْلَ أَوْ تَقْدِيرَ الْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قِيلَ لَيَكُونَنَّ لُزُومٌ مِنِّي أَوْ إعْطَاءٌ مِنْك وَيَنْزِلُ الْكَلَامُ مَنْزِلَةَ قَوْلِك لَأَلْزَمَنَّكَ إلَى أَنْ تُعْطِيَنِي وَحَتَّى تُعْطِيَنِي وَيَكُونُ حَرْفُ الْجَارِّ أَعْنِي إلَى أَوْ حَتَّى دَاخِلًا عَلَى الِاسْمِ فِي الْمَعْنَى لَا عَلَى الْفِعْلِ وَإِنْ جَعَلْت أَوْ بِمَعْنَى إلَّا وَجَبَ إضْمَارُ أَنْ أَيْضًا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ حِينَئِذٍ مِنْ عَامِّ الظَّرْفِ الزَّمَانِيِّ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُثَنَّى ظَرْفًا زَمَانِيًّا أَيْضًا وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ مَا بَعْدَ إلَّا مَصْدَرًا مُضَافًا إلَيْهِ الزَّمَانُ عَلَى نَحْوِ إلَّا وَقْتَ إعْطَائِك فَوَجَبَ إضْمَارُ أَنْ لِيَكُونَ الْمُضَارِعُ فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ وَكَانَ الْمَعْنَى لُزُومِي إيَّاكَ وَاقِعٌ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ إلَّا وَقْتَ إعْطَائِك وَمَوْضِعُ ذَلِكَ أَيْ مَوْضِعُ أَنْ يُجْعَلَ أَوْ بِمَعْنَى حَتَّى أَوْ إلَّا أَنْ أَنْ يَفْسُدَ الْعَطْفُ لِاخْتِلَافِ الْكَلَامِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا اسْمًا وَالْآخَرُ فِعْلًا أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَاضِيًا وَالْآخَرُ مُسْتَقْبَلًا وَيَحْتَمِلُ ضَرْبُ الْغَايَةِ بِأَنْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلِامْتِدَادِ.

وَذَلِكَ أَيْ الْمَوْضِعُ الَّذِي جُعِلَ أَوْ فِيهِ بِمَعْنَى حَتَّى أَوْ إلَّا أَنْ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128] فَإِنَّ أَوْ هُنَا بِمَعْنَى حَتَّى أَوْ إلَّا أَنْ فِي بَعْضِ الْأَقَاوِيلِ وَمَعْنَاهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْرِ فِي عَذَابِهِمْ أَوْ اسْتِصْلَاحِهِمْ شَيْءٌ حَتَّى يَقَعَ تَوْبَتُهُمْ أَوْ تَعْذِيبُهُمْ وَمَا عَلَيْك إلَّا أَنْ تُبَلِّغَ الرِّسَالَةَ وَتُجَاهِدَ حَتَّى تُظْهِرَ الدِّينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَطْفَ لَمَّا لَمْ يَحْسُنْ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَوْ يَتُوبَ إمَّا إنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى شَيْءٍ أَوْ لَيْسَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَيَلْزَمُ عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ أَوْ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْمَاضِي. سَقَطَتْ حَقِيقَتُهُ أَيْ حَقِيقَةُ أَوْ وَوَجَبَ الْعَمَلُ بِمَجَازِهِ فَاسْتُعِيرَ لِمَا يَحْتَمِلُهُ وَهُوَ الْغَايَةُ لِأَنَّ مَعْنَى أَوْ يُنَاسِبُ مَعْنَى الْغَايَةِ لِأَنَّهُ لِمَا تَنَاوَلَ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ كَانَ تَعْيِينُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارِ الْخِيَارِ قَاطِعًا لِاحْتِمَالِ الْآخَرِ وَهَذَا يُنَاسِبُ مَعْنَى الْغَايَةِ.

وَكَذَا يُنَاسِبُ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ لِمَا قُلْنَا فَلِذَلِكَ جُعِلَ بِمَعْنَى حَتَّى أَوْ إلَّا وَذَكَرَ فِي الْكَشَّافِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128] عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] اعْتِرَاضٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَالِكٌ أَمْرَهُمْ فَإِمَّا أَنْ يُهْلِكَهُمْ أَوْ يَهْزِمَهُمْ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إنْ أَسْلَمُوا أَوْ يُعَذِّبَهُمْ إنْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَلَيْسَ لَك مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْءٌ إنَّمَا أَنْتَ عَبْدٌ مَبْعُوثٌ لِإِنْذَارِهِمْ وَمُجَاهَدَتِهِمْ.

وَقِيلَ أَوْ يَتُوبَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ وَأَنْ يَتُوبَ فِي حُكْمِ اسْمٍ مَعْطُوفٍ بِأَوْ عَلَى الْأَمْرِ أَوْ عَلَى شَيْءٍ أَيْ لَيْسَ لَك مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْءٌ أَوْ مِنْ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ أَوْ مِنْ تَعْذِيبِهِمْ أَوْ لَيْسَ لَك مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْءٌ أَوْ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ أَوْ تَعْذِيبِهِمْ وَقِيلَ أَوْ بِمَعْنَى إلَّا أَنْ كَقَوْلِك لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تُعْطِيَنِي حَقِّي عَلَى مَعْنَى لَيْسَ لَك مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَتَفْرَحُ بِحَالِهِمْ أَوْ تَعْذِيبِهِمْ فَيَتَشَفَّى مِنْهُمْ قَوْلُهُ (وَالْكَلَامُ يَحْتَمِلُهُ) أَيْ تَقْبَلُ مَعْنَى الْغَايَةِ لِأَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَأْذَنَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا شُجَّ وَجْهُهُ عليه السلام يَوْمَ أُحُدٍ سَأَلَهُ أَصْحَابُهُ أَنْ يَلْعَنَهُمْ وَيَدْعُوَ بِهَلَاكِهِمْ فَقَالَ عليه السلام «مَا بَعَثَنِي اللَّهُ لَعَّانًا وَلَا طَعَّانًا وَلَكِنْ بَعَثَنِي

ص: 158

وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ أَدْخُلَ هَذِهِ الدَّارَ الْأُخْرَى إنَّ مَعْنَاهُ حَتَّى أَدْخُلَ هَذِهِ فَإِنْ دَخَلَ الْأُولَى أَوَّلًا حَنِثَ وَإِنْ دَخَلَ الْأَخِيرَةَ أَوَّلًا انْتَهَتْ الْيَمِينُ وَتَمَّ الْبِرُّ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْعَطْفَ مُتَعَذِّرٌ لِاخْتِلَافِ الْفِعْلَيْنِ مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ وَالْغَايَةُ صَالِحَةٌ لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ حَظْرٌ وَتَحْرِيمٌ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْعَمَلُ بِمَجَازِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

ــ

[كشف الأسرار]

دَاعِيًا وَرَحْمَةً اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» فَنَزَلَتْ الْآيَةُ وَنُهِيَ عَنْ سُؤَالِ الْهِدَايَةِ لَهُمْ فَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ لِلتَّحْرِيمِ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْغَايَةِ.

وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يَعْنِي أَوْ بِمَعْنَى حَتَّى وَإِلَّا أَنْ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ مِثْلُ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:

بَكَى صَاحِبِي لَمَّا رَأَى الدَّرْبَ دُونَهُ

وَأَيْقَنَ أَنَّا لَاحِقَانِ بِقَيْصَرَا

فَقُلْت لَهُ لَا تَبْكِ عَيْنُك إنَّمَا

نُحَاوِلُ مُلْكًا أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا

وَمِثْلُ قَوْلِ الْآخَرِ:

لَا أَسْتَطِيعُ نُزُوعًا عَنْ مَوَدَّتِهَا

أَوْ يَصْنَعَ الْبَيْنُ بِي غَيْرَ الَّذِي صَنَعَا

قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى أَنَّ أَوْ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْغَايَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ أَدْخُلَ هَذِهِ الدَّارَ الْأُخْرَى أَنَّ أَوْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَعْنَى حَتَّى فَيَحْنَثُ بِدُخُولِ الْأُولَى أَوَّلًا وَإِنْ دَخَلَ الْأُخْرَى أَوَّلًا بَرَّ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ازْدِوَاجٌ تَعَذَّرَ الْعَطْفُ وَالْكَلَامُ يَحْتَمِلُ الْغَايَةَ لِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ فَتُرِكَتْ الْحَقِيقَةُ وَحُمِلَتْ عَلَى الْغَايَةِ مَجَازًا فَإِذَا دَخَلَ الْأُولَى قَبْلَ الْأُخْرَى فَقَدْ بَاشَرَ الْمَحْظُورَ بِيَمِينِهِ فَحَنِثَ وَإِذَا دَخَلَ الثَّانِيَةَ أَوَّلًا فَقَدْ أَصَرَّ عَلَى الْبِرِّ إلَى وُجُودِ الْغَايَةِ فَصَارَ بَارًّا كَمَا لَوْ.

قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُهَا الْيَوْمَ فَلَمْ يَدْخُلْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ كَذَا ذَكَرَ فِي عَامَّةِ شُرُوحِ الْجَامِعِ إلَّا أَنَّ تَعَذُّرَ الْعَطْفِ بِاعْتِبَارِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عِنْدَ النُّحَاةِ فَإِنَّ النَّفْيَ يُعْطَفُ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَعَلَى الْعَكْسِ يُقَالُ جَاءَنِي زَيْدٌ وَمَا جَاءَنِي عَمْرٌو وَمَا رَأَيْت عَمْرًا لَكِنْ رَأَيْت بِشْرًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ تَعَذَّرَ الْعَطْفُ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ تَقَدُّمِ فِعْلٍ مَنْصُوبٍ يُعْطَفُ الثَّانِي عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ قَالَ أَوْ أَدْخُلُ بِالرَّفْعِ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ الْعَطْفُ وَيَثْبُتَ التَّخْيِيرُ أَوْ يُقَالُ تَعَذُّرُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ مَعَ أَنْ فِي حُكْمِ الِاسْمِ وَانْتِصَابُهُ هَهُنَا لَا يَصِحُّ إلَّا بِإِضْمَارِ أَنْ فَيَلْزَمُ مِنْهُ عَطْفُ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ وَهُوَ فَاسِدٌ فَلِذَلِكَ جُعِلَ بِمَعْنَى الْغَايَةِ.

وَقَوْلُهُ وَالْغَايَةُ صَالِحَةٌ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ أَبَدًا أَوْ لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الْأُخْرَى الْيَوْمَ فَإِنَّ أَوْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ بِمَعْنَى الْغَايَةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَالِازْدِوَاجِ بَيْنَهُمَا لَكِنَّ النَّفْيَ مُؤَبَّدٌ وَالْإِثْبَاتَ مُوَقَّتٌ وَالْمُوَقَّتُ لَا يَصْلُحُ غَايَةً لِلْمُؤَبَّدِ لِأَنَّ الْمُؤَبَّدَ لَا يَنْتَهِي إلَّا بِالْمَوْتِ وَإِذَا تَعَذَّرَ جَعْلُهُ غَايَةً وَجَبَ الْعَمَلُ بِالتَّخْيِيرِ فَيَصِيرُ مُلْتَزِمًا الْكَفَّارَةَ بِإِحْدَى الْيَمِينَيْنِ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ حَنِثْت فِي هَذِهِ الْيَمِينِ أَوْ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ فَعَلَيَّ كَفَّارَةٌ وَشَرْطُ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى الدُّخُولُ فِي الدَّارِ الْأُولَى وَفِي الثَّانِيَةِ تَرْكُ الدُّخُولِ فِي الدَّارِ الثَّانِيَةِ فِي الْيَوْمِ فَإِذَا دَخَلَ الْأُولَى حَنِثَ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى وَبَطَلَتْ الْيَمِينُ الثَّانِيَةُ لِأَنَّهُ خَيَّرَ نَفْسَهُ فِي الْتِزَامِ الْحِنْثِ بِإِحْدَى الْيَمِينِ فَإِذَا لَزِمَهُ الْحِنْثُ بِأَحَدَيْهِمَا بَطَلَتْ الْأُخْرَى كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ أَوْ لَمْ أَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ الْيَوْمَ فَحَنِثَ فِي أَحَدِهِمَا لَزِمَهُ جَزَاؤُهُ وَبَطَلَ الْآخَرُ.

وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ الْأُولَى وَدَخَلَ الدَّارَ الثَّانِيَةَ الْيَوْمَ بَرَّ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ وَبَطَلَتْ الْأُولَى لِأَنَّهُ اخْتَارَ يَمِينَ الْإِثْبَاتِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهُمَا حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ حَنِثَ فِي الثَّانِيَةِ لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ فِيهَا الدُّخُولُ فِي الدَّارِ الثَّانِيَةِ فِي الْيَوْمِ وَقَدْ فَاتَ فَيَحْنَثُ فِيهَا وَتَبْطُلُ الْأُولَى لِمَا قُلْنَا كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِشَمْسِ الْإِسْلَامِ الْأُوزْجَنْدِيّ رحمه الله -

ص: 159